مع الحبيب المصطفى: الكلمة الطيبة مفتاح القلوب
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
243ـ الكلمة الطيبة مفتاح القلوب
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ الحَرِيصَ على نَشْرِ الخَيْرِ، وَدَعْوَةِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى، وإلى هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لا يَسْتَفِزُّ مَشَاعِرَ الآخَرِينَ لِيَرُدُّوا عَلَيْهِ دَعْوَتَهُ إِنْ كَانَ عَاقِلاً، بَلْ يَكُونُ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ على أَنْ يَتَسَلَّلَ إلى قُلُوبِهِم بِأَفْضَلِ الوَسَائِلِ والسُّبُلِ، سَالِكَاً الطَّرِيقَ الذي رَسَمَهُ اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تَذَكَّرُوا بِأَنَّ هَذَا الخِطَابَ كَانَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي أَنْقَذَهُمُ اللهُ تعالى بِهِ من النَّارِ، وَهَدَاهُم بِهِ من الضَّلالِ، وَبَصَّرَهُم بِهِ من العَمَى، وَجَمَعَهُم بِهِ بَعْدَ الفُرْقَةِ، وَمَعَ كُلِّ هَذَا قَالَ لَهُ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِ من النَّاسِ، حَتَّى وَلَو كَانُوا دُعَاةً وَمُصْلِحِينَ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى أَنْ يَلْتَزِمُوا هَذَا الأَدَبَ وَهَذَا الخُلُقَ أَثْنَاءَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى.
أُسْلُوبُ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى يُسْتَمَدُّ من كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أُسْلُوبُ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، وَمِنْهَاجُهُ وَطَرِيقُهُ، يُسْتَمَدُّ من كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَد قَامَ بِذَلِكَ سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قِيَامٍ، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَجَاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، حَتَّى انْتقَلَ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلى.
وَأَخَذَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم هَذِهِ المَسْؤُولِيَّةَ، وَشَعَرُوا بالتَّبَعِيَّةِ العَظِيمَةِ، فَأَحْسَنُوا أَدَاءَهَا، والقِيَامَ بِهَا على أَتَمِّ وَجْهٍ، وَسِيرَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ، لَقَد دَخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ تعالى أَفْوَاجَاً، وَشَرَّقَ الإِسْلامُ وَغَرَّبَ في أَرْجَاءِ المَعْمُورَةِ، بالدَّعْوَةِ الحَكِيمَةِ، والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، فَكَانُوا السِّلاحَ الفَعَّالَ في زَحْزَحَةِ البَاطِلِ، وَإِزْهَاقِ المُنْكَرِ، بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً﴾.
الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ مِفْتَاحُ القُلُوبِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ على كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَتُهُ شَيِّقَةً لَيِّنَةً، مُحَبَّبَةً إلى النَّفْسِ، وَأَنْ يَبْتَعِدَ عَن العِبَارَةِ السَّيِّئَةِ، والقَوْلِ الجَافِّ، والكَلِمَةِ الغَلِيظَةِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ مَظْهَرُهُ مَظْهَرَ الدَّاعِيَةِ إلى اللهِ تعالى، لِأَنَّ الدَّاعِيَةِ إلى اللهِ تعالى يَتَعَامَلُ مَعَ القُلُوبِ، والقُلُوبُ حَسَّاسَةٌ، تَجْذِبُهَا كَلِمَةٌ، وَتُنَفِّرُهَا كَلِمَةٌ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُوسَى وَهَارُونَ بالذَّهَابِ إلى فِرْعَوْنَ لِإِبْلاغِ الدَّعْوَةِ، واللهُ تعالى يَعْلَمُ أَنَّ الكَلِمَةَ اللَّيِّنَةَ أو القَاسِيَةَ لا تُفِيدُ فِرْعَوْنَ، لَكِنَّهُ يُبَيِّنُ مَنْهَجَ الدَّعْوَةِ فَيَقُولُ: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلَاً لَيِّنَاً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾.
وَهَكَذَا كَانَ مَنْهَجُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾. هَكَذَا كَانَ مَنْهَجُهُ في الدَّعْوَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدَاً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: «بَـشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَـسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا». فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فَابْحَثْ عَن أَفْضَلِ عِبَارَةٍ، وَعَن أَفْضَلِ كَلِمَةٍ، لِأَنَّهَا مِفْتَاحُ القُلُوبِ، فَإِذَا جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَيِّنٍ وَمُنَاسِبٍ دَخَلْتَ القُلُوبَ، وَأَمَّا إِذَا جِئْتَ بِكَلِمَةٍ قَاسِيَةٍ تَدُقُّ قَلْبَ إِنْسَانٍ أَعْرَضَ عَنْكَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَسْمَعَ مِنْكَ.
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: انْظُرُوا إلى الكَلِمَاتِ التي كَانَ يُوَجِّهُهَا سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الكُفَّارِ وَهُوَ يَدْعُوهُم إلى اللهِ تعالى.
لَقَد أَرْسَلَ سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى هِرَقْلَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رِسَالَةً، وَصَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ؛ سَلَامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الْهُدَى؛ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ (التَّابِعِينَ)» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
كَمَا كَتَبَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى كِسْرَى: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ: مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ؛ سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى، وآمَنَ باللهِ وَرَسُولِهِ، أدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً، لِأُنْذِرَ مَن كَانَ حَيَّاً، وَيَحِقَّ القَوْلُ على الكَافِرِينَ؛ فأسْلِمْ تَسْلَمْ، فإنْ أبَيْتَ فإنَّ إثْمَ المَجُوسِ عَلَيْكَ».
وروى الحاكم عَن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابَاً إلى النَّجَاشِيِّ، قَالَ فِيهِ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا كِتَابُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى النَّجَاشِيِّ الأَصْحَمِ عَظِيمِ الحَبَشِ؛ سَلَامٌ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ باللِه وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولا وَلَدَاً، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئَاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضَاً أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾. فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ النَّصَارَى».
«قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ»:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: عنْدَمَا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ من صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، يُرِيدُ أَنْ يُفاوِضَهُ في مَسْأَلَةِ دَعْوَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِن السِّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ ـ المَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ ـ وَالْـمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورَاً تَنْظُرُ فِيهَا، لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ».
ـ لَقَد كَنَّاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ العَرَبَ كَانَتْ تُحِبُّ ذَلِكَ، فَهَذَا سَيِّدُ الخَلْقِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُكَنِّي هَذَا الكَافِرَ من أَجْلِ أَنْ يُمَرِّرَ كَلِمَةَ الهِدَايَةِ إلى قَلْبِهِ، فَدَعَاهُ بالكُنْيَةِ ـ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ».
قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالَاً جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالَاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفَاً سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرَاً دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا.
فَقَالَ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفرَغْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ؟».
قَالَ: نَعَم.
قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنِّي».
قَالَ: أَفْعَلُ.
فَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرَاً وَنَذِيرَاً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾». ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ.
فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدَاً عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ؛ ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ؛ ثُمَّ قَالَ: قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْت وَذَاكَ.
فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: نَحْلِفُ باللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الذِي ذَهَبَ بِهِ.
فَلَمَّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟
قَالَ: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْت قَوْلَاً واللهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، واللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسِّحْرِ وَلَا بِالْكَهَانَةِ؛ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ، فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ، فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ.
قَالُوا: سَحَرَك واللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ.
قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ .
خَاتِمَةٌ ـ نَسْألُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا وَخَاصَّةً في هَذِهِ المَرْحَلَةِ التي نَعِيشُهَا أَنْ نَرْبَحَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَأَنْ نَتَأَلَفَهُم، لَعَلَّنَا أَنْ نَكُونَ سَبَبَاً في هِدَايَتِهِم إلى اللهِ تعالى، لِأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ في حَقِّ أَعْظَمِ النَّاسِ خَلْقَاً وَخُلُقَاً، وَأَجَلِّ النَّاسِ، وَأَفْضَلِ النَّاسِ، وَأَحْلَمِ النَّاسِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. فَالخُلُقُ الحَسَنُ مَا وُجِدَ في شَيْءٍ إلا زَانَهُ، وَمَا فُقِدَ من شَيْءٍ إلا شَانَهُ؛ ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾. ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
243ـ الكلمة الطيبة مفتاح القلوب
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ الحَرِيصَ على نَشْرِ الخَيْرِ، وَدَعْوَةِ النَّاسِ إلى اللهِ تعالى، وإلى هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لا يَسْتَفِزُّ مَشَاعِرَ الآخَرِينَ لِيَرُدُّوا عَلَيْهِ دَعْوَتَهُ إِنْ كَانَ عَاقِلاً، بَلْ يَكُونُ حَرِيصَاً كُلَّ الحِرْصِ على أَنْ يَتَسَلَّلَ إلى قُلُوبِهِم بِأَفْضَلِ الوَسَائِلِ والسُّبُلِ، سَالِكَاً الطَّرِيقَ الذي رَسَمَهُ اللهُ تعالى لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾. وَبِقَوْلِهِ تعالى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: تَذَكَّرُوا بِأَنَّ هَذَا الخِطَابَ كَانَ لِسَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي أَنْقَذَهُمُ اللهُ تعالى بِهِ من النَّارِ، وَهَدَاهُم بِهِ من الضَّلالِ، وَبَصَّرَهُم بِهِ من العَمَى، وَجَمَعَهُم بِهِ بَعْدَ الفُرْقَةِ، وَمَعَ كُلِّ هَذَا قَالَ لَهُ: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظَّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾. فَمَا بَالُكَ بِغَيْرِهِ من النَّاسِ، حَتَّى وَلَو كَانُوا دُعَاةً وَمُصْلِحِينَ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى وَأَوْلَى أَنْ يَلْتَزِمُوا هَذَا الأَدَبَ وَهَذَا الخُلُقَ أَثْنَاءَ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى.
أُسْلُوبُ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى يُسْتَمَدُّ من كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: أُسْلُوبُ الدَّعْوَةِ إلى اللهِ تعالى، وَمِنْهَاجُهُ وَطَرِيقُهُ، يُسْتَمَدُّ من كِتَابِ اللهِ تعالى وَسُنَّةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَقَد قَامَ بِذَلِكَ سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ قِيَامٍ، فَبَلَّغَ الرِّسَالَةَ، وَأَدَّى الأَمَانَةَ، وَجَاهَدَ في اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ، حَتَّى انْتقَلَ إلى الرَّفِيقِ الأَعْلى.
وَأَخَذَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللهُ عَنهُم هَذِهِ المَسْؤُولِيَّةَ، وَشَعَرُوا بالتَّبَعِيَّةِ العَظِيمَةِ، فَأَحْسَنُوا أَدَاءَهَا، والقِيَامَ بِهَا على أَتَمِّ وَجْهٍ، وَسِيرَةُ السَّلَفِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ تَشْهَدُ بِذَلِكَ، لَقَد دَخَلَ النَّاسُ في دِينِ اللهِ تعالى أَفْوَاجَاً، وَشَرَّقَ الإِسْلامُ وَغَرَّبَ في أَرْجَاءِ المَعْمُورَةِ، بالدَّعْوَةِ الحَكِيمَةِ، والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، فَكَانُوا السِّلاحَ الفَعَّالَ في زَحْزَحَةِ البَاطِلِ، وَإِزْهَاقِ المُنْكَرِ، بالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ، وَصَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقَاً﴾.
الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ مِفْتَاحُ القُلُوبِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ على كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أَنْ تَكُونَ عِبَارَتُهُ شَيِّقَةً لَيِّنَةً، مُحَبَّبَةً إلى النَّفْسِ، وَأَنْ يَبْتَعِدَ عَن العِبَارَةِ السَّيِّئَةِ، والقَوْلِ الجَافِّ، والكَلِمَةِ الغَلِيظَةِ، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَ مَظْهَرُهُ مَظْهَرَ الدَّاعِيَةِ إلى اللهِ تعالى، لِأَنَّ الدَّاعِيَةِ إلى اللهِ تعالى يَتَعَامَلُ مَعَ القُلُوبِ، والقُلُوبُ حَسَّاسَةٌ، تَجْذِبُهَا كَلِمَةٌ، وَتُنَفِّرُهَا كَلِمَةٌ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللهُ تعالى سَيِّدَنَا مُوسَى وَهَارُونَ بالذَّهَابِ إلى فِرْعَوْنَ لِإِبْلاغِ الدَّعْوَةِ، واللهُ تعالى يَعْلَمُ أَنَّ الكَلِمَةَ اللَّيِّنَةَ أو القَاسِيَةَ لا تُفِيدُ فِرْعَوْنَ، لَكِنَّهُ يُبَيِّنُ مَنْهَجَ الدَّعْوَةِ فَيَقُولُ: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلَاً لَيِّنَاً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾.
وَهَكَذَا كَانَ مَنْهَجُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾. هَكَذَا كَانَ مَنْهَجُهُ في الدَّعْوَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِذَا بَعَثَ أَحَدَاً مِنْ أَصْحَابِهِ فِي بَعْضِ أَمْرِهِ قَالَ: «بَـشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا، وَيَـسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا». فَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فَابْحَثْ عَن أَفْضَلِ عِبَارَةٍ، وَعَن أَفْضَلِ كَلِمَةٍ، لِأَنَّهَا مِفْتَاحُ القُلُوبِ، فَإِذَا جِئْتَ بِمِفْتَاحٍ لَيِّنٍ وَمُنَاسِبٍ دَخَلْتَ القُلُوبَ، وَأَمَّا إِذَا جِئْتَ بِكَلِمَةٍ قَاسِيَةٍ تَدُقُّ قَلْبَ إِنْسَانٍ أَعْرَضَ عَنْكَ، فَإِنَّهُ لَنْ يَسْمَعَ مِنْكَ.
مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: انْظُرُوا إلى الكَلِمَاتِ التي كَانَ يُوَجِّهُهَا سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى الكُفَّارِ وَهُوَ يَدْعُوهُم إلى اللهِ تعالى.
لَقَد أَرْسَلَ سَيِّدُنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى هِرَقْلَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ رِسَالَةً، وَصَدَّرَهَا بِقَوْلِهِ: «مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إِلَى هِرَقْلَ عَظِيمِ الرُّومِ؛ سَلَامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الْهُدَى؛ أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أَدْعُوكَ بِدِعَايَةِ الْإِسْلَامِ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ، وَأَسْلِمْ يُؤْتِكَ اللهُ أَجْرَكَ مَرَّتَيْنِ، فَإِنْ تَوَلَّيْتَ فَإِنَّ عَلَيْكَ إِثْمَ الْأَرِيسِيِّينَ (التَّابِعِينَ)» رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
كَمَا كَتَبَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلى كِسْرَى: «بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ: مِن مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسٍ؛ سَلامٌ عَلَى مَن اتَّبَعَ الهُدَى، وآمَنَ باللهِ وَرَسُولِهِ، أدْعُوكَ بِدِعَايَةِ اللهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ إلى النَّاسِ كَافَّةً، لِأُنْذِرَ مَن كَانَ حَيَّاً، وَيَحِقَّ القَوْلُ على الكَافِرِينَ؛ فأسْلِمْ تَسْلَمْ، فإنْ أبَيْتَ فإنَّ إثْمَ المَجُوسِ عَلَيْكَ».
وروى الحاكم عَن ابْنِ إِسْحَاقَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَتَبَ كِتَابَاً إلى النَّجَاشِيِّ، قَالَ فِيهِ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: هَذَا كِتَابُ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ إلى النَّجَاشِيِّ الأَصْحَمِ عَظِيمِ الحَبَشِ؛ سَلَامٌ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ باللِه وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً ولا وَلَدَاً، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ، فَأَسْلِمْ تَسْلَمْ ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئَاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضَاً أَرْبَابَاً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾. فَإِنْ أَبَيْتَ فَعَلَيْكَ إِثْمُ النَّصَارَى».
«قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ»:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: عنْدَمَا جَاءَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ من صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، يُرِيدُ أَنْ يُفاوِضَهُ في مَسْأَلَةِ دَعْوَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِن السِّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ ـ المَنْزِلَةِ الرَّفِيعَةِ ـ وَالْـمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أُمُورَاً تَنْظُرُ فِيهَا، لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ».
ـ لَقَد كَنَّاهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ العَرَبَ كَانَتْ تُحِبُّ ذَلِكَ، فَهَذَا سَيِّدُ الخَلْقِ سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُكَنِّي هَذَا الكَافِرَ من أَجْلِ أَنْ يُمَرِّرَ كَلِمَةَ الهِدَايَةِ إلى قَلْبِهِ، فَدَعَاهُ بالكُنْيَةِ ـ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ أَسْمَعْ».
قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ مَالَاً جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالَاً، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفَاً سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرَاً دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكَاً مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا.
فَقَالَ الحَبِيبُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفرَغْتَ يَا أَبَا الوَلِيدِ؟».
قَالَ: نَعَم.
قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنِّي».
قَالَ: أَفْعَلُ.
فَقَالَ: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرَاً وَنَذِيرَاً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾». ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ.
فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدَاً عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ؛ ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ؛ ثُمَّ قَالَ: قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْت وَذَاكَ.
فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: نَحْلِفُ باللهِ لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الذِي ذَهَبَ بِهِ.
فَلَمَّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَك يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟
قَالَ: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْت قَوْلَاً واللهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، واللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ وَلَا بِالسِّحْرِ وَلَا بِالْكَهَانَةِ؛ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ؛ فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ، فَقَدْ كَفَيْتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ، فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ.
قَالُوا: سَحَرَك واللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ.
قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ .
خَاتِمَةٌ ـ نَسْألُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: يَجِبُ عَلَيْنَا وَخَاصَّةً في هَذِهِ المَرْحَلَةِ التي نَعِيشُهَا أَنْ نَرْبَحَ قُلُوبَ النَّاسِ، وَأَنْ نَتَأَلَفَهُم، لَعَلَّنَا أَنْ نَكُونَ سَبَبَاً في هِدَايَتِهِم إلى اللهِ تعالى، لِأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ في حَقِّ أَعْظَمِ النَّاسِ خَلْقَاً وَخُلُقَاً، وَأَجَلِّ النَّاسِ، وَأَفْضَلِ النَّاسِ، وَأَحْلَمِ النَّاسِ: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾. فَالخُلُقُ الحَسَنُ مَا وُجِدَ في شَيْءٍ إلا زَانَهُ، وَمَا فُقِدَ من شَيْءٍ إلا شَانَهُ؛ ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنَاً﴾. ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْـمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. ومن الخُلُقِ الحَسَنِ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
اللَّهُمَّ أَكْرِمْنَا بِذَلِكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
27/4/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: زيارة للجنّة والنّار ـ مصطغى محمود
27/4/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصّحيحة ـ محمد الصوباني ـ ج1
27/4/2024, 16:58 من طرف Admin
» كتاب: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصّحيحة ـ محمد الصوباني ـ ج2
27/4/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصّحيحة ـ محمد الصوباني ـ ج3
27/4/2024, 16:54 من طرف Admin
» كتاب: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصّحيحة ـ محمد الصوباني ـ ج4
27/4/2024, 16:52 من طرف Admin
» كتاب: نهج الحكمة ـ أسامة الصاوي
27/4/2024, 16:47 من طرف Admin
» كتاب: الجزء الأول درب السلامة في إرشادات العلامة | الشيخ جميل حليم
24/4/2024, 15:58 من طرف Admin
» كتاب: الجزء الثاني درب السلامة في إرشادات العلامة | الشيخ جميل حليم
24/4/2024, 15:57 من طرف Admin
» كتاب: التعاون على النهي عن المنكر | الشيخ عبد الله الهرري
24/4/2024, 15:55 من طرف Admin
» كتاب: شرح الصفات الثلاث عشرة | الشيخ عبد الله الهرري
24/4/2024, 15:54 من طرف Admin
» كتاب: بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب الجزء الأول | الشيخ عبد الله الهرري الحبشي
24/4/2024, 15:52 من طرف Admin
» كتاب: بغية الطالب لمعرفة العلم الديني الواجب الجزء الثاني | الشيخ عبد الله الهرري الحبشي
24/4/2024, 15:51 من طرف Admin
» كتاب: الأطراف الحليمية | الشيخ الدكتور جميل حليم
24/4/2024, 15:43 من طرف Admin
» كتاب: الكوكب المنير بجواز الاحتفال بمولد الهادي البشير | الشيخ جميل حليم
24/4/2024, 15:42 من طرف Admin