مع الحبيب المصطفى: {إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ}
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
85ـ ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: النَّاسُ اليَومَ يَحمِلونَ صِدْقَ التَّوَكُّلِ والاعتِمادِ على الله تعالى في أذهانِهِم دونَ سُلوكِهِم وأعمالِهِم إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى، وكادَتْ بَعضُ القُلوبِ أن تُصبِحَ خاوِيَةً عَقَدِيَّاً، فأصبَحَ الكَثيرُ من النَّاسِ يَخافونَ من البَشَرِ أكثَرَ من خَوفِهِم من الله تعالى، تُصيبُ أحَدَهُمُ الزَّلزَلَةُ والرَّعدَةُ من تَهديدٍ من البَشَرِ، وكأنَّهُم يَنظُرونَ إلى البَشَرِ أنَّهُم على كُلِّ شَيءٍ قادِرونَ، واللهُ تعالى يَقولُ: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً﴾.
﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: تأتي ذِكرى الهِجرَةِ لِتُذَكِّرَ الأُمَّةَ بِنَبِيِّها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي عَلَّمَ الأُمَّةَ إلى قِيامِ السَّاعَةِ كَيفَ يَكونُ التَّوَكُّلُ على الله تعالى، يأتي يَومُ الغارِ لِيُذَكِّرَ الأُمَّةَ حَقيقَةَ التَّوَكُّلِ على الله تعالى؛ يأتي يَومُ الغارِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ حَقيقَةَ قَولِ القائِلِ:
وإذا العِنايَةُ لاحَظَتْكَ عُيونُها *** نَمْ، فالمَخاوِفُ كُلُّهُنَّ أمانُ
أيُّها الإخوة الكرام: غَادَرَ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيتَهُ لَيلَةَ الهِجرَةِ، وخَرَجَ من بَينِ أظهُرِ القَومِ الذينَ وَقَفوا على بابِهِ الشَّريفِ يُريدونَ قَتْلَهُ، وهُم لا يَعلَمونَ قَولَ الله تعالى: ﴿واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾.
خَرَجَ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهوَ آخِذٌ بالأسبابِ على أتَمِّ وَجْهٍ وصُورَةٍ دونَ الاعتِمادِ والتَّوَكُّلِ عَلَيها.
من جُملَةِ الأسبابِ التي أخَذَ بها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ سَلَكَ طَريقاً غَيرَ الطَّريقِ التي كانَت قُرَيشٌ تَتَوَقَّعُهُ، لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أنَّ قُرَيشاً سَتَجِدُّ في طَلَبِهِ وطَلَبِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وأنَّ الطَّريقَ الذي سَتَتَّجِهُ إلَيه الأنظارُ لأوَّلِ وَهلَةٍ هوَ طَريقُ المَدينَةِ المُنَوَّرَةِ المُتَّجِهِ شَمالاً، فَسَلَكَ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الطَّريقَ التي تُضادُّهُ تماماً، سَلَكَ طَريقَ الجَنوبِ الذي يَتَّجِهُ إلى اليَمَنِ.
سَلَكَ هذا الطَّريقَ حتَّى بَلَغَ إلى جَبَلٍ يُعرَفُ بِجَبَلِ ثَورٍ، جَبَلٌ شامِخٌ، وَعْرُ الطَّريقِ، صَعْبُ المُرتَقى، ذو أحجارٍ كَثيرَةٍ، وكانَ يَمشي على أطرافِ قَدَمَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كي يُخفيَ أَثَرَهُ.
واللهِ لا تَدْخُلَهُ حتَّى أدْخُلَهُ قَبلَكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: حَمَلَ سيِّدُنا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ سيِّدَنا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى بَلَغَ إلى ذَروَةِ الجَبَلِ، ولمَّا انتَهى إلى الغارِ؛ قالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: واللهِ لا تَدْخُلُهُ حتَّى أدْخُلَهُ قَبلَكَ، فإنْ كانَ فيهِ شَيءٌ أصَابَنِي دُونَكَ، فَدَخَلَ فَكَسَحَهُ، فَوَجَدَ في جَانِبِهِ ثُقوباً، فَشَقَّ إِزارَهُ، وسَدَّها به، فَبَقِيَ منها اثنانِ، فَألْقَمَهُما رِجْلَيهِ.
ثمَّ قالَ لِرَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اُدخُلْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ في حِجْرِهِ ونامَ؛ فَلُدِغَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في رِجْلِهِ من الجُحْرِ، ولم يَتَحَرَّكْ مَخَافَةَ أن يَنْتَبِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ على وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فقالَ: ما لَكَ يا أبا بَكرٍ؟
قال: لُدِغْتُ ـ فِداك أَبي وأُمِّي ـ
فَتَفَلَ عَلَيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ ما يَجِدُهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ. رواه رزين.
ومن جُملَةِ الأسبابِ التي أخَذَ بها سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دونَ التَّوَكُّلِ والاعتِمادِ عَلَيها، أنَّهُ مَكَثَ في الغارِ ثَلاثَ لَيالٍ، وكانَ عَبدُ الله بنُ أبي بَكرٍ يَبيتُ عِندَهُما.
تَقولُ أُمُّنا السَّيِّدَةُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها عن عَبدِ الله أخيها: وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ ـ فَطِنٌ ـ لَقِنٌ ـ السَّريعُ الفَهمِ ـ فَيُدْلِجُ ـ يَخرُجُ ـ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْراً يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِن الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ ـ اللَّبَنُ الطَّرِيُّ ـ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا ـ الرَّضِيفُ: هو اللَّبَنُ الذِي جُعِلَ فيهِ الرُّضفَةُ، وهيَ الحِجَارَة المُحَمَّاةُ لِتَزُولَ وَخَامَتُهُ وثِقلُهُ ـ حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ. رواه الإمام البخاري.
جَنَّ جُنونُ قُرَيشٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: أمَّا قُرَيشٌ فقد جُنَّ جُنونُها حِينَما تَأكَّدَ لَدَيها إفلاتُ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَباحَ لَيلَةِ تَنفيذِ المُؤامَرَةِ.
أولاً: أخَذوا سيِّدَنا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عنهُ، وضَرَبوهُ، وسَحَبوهُ إلى الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ، وحَبَسوهُ ساعَةً، عَلَّهُم يَظفَرونَ بِخَبَرِهِما، ولكنَّهُم لم يُفلِحوا، وما فَعَلَتْهُ قُرَيشٌ معَ سيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ لا يُناقِضُ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ». لأنَّ المَقصودَ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ»: هوَ القَتْلُ واللهُ أعلَمُ، وهذا نَظيرُ قَولِهِ تعالى لسيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
ثانياً: لمَّا لم يَحصُلوا مِن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَلى جَدوى جاؤوا إلى بَيتِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقَرَعوا بَابَهُ، فَخَرَجَت أسماءُ بِنتُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فقالوا لها: أينَ أبوكِ؟
قالت: لا أدري والله أينَ أبي؟
فَرَفَعَ أبو جَهلٍ يَدَهُ ـ وكانَ فَاحِشاً خَبيثاً ـ فَلَطَمَ خَدَّها لَطمَةً طُرِحَ منها قُرْطُها من أُذُنِها. اهـ. (السيرة النبوية لابن كثير)
ثالثاً: قَرَّرَتْ قُرَيشٌ مُراقَبَةَ جَميعِ الطُّرُقِ النَّافِذَةِ من مَكَّةَ مُراقَبَةً مُسَلَّحَةً شَديدَةً، كما قَرَّرَتْ إعطاءَ مُكافَأَةٍ ضَخمَةٍ قَدْرُها مئِةُ ناقَةٍ بَدَلَ كُلِّ واحِدٍ منهُما لمن يُعيدُهُما إلى قُرَيشٍ حَيَّيْنِ أو مَيْتَينِ كائِناً من كانَ.
وَصَلوا إلى الغارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: كونوا على يَقينٍ من قَولِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ» رواه الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
اِنتَشَرَ فُرسانُ قُرَيشٍ والمُشاةُ وقَصَّاصوا الأَثَرِ في الطَّلَبِ، وانتَشَروا في الجِبالِ والوِديانِ والوِهادِ والهِضابِ، لكن من دونِ جَدْوى وبِغَيرِ فائِدَةٍ، حتَّى وَصَلوا إلى بابِ الغارِ، ولكنْ: ﴿واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ.
فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا.
قَالَ: «اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، اثْنَانِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».
وفي روايةٍ للشَّيخين قالَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
فَقَالََ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».
هكذا يَكونُ التَّوَكُّلُ على الله تعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: ربُّنا عزَّ وجلَّ يأمُرُنا بالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ بَعدَ الأخْذِ بالأسبابِ، فَيَقولُ تعالى: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون﴾. ويَقولُ تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
من تَوَكَّلَ على الله تعالى وَقاهُ، قال تعالى حِكايَةً على لِسانِ مُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد * فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب﴾.
ويَقولُ تعالى لسيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد * وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَام * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: اُنظُروا إلى هذا اليَقينِ بانَّ اللهَ تعالى غالِبٌ على أمرِهِ، عِندَما يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا». هل يُغلَبُ الثَّلاثَةُ، ولو اجتَمَعَتْ عَلَيهِم أهلُ الأرضِ جَميعاً؟ هل تَكونُ الدَّائِرَةُ على الثَّلاثَةِ؟
إذا كانَ اللهُ تعالى الثَّالِثَ لهُما فمن هوَ الغالِبُ، ومن هوَ المَغلوبُ؟ من هوَ الخاسِرُ ومن هوَ المُنتَصِرُ؟ ومن هوَ المُنهَزِمُ؟
نعم، أيُّها الإخوة الكرام: صَدَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» رواه الترمذي عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
الفارِقُ كَبيرٌ بَينَ صَاحِبٍ وصَاحِبٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: الفارِقُ كَبيرٌ بَينَ صَاحِبٍ وصَاحِبٍ، صَاحِبٌ يَقولُ لِصَاحِبِهِ خَوفاً عَلَيهِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
وصَاحِبٌ يَقولُ لِصَاحِبِهِ: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾.
لقد كانَ أصحابُ سيِّدِنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خائِفينَ على أنفُسِهِم من القَتْلِ لا على سيِّدِنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لذلكَ قالَ لهُم سيِّدُنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عِندَما قالوا لهُ: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُون * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين﴾. مَعِيَّةٌ خاصَّةٌ من الله تعالى لسيِّدِنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
أمَّا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فقد كانَ خَوفُهُ على سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أكثَرَ من خَوفِهِ على نَفسِهِ ورَبِّ الكَعبَةِ، لذلكَ كانَتِ المُكافَأةُ لهُ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾. وهذا ما أكَّدَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ بِقَولِهِ: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: نَحنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ ـ وخاصَّةً في هذهِ الأزمَةِ ـ أن يَكونَ تَوَكُّلُنا على الله تعالى، لأنَّ اللهَ تعالى هوَ صَاحِبُ المَشيئَةِ العُليا لا العِبادُ، قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين﴾.
ومن كانَ تَوَكُّلُهُ على الله تعالى من أجلِ حِفظِهِ من جَميعِ الفِتَنِ لا يَسَعُهُ إلا أن يَحفَظَ حُدودَ الله تعالى، لأنَّ الجَزاءَ من جِنسِ العَمَلِ: «احْفَظ اللهَ يَحْفَظْكَ».
أسألُ اللهَ تعالى أن يُعَجِّلَ بالفَرَجِ عن هذهِ الأُمَّةِ، وأن يَجعَلَ كَيدَ من كادَها في نَحرِهِ، وأن يُمَزِّقَهُ شَرَّ مُمَزَّقٍ مَزَّقَهُ اللهُ تعالى لأعدائِهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
85ـ ﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ﴾
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: النَّاسُ اليَومَ يَحمِلونَ صِدْقَ التَّوَكُّلِ والاعتِمادِ على الله تعالى في أذهانِهِم دونَ سُلوكِهِم وأعمالِهِم إلا من رَحِمَ اللهُ تعالى، وكادَتْ بَعضُ القُلوبِ أن تُصبِحَ خاوِيَةً عَقَدِيَّاً، فأصبَحَ الكَثيرُ من النَّاسِ يَخافونَ من البَشَرِ أكثَرَ من خَوفِهِم من الله تعالى، تُصيبُ أحَدَهُمُ الزَّلزَلَةُ والرَّعدَةُ من تَهديدٍ من البَشَرِ، وكأنَّهُم يَنظُرونَ إلى البَشَرِ أنَّهُم على كُلِّ شَيءٍ قادِرونَ، واللهُ تعالى يَقولُ: ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لأَنفُسِهِمْ ضَرَّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً﴾.
﴿إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ﴾:
أيُّها الإخوة الكرام: تأتي ذِكرى الهِجرَةِ لِتُذَكِّرَ الأُمَّةَ بِنَبِيِّها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي عَلَّمَ الأُمَّةَ إلى قِيامِ السَّاعَةِ كَيفَ يَكونُ التَّوَكُّلُ على الله تعالى، يأتي يَومُ الغارِ لِيُذَكِّرَ الأُمَّةَ حَقيقَةَ التَّوَكُّلِ على الله تعالى؛ يأتي يَومُ الغارِ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ حَقيقَةَ قَولِ القائِلِ:
وإذا العِنايَةُ لاحَظَتْكَ عُيونُها *** نَمْ، فالمَخاوِفُ كُلُّهُنَّ أمانُ
أيُّها الإخوة الكرام: غَادَرَ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بَيتَهُ لَيلَةَ الهِجرَةِ، وخَرَجَ من بَينِ أظهُرِ القَومِ الذينَ وَقَفوا على بابِهِ الشَّريفِ يُريدونَ قَتْلَهُ، وهُم لا يَعلَمونَ قَولَ الله تعالى: ﴿واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾.
خَرَجَ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وهوَ آخِذٌ بالأسبابِ على أتَمِّ وَجْهٍ وصُورَةٍ دونَ الاعتِمادِ والتَّوَكُّلِ عَلَيها.
من جُملَةِ الأسبابِ التي أخَذَ بها صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ سَلَكَ طَريقاً غَيرَ الطَّريقِ التي كانَت قُرَيشٌ تَتَوَقَّعُهُ، لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلِمَ أنَّ قُرَيشاً سَتَجِدُّ في طَلَبِهِ وطَلَبِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وأنَّ الطَّريقَ الذي سَتَتَّجِهُ إلَيه الأنظارُ لأوَّلِ وَهلَةٍ هوَ طَريقُ المَدينَةِ المُنَوَّرَةِ المُتَّجِهِ شَمالاً، فَسَلَكَ سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الطَّريقَ التي تُضادُّهُ تماماً، سَلَكَ طَريقَ الجَنوبِ الذي يَتَّجِهُ إلى اليَمَنِ.
سَلَكَ هذا الطَّريقَ حتَّى بَلَغَ إلى جَبَلٍ يُعرَفُ بِجَبَلِ ثَورٍ، جَبَلٌ شامِخٌ، وَعْرُ الطَّريقِ، صَعْبُ المُرتَقى، ذو أحجارٍ كَثيرَةٍ، وكانَ يَمشي على أطرافِ قَدَمَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كي يُخفيَ أَثَرَهُ.
واللهِ لا تَدْخُلَهُ حتَّى أدْخُلَهُ قَبلَكَ:
أيُّها الإخوة الكرام: حَمَلَ سيِّدُنا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ سيِّدَنا رَسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حتَّى بَلَغَ إلى ذَروَةِ الجَبَلِ، ولمَّا انتَهى إلى الغارِ؛ قالَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ: واللهِ لا تَدْخُلُهُ حتَّى أدْخُلَهُ قَبلَكَ، فإنْ كانَ فيهِ شَيءٌ أصَابَنِي دُونَكَ، فَدَخَلَ فَكَسَحَهُ، فَوَجَدَ في جَانِبِهِ ثُقوباً، فَشَقَّ إِزارَهُ، وسَدَّها به، فَبَقِيَ منها اثنانِ، فَألْقَمَهُما رِجْلَيهِ.
ثمَّ قالَ لِرَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: اُدخُلْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ في حِجْرِهِ ونامَ؛ فَلُدِغَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ في رِجْلِهِ من الجُحْرِ، ولم يَتَحَرَّكْ مَخَافَةَ أن يَنْتَبِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَسَقَطَتْ دُمُوعُهُ على وَجْهِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فقالَ: ما لَكَ يا أبا بَكرٍ؟
قال: لُدِغْتُ ـ فِداك أَبي وأُمِّي ـ
فَتَفَلَ عَلَيهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَذَهَبَ ما يَجِدُهُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ. رواه رزين.
ومن جُملَةِ الأسبابِ التي أخَذَ بها سيِّدُنا رَسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دونَ التَّوَكُّلِ والاعتِمادِ عَلَيها، أنَّهُ مَكَثَ في الغارِ ثَلاثَ لَيالٍ، وكانَ عَبدُ الله بنُ أبي بَكرٍ يَبيتُ عِندَهُما.
تَقولُ أُمُّنا السَّيِّدَةُ عائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عنها عن عَبدِ الله أخيها: وَهُوَ غُلَامٌ شَابٌّ ثَقِفٌ ـ فَطِنٌ ـ لَقِنٌ ـ السَّريعُ الفَهمِ ـ فَيُدْلِجُ ـ يَخرُجُ ـ مِنْ عِنْدِهِمَا بِسَحَرٍ، فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلَا يَسْمَعُ أَمْراً يُكْتَادَانِ بِهِ إِلَّا وَعَاهُ حَتَّى يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ الظَّلَامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ مَوْلَى أَبِي بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِن الْعِشَاءِ، فَيَبِيتَانِ فِي رِسْلٍ ـ اللَّبَنُ الطَّرِيُّ ـ وَهُوَ لَبَنُ مِنْحَتِهِمَا وَرَضِيفِهِمَا ـ الرَّضِيفُ: هو اللَّبَنُ الذِي جُعِلَ فيهِ الرُّضفَةُ، وهيَ الحِجَارَة المُحَمَّاةُ لِتَزُولَ وَخَامَتُهُ وثِقلُهُ ـ حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثِ. رواه الإمام البخاري.
جَنَّ جُنونُ قُرَيشٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: أمَّا قُرَيشٌ فقد جُنَّ جُنونُها حِينَما تَأكَّدَ لَدَيها إفلاتُ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ صَباحَ لَيلَةِ تَنفيذِ المُؤامَرَةِ.
أولاً: أخَذوا سيِّدَنا عَلِيَّاً رَضِيَ اللهُ عنهُ، وضَرَبوهُ، وسَحَبوهُ إلى الكَعبَةِ المُشَرَّفَةِ، وحَبَسوهُ ساعَةً، عَلَّهُم يَظفَرونَ بِخَبَرِهِما، ولكنَّهُم لم يُفلِحوا، وما فَعَلَتْهُ قُرَيشٌ معَ سيِّدِنا عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ لا يُناقِضُ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «نَمْ عَلَى فِرَاشِي، وَتَسَجَّ بِبُرْدِي هَذَا الْأَخْضَرِ، فَنَمْ فِيهِ، فَإِنَّهُ لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ». لأنَّ المَقصودَ قَولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَنْ يَخْلُصَ إلَيْك شَيْءٌ تَكْرَهُهُ مِنْهُمْ»: هوَ القَتْلُ واللهُ أعلَمُ، وهذا نَظيرُ قَولِهِ تعالى لسيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾.
ثانياً: لمَّا لم يَحصُلوا مِن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ عَلى جَدوى جاؤوا إلى بَيتِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وقَرَعوا بَابَهُ، فَخَرَجَت أسماءُ بِنتُ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فقالوا لها: أينَ أبوكِ؟
قالت: لا أدري والله أينَ أبي؟
فَرَفَعَ أبو جَهلٍ يَدَهُ ـ وكانَ فَاحِشاً خَبيثاً ـ فَلَطَمَ خَدَّها لَطمَةً طُرِحَ منها قُرْطُها من أُذُنِها. اهـ. (السيرة النبوية لابن كثير)
ثالثاً: قَرَّرَتْ قُرَيشٌ مُراقَبَةَ جَميعِ الطُّرُقِ النَّافِذَةِ من مَكَّةَ مُراقَبَةً مُسَلَّحَةً شَديدَةً، كما قَرَّرَتْ إعطاءَ مُكافَأَةٍ ضَخمَةٍ قَدْرُها مئِةُ ناقَةٍ بَدَلَ كُلِّ واحِدٍ منهُما لمن يُعيدُهُما إلى قُرَيشٍ حَيَّيْنِ أو مَيْتَينِ كائِناً من كانَ.
وَصَلوا إلى الغارِ:
أيُّها الإخوة الكرام: كونوا على يَقينٍ من قَولِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَو اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَو اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ» رواه الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
اِنتَشَرَ فُرسانُ قُرَيشٍ والمُشاةُ وقَصَّاصوا الأَثَرِ في الطَّلَبِ، وانتَشَروا في الجِبالِ والوِديانِ والوِهادِ والهِضابِ، لكن من دونِ جَدْوى وبِغَيرِ فائِدَةٍ، حتَّى وَصَلوا إلى بابِ الغارِ، ولكنْ: ﴿واللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُون﴾.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَارِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا أَنَا بِأَقْدَامِ الْقَوْمِ.
فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ الله، لَوْ أَنَّ بَعْضَهُمْ طَأْطَأَ بَصَرَهُ رَآنَا.
قَالَ: «اسْكُتْ يَا أَبَا بَكْرٍ، اثْنَانِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».
وفي روايةٍ للشَّيخين قالَ أبو بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
فَقَالََ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا».
هكذا يَكونُ التَّوَكُّلُ على الله تعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: ربُّنا عزَّ وجلَّ يأمُرُنا بالتَّوَكُّلِ عَلَيهِ بَعدَ الأخْذِ بالأسبابِ، فَيَقولُ تعالى: ﴿وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون﴾. ويَقولُ تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
من تَوَكَّلَ على الله تعالى وَقاهُ، قال تعالى حِكايَةً على لِسانِ مُؤمِنِ آلِ فِرعَونَ: ﴿وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى الله إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد * فَوَقَاهُ اللهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوَّاً وَعَشِيَّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَاب﴾.
ويَقولُ تعالى لسيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد * وَمَن يَهْدِ اللهُ فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ اللهُ بِعَزِيزٍ ذِي انتِقَام * وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُون﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: اُنظُروا إلى هذا اليَقينِ بانَّ اللهَ تعالى غالِبٌ على أمرِهِ، عِندَما يَقولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا ظَنُّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ بِاثْنَيْنِ اللهُ ثَالِثُهُمَا». هل يُغلَبُ الثَّلاثَةُ، ولو اجتَمَعَتْ عَلَيهِم أهلُ الأرضِ جَميعاً؟ هل تَكونُ الدَّائِرَةُ على الثَّلاثَةِ؟
إذا كانَ اللهُ تعالى الثَّالِثَ لهُما فمن هوَ الغالِبُ، ومن هوَ المَغلوبُ؟ من هوَ الخاسِرُ ومن هوَ المُنتَصِرُ؟ ومن هوَ المُنهَزِمُ؟
نعم، أيُّها الإخوة الكرام: صَدَقَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ» رواه الترمذي عن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
الفارِقُ كَبيرٌ بَينَ صَاحِبٍ وصَاحِبٍ:
أيُّها الإخوة الكرام: الفارِقُ كَبيرٌ بَينَ صَاحِبٍ وصَاحِبٍ، صَاحِبٌ يَقولُ لِصَاحِبِهِ خَوفاً عَلَيهِ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
وصَاحِبٌ يَقولُ لِصَاحِبِهِ: ﴿أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾.
لقد كانَ أصحابُ سيِّدِنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ خائِفينَ على أنفُسِهِم من القَتْلِ لا على سيِّدِنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لذلكَ قالَ لهُم سيِّدُنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عِندَما قالوا لهُ: ﴿إِنَّا لَمُدْرَكُون * قَالَ كَلا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين﴾. مَعِيَّةٌ خاصَّةٌ من الله تعالى لسيِّدِنا موسى عَلَيهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ.
أمَّا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فقد كانَ خَوفُهُ على سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أكثَرَ من خَوفِهِ على نَفسِهِ ورَبِّ الكَعبَةِ، لذلكَ كانَتِ المُكافَأةُ لهُ قَولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾. وهذا ما أكَّدَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ بِقَولِهِ: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: نَحنُ بِأَمَسِّ الحَاجَةِ ـ وخاصَّةً في هذهِ الأزمَةِ ـ أن يَكونَ تَوَكُّلُنا على الله تعالى، لأنَّ اللهَ تعالى هوَ صَاحِبُ المَشيئَةِ العُليا لا العِبادُ، قال تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلا أَن يَشَاءَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِين﴾.
ومن كانَ تَوَكُّلُهُ على الله تعالى من أجلِ حِفظِهِ من جَميعِ الفِتَنِ لا يَسَعُهُ إلا أن يَحفَظَ حُدودَ الله تعالى، لأنَّ الجَزاءَ من جِنسِ العَمَلِ: «احْفَظ اللهَ يَحْفَظْكَ».
أسألُ اللهَ تعالى أن يُعَجِّلَ بالفَرَجِ عن هذهِ الأُمَّةِ، وأن يَجعَلَ كَيدَ من كادَها في نَحرِهِ، وأن يُمَزِّقَهُ شَرَّ مُمَزَّقٍ مَزَّقَهُ اللهُ تعالى لأعدائِهِ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin