مع الحبيب المصطفى: الوصايا الربانية للحبيب ﷺ (10)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
54 ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (10)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: مِمَّا لا شَكَّ فيهِ بأنَّ الإنسانَ صَنعَةُ الله تعالى، ومَخلوقٌ لله تعالى، وهوَ عَبدٌ مَملوكٌ لِخَالِقِهِ إن شاءَ وإن أبى، قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً﴾.
وما دامَ أنَّهُ عَبدٌ لله تعالى فلا يَسَعُهُ إلا أن يُحَقِّقَ ما أرادَ منهُ خالِقُهُ، والذي أرادَهُ منهُ خالِقُهُ هو العِبادَةُ، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون﴾.
فإذا حَقَّقَ العَبدُ ما أرادَهُ اللهُ تعالى، وتَحَقَّقَ بالعُبودِيَّةِ الكامِلَةِ رَفَعَهُ اللهُ تعالى، وأسعَدَهُ، وجَعَلَ حَياتَهُ طَيِّبَةً في الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ، وإلا شَقِيَ والعِياذُ بالله تعالى، وذلكَ عِندَما يَجعَلُ مَعبودَهُ الهَوى أو الدِّينارَ والدِّرهَمَ والخَميصَةَ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ».
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ العاشِرَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: آخِرُ الوَصايا العَشرِ الرَّبَّانِيَّةِ التي ذَكَرَها ربُّنا عزَّ وجلَّ في سورَةِ الحِجرِ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هيَ العِبادَةُ المُستَمِرَّةُ إلى نِهايَةِ الأجَلِ، فقال تعالى:
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾
أيُّها الإخوة الكرام: هذا تَوجيهٌ من الله تعالى لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بأنَّ العِبادَةَ لا تُترَكُ حتَّى يَلقى العَبدُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿إِلا أَصْحَابَ الْيَمِين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُون * عَنِ الْمُجْرِمِين * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين﴾.
«فقد جاءَهُ والله اليَقينُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: اليَقينُ في قَولِهِ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ هوَ المَوتُ، وقد فَسَّرَ ذلكَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِندَما تُوُفِّيَ سيٍّدُنا عُثمانُ بنُ مَظعونٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
روى الإمام البخاري عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَت الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: فَاشْتَكَى عُثْمَانُ عِنْدَنَا فَمَرَّضْتُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ الله عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، شَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ؟»
قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله، فَمَنْ؟
قَالَ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ والله الْيَقِينُ، والله إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَمَا أَدْرِي والله وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِي»
قَالَتْ: فوالله لَا أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ.
قَالَتْ: فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْناً تَجْرِي، فَجِئْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ.
فَقَالَ: «ذَلِكِ عَمَلُهُ».
خُلِقتَ للعِبادَةِ:
أيُّها الإنسانُ، خُلِقتَ للعِبادَةِ فلا تَلعَب، وقُسِمَ لك رِزقُكَ فلا تَتعَب، فلا تَخشَ من ضِيقِ الرِّزقِ، فإنَّ خَزائِنَ الله ملأى لا تَنفَدُ أبداً،إن رَضيتَ بما قَسَمَ اللهُ تعالى لكَ أراحَ قَلبكَ وبَدَنَكَ، وكُنتَ عِندَهُ مَحموداً، وإلا سَلَّطَ عليكَ الدُّنيا، ولا يَكونُ لكَ منها إلا ما قُدِّرَ لكَ، وكُنتَ عِندَهُ مَذموماً.
والعِبادَةُ لا تَكونُ فَترَةً مَحدودَةً من الزَّمَنِ ثمَّ تَنتَهي، بل العِبادَةُ مُستَمِرَّةٌ من العابِدِ حتَّى يَلقى مَعبودَهُ بعدَ المَوتِ.
ومن وُفِّقَ للعِبادَةِ فهذا دَليلٌ على رِفعَةِ مَكانَتِهِ عِندَ الله تعالى، ودَليلٌ على يَقينِهِ وحُسنِ استِقامَتِهِ، ودَليلٌ على تَوفيقِ الله تعالى لهُ، وهيَ صُورَةٌ من صُوَرِ الشُّكرِ لله تعالى المُنعِمِ.
أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المُنطَلَقِ مَدَحَ ربُّنا عزَّ وجلَّ عِبادَهُ المتَّقينَ المُستَقيمينَ على شَرعِهِ بِقَولِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾.
وَصِيَّةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالاستِقامَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: وقد حَثَّ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الاستِقامَةِ على العِبادَةِ، لأنَّ المُعَوَّلَ عليهِ هوَ المُلازَمَةُ والمُداوَمَةُ على طاعَةِ الله تعالى.
روى الحاكم عَنْ عَبْدِ الله بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أن مُعَاذَ بن جَبَلٍ أَرَادَ سَفَراً فَقَالَ: يَا يَارَسُولَ الله، أَوْصِنِي.
قَالَ: «اعْبُدِ الله وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً»
قَالَ: يَا رَسُولَ الله، زِدْنِي.
قَالَ: «إِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ»
قَالَ: يَا رَسُولَ الله، زِدْنِي.
قَالَ: «اسْتَقِمْ وَلْتُحَسِّنْ خُلُقَكَ».
وروى الإمام مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلاً لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً بَعْدَكَ.
قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بالله فَاسْتَقِمْ».
والإيمانُ سَبَبٌ لاستِقرارِ القَلبِ واطمِئنانِهِ، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب﴾. فإذا اطمَأنَّ القَلبُ واستَقَرَّ ارتاحَتِ الجَوارِحُ، والاستِقامَةُ تَنظيمٌ للجَوارِحِ وَفقَ ما شَرَعَ اللهُ تعالى، وبذلكَ تَتَحَقَّقُ للعَبدِ سَعادَةُ الدَّارَينِ.
ويَقولُ القاضي عِياضٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هذا الحديثُ الشَّريفُ من جَوامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ مُطابِقٌ لِقَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: قَولُهُ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾. يُفيدُ بأنَّ الواجِبَ على العَبدِ المسلِمِ أن يَستَقيمَ على العِبادَةِ حتَّى يأتِيَهُ المَوتُ، ومن أكرَمَهُ اللهُ تعالى بذلكَ نالَ الكراماتِ، وَوَصَلَ إلى أعلى المَقاماتِ، والاستِقامَةُ على الشَّرعِ هيَ عَينُ الاستِقامَةِ، لأنَّ البَعضَ يَظُنُّ أنَّ الكرامَةَ هيَ أن يُجرِيَ اللهُ تعالى على يَدِ العَبدِ خارِقَةً من الخَوارِقِ، والحَقيقَةُ هيَ أنَّ الكرامَةَ هيَ الاستِقامَةُ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُوَفِّقَنا للعِبادَة على النَّحوِ الذي يُرضيهِ حتَّى نَلقاهُ وهوَ راضٍ عنَّا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
54 ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (10)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: مِمَّا لا شَكَّ فيهِ بأنَّ الإنسانَ صَنعَةُ الله تعالى، ومَخلوقٌ لله تعالى، وهوَ عَبدٌ مَملوكٌ لِخَالِقِهِ إن شاءَ وإن أبى، قال تعالى: ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً﴾.
وما دامَ أنَّهُ عَبدٌ لله تعالى فلا يَسَعُهُ إلا أن يُحَقِّقَ ما أرادَ منهُ خالِقُهُ، والذي أرادَهُ منهُ خالِقُهُ هو العِبادَةُ، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُون﴾.
فإذا حَقَّقَ العَبدُ ما أرادَهُ اللهُ تعالى، وتَحَقَّقَ بالعُبودِيَّةِ الكامِلَةِ رَفَعَهُ اللهُ تعالى، وأسعَدَهُ، وجَعَلَ حَياتَهُ طَيِّبَةً في الدُّنيا قَبلَ الآخِرَةِ، وإلا شَقِيَ والعِياذُ بالله تعالى، وذلكَ عِندَما يَجعَلُ مَعبودَهُ الهَوى أو الدِّينارَ والدِّرهَمَ والخَميصَةَ، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ».
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ العاشِرَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: آخِرُ الوَصايا العَشرِ الرَّبَّانِيَّةِ التي ذَكَرَها ربُّنا عزَّ وجلَّ في سورَةِ الحِجرِ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ هيَ العِبادَةُ المُستَمِرَّةُ إلى نِهايَةِ الأجَلِ، فقال تعالى:
﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾
أيُّها الإخوة الكرام: هذا تَوجيهٌ من الله تعالى لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بأنَّ العِبادَةَ لا تُترَكُ حتَّى يَلقى العَبدُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ، قال تعالى: ﴿إِلا أَصْحَابَ الْيَمِين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُون * عَنِ الْمُجْرِمِين * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين﴾.
«فقد جاءَهُ والله اليَقينُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: اليَقينُ في قَولِهِ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾ هوَ المَوتُ، وقد فَسَّرَ ذلكَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عِندَما تُوُفِّيَ سيٍّدُنا عُثمانُ بنُ مَظعونٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
روى الإمام البخاري عَنْ خَارِجَةَ بْنِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ أُمَّ الْعَلَاءِ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِمْ بَايَعَت النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ مَظْعُونٍ طَارَ لَهُمْ فِي السُّكْنَى حِينَ اقْتَرَعَت الْأَنْصَارُ عَلَى سُكْنَى الْمُهَاجِرِينَ.
قَالَتْ أُمُّ الْعَلَاءِ: فَاشْتَكَى عُثْمَانُ عِنْدَنَا فَمَرَّضْتُهُ حَتَّى تُوُفِّيَ، وَجَعَلْنَاهُ فِي أَثْوَابِهِ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: رَحْمَةُ الله عَلَيْكَ أَبَا السَّائِبِ، شَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللهُ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللهَ أَكْرَمَهُ؟»
قَالَتْ: قُلْتُ: لَا أَدْرِي بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ الله، فَمَنْ؟
قَالَ: «أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ والله الْيَقِينُ، والله إِنِّي لَأَرْجُو لَهُ الْخَيْرَ، وَمَا أَدْرِي والله وَأَنَا رَسُولُ الله مَا يُفْعَلُ بِي»
قَالَتْ: فوالله لَا أُزَكِّي أَحَداً بَعْدَهُ.
قَالَتْ: فَأَحْزَنَنِي ذَلِكَ، فَنِمْتُ فَأُرِيتُ لِعُثْمَانَ عَيْناً تَجْرِي، فَجِئْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ.
فَقَالَ: «ذَلِكِ عَمَلُهُ».
خُلِقتَ للعِبادَةِ:
أيُّها الإنسانُ، خُلِقتَ للعِبادَةِ فلا تَلعَب، وقُسِمَ لك رِزقُكَ فلا تَتعَب، فلا تَخشَ من ضِيقِ الرِّزقِ، فإنَّ خَزائِنَ الله ملأى لا تَنفَدُ أبداً،إن رَضيتَ بما قَسَمَ اللهُ تعالى لكَ أراحَ قَلبكَ وبَدَنَكَ، وكُنتَ عِندَهُ مَحموداً، وإلا سَلَّطَ عليكَ الدُّنيا، ولا يَكونُ لكَ منها إلا ما قُدِّرَ لكَ، وكُنتَ عِندَهُ مَذموماً.
والعِبادَةُ لا تَكونُ فَترَةً مَحدودَةً من الزَّمَنِ ثمَّ تَنتَهي، بل العِبادَةُ مُستَمِرَّةٌ من العابِدِ حتَّى يَلقى مَعبودَهُ بعدَ المَوتِ.
ومن وُفِّقَ للعِبادَةِ فهذا دَليلٌ على رِفعَةِ مَكانَتِهِ عِندَ الله تعالى، ودَليلٌ على يَقينِهِ وحُسنِ استِقامَتِهِ، ودَليلٌ على تَوفيقِ الله تعالى لهُ، وهيَ صُورَةٌ من صُوَرِ الشُّكرِ لله تعالى المُنعِمِ.
أيُّها الإخوة الكرام: من هذا المُنطَلَقِ مَدَحَ ربُّنا عزَّ وجلَّ عِبادَهُ المتَّقينَ المُستَقيمينَ على شَرعِهِ بِقَولِهِ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾.
وَصِيَّةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالاستِقامَةِ:
أيُّها الإخوة الكرام: وقد حَثَّ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الاستِقامَةِ على العِبادَةِ، لأنَّ المُعَوَّلَ عليهِ هوَ المُلازَمَةُ والمُداوَمَةُ على طاعَةِ الله تعالى.
روى الحاكم عَنْ عَبْدِ الله بن عَمْرِو بن الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أن مُعَاذَ بن جَبَلٍ أَرَادَ سَفَراً فَقَالَ: يَا يَارَسُولَ الله، أَوْصِنِي.
قَالَ: «اعْبُدِ الله وَلا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئاً»
قَالَ: يَا رَسُولَ الله، زِدْنِي.
قَالَ: «إِذَا أَسَأْتَ فَأَحْسِنْ»
قَالَ: يَا رَسُولَ الله، زِدْنِي.
قَالَ: «اسْتَقِمْ وَلْتُحَسِّنْ خُلُقَكَ».
وروى الإمام مسلم عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلاً لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَداً بَعْدَكَ.
قَالَ: «قُلْ: آمَنْتُ بالله فَاسْتَقِمْ».
والإيمانُ سَبَبٌ لاستِقرارِ القَلبِ واطمِئنانِهِ، قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ الله أَلا بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب﴾. فإذا اطمَأنَّ القَلبُ واستَقَرَّ ارتاحَتِ الجَوارِحُ، والاستِقامَةُ تَنظيمٌ للجَوارِحِ وَفقَ ما شَرَعَ اللهُ تعالى، وبذلكَ تَتَحَقَّقُ للعَبدِ سَعادَةُ الدَّارَينِ.
ويَقولُ القاضي عِياضٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هذا الحديثُ الشَّريفُ من جَوامِعِ كَلِمِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ مُطابِقٌ لِقَولِهِ تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: قَولُهُ تعالى: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين﴾. يُفيدُ بأنَّ الواجِبَ على العَبدِ المسلِمِ أن يَستَقيمَ على العِبادَةِ حتَّى يأتِيَهُ المَوتُ، ومن أكرَمَهُ اللهُ تعالى بذلكَ نالَ الكراماتِ، وَوَصَلَ إلى أعلى المَقاماتِ، والاستِقامَةُ على الشَّرعِ هيَ عَينُ الاستِقامَةِ، لأنَّ البَعضَ يَظُنُّ أنَّ الكرامَةَ هيَ أن يُجرِيَ اللهُ تعالى على يَدِ العَبدِ خارِقَةً من الخَوارِقِ، والحَقيقَةُ هيَ أنَّ الكرامَةَ هيَ الاستِقامَةُ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يُوَفِّقَنا للعِبادَة على النَّحوِ الذي يُرضيهِ حتَّى نَلقاهُ وهوَ راضٍ عنَّا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin