مع الحبيب المصطفى :«واللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْـمُنْذِرِ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
248ـ «واللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْـمُنْذِرِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ نُهُوضَ الأُمَّةِ مِنَ الحَضِيضِ، وَرُقِيَّهَا إلى القِمَّةِ، مَعْقُودٌ على صِحَّةِ التَّعْلِيمِ وَحُسْنِ التَّرْبِيَةِ، وَجَمِيعُ المَنَاهِجِ الوَضْعِيَّةِ، مَهْمَا أُوتِيَتْ مِنْ قُوَّةٍ، وَاجْتَمَعَ لَدَيْهَا مِنْ خِبْرَةٍ، فَإِنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الكَمَالَاتِ، لِأَنَّ البَشَرَ جَمِيعَاً كَمَا قَالَ تعالى في حَقِّهِم: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلَاً﴾.
المَنَاهِجُ الوَضْعِيَّةُ في الغَالِبِ الأَعَمِّ لَا تَخْلُو مِنْ هَوَىً بَشَرِيٍّ جَهُولٍ، أَو نَظْرَةٍ ضَيِّقَةٍ مَحْدُودَةٍ، مَعَ ضَعْفٍ في الشُّعُورِ الدَّاخِلِّيِّ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الأُمُورُ المُهِمَّةُ وَالضَّرُورِيَّةُ جِدَّاً في هَذِهِ الآوِنَةِ، أَنْ نَرْجِعَ إلى هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإلى شَرِيعَتِهِ الغَرَّاءِ، وإلى دِينِهِ الحَنِيفِ الذي قَالَ فِيهِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾.
الأُمُورُ المُهِمَّةُ وَالضَّرُورِيَّةُ جِدَّاً أَنْ نَتَعَلَّمَ العِلْمَ الشَّرِيفَ الذي جَاءَنَا بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَعَادَتِنَا وَلِإِنْقَاذِنَا مِنْ حَيَاةِ الشَّقَاءِ وَالضَّنْكِ في الدُّنْيَا، وَمِنَ الشَّقَاءِ المُقِيمِ في الآخِرَةِ، وَأَنْ نَتَعَلَّمَ الأُسْلُوبَ النَّبَوِيَّ في التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ لِمَنْ نُرَبِّيهِم وَنُعَلِّمُهُم.
بِمَنْ نَقْتَدِي؟
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنُفَكِّرْ جَمِيعَاً: بِمَنْ نَقْتَدي، وَعَمَّنْ نَأْخُذُ العِلْمَ، وَمِمَّنْ نَتَعَلَّمُ أُسْلُوبَ التَّعْلِيمِ وَالنُّصْحِ؟
خَيْرُ مُعَلِّمٍ، وَخَيْرُ نَاصِحٍ، وَخَيْرُ مُوَجِّهٍ، هُوَ مَنِ اخْتَارَهُ اللهُ تعالى للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، هُوَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي قَالَ فِيهِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتَاً (أَيْ: مُوقِعَاً أَحَدَاً في أَمْرٍ شَدِيدٍ) وَلَا مُتَعَنِّتَاً (أَيْ: طَالِبَاً لِزَلَّةِ أَحَدٍ) وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمَاً مُيَسِّرَاً» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
خَيْرُ مُعَلِّمٍ، وَخَيْرُ نَاصِحٍ، وَخَيْرُ مُوَجِّهٍ، هُوَ الذي أَعْطَاهُ اللهُ تعالى الكَمَالَ الـبَشَرِيَّ، وَعَصَمَهُ مِنَ الخَطَأِ حَتَّى لَا يُقْدَحُ في شَخْصِيَّتِهِ العَظِيمَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: العَاقِلُ مِنَ البَشَرِ، وَالحَرِيصُ على مَرْضَاةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وعلى سَعَادَتِهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، هُوَ الذي يَقْتَدِي بِالمَعْصُومِ، الذي يَكْفَلُ لَهُ السَّيْرَ على صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، وَلَا يَقْتَدِي بِمَنْ لَا تُؤْمَنُ عَثَرَاتُهُ، وَلَا يَضْمَنُ اسْتِقامَتَهُ على الحَقِّ، وَالحَمْدُ للهِ تعالى القَائِلِ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أُعْطِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمِّيَّتِهِ عِلْمَاً لَا يُدَانِيهِ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ لَهُ: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمَاً﴾.
فَيَا مَنْ يُرِيدُ إِنْقَاذَ البَشَرِيَّةِ مِنَ الشَّقَاءِ الذي حَلَّ بِهَا، انْظُرْ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ سَاسَ العَرَبَ، وَدَعَاهُم وَعَلَّمَهُم، وَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُم، مَعَ قَسْوَةِ قُلُوبِهِم، وَخُشُونَةِ أَخْلَاقِهِم، وَجَفاءِ طِبَاعِهِم، وَتَنَافُرِ أَمْزِجَتِهِم؛ لَقَد كَانَ العَرَبُ كَمَا قَالَ في وَصْفِهِم سَيِّدُنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: كُنَّا قَوْمَاً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْـمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُـسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ. رواه الإمام أحمد.
لَقَد احْتَمَلَ مِنْهُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الجَفَاءَ، وَصَبَرَ على أَذَاهُم، حَتَّى كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُم قِيمَةٌ وَلَا وَزْنٌ ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
«لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ»:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِنْ أُسْلُوبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تَعْلِيمِ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، أَنَّهُ كَانَ يُثْنِي على المُتَعَلِّمِ، بَلْ يُشَجِّعُهُ إِذَا سَأَلَ عَنْ دِينِهِ، لِيَبْعَثَ في نَفْسِهِ الحِرْصَ على طَلَبِ العِلْمِ، وَالزِّيَادَةِ مِنْهُ، وَلِتَحْرِيكِ النُّفُوسِ الأُخْرَى نَحْوَ المُنَافَسَةِ، وَهَذَا مَشْرُوطٌ لِمَنِ اتَّبَعَ هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ القَوْلُ حَقَّاً، وَأَنْ يُؤْمَنَ جَانِبُ المَمْدُوحِ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ أَعْرَابِيَّاً عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.
قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ».
قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟
قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَعْبُدُ اللهَ لَا تُـشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ؛ دَعِ النَّاقَةَ». لِأَنَّ الأَعْرَابِيَّ كَانَ مُمْسِكَاً بِخِطَامِهَا، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ سُؤَالِهِ بِلَا مَشَقَّةٍ، فَلَمَّا حَصَلَ جَوَابُهُ قَالَ: اتْرُكِ النَّاقَةَ لِتَمْشِي.
وروى الإمام أحمد عَنِ الْـمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْيَشْكُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى الْكُوفَةِ لِأَجْلِبَ بِغَالَاً، فَأَتَيْتُ السُّوقَ، وَلَمْ تُقَمْ.
قُلْتُ لِصَاحِبٍ لِي: لَوْ دَخَلْنَا الْـمَسْجِدَ ـ وَمَوْضِعُهُ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْحَابِ التَّمْرِ ـ فَإِذَا فِيهِ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْـمُنْتَفِقِ، وَهُوَ يَقُولُ: وُصِفَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحُلِّيَ.
فَطَلَبْتُهُ بِمِنَىً، فَقِيلَ لِي: هُوَ بِعَرَفَاتٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِي: إِلَيْكَ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: «دَعُوا الرَّجُلَ، أَرِبَ مَا لَهُ (أُصِيبَتْ أَعْضَاؤُهُ وَسَقَطَتْ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ لَا يُرَادُ بِهَا إِذَا قِيلَتْ وُقَوعَ الأَمْرِ)».
قَالَ: فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ حَتَّى خَلَصْتُ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتُ بِخِطَامِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ قَالَ: بِزِمَامِهَا ـ (مَا يُوضَعُ على البَعِيرِ لِيُقْتَادَ بِهِ) حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ رَاحِلَتَيْنَا؛ فَمَا يَزَعُنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ قَالَ: مَا غَيَّرَ عَلَيَّ ـ (يَعْنِي: لَمْ يُفْزِعْنِي) قُلْتُ: ثِنْتَانِ أَسْأَلُكَ عَنْهُمَا: مَا يُنَجِّينِي مِنَ النَّارِ، وَمَا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟
قَالَ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ نَكَسَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ، قَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْـمَسْأَلَةِ، لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ، فَاعْقِلْ عَنِّي إِذَاً؛ اعْبُدِ اللهِ لَا تُـشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ الْـمَكْتُوبَةَ، وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْـمَفْرُوضَةَ، وَصُمْ رَمَضَانَ، وَمَا تُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكَ النَّاسُ فَافْعَلْهُ بِهِمْ، وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكَ النَّاسُ فَذَرِ النَّاسَ مِنْهُ (دَعْ وَاتْرُكْ)».
ثُمَّ قَالَ: «خَلِّ سَبِيلَ الرَّاحِلَةِ (افْسَحِ الطَّرِيقَ للبَعِيرِ)» .
«واللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْـمُنْذِرِ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا الْـمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟».
قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «يَا أَبَا الْـمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟».
قَالَ: قُلْتُ: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.
قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «واللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْـمُنْذِرِ» (أَي: افْرَحْ وَاغْتَبِطْ بِهَذَا العِلْمِ الصَّافِي، العَمِيقِ الأَصِيلِ).
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: النَّفْسُ أَيَّاً كَانَ شَأْنُهَا تَمِيلُ إلى الرَّغْبَةِ في الشُّعُورِ بِالإِنْجَازِ، وَيَدْفَعُهَا ثَنَاءُ النَّاسِ المُنْضَبِطُ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ خُطُوَاتٍ أَكْثَرَ، وَالتَّشْجِيعُ وَالثَّنَاءُ حَثٌّ للآخَرِينَ، وَدَعْوَةٌ غَيْرُ مُبَاشِرَةٍ لَهُم لِأَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ هَذَا الرَّجُلِ الذي تَوَجَّهَ الثَّنَاءُ لَهُ.
«لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْـحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ؛ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصَاً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَد أَثْنَى عَلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ حِرْصٍ على العِلْمِ النَّافِعِ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ للأُمَّةِ بِأَنْ تُثْنِيَ على مَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ مِنْ أَهْلِ الخَيْرِ، حَتَّى يَسْتَمِرَّ على مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيُشَجِّعَ غَيْرَهُ على أَنْ يَسْلُكَ هَذَا المَسْلَكَ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَلَّمْ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُسْلُوبَ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَذَلِكَ بِالثَّنَاءِ على المُتَعَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، لِأَنَّ في ذَلِكَ أَثَراً كَبِيراً في بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ، وَهُوَ مِنَ العَدْلِ الذي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالقُلُوبُ جُبِلَتْ على حُبِّ مَنْ يَعْدِلُ فِيهَا، وَيَحْنُو عَلَيْهَا، وَتَمْنَحُ وُدَّهَا لِكُلِّ مَنْ يَعْدِلُ فِيهَا، وَيُحْسِنُ إِلَيْهَا؛ وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ عَيْنُ العَدْلِ.
جَزَى اللهُ عَنَّا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيَّاً عَنْ أُمَّتِهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
248ـ «واللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْـمُنْذِرِ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: إِنَّ نُهُوضَ الأُمَّةِ مِنَ الحَضِيضِ، وَرُقِيَّهَا إلى القِمَّةِ، مَعْقُودٌ على صِحَّةِ التَّعْلِيمِ وَحُسْنِ التَّرْبِيَةِ، وَجَمِيعُ المَنَاهِجِ الوَضْعِيَّةِ، مَهْمَا أُوتِيَتْ مِنْ قُوَّةٍ، وَاجْتَمَعَ لَدَيْهَا مِنْ خِبْرَةٍ، فَإِنَّهَا عَاجِزَةٌ عَنْ تَحْقِيقِ الكَمَالَاتِ، لِأَنَّ البَشَرَ جَمِيعَاً كَمَا قَالَ تعالى في حَقِّهِم: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلَاً﴾.
المَنَاهِجُ الوَضْعِيَّةُ في الغَالِبِ الأَعَمِّ لَا تَخْلُو مِنْ هَوَىً بَشَرِيٍّ جَهُولٍ، أَو نَظْرَةٍ ضَيِّقَةٍ مَحْدُودَةٍ، مَعَ ضَعْفٍ في الشُّعُورِ الدَّاخِلِّيِّ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: الأُمُورُ المُهِمَّةُ وَالضَّرُورِيَّةُ جِدَّاً في هَذِهِ الآوِنَةِ، أَنْ نَرْجِعَ إلى هَدْيِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وإلى شَرِيعَتِهِ الغَرَّاءِ، وإلى دِينِهِ الحَنِيفِ الذي قَالَ فِيهِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً﴾.
الأُمُورُ المُهِمَّةُ وَالضَّرُورِيَّةُ جِدَّاً أَنْ نَتَعَلَّمَ العِلْمَ الشَّرِيفَ الذي جَاءَنَا بِهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِسَعَادَتِنَا وَلِإِنْقَاذِنَا مِنْ حَيَاةِ الشَّقَاءِ وَالضَّنْكِ في الدُّنْيَا، وَمِنَ الشَّقَاءِ المُقِيمِ في الآخِرَةِ، وَأَنْ نَتَعَلَّمَ الأُسْلُوبَ النَّبَوِيَّ في التَّرْبِيَةِ وَالتَّعْلِيمِ لِمَنْ نُرَبِّيهِم وَنُعَلِّمُهُم.
بِمَنْ نَقْتَدِي؟
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنُفَكِّرْ جَمِيعَاً: بِمَنْ نَقْتَدي، وَعَمَّنْ نَأْخُذُ العِلْمَ، وَمِمَّنْ نَتَعَلَّمُ أُسْلُوبَ التَّعْلِيمِ وَالنُّصْحِ؟
خَيْرُ مُعَلِّمٍ، وَخَيْرُ نَاصِحٍ، وَخَيْرُ مُوَجِّهٍ، هُوَ مَنِ اخْتَارَهُ اللهُ تعالى للبَشَرِيَّةِ جَمْعَاءَ، هُوَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، الذي قَالَ فِيهِ مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولَاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
وَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَاتِهِ الشَّرِيفَةِ: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتَاً (أَيْ: مُوقِعَاً أَحَدَاً في أَمْرٍ شَدِيدٍ) وَلَا مُتَعَنِّتَاً (أَيْ: طَالِبَاً لِزَلَّةِ أَحَدٍ) وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّمَاً مُيَسِّرَاً» رواه الإمام مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُمَا.
خَيْرُ مُعَلِّمٍ، وَخَيْرُ نَاصِحٍ، وَخَيْرُ مُوَجِّهٍ، هُوَ الذي أَعْطَاهُ اللهُ تعالى الكَمَالَ الـبَشَرِيَّ، وَعَصَمَهُ مِنَ الخَطَأِ حَتَّى لَا يُقْدَحُ في شَخْصِيَّتِهِ العَظِيمَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: العَاقِلُ مِنَ البَشَرِ، وَالحَرِيصُ على مَرْضَاةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وعلى سَعَادَتِهِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، هُوَ الذي يَقْتَدِي بِالمَعْصُومِ، الذي يَكْفَلُ لَهُ السَّيْرَ على صِرَاطِ اللهِ المُسْتَقِيمِ، وَلَا يَقْتَدِي بِمَنْ لَا تُؤْمَنُ عَثَرَاتُهُ، وَلَا يَضْمَنُ اسْتِقامَتَهُ على الحَقِّ، وَالحَمْدُ للهِ تعالى القَائِلِ: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرَاً﴾.
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لَقَدْ أُعْطِيَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمِّيَّتِهِ عِلْمَاً لَا يُدَانِيهِ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ البَشَرِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى قَالَ لَهُ: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمَاً﴾.
فَيَا مَنْ يُرِيدُ إِنْقَاذَ البَشَرِيَّةِ مِنَ الشَّقَاءِ الذي حَلَّ بِهَا، انْظُرْ إلى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ سَاسَ العَرَبَ، وَدَعَاهُم وَعَلَّمَهُم، وَأَحْسَنَ تَرْبِيَتَهُم، مَعَ قَسْوَةِ قُلُوبِهِم، وَخُشُونَةِ أَخْلَاقِهِم، وَجَفاءِ طِبَاعِهِم، وَتَنَافُرِ أَمْزِجَتِهِم؛ لَقَد كَانَ العَرَبُ كَمَا قَالَ في وَصْفِهِم سَيِّدُنَا جَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ: كُنَّا قَوْمَاً أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ، نَعْبُدُ الْأَصْنَامَ، وَنَأْكُلُ الْـمَيْتَةَ، وَنَأْتِي الْفَوَاحِشَ، وَنَقْطَعُ الْأَرْحَامَ، وَنُـسِيءُ الْجِوَارَ، يَأْكُلُ الْقَوِيُّ مِنَّا الضَّعِيفَ. رواه الإمام أحمد.
لَقَد احْتَمَلَ مِنْهُمْ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الجَفَاءَ، وَصَبَرَ على أَذَاهُم، حَتَّى كَانُوا خَيْرَ أُمَّةٍ بَعْدَ أَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُم قِيمَةٌ وَلَا وَزْنٌ ﴿وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
«لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ»:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: مِنْ أُسْلُوبِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تَعْلِيمِ هَذَا الدِّينِ الحَنِيفِ، أَنَّهُ كَانَ يُثْنِي على المُتَعَلِّمِ، بَلْ يُشَجِّعُهُ إِذَا سَأَلَ عَنْ دِينِهِ، لِيَبْعَثَ في نَفْسِهِ الحِرْصَ على طَلَبِ العِلْمِ، وَالزِّيَادَةِ مِنْهُ، وَلِتَحْرِيكِ النُّفُوسِ الأُخْرَى نَحْوَ المُنَافَسَةِ، وَهَذَا مَشْرُوطٌ لِمَنِ اتَّبَعَ هَدْيَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَكُونَ القَوْلُ حَقَّاً، وَأَنْ يُؤْمَنَ جَانِبُ المَمْدُوحِ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، أَنَّ أَعْرَابِيَّاً عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ، أَوْ بِزِمَامِهَا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوْ يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ.
قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ».
قَالَ: كَيْفَ قُلْتَ؟
قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تَعْبُدُ اللهَ لَا تُـشْرِكُ بِهِ شَيْئَاً، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ؛ دَعِ النَّاقَةَ». لِأَنَّ الأَعْرَابِيَّ كَانَ مُمْسِكَاً بِخِطَامِهَا، لِيَتَمَكَّنَ مِنْ سُؤَالِهِ بِلَا مَشَقَّةٍ، فَلَمَّا حَصَلَ جَوَابُهُ قَالَ: اتْرُكِ النَّاقَةَ لِتَمْشِي.
وروى الإمام أحمد عَنِ الْـمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الْيَشْكُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى الْكُوفَةِ لِأَجْلِبَ بِغَالَاً، فَأَتَيْتُ السُّوقَ، وَلَمْ تُقَمْ.
قُلْتُ لِصَاحِبٍ لِي: لَوْ دَخَلْنَا الْـمَسْجِدَ ـ وَمَوْضِعُهُ يَوْمَئِذٍ فِي أَصْحَابِ التَّمْرِ ـ فَإِذَا فِيهِ رَجُلٌ مِنْ قَيْسٍ يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْـمُنْتَفِقِ، وَهُوَ يَقُولُ: وُصِفَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحُلِّيَ.
فَطَلَبْتُهُ بِمِنَىً، فَقِيلَ لِي: هُوَ بِعَرَفَاتٍ، فَانْتَهَيْتُ إِلَيْهِ، فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لِي: إِلَيْكَ عَنْ طَرِيقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: «دَعُوا الرَّجُلَ، أَرِبَ مَا لَهُ (أُصِيبَتْ أَعْضَاؤُهُ وَسَقَطَتْ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَقُولَةٌ لَا يُرَادُ بِهَا إِذَا قِيلَتْ وُقَوعَ الأَمْرِ)».
قَالَ: فَزَاحَمْتُ عَلَيْهِ حَتَّى خَلَصْتُ إِلَيْهِ، فَأَخَذْتُ بِخِطَامِ رَاحِلَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ قَالَ: بِزِمَامِهَا ـ (مَا يُوضَعُ على البَعِيرِ لِيُقْتَادَ بِهِ) حَتَّى اخْتَلَفَتْ أَعْنَاقُ رَاحِلَتَيْنَا؛ فَمَا يَزَعُنِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ أَوْ قَالَ: مَا غَيَّرَ عَلَيَّ ـ (يَعْنِي: لَمْ يُفْزِعْنِي) قُلْتُ: ثِنْتَانِ أَسْأَلُكَ عَنْهُمَا: مَا يُنَجِّينِي مِنَ النَّارِ، وَمَا يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ؟
قَالَ: فَنَظَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ نَكَسَ رَأْسَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ بِوَجْهِهِ، قَالَ: «لَئِنْ كُنْتَ أَوْجَزْتَ فِي الْـمَسْأَلَةِ، لَقَدْ أَعْظَمْتَ وَأَطْوَلْتَ، فَاعْقِلْ عَنِّي إِذَاً؛ اعْبُدِ اللهِ لَا تُـشْرِكْ بِهِ شَيْئَاً، وَأَقِمِ الصَّلَاةَ الْـمَكْتُوبَةَ، وَأَدِّ الزَّكَاةَ الْـمَفْرُوضَةَ، وَصُمْ رَمَضَانَ، وَمَا تُحِبُّ أَنْ يَفْعَلَهُ بِكَ النَّاسُ فَافْعَلْهُ بِهِمْ، وَمَا تَكْرَهُ أَنْ يَأْتِيَ إِلَيْكَ النَّاسُ فَذَرِ النَّاسَ مِنْهُ (دَعْ وَاتْرُكْ)».
ثُمَّ قَالَ: «خَلِّ سَبِيلَ الرَّاحِلَةِ (افْسَحِ الطَّرِيقَ للبَعِيرِ)» .
«واللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْـمُنْذِرِ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا الْـمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟».
قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: «يَا أَبَا الْـمُنْذِرِ، أَتَدْرِي أَيُّ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَعَكَ أَعْظَمُ؟».
قَالَ: قُلْتُ: ﴿اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾.
قَالَ: فَضَرَبَ فِي صَدْرِي، وَقَالَ: «واللهِ لِيَهْنِكَ الْعِلْمُ أَبَا الْـمُنْذِرِ» (أَي: افْرَحْ وَاغْتَبِطْ بِهَذَا العِلْمِ الصَّافِي، العَمِيقِ الأَصِيلِ).
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: النَّفْسُ أَيَّاً كَانَ شَأْنُهَا تَمِيلُ إلى الرَّغْبَةِ في الشُّعُورِ بِالإِنْجَازِ، وَيَدْفَعُهَا ثَنَاءُ النَّاسِ المُنْضَبِطُ بِضَوَابِطِ الشَّرِيعَةِ خُطُوَاتٍ أَكْثَرَ، وَالتَّشْجِيعُ وَالثَّنَاءُ حَثٌّ للآخَرِينَ، وَدَعْوَةٌ غَيْرُ مُبَاشِرَةٍ لَهُم لِأَنْ يَسْلُكُوا مَسْلَكَ هَذَا الرَّجُلِ الذي تَوَجَّهَ الثَّنَاءُ لَهُ.
«لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلُنِي عَنْ هَذَا الْـحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟
فَقَالَ: «لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ، لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ؛ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ خَالِصَاً مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَد أَثْنَى عَلَيْهِ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لِمَا رَأَى فِيهِ مِنْ حِرْصٍ على العِلْمِ النَّافِعِ، وَفِيهِ تَعْلِيمٌ للأُمَّةِ بِأَنْ تُثْنِيَ على مَنْ كَانَ يَسْتَحِقُّ الثَّنَاءَ مِنْ أَهْلِ الخَيْرِ، حَتَّى يَسْتَمِرَّ على مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَيُشَجِّعَ غَيْرَهُ على أَنْ يَسْلُكَ هَذَا المَسْلَكَ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوِةُ الكِرَامُ: لِنَتَعَلَّمْ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُسْلُوبَ التَّعْلِيمِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَذَلِكَ بِالثَّنَاءِ على المُتَعَلِّمِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، لِأَنَّ في ذَلِكَ أَثَراً كَبِيراً في بِنَاءِ الشَّخْصِيَّةِ، وَهُوَ مِنَ العَدْلِ الذي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ، وَالقُلُوبُ جُبِلَتْ على حُبِّ مَنْ يَعْدِلُ فِيهَا، وَيَحْنُو عَلَيْهَا، وَتَمْنَحُ وُدَّهَا لِكُلِّ مَنْ يَعْدِلُ فِيهَا، وَيُحْسِنُ إِلَيْهَا؛ وَإِعْطَاءُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ عَيْنُ العَدْلِ.
جَزَى اللهُ عَنَّا سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيَّاً عَنْ أُمَّتِهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin