مع الحبيب المصطفى: «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
92ـ «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: نَحنُ نَعيشُ هذهِ الأزمَةَ التي جَلَبَت على القُلوبِ الغُمَّةَ بِسَبَبِ إراقَةِ الدِّماءِ، وتَهديمِ البُيوتِ، وتَرويعِ الآمِنينَ، وسَلْبِ الأموالِ، ودَمارِ البَلَدِ.
ولكنْ، كونوا على يَقينٍ بأنَّ الغُمَّةَ الحَقيقِيَّةَ التي تَجلِبُ للإنسانِ الشَّقاءَ هيَ أن تَعيشَ الأُمَّةُ بَعيدَةً عن المَنهَجِ الذي جاءَ به سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أن تَعيشَ بَعيدَةً عن الهُدى الذي جاءَ الأُمَّةَ من عِندِ مَولاها عزَّ وجلَّ، أن تَعيشَ بَعيدَةً عن قَولِهِ تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾.
الغُمَّةُ الحَقيقِيَّةُ أن تَعيشَ الأُمَّةُ ذاهِلَةً ضائِعَةً لا تَدري خَلفَ مَن تَسيرُ، ولأيِّ دَاعِيَةٍ تُجيبُ، وأن تَنسى قَولَ الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾.
الغُمَّةُ الحَقيقِيَّةُ هيَ أن تَرى شَبابَ هذهِ الأُمَّةِ وشَابَّاتِها كَثُرَ فيهِمُ الفِسقُ والطُّغيانُ، واتَّبَعوا الأهواءَ والشَّهَواتِ، وتَرَكوا الصَّلاةَ والقُرُباتِ، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً﴾. هذهِ هيَ الغُمَّةُ الحَقيقِيَّةُ.
الطَّريقُ المُوصِلَةُ إلى الإيمانِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد رَسَمَ لنا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الطَّريقَ المُوصِلَةَ إلى الإيمانِ، التي تُوصِلُ الأُمَّةَ كُلَّها إلى الأمنِ والاستِقرارِ، وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون﴾.
وحتَّى نَصِلَ إلى هذا الإيمانِ الذي يُعطينا الأمنَ والاستِقرارَ قالَ لنا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بالله رَبَّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» رواه الإمام مسلم عَن الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَحَدَّثنا في الدَّرسِ الماضي عن قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَضِيَ بالله رَبَّاً». الذي يَرضى اللهَ تعالى رَبَّاً لهُ ـ يعني يُرَبِّيهِ بِحِكمَتِهِ ـ يَعلَمُ عِلمَ اليَقينِ بأنَّ ما يُجريهِ عَلَيهِ ربُّنا عزَّ وجلَّ هوَ من أجلِ مَصلَحَتِهِ ولإصلاحِهِ وحتَّى يَكونَ أهلاً للاستِخلافِ في الأرضِ، وأهلاً لِدُخولِهِ جَنَّةً عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمُتَّقينَ، هذا هوَ الأمرُ الأوَّلُ للوُصولِ إلى الإيمانِ الذي يُعطيكَ الأمنَ والاستِقرارَ.
«وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً»:
أمَّا الطَّريقُ الثَّانِيَةُ للوُصولِ إلى هذا الإيمانِ الذَّوقِيِّ الذي يُعطيكَ ثِمارَهُ هيَ أن تَرضى الأُمَّةُ جَميعُها من قَضِّها إلى قَضيضِها بِالْإِسْلَامِ دِيناً، لأنَّهُ هوَ مَنبَعُ الضِّياءِ، ومَصدَرُ الهِدايَةِ، وهوَ الشِّفاءُ، وهوَ سَبَبٌ لِطَردِ الخَوفِ والحُزنِ، ونَبْذِ الضَّلالِ والشَّقاءِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾. وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلا خَسَاراً﴾. وقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون﴾. وقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾. وقال تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.
أعظَمُ نِعمَةٍ هيَ أن يَشرَحَ اللهُ صَدْرَكَ للإسلامِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ نِعَمَ الله تعالى لا تُعَدُّ ولا تُحصى ولا تُستَقصى، قال تعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾. ولكن أعظَمُ هذهِ النِّعَمِ هيَ نِعمَةُ الإسلامِ، والسَّعيدُ من شَرَحَ اللهُ تعالى صَدْرَهُ للإسلامِ، قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: واللهِ الذي لا إلهَ غَيرُهُ، من شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسلامِ، وحَبَّبَ إلى قَلبِهِ الإيمانَ، لو حُرِمَ جَميعَ النِّعَمِ المادِّيَّةِ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ فهوَ من أسعَدِ النَّاسِ في الحَياةِ الدُّنيا والآخِرَةِ، ومن حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ، وكانَ صَدْرُهُ ضَيِّقاً حَرَجاً من الإسلامِ، فهوَ من أشقى خَلْقِ الله تعالى في الدُّنيا والآخِرَةِ، وإنْ رَأَيتَهُ يَتَقَلَّبُ في النِّعمَةِ، لأنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: قالَ رَجُلٌ لِزَوجَتِهِ: واللهِ لأُشقِيَنَّكِ ولأُتعِسَنَّكِ.
فقالَت: واللهِ إنَّكَ لا تَستَطيعُ أن تُشقِيَني، كما أنَّكَ لا تَستَطيعُ أن تُسعِدَني.
قال: وكَيفَ لا أستَطيعُ؟ العِصمَةُ بِيَدي، والبَيتُ بَيتي، والمالُ مالي، أُطَلِّقُكِ، أخرِجُكِ من البَيتِ، أُجَرِّدُكِ من المالِ.
قالَت: سَعادَتي لَيسَت في أن أكونَ في عِصمَتِكَ، أو في بَيتِكَ، أو في مالِكَ، سَعادَتي في شَيءٍ لا أنتَ تَملِكُهُ، ولا أحَدٌ من الخَلْقِ يَملِكُهُ.
قال: وما هوَ؟
فقالت: سَعادَتي في إيماني، وإيماني في قَلبي، وقَلبي في يَدَيْ رَبِّي، لا سُلطانَ لأحَدٍ عَلَيهِ غَيرُ رَبِّي.
نعم، أيُّها الإخوة الكرام: السَّعادَةُ في التِزامِ هذا الدِّينِ، السَّعادَةُ في تَذَوُّقِ طَعْمِ الإيمانِ، والذي لا يُمكِنُ الوُصولُ إلَيهِ إلا لمن رَضِيَ اللهَ تعالى رَبَّاً، والإسلامَ دِيناً.
من هَداهُ اللهُ تعالى للإسلامِ وشَرَحَ صَدْرَهُ لهُ، فهوَ أسعَدُ النَّاسِ على الإطلاقِ، وكَيفَ لا يَكونُ سَعيداً وربُّنا عزَّ وجلَّ يَقولُ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾؟
أيُّها الإخوة الكرام: رَجُلٌ آخَرُ قالَ لِزَوجَتِهِ: لَأَسوأَنَّكِ.
قالَت لهُ: أتَستَطيعُ أن تَصرِفَني عن الإسلامِ بَعدَ إذ هَداني اللهُ إلَيهِ؟
قال: لا.
قالَت: فأيُّ شَيءٍ تَسوؤُني به إذَن؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَقينُ المُسلِمِ أنَّ نَفسَهُ سَتَظَلُّ راضِيَةً هادِئَةَ البالِ ما دامَت مُستَمسِكَةً بِدِينِها، حتَّى ولو صُبَّ عَلَيها البَلاءُ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ.
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ ذي نِعمَةٍ في النَّاسِ مَحسودٌ، عِندَما رَأى أعداءُ هذا الدِّينِ سَعادَةَ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ بهذا الدِّينِ الذي كانَت صُدورُهُم حَرِجَةً ضَيِّقَةً منهُ، حاوَلوا جاهِدينَ إبعادَ الأُمَّةِ عن دِينِها سابِقاً ولاحِقاً، وأرادوا من الأُمَّةِ أن تَميلَ مَيلاً عَظيماً، قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾.
سابِقاً حاوَلوا ذلكَ معَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقالوا لهُ: يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الذِي تَعْبُدُ خَيْراً مِمَّا نَعْبُدُ كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْراً مِمَّا تَعْبُدُ كُنْتَ قَدْ أَخَذْت بِحَظِّكَ مِنْهُ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. (سيرة ابن هشام).
وما زالَ هؤلاءِ وأمثَالُهُم يُحاوِلونَ معَ الأُمَّةِ ذلكَ، فلتَحذَرِ الأُمَّةُ من أن تَبيعَ دِينَها بِعَرَضٍ من الدُّنيا قَليلٍ، فإن فَعَلَت ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ ذلكَ أذاقَها اللهُ تعالى الخِزيَ في الحَياةِ الدُّنيا والآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾. وقال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على الأُمَّةِ أن تَعلَمَ بأنَّ الخَطْبَ عَظيمٌ، وأنَّ الغُمَّةَ الحَقيقِيَّةَ التي جَرَّت إلَيها هذهِ الغُمَّةَ المادِّيَّةَ من سَفكِ الدِّماءِ، ودَمارِ البَلَدِ، هيَ الإعراضُ عن هذا الدِّينِ العَظيمِ.
كما يَجِبُ على الأُمَّةِ أن تَعلَمَ أنَّ مَدارَ الصَّلاحِ والإصلاحِ والخُروجِ من هذهِ الغُمَّةِ هوَ إحسانُ العَلاقَةِ معَ هذا الدِّينِ، فلا طَريقَ للخَلاصِ من كُلِّ المَضايِقِ والعَوائِقِ إلا بالعَودَةِ الصَّادِقَةِ إلى دِينِ الله عزَّ وجلَّ، والالتِجاءِ الكامِلِ لله تعالى، والانقِطاعِ التَّامِّ لهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: حَرِيٌّ بالأُمَّةِ كُلِّها بِدونِ استِثناءٍ أن يَتَّجِهوا إلى الهُدى الذي جاءَها من الله تعالى، وخاصَّةً بَعدَ أن جَرَّبَت غَيرَ هذا الهُدى، فباءَت بالفَشَلِ الذَّريعِ، والهَوانِ الفَظيعِ، وذاقَت من الذُّلِّ ألواناً، وتَجَرَّعَتِ القَهرَ كِيزاناً.
حَرِيٌّ بالأُمَّةِ أن تَسمَعَ قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِن الْآخَرِ، كِتَابَ الله حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِن السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا» رواه الترمذي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْداً حَبَشِيَّاً، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ» رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وحَرِيٌّ بالأُمَّةِ أن تَسمَعَ قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رواه الإمام أحمد وأبو داود عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وفي الخِتامِ: يَجِبُ على الأُمَّةِ كُلِّها أن تَقولَ: رَضينا بالله تعالى رَبَّاً، وبالإسلامِ دِيناً، وأن تُصَدِّقَ قَولَها بِفِعلِها.
اللَّهُمَّ وَفِّقنا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
92ـ «فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: نَحنُ نَعيشُ هذهِ الأزمَةَ التي جَلَبَت على القُلوبِ الغُمَّةَ بِسَبَبِ إراقَةِ الدِّماءِ، وتَهديمِ البُيوتِ، وتَرويعِ الآمِنينَ، وسَلْبِ الأموالِ، ودَمارِ البَلَدِ.
ولكنْ، كونوا على يَقينٍ بأنَّ الغُمَّةَ الحَقيقِيَّةَ التي تَجلِبُ للإنسانِ الشَّقاءَ هيَ أن تَعيشَ الأُمَّةُ بَعيدَةً عن المَنهَجِ الذي جاءَ به سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أن تَعيشَ بَعيدَةً عن الهُدى الذي جاءَ الأُمَّةَ من عِندِ مَولاها عزَّ وجلَّ، أن تَعيشَ بَعيدَةً عن قَولِهِ تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين﴾.
الغُمَّةُ الحَقيقِيَّةُ أن تَعيشَ الأُمَّةُ ذاهِلَةً ضائِعَةً لا تَدري خَلفَ مَن تَسيرُ، ولأيِّ دَاعِيَةٍ تُجيبُ، وأن تَنسى قَولَ الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾.
الغُمَّةُ الحَقيقِيَّةُ هيَ أن تَرى شَبابَ هذهِ الأُمَّةِ وشَابَّاتِها كَثُرَ فيهِمُ الفِسقُ والطُّغيانُ، واتَّبَعوا الأهواءَ والشَّهَواتِ، وتَرَكوا الصَّلاةَ والقُرُباتِ، قال تعالى: ﴿فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً﴾. هذهِ هيَ الغُمَّةُ الحَقيقِيَّةُ.
الطَّريقُ المُوصِلَةُ إلى الإيمانِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد رَسَمَ لنا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الطَّريقَ المُوصِلَةَ إلى الإيمانِ، التي تُوصِلُ الأُمَّةَ كُلَّها إلى الأمنِ والاستِقرارِ، وذلكَ من خِلالِ قَولِهِ تعالى: ﴿فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُون * الَّذِينَ آمَنُوا وَلَم يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون﴾.
وحتَّى نَصِلَ إلى هذا الإيمانِ الذي يُعطينا الأمنَ والاستِقرارَ قالَ لنا سَيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بالله رَبَّاً وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً» رواه الإمام مسلم عَن الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَحَدَّثنا في الدَّرسِ الماضي عن قَولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ رَضِيَ بالله رَبَّاً». الذي يَرضى اللهَ تعالى رَبَّاً لهُ ـ يعني يُرَبِّيهِ بِحِكمَتِهِ ـ يَعلَمُ عِلمَ اليَقينِ بأنَّ ما يُجريهِ عَلَيهِ ربُّنا عزَّ وجلَّ هوَ من أجلِ مَصلَحَتِهِ ولإصلاحِهِ وحتَّى يَكونَ أهلاً للاستِخلافِ في الأرضِ، وأهلاً لِدُخولِهِ جَنَّةً عَرضُها السَّماواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمُتَّقينَ، هذا هوَ الأمرُ الأوَّلُ للوُصولِ إلى الإيمانِ الذي يُعطيكَ الأمنَ والاستِقرارَ.
«وَبِالْإِسْلَامِ دِيناً»:
أمَّا الطَّريقُ الثَّانِيَةُ للوُصولِ إلى هذا الإيمانِ الذَّوقِيِّ الذي يُعطيكَ ثِمارَهُ هيَ أن تَرضى الأُمَّةُ جَميعُها من قَضِّها إلى قَضيضِها بِالْإِسْلَامِ دِيناً، لأنَّهُ هوَ مَنبَعُ الضِّياءِ، ومَصدَرُ الهِدايَةِ، وهوَ الشِّفاءُ، وهوَ سَبَبٌ لِطَردِ الخَوفِ والحُزنِ، ونَبْذِ الضَّلالِ والشَّقاءِ، قال تعالى: ﴿إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً * وأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾. وقال تعالى: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلا خَسَاراً﴾. وقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُون﴾. وقال تعالى: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾. وقال تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى * تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾.
أعظَمُ نِعمَةٍ هيَ أن يَشرَحَ اللهُ صَدْرَكَ للإسلامِ:
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ نِعَمَ الله تعالى لا تُعَدُّ ولا تُحصى ولا تُستَقصى، قال تعالى: ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ الله لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّار﴾. ولكن أعظَمُ هذهِ النِّعَمِ هيَ نِعمَةُ الإسلامِ، والسَّعيدُ من شَرَحَ اللهُ تعالى صَدْرَهُ للإسلامِ، قال تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُون﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: واللهِ الذي لا إلهَ غَيرُهُ، من شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ للإسلامِ، وحَبَّبَ إلى قَلبِهِ الإيمانَ، لو حُرِمَ جَميعَ النِّعَمِ المادِّيَّةِ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ فهوَ من أسعَدِ النَّاسِ في الحَياةِ الدُّنيا والآخِرَةِ، ومن حُرِمَ هذهِ النِّعمَةَ، وكانَ صَدْرُهُ ضَيِّقاً حَرَجاً من الإسلامِ، فهوَ من أشقى خَلْقِ الله تعالى في الدُّنيا والآخِرَةِ، وإنْ رَأَيتَهُ يَتَقَلَّبُ في النِّعمَةِ، لأنَّ اللهَ تعالى يَقولُ: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: قالَ رَجُلٌ لِزَوجَتِهِ: واللهِ لأُشقِيَنَّكِ ولأُتعِسَنَّكِ.
فقالَت: واللهِ إنَّكَ لا تَستَطيعُ أن تُشقِيَني، كما أنَّكَ لا تَستَطيعُ أن تُسعِدَني.
قال: وكَيفَ لا أستَطيعُ؟ العِصمَةُ بِيَدي، والبَيتُ بَيتي، والمالُ مالي، أُطَلِّقُكِ، أخرِجُكِ من البَيتِ، أُجَرِّدُكِ من المالِ.
قالَت: سَعادَتي لَيسَت في أن أكونَ في عِصمَتِكَ، أو في بَيتِكَ، أو في مالِكَ، سَعادَتي في شَيءٍ لا أنتَ تَملِكُهُ، ولا أحَدٌ من الخَلْقِ يَملِكُهُ.
قال: وما هوَ؟
فقالت: سَعادَتي في إيماني، وإيماني في قَلبي، وقَلبي في يَدَيْ رَبِّي، لا سُلطانَ لأحَدٍ عَلَيهِ غَيرُ رَبِّي.
نعم، أيُّها الإخوة الكرام: السَّعادَةُ في التِزامِ هذا الدِّينِ، السَّعادَةُ في تَذَوُّقِ طَعْمِ الإيمانِ، والذي لا يُمكِنُ الوُصولُ إلَيهِ إلا لمن رَضِيَ اللهَ تعالى رَبَّاً، والإسلامَ دِيناً.
من هَداهُ اللهُ تعالى للإسلامِ وشَرَحَ صَدْرَهُ لهُ، فهوَ أسعَدُ النَّاسِ على الإطلاقِ، وكَيفَ لا يَكونُ سَعيداً وربُّنا عزَّ وجلَّ يَقولُ: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾؟
أيُّها الإخوة الكرام: رَجُلٌ آخَرُ قالَ لِزَوجَتِهِ: لَأَسوأَنَّكِ.
قالَت لهُ: أتَستَطيعُ أن تَصرِفَني عن الإسلامِ بَعدَ إذ هَداني اللهُ إلَيهِ؟
قال: لا.
قالَت: فأيُّ شَيءٍ تَسوؤُني به إذَن؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَقينُ المُسلِمِ أنَّ نَفسَهُ سَتَظَلُّ راضِيَةً هادِئَةَ البالِ ما دامَت مُستَمسِكَةً بِدِينِها، حتَّى ولو صُبَّ عَلَيها البَلاءُ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ.
﴿وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: كُلُّ ذي نِعمَةٍ في النَّاسِ مَحسودٌ، عِندَما رَأى أعداءُ هذا الدِّينِ سَعادَةَ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ بهذا الدِّينِ الذي كانَت صُدورُهُم حَرِجَةً ضَيِّقَةً منهُ، حاوَلوا جاهِدينَ إبعادَ الأُمَّةِ عن دِينِها سابِقاً ولاحِقاً، وأرادوا من الأُمَّةِ أن تَميلَ مَيلاً عَظيماً، قال تعالى: ﴿وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً﴾.
سابِقاً حاوَلوا ذلكَ معَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وقالوا لهُ: يَا مُحَمَّدُ هَلُمَّ فَلْنَعْبُدْ مَا تَعْبُدُ، وَتَعْبُدُ مَا نَعْبُدُ، فَنَشْتَرِكُ نَحْنُ وَأَنْتَ فِي الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ الذِي تَعْبُدُ خَيْراً مِمَّا نَعْبُدُ كُنَّا قَدْ أَخَذْنَا بِحَظِّنَا مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ مَا نَعْبُدُ خَيْراً مِمَّا تَعْبُدُ كُنْتَ قَدْ أَخَذْت بِحَظِّكَ مِنْهُ.
فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِمْ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾. (سيرة ابن هشام).
وما زالَ هؤلاءِ وأمثَالُهُم يُحاوِلونَ معَ الأُمَّةِ ذلكَ، فلتَحذَرِ الأُمَّةُ من أن تَبيعَ دِينَها بِعَرَضٍ من الدُّنيا قَليلٍ، فإن فَعَلَت ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ ذلكَ أذاقَها اللهُ تعالى الخِزيَ في الحَياةِ الدُّنيا والآخِرَةِ، قال تعالى: ﴿وَإِن كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً﴾. وقال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ على الأُمَّةِ أن تَعلَمَ بأنَّ الخَطْبَ عَظيمٌ، وأنَّ الغُمَّةَ الحَقيقِيَّةَ التي جَرَّت إلَيها هذهِ الغُمَّةَ المادِّيَّةَ من سَفكِ الدِّماءِ، ودَمارِ البَلَدِ، هيَ الإعراضُ عن هذا الدِّينِ العَظيمِ.
كما يَجِبُ على الأُمَّةِ أن تَعلَمَ أنَّ مَدارَ الصَّلاحِ والإصلاحِ والخُروجِ من هذهِ الغُمَّةِ هوَ إحسانُ العَلاقَةِ معَ هذا الدِّينِ، فلا طَريقَ للخَلاصِ من كُلِّ المَضايِقِ والعَوائِقِ إلا بالعَودَةِ الصَّادِقَةِ إلى دِينِ الله عزَّ وجلَّ، والالتِجاءِ الكامِلِ لله تعالى، والانقِطاعِ التَّامِّ لهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: حَرِيٌّ بالأُمَّةِ كُلِّها بِدونِ استِثناءٍ أن يَتَّجِهوا إلى الهُدى الذي جاءَها من الله تعالى، وخاصَّةً بَعدَ أن جَرَّبَت غَيرَ هذا الهُدى، فباءَت بالفَشَلِ الذَّريعِ، والهَوانِ الفَظيعِ، وذاقَت من الذُّلِّ ألواناً، وتَجَرَّعَتِ القَهرَ كِيزاناً.
حَرِيٌّ بالأُمَّةِ أن تَسمَعَ قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ مَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدِي، أَحَدُهُمَا أَعْظَمُ مِن الْآخَرِ، كِتَابَ الله حَبْلٌ مَمْدُودٌ مِن السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي، وَلَنْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ، فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِي فِيهِمَا» رواه الترمذي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وقَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى الْبَيْضَاءِ، لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا، لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ، وَمَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافاً كَثِيراً، فَعَلَيْكُمْ بِمَا عَرَفْتُمْ مِنْ سُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، وَعَلَيْكُمْ بِالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْداً حَبَشِيَّاً، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، فَإِنَّمَا الْمُؤْمِنُ كَالْجَمَلِ الْأَنِفِ حَيْثُمَا انْقِيدَ انْقَادَ» رواه الإمام أحمد وابن ماجه والحاكم عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وحَرِيٌّ بالأُمَّةِ أن تَسمَعَ قَولَ سَيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: « إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ فَتَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رواه الإمام أحمد وأبو داود عن الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
وفي الخِتامِ: يَجِبُ على الأُمَّةِ كُلِّها أن تَقولَ: رَضينا بالله تعالى رَبَّاً، وبالإسلامِ دِيناً، وأن تُصَدِّقَ قَولَها بِفِعلِها.
اللَّهُمَّ وَفِّقنا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin