اوراد الطريقة العلية القادرية الكسنزانية
حديث الروح مع داود الطائي
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
في الجعبة اليوم –على قلة ما فيها من الزاد- كلمات عن واحد من هؤلاء الربانيين، هو: أبو سليمان داود بن نصير الطائي؛ الذي أكرمه الله بأن جمع بين العلم والعمل؛ فكان من العلماء البررة الأتقياء، الذين يعبدون الله على معرفة، ويخلصون الوجهة إليه سبحانه، في رجاء لعفوه ورحمته، ومخافة ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
ولد أبو سليمان بالكوفة، ولما ارتحل إلى بغداد –وهي غنية بالرجال يومذاك- أخذ عن علمائها وكان واحداً من أصحاب أبي حنيفة النعمان رحمه الله. وحين تم له ما يريد من فقه الكتاب والسنة ورأي أهل الرأي، عاد إلى الكوفة، حيث غلب عليه جانب العمل بما علم والزهد في الدنيا، والانصراف في أكثر ساعات حياته إلى العبادة، وتلاوة كتاب الله متدبراً متفكراً. وقد وضع الله لكلماته القبول في صدور الناس، وأصبح في ورعه وزهده وتقواه قدوة مثلى يشار إليها بالبنان حتى قال أحد معاصريه: “لو كان داود في الأمم الماضية لقص الله تعالى شيئاً من خبره” وبجانب ذلك كله كانت له مشاركة في رواية حديث رسول الله ، وقد أسند عن جماعة من التابعين منهم عبد الله بن عمير وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش وحميد الطويل، قال العلماء: وأكثر روايته عن الأعمش. وقد روى عنه إسماعيل بن علية وزافر بن سليمان، ولكن أكثر من روى عنه ابن أصعب بن المقدام.
وتوفي رحمه الله سنة 165 أو سنة 166 للهجرة وإنك لتذكر حين تقرأ سيرة هذا الرجل قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(1).
والذي يستوقفك في شأنه أنه في إجهاد نفسه بالعبادة وفعل الخيرات، كان على تواضع جم وحزن على التفريط… ومبعث ذلك – والله أعلم –شعوره الصادق بطول الطريق مع الرحلة القريبة والحاجة إلى الزاد، فكان مما يقول رحمه الله:
“سبقني العابدون وقطع بي والهفاه”.
وهذه الحال من داود كان يتطلع إليها كبار الرجال حتى قال عبد الله بن المبارك:
“وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي”.
وروي عن سفيان الثوري أنه كان إذا ذكر داود قال:” أبصر الطائي أمره”.
وهذه الكلمة من سفيان رحمه الله التي تقرر أن الطائي قد أبصر أمره- بمعنى أنه نظر إلى الدنيا والآخرة نظرة البصيرة التي يشرف عليها نور الإيمان والخشية من الله تعالى –تكشف عن منزلة داود في نظر سفيان، فقد شغل أبا سليمان أمر الآخرة عن أمر الدنيا، وصدق الله فصدقه، ورغب بما عند الله في الآجلة مستشعراً خطاب الله لنبيه وهو سيد العالمين:”وللآخرة خير لك من الأولى”(2).
وأنعم بشهادة أهل الإيمان لأخيهم المؤمن بعد الموت، قال ابن السماك عند دفن داود رحمه الله: “يا داود كنت تسهر ليلك إذ الناس ينامون”.
فقال القوم جميعاً: صدقت.
“وكنت تربح إذا الناس يخسرون” –يعني في أمور الآخرة-.
فقال الناس جميعاً: صدقت.
“وكنت تسلم إذا الناس يخوضون”.
فقال الناس جميعاً: صدقت.
حتى عدد فضائله كلها، فقام أبو بكر النهشلي وقد خاف على الناس أن يفتنوا بكثرة تلك الفضائل، وأراد أن يذكرهم بأن العبد مهما صلحت حاله، فقير لفضل الله تعالى ورحمته وإحسانه، فحمد الله ثم قال: يارب إن الناس قد قالوا ما عنده مبلغ ما علموا، فاغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله.
وإذا كانت الخشية على قدر المعرفة؛ فقد كان الواحد من هؤلاء الرجال يرى حين يتلو كتاب الله كأن كل وعيد في آيات القرآن ينصب على رأسه هو ويتهدده وحده، وكأن كل قارعة ينذر بها العصاة إنما تعنيه هو دون غيره من الناس، وإنما كان ذلك من فرط حسهم رحمهم الله ورقة أفئدتهم، وصفاء تلك الخشية؛ ومن هنا كان تأثرهم بالقرآن خصوصاً آيات العذاب التي تحمل التهديد والتخويف، تتفطر لها قلوبهم وتهتز لها نفوسهم، فيناجون ربهم باكين خاشعين ويتلون كتابه ضارعين خائفين. ولقد روي عن عمر الجعفي أنه قال: اشتكى داود الطائي أياماً… وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار، فكررها مراراً في ليلته فأصبح مريضاً، وبعد أيام دخل عليه أناس من إخوانه وجيرانه فوجدوه قد مات ورأسه على لبنة.
يقول ابن السماك: دخلت على داود الطائي يوم مات وهو في بيت على التراب وتحت رأسه لبنة، فبكيت لما رأيت من حاله، وقلت: يا داود لقد فضحت القراء –يعني بإقبالهم على الدنيا- ثم ذكرت ما أعد الله لأوليائه فقلت: يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن، وعذبت نفسك قبل أن تعذب، فاليوم ترى ثواب ما كنت ترجو، وكنت له تنصب وتعمل.
رحم الله داود وأعلى في الآخرين مقامه ولنا عودة قريبة إلى الحديث عنه إن شاء الله.
عرضنا في العدد الماضي لشيء من مآثر أبي سليمان داود نصر الطائي رحمه الله تلك المآثر التي تدل على أنه كان يعبد الله على علم، وأنه عرف الطريق إلى مرضاة الله سبحانه، وامتلأ قلبه بالخشية الصادقة لعلام الغيوب. ورأينا –فيما رأينا- شهادة كبار معاصريه فيه حتى قال عبد الله بن المبارك –وهو من هو- علماً وفضلاً وتقوى- :”وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي!!”.
وفي متابعة لهذه الكلمات الموصولة بما قبلها، نقف عند لون آخر من فضائل هذا الرجل العظيم، وعند شيء من وصاياه رحمه الله.
فلقد كان شغله الشاغل، والهم الذي لا يبارحه أن يكون على الجادة في كل صغيرة وكبيرة، حتى لا يقع في شيء من المخالفة لمولاه الخالق رب العالمين؛ فكان كثير التفكر والتدبر في النهار، مطيلاً للمناجاة الخاشعة في جوف الليل لمن لا تأخذه سنة ولا نوم، الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. فعن عبد الأعلى بن زياد الأسلمي قال: رأيت داود الطائي يوماً قائماً على شاطئ الفرات مبهوتاً، فقلت: ما يوقفك ههنا يا أبا سليمان؟ فقال: أنظر إلى الفلك كيف تجري في البحر مسخرات بأمر الله تعالى.
حدثت أم سعيد بن علقمة، وكان سعيد من النساك وأمه طائية من الصالحات. قالت:
كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامة الليل لا يهدأ، قالت: ولربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب”. قالت: ولربما ترنم في السحر بشيء من القرآن فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه تلك الساعة، قالت: وكان يكون في الدار وحده وكان لا يصبح، يعني لا يوقد السراج (لا يسرج).
وإنا لنجد –مع هذا الخوف- كثيراً من الرجاء بفضل الله سبحانه وذلك موقف المؤمن المتبصر، فقد كان يقول –أجزل الله مثوبته- :”ما يعول إلا على حسن الظن، فأما التفريط فهو المستولي على الأبدان. ويقول في موطن آخر:”اليأس سبيل أعمالنا هذه، ولكن القلوب تحن إلى الرجاء”.
وهذا الذي يطبع حياة هؤلاء الصالحين، جعلهم في يقظة دائمة، تباعد بينهم وبين أن يكون للغفلة سلطان على قلوبهم، وما أشد ما تفعل الغفلة بكثير من النفوس. فقد روي عنه قوله:”كل نفس تدر على همتها. فمهموم بخير ومهموم بشر” وحدث عقبة بن موسى- وكان صديقاً لداود– أن أبا سليمان قال له ذات يوم:”يا عقبة كيف يتسلى من حزن من تتجدد عليه المصائب في كل يوم” فخر عقبة مغشياً عليه.
والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً يكرم هؤلاء الربانيين المفلحين، بجزيل عطائه، ويزيدهم من فضله خيراً على خير حتى يكونوا –بمنه وكرمه- في عداد أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. روي عن حفص بن عمر أنه قال: كان داود الطائي ومحمد بن النضر الحارثي من العمال لله بالطاعة، المكدودين في العبادة، فلما مات داود، رأى رجل من عباد أهل الكوفة يقال له محمد بن ميمون، وكان يذكر من فضله –فرأى منادياً ينادي: ألا إن داود الطائي ومحمد بن النضر الحارثي طلبا أمراً فأدركاه”.
وقال عبد العزيز بن محمد: رأيت فيما يرى النائم كأن قائلاً يقول: من يحضر؟ من يحضر؟ فأتيته فقال لي: ما تريد؟ قلت سمعتك تقول: من يحضر؟ من يحضر؟ فأتيتك أسألك عن معنى كلامك، فقال لي: أما ترى القائم الذي يخطب الناس ويخبرهم عن أعلى مراتب الأولياء؟ فأدرك فلعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه. قال: فأتيته فإذا الناس حوله وهو يقول:
ما نال عبد من الرحمن منزلةً
أعلى من الشوق إن الشوق محمود
قال: ثم سلم ونزل، فقلت لرجل إلى جنبي: من هذا؟ قال: أما تعرفه؟ قلت لا، قال: هذا داود الطائي، فعجبت في منامي منه، فقال: أتعجب مما رأيت؟ والله للذي لداود عند الله أعظم من هذا وأكثر.
والناظر في سيرة الرجل، يجد النسب متصلاً بين هذا الذي رآه عليه عبد العزيز بن محمد في الرؤيا، وبين ما كانت عليه حاله في الدنيا، وسبحان العليم الخبير، روي عن أبي محمد صدقة الزاهد قال: (خرجنا مع داود الطائي في جنازة بالكوفة، قال: فقعد داود ناحية وهي تدفن، فجاء الناس فقعدوا قريباً منه، فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، ثم قال: واعلم يا أخي أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم أن أهل الدنيا جميعاً من أهل القبور، إنما يفرحون بما يقدمون، ويندمون على ما يخلفون عليه أهل القبور ندموا وعليه أهل الدنيا يقتتلون وفيه يتنافسون وعليه عند القضاة يختصمون).
وفي شذرات من القول كأنها جوامع الكلم، ينير الدرب للسالكين فيقول: (ما أخرج الله عبداً من ذل المعاصي إلى عز التقوى، إلا أغناه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس) إنها ضوابط أهل الآخرة، والمقاييس التي تكتب بماء الذهب، كشف عنها رحمه الله حقيقة العز والذل، وحقيقة الغنى والفقر، وحقيقة الأنس والوحشة، وما يكون لمن أخرجه الله من ذل المعصية إلى عز التقوى، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وسبحان من عطاؤه هو العطاء، لا تنفد كلماته، ولا ينقص خزائنه الفضل والإكرام (كلاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا)(3)
لقد كانت وصايا أبي سليمان رحمه الله صورة واضحة المعالم لما يوجبه التناصح بين المؤمنين: وهي وصايا تقرأ من خلالها سلوك داود وطريقته في الحياة وتذوقه للمعاني التي يدعو إليها، والحقائق التي يوصي بها. انظر بعض ذلك مثلاً في وصيته لعبد الله بن الأعرج التي يقول فيها: “صم عن الدنيا واجعل نظرك في الآخرة، قال عبد الله: فقلت: زدني، قال: ليكن كاتباك محدّثيك، فقلت: زدني، قال: برّ والديك، قلت: زدني، قال: فرّ من الناس فرارك من الأسد غير مفارق لجماعتهم”*.
وتلك حاله التي كان عليها ، وذلك بلا ريب أدعى إلى عمق التأثير في المخاطبين، وروى محمد الصفار قال: حدثني رجل من أهل داود الطائي قال: قلت له يوماً: يا أبا سليمان قد عرفت الرحم بيننا فأوصني قال: فدمعت عيناه ثم قال لي:
“يا أخي إنما الليل والنهار مراحل، تنزل بالناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زاداً لما بين يديه فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، وفي أعقاب ذلك قال رحمه الله: “إني لأقول هذا وما أعلم أشد تضييعاً مني لذلك” ثم قام..
أرأيت إلى هذه الوصية التي تشرق في النفس، وكأنها نور من نور كتاب الله وضياء حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم أرأيت مع هذه الكلمات الحيّة التي تأخذ طريقها إلى القلب.. هذا التواضع الخاشع بين يدي الله ، يستوصيه قريبه فتدمع عيناه.. وبعد أن يزوده بتلك الكلمات الربانية القليلة المبنى، الغزيرة المعنى، تحمله رؤيته لتقصير نفسه وتطلعه إلى ما يجب أن تكون عليه فيقول: “إني لأقول هذا وما أعلم أحداً أشد تضييعاً مني لذلك”.
يا سبحان الله أي شيء تفعله التقوى في هذه القلوب.. فتفيض بما تفيض به على لسان حال الرجل الصالح وجوارحه.. فنسمع ما نسمع، ونرى ما نرى، وكأن ما نسمع وما نرى، على نسب متصل بميراث النبوة.
حدث إبراهيم بن أدهم أن أبا سليمان كان يقول: “إن للخوف تحركات تُعرف في الخائفين، ومقامات يعرفها المحبون، وإزعاجات يفوز بها المشتاقون، وأين أولئك؟ أولئك هم الفائزون” ومن هذا المرتقى الصعب في مدارج الذوق الإيماني قال داود مرة لسفيان:
“إذا كنت تشرب الماء المبرد، وتأكل اللذيذ المطيّب، وتمشي في الظل الظليل، فمتى تحب الموت والقدوم على الله”؟
فبكى سفيان رحمهما الله.
ومن وصاياه ما حدث به صالح بن موسى قال: قال رجل لداود الطائي، أوصني قال:
“اصحب أهل التقوى فإنهم أيسر أهل الدنيا مؤونة عليك، وأكثر لك معونة”.
وأكرمْ بها من صحبة تحفظ النفس والوقت، وتحمل بما تقدم من القدوة الصالحة على الاستقامة والرضى لله ولرسوله من القول والعمل.
أما وصيته لعبد الله بن إدريس: فقد جمعت الخير من أطرافه لمن يريد طريق السالكين، قال عبد الله لأبي سليمان أوصني، فقال داود: “أقلل معرفة الناس” واستزاده عبد الله من الوصية فقال: زدني، قال: ارض باليسير من الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بالدنيا مع فساد الدين، قلت: زدني، قال: اجعل الدنيا كيوم صمته ثم أفطر على الموت”
وهذا الذي يقوله داود لم يكن –كما علمت- كلمات تجري على اللسان وحسب، ولكنه كان حاله التي لا يتكلفها، وسلوكه الذي أصبح سجيته.
ومن عجب أنه على قلة مخالطته للناس –سرى نبأ وفاته في الكوفة وما حولها بشكل أثار استغراب المؤرخين، وعُدّ من إكرام الله لهذا الرجل، فلقد بكاه الناس كلهم ودخل الحزن عليه كل بيت، يقول محمد بن عيسى الرايشي:
رأيت الناس هنا يأتون ثلاث ليال مخافة أن تفوتهم جنازة داود، ورأيت الناس كلهم يبكون عليه ما شبهته إلا يوم الخروج.
ويقول الحسن بن بشر:
حضرت جنازة داود، كان يُنعى ساعة بعد ساعة ثم نكذب، فحمل على سريرين أو ثلاثة تكسر من زحام الناس عليه، وصُلّي عليه كذا كذا مرة.
أما يونس بن عروة فيقول: زحموني في جنازة داود الطائي حتى قطعوا نعلي فذهبت، وسلوا ردائي عن منكبي فذهب، وذلك لكثرة الخلائق والزحام.
وتحريك القلوب على هذه الشاكلة ونداؤها من الأعماق وضع تحدث عنه الإمام الصابر أحمد بن حنبل يرحمه الله في كلمة له عن الطغاة والظالمين حين قال: “بيننا وبينهم الجنائز”.
أما بعد: فقد قال العلماء في داود الكثير، ولكن ابن السماك رحمه الله لم يترك زيادة لمستزيد، وكان من ذلك قوله فيه بعد دفنه: “.. لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطات مطية، ولا من الأمراء هدية، ولا تدنيك المطامع، ولا ترقب إلى الناس في الصنائع، آنس ما تكون إذا كنت بالله خالياً، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالساً، فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس…إلى أن يقول:
عزلت الشهوة عنك في حياتك لئلا يدخلك عجبها ولا تلحقك فتنتها، فلما مت شهر ربك بموتك، وألبسك رداء عملك، فلم تنثر ما عملت في سرك، فأظهر الله اليوم ذلك، وأكثر نفعك، وحشد لك الجماعة، فلو رأيت اليوم كثرة من تبعك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرفك، ولو أن طيئاً تكلمت بألسنتها شرفاً بك لحق لها ذلك إذ كنت منها أبا سليمان؟
ولله الحمد في الأولى والآخرة، ونسأله أن يلحقنا بعباده الصالحين.
________
الفهرس:
(1) النازعات: 40 .
(2) الضحى: 4 .
(3) سورة الإسراء الآية: 20.
* حضارة الإسلام، السنة الرابعة عشرة – العدد 3 – جمادى الأولى 1393- حزيران 1973. والعدد 4 – جمادى الآخرة 1393 – تموز 1973، و العدد الخامس – رجب/ 1393 – آب/ 1973
المصدر : رابطة أدباء الشام
حديث الروح مع داود الطائي
أ.د/محمد أديب الصالح
رئيس تحرير مجلة حضارة الإسلام
في الجعبة اليوم –على قلة ما فيها من الزاد- كلمات عن واحد من هؤلاء الربانيين، هو: أبو سليمان داود بن نصير الطائي؛ الذي أكرمه الله بأن جمع بين العلم والعمل؛ فكان من العلماء البررة الأتقياء، الذين يعبدون الله على معرفة، ويخلصون الوجهة إليه سبحانه، في رجاء لعفوه ورحمته، ومخافة ليوم تتقلب فيه القلوب والأبصار.
ولد أبو سليمان بالكوفة، ولما ارتحل إلى بغداد –وهي غنية بالرجال يومذاك- أخذ عن علمائها وكان واحداً من أصحاب أبي حنيفة النعمان رحمه الله. وحين تم له ما يريد من فقه الكتاب والسنة ورأي أهل الرأي، عاد إلى الكوفة، حيث غلب عليه جانب العمل بما علم والزهد في الدنيا، والانصراف في أكثر ساعات حياته إلى العبادة، وتلاوة كتاب الله متدبراً متفكراً. وقد وضع الله لكلماته القبول في صدور الناس، وأصبح في ورعه وزهده وتقواه قدوة مثلى يشار إليها بالبنان حتى قال أحد معاصريه: “لو كان داود في الأمم الماضية لقص الله تعالى شيئاً من خبره” وبجانب ذلك كله كانت له مشاركة في رواية حديث رسول الله ، وقد أسند عن جماعة من التابعين منهم عبد الله بن عمير وإسماعيل بن أبي خالد والأعمش وحميد الطويل، قال العلماء: وأكثر روايته عن الأعمش. وقد روى عنه إسماعيل بن علية وزافر بن سليمان، ولكن أكثر من روى عنه ابن أصعب بن المقدام.
وتوفي رحمه الله سنة 165 أو سنة 166 للهجرة وإنك لتذكر حين تقرأ سيرة هذا الرجل قول الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}(1).
والذي يستوقفك في شأنه أنه في إجهاد نفسه بالعبادة وفعل الخيرات، كان على تواضع جم وحزن على التفريط… ومبعث ذلك – والله أعلم –شعوره الصادق بطول الطريق مع الرحلة القريبة والحاجة إلى الزاد، فكان مما يقول رحمه الله:
“سبقني العابدون وقطع بي والهفاه”.
وهذه الحال من داود كان يتطلع إليها كبار الرجال حتى قال عبد الله بن المبارك:
“وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي”.
وروي عن سفيان الثوري أنه كان إذا ذكر داود قال:” أبصر الطائي أمره”.
وهذه الكلمة من سفيان رحمه الله التي تقرر أن الطائي قد أبصر أمره- بمعنى أنه نظر إلى الدنيا والآخرة نظرة البصيرة التي يشرف عليها نور الإيمان والخشية من الله تعالى –تكشف عن منزلة داود في نظر سفيان، فقد شغل أبا سليمان أمر الآخرة عن أمر الدنيا، وصدق الله فصدقه، ورغب بما عند الله في الآجلة مستشعراً خطاب الله لنبيه وهو سيد العالمين:”وللآخرة خير لك من الأولى”(2).
وأنعم بشهادة أهل الإيمان لأخيهم المؤمن بعد الموت، قال ابن السماك عند دفن داود رحمه الله: “يا داود كنت تسهر ليلك إذ الناس ينامون”.
فقال القوم جميعاً: صدقت.
“وكنت تربح إذا الناس يخسرون” –يعني في أمور الآخرة-.
فقال الناس جميعاً: صدقت.
“وكنت تسلم إذا الناس يخوضون”.
فقال الناس جميعاً: صدقت.
حتى عدد فضائله كلها، فقام أبو بكر النهشلي وقد خاف على الناس أن يفتنوا بكثرة تلك الفضائل، وأراد أن يذكرهم بأن العبد مهما صلحت حاله، فقير لفضل الله تعالى ورحمته وإحسانه، فحمد الله ثم قال: يارب إن الناس قد قالوا ما عنده مبلغ ما علموا، فاغفر له برحمتك ولا تكله إلى عمله.
وإذا كانت الخشية على قدر المعرفة؛ فقد كان الواحد من هؤلاء الرجال يرى حين يتلو كتاب الله كأن كل وعيد في آيات القرآن ينصب على رأسه هو ويتهدده وحده، وكأن كل قارعة ينذر بها العصاة إنما تعنيه هو دون غيره من الناس، وإنما كان ذلك من فرط حسهم رحمهم الله ورقة أفئدتهم، وصفاء تلك الخشية؛ ومن هنا كان تأثرهم بالقرآن خصوصاً آيات العذاب التي تحمل التهديد والتخويف، تتفطر لها قلوبهم وتهتز لها نفوسهم، فيناجون ربهم باكين خاشعين ويتلون كتابه ضارعين خائفين. ولقد روي عن عمر الجعفي أنه قال: اشتكى داود الطائي أياماً… وكان سبب علته أنه مر بآية فيها ذكر النار، فكررها مراراً في ليلته فأصبح مريضاً، وبعد أيام دخل عليه أناس من إخوانه وجيرانه فوجدوه قد مات ورأسه على لبنة.
يقول ابن السماك: دخلت على داود الطائي يوم مات وهو في بيت على التراب وتحت رأسه لبنة، فبكيت لما رأيت من حاله، وقلت: يا داود لقد فضحت القراء –يعني بإقبالهم على الدنيا- ثم ذكرت ما أعد الله لأوليائه فقلت: يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن، وعذبت نفسك قبل أن تعذب، فاليوم ترى ثواب ما كنت ترجو، وكنت له تنصب وتعمل.
رحم الله داود وأعلى في الآخرين مقامه ولنا عودة قريبة إلى الحديث عنه إن شاء الله.
عرضنا في العدد الماضي لشيء من مآثر أبي سليمان داود نصر الطائي رحمه الله تلك المآثر التي تدل على أنه كان يعبد الله على علم، وأنه عرف الطريق إلى مرضاة الله سبحانه، وامتلأ قلبه بالخشية الصادقة لعلام الغيوب. ورأينا –فيما رأينا- شهادة كبار معاصريه فيه حتى قال عبد الله بن المبارك –وهو من هو- علماً وفضلاً وتقوى- :”وهل الأمر إلا ما كان عليه داود الطائي!!”.
وفي متابعة لهذه الكلمات الموصولة بما قبلها، نقف عند لون آخر من فضائل هذا الرجل العظيم، وعند شيء من وصاياه رحمه الله.
فلقد كان شغله الشاغل، والهم الذي لا يبارحه أن يكون على الجادة في كل صغيرة وكبيرة، حتى لا يقع في شيء من المخالفة لمولاه الخالق رب العالمين؛ فكان كثير التفكر والتدبر في النهار، مطيلاً للمناجاة الخاشعة في جوف الليل لمن لا تأخذه سنة ولا نوم، الذي يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها. فعن عبد الأعلى بن زياد الأسلمي قال: رأيت داود الطائي يوماً قائماً على شاطئ الفرات مبهوتاً، فقلت: ما يوقفك ههنا يا أبا سليمان؟ فقال: أنظر إلى الفلك كيف تجري في البحر مسخرات بأمر الله تعالى.
حدثت أم سعيد بن علقمة، وكان سعيد من النساك وأمه طائية من الصالحات. قالت:
كان بيننا وبين داود الطائي جدار قصير، فكنت أسمع حنينه عامة الليل لا يهدأ، قالت: ولربما سمعته في جوف الليل يقول: اللهم همك عطل علي الهموم، وحال بيني وبين السهاد، وشوقي إلى النظر إليك منع مني اللذات والشهوات، فأنا في سجنك أيها الكريم مطلوب”. قالت: ولربما ترنم في السحر بشيء من القرآن فأرى أن جميع نعيم الدنيا جمع في ترنمه تلك الساعة، قالت: وكان يكون في الدار وحده وكان لا يصبح، يعني لا يوقد السراج (لا يسرج).
وإنا لنجد –مع هذا الخوف- كثيراً من الرجاء بفضل الله سبحانه وذلك موقف المؤمن المتبصر، فقد كان يقول –أجزل الله مثوبته- :”ما يعول إلا على حسن الظن، فأما التفريط فهو المستولي على الأبدان. ويقول في موطن آخر:”اليأس سبيل أعمالنا هذه، ولكن القلوب تحن إلى الرجاء”.
وهذا الذي يطبع حياة هؤلاء الصالحين، جعلهم في يقظة دائمة، تباعد بينهم وبين أن يكون للغفلة سلطان على قلوبهم، وما أشد ما تفعل الغفلة بكثير من النفوس. فقد روي عنه قوله:”كل نفس تدر على همتها. فمهموم بخير ومهموم بشر” وحدث عقبة بن موسى- وكان صديقاً لداود– أن أبا سليمان قال له ذات يوم:”يا عقبة كيف يتسلى من حزن من تتجدد عليه المصائب في كل يوم” فخر عقبة مغشياً عليه.
والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً يكرم هؤلاء الربانيين المفلحين، بجزيل عطائه، ويزيدهم من فضله خيراً على خير حتى يكونوا –بمنه وكرمه- في عداد أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً. روي عن حفص بن عمر أنه قال: كان داود الطائي ومحمد بن النضر الحارثي من العمال لله بالطاعة، المكدودين في العبادة، فلما مات داود، رأى رجل من عباد أهل الكوفة يقال له محمد بن ميمون، وكان يذكر من فضله –فرأى منادياً ينادي: ألا إن داود الطائي ومحمد بن النضر الحارثي طلبا أمراً فأدركاه”.
وقال عبد العزيز بن محمد: رأيت فيما يرى النائم كأن قائلاً يقول: من يحضر؟ من يحضر؟ فأتيته فقال لي: ما تريد؟ قلت سمعتك تقول: من يحضر؟ من يحضر؟ فأتيتك أسألك عن معنى كلامك، فقال لي: أما ترى القائم الذي يخطب الناس ويخبرهم عن أعلى مراتب الأولياء؟ فأدرك فلعلك تلحقه وتسمع كلامه قبل انصرافه. قال: فأتيته فإذا الناس حوله وهو يقول:
ما نال عبد من الرحمن منزلةً
أعلى من الشوق إن الشوق محمود
قال: ثم سلم ونزل، فقلت لرجل إلى جنبي: من هذا؟ قال: أما تعرفه؟ قلت لا، قال: هذا داود الطائي، فعجبت في منامي منه، فقال: أتعجب مما رأيت؟ والله للذي لداود عند الله أعظم من هذا وأكثر.
والناظر في سيرة الرجل، يجد النسب متصلاً بين هذا الذي رآه عليه عبد العزيز بن محمد في الرؤيا، وبين ما كانت عليه حاله في الدنيا، وسبحان العليم الخبير، روي عن أبي محمد صدقة الزاهد قال: (خرجنا مع داود الطائي في جنازة بالكوفة، قال: فقعد داود ناحية وهي تدفن، فجاء الناس فقعدوا قريباً منه، فقال: من خاف الوعيد قصر عليه البعيد، ومن طال أمله ضعف عمله، وكل ما هو آت قريب، ثم قال: واعلم يا أخي أن كل شيء يشغلك عن ربك فهو عليك مشؤوم، واعلم أن أهل الدنيا جميعاً من أهل القبور، إنما يفرحون بما يقدمون، ويندمون على ما يخلفون عليه أهل القبور ندموا وعليه أهل الدنيا يقتتلون وفيه يتنافسون وعليه عند القضاة يختصمون).
وفي شذرات من القول كأنها جوامع الكلم، ينير الدرب للسالكين فيقول: (ما أخرج الله عبداً من ذل المعاصي إلى عز التقوى، إلا أغناه بلا مال، وأعزه بلا عشيرة، وآنسه بلا أنيس) إنها ضوابط أهل الآخرة، والمقاييس التي تكتب بماء الذهب، كشف عنها رحمه الله حقيقة العز والذل، وحقيقة الغنى والفقر، وحقيقة الأنس والوحشة، وما يكون لمن أخرجه الله من ذل المعصية إلى عز التقوى، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
وسبحان من عطاؤه هو العطاء، لا تنفد كلماته، ولا ينقص خزائنه الفضل والإكرام (كلاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا)(3)
لقد كانت وصايا أبي سليمان رحمه الله صورة واضحة المعالم لما يوجبه التناصح بين المؤمنين: وهي وصايا تقرأ من خلالها سلوك داود وطريقته في الحياة وتذوقه للمعاني التي يدعو إليها، والحقائق التي يوصي بها. انظر بعض ذلك مثلاً في وصيته لعبد الله بن الأعرج التي يقول فيها: “صم عن الدنيا واجعل نظرك في الآخرة، قال عبد الله: فقلت: زدني، قال: ليكن كاتباك محدّثيك، فقلت: زدني، قال: برّ والديك، قلت: زدني، قال: فرّ من الناس فرارك من الأسد غير مفارق لجماعتهم”*.
وتلك حاله التي كان عليها ، وذلك بلا ريب أدعى إلى عمق التأثير في المخاطبين، وروى محمد الصفار قال: حدثني رجل من أهل داود الطائي قال: قلت له يوماً: يا أبا سليمان قد عرفت الرحم بيننا فأوصني قال: فدمعت عيناه ثم قال لي:
“يا أخي إنما الليل والنهار مراحل، تنزل بالناس مرحلة مرحلة، حتى ينتهي بهم ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم في كل يوم مرحلة زاداً لما بين يديه فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب ما هو، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لسفرك واقض ما أنت قاض من أمرك، فكأنك بالأمر قد بغتك، وفي أعقاب ذلك قال رحمه الله: “إني لأقول هذا وما أعلم أشد تضييعاً مني لذلك” ثم قام..
أرأيت إلى هذه الوصية التي تشرق في النفس، وكأنها نور من نور كتاب الله وضياء حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم أرأيت مع هذه الكلمات الحيّة التي تأخذ طريقها إلى القلب.. هذا التواضع الخاشع بين يدي الله ، يستوصيه قريبه فتدمع عيناه.. وبعد أن يزوده بتلك الكلمات الربانية القليلة المبنى، الغزيرة المعنى، تحمله رؤيته لتقصير نفسه وتطلعه إلى ما يجب أن تكون عليه فيقول: “إني لأقول هذا وما أعلم أحداً أشد تضييعاً مني لذلك”.
يا سبحان الله أي شيء تفعله التقوى في هذه القلوب.. فتفيض بما تفيض به على لسان حال الرجل الصالح وجوارحه.. فنسمع ما نسمع، ونرى ما نرى، وكأن ما نسمع وما نرى، على نسب متصل بميراث النبوة.
حدث إبراهيم بن أدهم أن أبا سليمان كان يقول: “إن للخوف تحركات تُعرف في الخائفين، ومقامات يعرفها المحبون، وإزعاجات يفوز بها المشتاقون، وأين أولئك؟ أولئك هم الفائزون” ومن هذا المرتقى الصعب في مدارج الذوق الإيماني قال داود مرة لسفيان:
“إذا كنت تشرب الماء المبرد، وتأكل اللذيذ المطيّب، وتمشي في الظل الظليل، فمتى تحب الموت والقدوم على الله”؟
فبكى سفيان رحمهما الله.
ومن وصاياه ما حدث به صالح بن موسى قال: قال رجل لداود الطائي، أوصني قال:
“اصحب أهل التقوى فإنهم أيسر أهل الدنيا مؤونة عليك، وأكثر لك معونة”.
وأكرمْ بها من صحبة تحفظ النفس والوقت، وتحمل بما تقدم من القدوة الصالحة على الاستقامة والرضى لله ولرسوله من القول والعمل.
أما وصيته لعبد الله بن إدريس: فقد جمعت الخير من أطرافه لمن يريد طريق السالكين، قال عبد الله لأبي سليمان أوصني، فقال داود: “أقلل معرفة الناس” واستزاده عبد الله من الوصية فقال: زدني، قال: ارض باليسير من الدنيا مع سلامة الدين، كما رضي أهل الدنيا بالدنيا مع فساد الدين، قلت: زدني، قال: اجعل الدنيا كيوم صمته ثم أفطر على الموت”
وهذا الذي يقوله داود لم يكن –كما علمت- كلمات تجري على اللسان وحسب، ولكنه كان حاله التي لا يتكلفها، وسلوكه الذي أصبح سجيته.
ومن عجب أنه على قلة مخالطته للناس –سرى نبأ وفاته في الكوفة وما حولها بشكل أثار استغراب المؤرخين، وعُدّ من إكرام الله لهذا الرجل، فلقد بكاه الناس كلهم ودخل الحزن عليه كل بيت، يقول محمد بن عيسى الرايشي:
رأيت الناس هنا يأتون ثلاث ليال مخافة أن تفوتهم جنازة داود، ورأيت الناس كلهم يبكون عليه ما شبهته إلا يوم الخروج.
ويقول الحسن بن بشر:
حضرت جنازة داود، كان يُنعى ساعة بعد ساعة ثم نكذب، فحمل على سريرين أو ثلاثة تكسر من زحام الناس عليه، وصُلّي عليه كذا كذا مرة.
أما يونس بن عروة فيقول: زحموني في جنازة داود الطائي حتى قطعوا نعلي فذهبت، وسلوا ردائي عن منكبي فذهب، وذلك لكثرة الخلائق والزحام.
وتحريك القلوب على هذه الشاكلة ونداؤها من الأعماق وضع تحدث عنه الإمام الصابر أحمد بن حنبل يرحمه الله في كلمة له عن الطغاة والظالمين حين قال: “بيننا وبينهم الجنائز”.
أما بعد: فقد قال العلماء في داود الكثير، ولكن ابن السماك رحمه الله لم يترك زيادة لمستزيد، وكان من ذلك قوله فيه بعد دفنه: “.. لا تحسد الأخيار، ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطات مطية، ولا من الأمراء هدية، ولا تدنيك المطامع، ولا ترقب إلى الناس في الصنائع، آنس ما تكون إذا كنت بالله خالياً، وأوحش ما تكون إذا كنت مع الناس جالساً، فأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس، وآنس ما تكون أوحش ما يكون الناس…إلى أن يقول:
عزلت الشهوة عنك في حياتك لئلا يدخلك عجبها ولا تلحقك فتنتها، فلما مت شهر ربك بموتك، وألبسك رداء عملك، فلم تنثر ما عملت في سرك، فأظهر الله اليوم ذلك، وأكثر نفعك، وحشد لك الجماعة، فلو رأيت اليوم كثرة من تبعك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرفك، ولو أن طيئاً تكلمت بألسنتها شرفاً بك لحق لها ذلك إذ كنت منها أبا سليمان؟
ولله الحمد في الأولى والآخرة، ونسأله أن يلحقنا بعباده الصالحين.
________
الفهرس:
(1) النازعات: 40 .
(2) الضحى: 4 .
(3) سورة الإسراء الآية: 20.
* حضارة الإسلام، السنة الرابعة عشرة – العدد 3 – جمادى الأولى 1393- حزيران 1973. والعدد 4 – جمادى الآخرة 1393 – تموز 1973، و العدد الخامس – رجب/ 1393 – آب/ 1973
المصدر : رابطة أدباء الشام
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin