مع الحبيب المصطفى: الوصايا الربانية للحبيب ﷺ (8)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
52 ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (8)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: بعدَ أن أوصى اللهُ تعالى سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سورَةِ الحِجرِ، بالصَّفحِ الجَميلِ أولاً، ثمَّ بِعَدَمِ مَدِّ العَينِ لِزَهرَةِ الحَياةِ الدُّنيا ثانياً، ثمَّ بِعَدَمِ الحُزنِ عليهِم ثالثاً، ثمَّ بِخَفضِ الجَناحِ للمُؤمِنينَ رابعاً، ثمَّ بالإنذارِ خامساً، ثمَّ بالصَّدعِ بالتَّبليغِ سادساً، ثمَّ بالإعراضِ عن المُشرِكينَ سابعاً، أمَرَهُ تبارَكَ وتعالى وأوصاهُ بالتَّسبيحِ بِحَمدِ ربِّهِ.
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الثَّامِنَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أوصى تعالى سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سورَةِ الحِجرِ بِقَولِهِ تعالى:
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾
التَّسبيحُ هوَ: تَنزيهُ الله تعالى عمَّا لا يَليقُ به من كُلِّ نَقصٍ، فَيَلزَمُ من ذلكَ نَفْيُ الشَّريكِ والصَّاحِبَةِ والوَلَدِ.
والتَّسبيحُ عِندَ الإنسانِ أن يَقولَ: سُبحانَ الله، ويَشملُ التَّسبيحُ جَميعَ ألفاظِ الذِّكرِ.
الكَونُ كُلُّهُ مُسَبِّحٌ، فَكُن مُسَبِّحاً:
أيُّها الإخوة الكرام: لو رَجَعنا إلى القُرآنِ العَظيمِ فإنَّنا نَجِدُ بأنَّ الكَونَ كُلَّهُ من فَرشِهِ إلى عَرشِهِ مُسَبِّحٌ لله تعالى، قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾. وقال تعالى: ﴿سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾. وقال تعالى مُخبِراً بأنَّ هذا التَّسبيحَ مُستَمِرٌّ: ﴿يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم﴾.
وقال تعالى في الرَّعدِ: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾. وقال تعالى في حَقِّ الملائِكَةِ الذينَ يُسَبِّحونَهُ دائِماً: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون﴾. وقال تعالى عن حَمَلَةِ العَرشِ: ﴿وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾.وقال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾.
فإذا كانَ الكَونُ كُلُّهُ مُسَبِّحاً وهوَ المُسَخَّرُ للإنسانِ، فهل يَليقُ بالإنسانِ أن يَكونَ غافِلاً عن الله، فَضلاً عن أن يَكونَ مُشرِكاً؟
لذلكَ جاءَ الأمرُ من الله تعالى للعَبدِ بالتَّسبيحِ، قال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم﴾. وقال تعالى لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾.
ثَمَراتُ التَّسبيحِ:
أيُّها الإخوة الكرام: نحنُ على يَقينٍ بأنَّ اللهَ تعالى ما أمَرَ عَبدَهُ بأمرٍ إلا وكانَ خَيرُ هذا الأمرِ عائِداً على العَبدِ، لأنَّ اللهَ تعالى غَنِيٌّ عن العالَمينَ، والعالَمونَ فُقَراءُ إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله واللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد﴾.
وقال تعالى في الحديثِ القُدسِيِّ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَخَيرُ التَّكليفِ عائِدٌ على المُكَلَّفِ لا على المُكَلِّفِ، فالتَّسبيحُ لله تعالى خَيرُهُ عائِدٌ على العَبدِ، فمن ثَمَراتِ هذا التَّسبيحِ:
أولاً: التَّسبيحُ يُنجيكَ من الضِّيقِ:
قال تعالى في حَقِّ سيِّدِنا يونس عليه السَّلامُ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين﴾.
ثانياً: التَّسبيحُ خَيرٌ من نِعَمِ الدُّنيا:
روى الشيخان عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ.
فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا».
فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: «أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْراً مِمَّا سَأَلْتُمَانِي، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أن تُكَبِّرَا اللهَ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ».
ثالثاً: التَّسبيحُ يَزيدُ في حَسَناتِ العَبدِ:
روى الإمام مسلم عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟»
فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟
قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ».
رابعاً: التَّسبيحُ مَغفِرَةٌ للذُّنوبِ:
روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
خامساً: التَّسبيحُ سَبَبٌ لِدُخولِ الجَنَّةِ:
روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ ـ تَدخُلُ ـ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا ـ أي: ليسَ في فَمِهِم ماءٌ زائِدٌ للبُصاقِ ـ وَلَا يَمْتَخِطُونَ ـ أَيْ: لَيْسَ فِي أَنْفِهِمْ مِن الْمِيَاهِ الزَّائِدَةِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ ـ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُم الْأَلُوَّةُ ـ أي: إِنَّ بَخُورَهُمْ بِالْأَلُوَّةِ وَهُوَ الْعُودُ ـ وَرَشْحُهُم الْمِسْكُ ـ أي: رَائِحَةُ عَرَقِهِمْ رَائِحَةُ الْمِسْكِ ـ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِن الْحُسْنِ ـ ما في داخِلِ العَظمِ، والمرادُ به وَصْفُها بالصَّفاءِ البَالِغِ وأنَّ ما في داخِلِ العَظمِ لا يَستَتِرُ بالعَظمِ واللَّحمِ والجِلدِ ـ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ ـ أَيْ فِي الِاتِّفَاقِ وَالْمَحَبَّةِ ـ يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّاً».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: كَثرَةُ التَّسبيحِ سَبَبٌ لِتَفريجِ الكُروبِ، وهوَ يُعَمِّقُ الإيمانَ في القُلوبِ، وهوَ وَسيلَةٌ للتَّقَرُّبِ إلى الله تعالى، ويَحمي من وَسواسِ الشَّيطانِ، وهوَ صَدَقَةٌ على جَوارِحِ الإنسانِ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يَرزُقَنا لِساناً ذاكِراً، وقلباً شاكِراً، وعَملاً مُتَقَبَّلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
52 ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (8)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: بعدَ أن أوصى اللهُ تعالى سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سورَةِ الحِجرِ، بالصَّفحِ الجَميلِ أولاً، ثمَّ بِعَدَمِ مَدِّ العَينِ لِزَهرَةِ الحَياةِ الدُّنيا ثانياً، ثمَّ بِعَدَمِ الحُزنِ عليهِم ثالثاً، ثمَّ بِخَفضِ الجَناحِ للمُؤمِنينَ رابعاً، ثمَّ بالإنذارِ خامساً، ثمَّ بالصَّدعِ بالتَّبليغِ سادساً، ثمَّ بالإعراضِ عن المُشرِكينَ سابعاً، أمَرَهُ تبارَكَ وتعالى وأوصاهُ بالتَّسبيحِ بِحَمدِ ربِّهِ.
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الثَّامِنَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أوصى تعالى سيِّدَنا محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سورَةِ الحِجرِ بِقَولِهِ تعالى:
﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾
التَّسبيحُ هوَ: تَنزيهُ الله تعالى عمَّا لا يَليقُ به من كُلِّ نَقصٍ، فَيَلزَمُ من ذلكَ نَفْيُ الشَّريكِ والصَّاحِبَةِ والوَلَدِ.
والتَّسبيحُ عِندَ الإنسانِ أن يَقولَ: سُبحانَ الله، ويَشملُ التَّسبيحُ جَميعَ ألفاظِ الذِّكرِ.
الكَونُ كُلُّهُ مُسَبِّحٌ، فَكُن مُسَبِّحاً:
أيُّها الإخوة الكرام: لو رَجَعنا إلى القُرآنِ العَظيمِ فإنَّنا نَجِدُ بأنَّ الكَونَ كُلَّهُ من فَرشِهِ إلى عَرشِهِ مُسَبِّحٌ لله تعالى، قال تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلا يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ﴾. وقال تعالى: ﴿سَبَّحَ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم﴾. وقال تعالى مُخبِراً بأنَّ هذا التَّسبيحَ مُستَمِرٌّ: ﴿يُسَبِّحُ لله مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيم﴾.
وقال تعالى في الرَّعدِ: ﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾. وقال تعالى في حَقِّ الملائِكَةِ الذينَ يُسَبِّحونَهُ دائِماً: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُون﴾. وقال تعالى عن حَمَلَةِ العَرشِ: ﴿وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾.وقال: ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ﴾.
فإذا كانَ الكَونُ كُلُّهُ مُسَبِّحاً وهوَ المُسَخَّرُ للإنسانِ، فهل يَليقُ بالإنسانِ أن يَكونَ غافِلاً عن الله، فَضلاً عن أن يَكونَ مُشرِكاً؟
لذلكَ جاءَ الأمرُ من الله تعالى للعَبدِ بالتَّسبيحِ، قال تعالى: ﴿فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم﴾. وقال تعالى لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ﴾.
ثَمَراتُ التَّسبيحِ:
أيُّها الإخوة الكرام: نحنُ على يَقينٍ بأنَّ اللهَ تعالى ما أمَرَ عَبدَهُ بأمرٍ إلا وكانَ خَيرُ هذا الأمرِ عائِداً على العَبدِ، لأنَّ اللهَ تعالى غَنِيٌّ عن العالَمينَ، والعالَمونَ فُقَراءُ إلى الله تعالى، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى الله واللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد﴾.
وقال تعالى في الحديثِ القُدسِيِّ: «لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَخَيرُ التَّكليفِ عائِدٌ على المُكَلَّفِ لا على المُكَلِّفِ، فالتَّسبيحُ لله تعالى خَيرُهُ عائِدٌ على العَبدِ، فمن ثَمَراتِ هذا التَّسبيحِ:
أولاً: التَّسبيحُ يُنجيكَ من الضِّيقِ:
قال تعالى في حَقِّ سيِّدِنا يونس عليه السَّلامُ: ﴿وَذَا النُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لا إِلَهَ إِلا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِين * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِين﴾.
ثانياً: التَّسبيحُ خَيرٌ من نِعَمِ الدُّنيا:
روى الشيخان عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللهُ عنها شَكَتْ مَا تَلْقَى مِنْ أَثَرِ الرَّحَا، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ سَبْيٌ، فَانْطَلَقَتْ فَلَمْ تَجِدْهُ، فَوَجَدَتْ عَائِشَةَ فَأَخْبَرَتْهَا، فَلَمَّا جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ عَائِشَةُ بِمَجِيءِ فَاطِمَةَ.
فَجَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَيْنَا وَقَدْ أَخَذْنَا مَضَاجِعَنَا، فَذَهَبْتُ لِأَقُومَ فَقَالَ: «عَلَى مَكَانِكُمَا».
فَقَعَدَ بَيْنَنَا حَتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمَيْهِ عَلَى صَدْرِي وَقَالَ: «أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيْراً مِمَّا سَأَلْتُمَانِي، إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أن تُكَبِّرَا اللهَ أَرْبَعاً وَثَلَاثِينَ، وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدَاهُ ثَلَاثاً وَثَلَاثِينَ، فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ».
ثالثاً: التَّسبيحُ يَزيدُ في حَسَناتِ العَبدِ:
روى الإمام مسلم عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟»
فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟
قَالَ: «يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ».
رابعاً: التَّسبيحُ مَغفِرَةٌ للذُّنوبِ:
روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ».
خامساً: التَّسبيحُ سَبَبٌ لِدُخولِ الجَنَّةِ:
روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ ـ تَدخُلُ ـ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا ـ أي: ليسَ في فَمِهِم ماءٌ زائِدٌ للبُصاقِ ـ وَلَا يَمْتَخِطُونَ ـ أَيْ: لَيْسَ فِي أَنْفِهِمْ مِن الْمِيَاهِ الزَّائِدَةِ وَالْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ ـ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِن الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُم الْأَلُوَّةُ ـ أي: إِنَّ بَخُورَهُمْ بِالْأَلُوَّةِ وَهُوَ الْعُودُ ـ وَرَشْحُهُم الْمِسْكُ ـ أي: رَائِحَةُ عَرَقِهِمْ رَائِحَةُ الْمِسْكِ ـ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِن الْحُسْنِ ـ ما في داخِلِ العَظمِ، والمرادُ به وَصْفُها بالصَّفاءِ البَالِغِ وأنَّ ما في داخِلِ العَظمِ لا يَستَتِرُ بالعَظمِ واللَّحمِ والجِلدِ ـ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ ـ أَيْ فِي الِاتِّفَاقِ وَالْمَحَبَّةِ ـ يُسَبِّحُونَ اللهَ بُكْرَةً وَعَشِيَّاً».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: كَثرَةُ التَّسبيحِ سَبَبٌ لِتَفريجِ الكُروبِ، وهوَ يُعَمِّقُ الإيمانَ في القُلوبِ، وهوَ وَسيلَةٌ للتَّقَرُّبِ إلى الله تعالى، ويَحمي من وَسواسِ الشَّيطانِ، وهوَ صَدَقَةٌ على جَوارِحِ الإنسانِ.
أسألُ اللهَ تعالى أن يَرزُقَنا لِساناً ذاكِراً، وقلباً شاكِراً، وعَملاً مُتَقَبَّلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin