مع الحبيب المصطفى: الوصايا الربانية للحبيب ﷺ (3)
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
47ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (3)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّحمَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي ـ المُوَلِّي الذَّاهِبُ، يعني آخِرَ الأنبِياءِ المُتَّبِعُ لهُم، فإذا قفى فلا نَبِيَّ بَعدَهُ ـ وَالْحَاشِرُ ـ الذي يَحشُرُ النَّاسَ خَلفَهُ ـ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ».
حِرصُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الخَلقِ عامَّةً:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كُلَّ الحِرصِ على هِدايَةِ الخَلقِ جميعاً، وكانَ يَتَأثَّرُ التَّأثيرَ الشَّديدَ إذا أُصيبوا بِمُصيبَةٍ، وكانَ قَلبُهُ الشَّريفُ يُكِنُّ على هِدايَتِهِم ونَجاتِهِم وخَلاصِهِم مِمَّا يَنتابُهُم، وقد شَهِدَ اللهُ تعالى له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِشِدَّةِ حِرصِهِ على هِدايَةِ الخَلقِ جميعاً، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾.
روى الإمام مسلم عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاش، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا».
قَالَ: «فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ ـ تُقدِمونَ وتَقَعونَ في الأمورِ الشَّاقَّةِ ـ فِيهَا».
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَحزَنُ أن يَنالَ أمَّتَهُ تَعَبُ الآخِرَةِ، أو تَعَبُ الدُّنيا، ولذلكَ كانَ من كَمالِ رَحمَتِهِ حتَّى بَعدَ مَماتِهِ، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالَكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ» رواه البزار عن ابْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الثَّالِثَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: وهُنا تأتي الوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سورَةِ الحِجرِ، فَيَقولُ اللهُ تعالى:
﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾
أيُّها الإخوة الكرام: من المَعلومِ أنَّ إرادَةَ الله تعالى الحَكيمَةَ قد قَضَت بأن يَضَعَ النَّاسَ في الحَياةِ الدُّنيا مَوضِعَ الامتِحانِ، وأنَّ على كُلِّ مُمتَحَنٍ مُكَلَّفٍ أن يَختارَ بِنَفسِهِ مَصيرَهُ، بَعدَ البيانِ الكافي.
فمن اختارَ لِنَفسِهِ طَريقَ جَهَنَّمَ وهوَ كامِلُ الأهلِيَّةِ الفِكرِيَّةِ والإرادِيَّةِ، فلا يَنبَغي أن يَحزَنَ أحَدٌ من أجلِهِ، إنَّهُ إذا لم يُشفِق هوَ على نَفسِهِ، وهيَ أحَبُّ شيءٍ إليهِ، أفَيَستَحِقُّ أن يَحزَنَ أحَدٌ من أجلِهِ؟!
ولكنَّ سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي جَبَلَهُ اللهُ تعالى على الرَّحمَةِ كانَ يَحزَنُ حُزناً شديداً على من خَالَفَهُ، وهذا أمرٌ طَبيعِيٌّ فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّ اللهَ تعالى قالَ فيهِ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾. وقالَ فيهِ: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾. وقالَ هوَ عن ذاتِهِ الشَّريفَةِ: «إنَّما أنا رَحمَةٌ مُهداةٌ» روا ه الحاكم عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
ولذلكَ تأتي الوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ في سورَةِ الحِجرِ: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾. ولَعَلَّنا أن نَتَنَبَّهَ إلى قَولِهِ تعالى: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾. ما قال: ولا تَحزَن منهم، لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ يُحِبُّ أن يُؤمِنَ جَميعُ النَّاسِ حتَّى يَنجوَ الجَميعُ يَومَ القِيامَةِ.
وإنَّ الحُزنَ على من عصى دَليلٌ على مَحَبَّةِ الحَزينِ على المَحزونِ عليهِ، حتَّى أنَّهُ بَلَغَ حُزنُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عليهِم أن يُهلِكَ نَفسَهُ ويُتعِبَها من بَعدِ تَوَلِّيهِم عن الإيمانِ، لذلكَ عاتَبَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ عِتابَ تَسلِيَةٍ وسُلوانٍ ومُواساةٍ، فقال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾.
لقد حَمَّلَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفسَهُ ما لم يُحَمِّلْهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ إيَّاهُ، لذلكَ أمَرَهُ تبارَكَ وتعالى وأوصاهُ في سورَةِ الحجرِ بِقَولِهِ: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾. يعني: عليكَ البَلاغُ فقط، وليسَ عليكَ الهِدايَةُ، عليكَ أن تَهدي إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ دِلالَةً، وليسَ عليكَ أن تَخلُقَ الهِدايَةَ في القُلوبِ، فإن أعرَضَ النَّاسُ عنكَ بَعدَ التَّبليغِ فَوِّض أمرَهُم إلى الله تعالى ولا تَحزَن عليهِم، لأنَّهُم لا يَستَحِقُّونَ هذا الحُزنَ.
اللهُ تعالى يُريدُ قُلوباً قَبلَ القالَبِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أتعَبَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفسَهُ حِرصاً على هِدايَةِ الجَميعِ، ولكنَّ الحَقَّ تعالى يُبَيِّنُ له في سورَةِ الشُّعَراءِ أنَّهُ لو أرادَ قَهرَ الجَميعِ على الإيمانِ لَفَعَلَ، ولكن جَعَلَ لهُم حُرِّيَّةَ الاختِيارِ، قال تعالى في سورَةِ الشُّعَراءِ مُسَلِّياً سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِين * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين﴾.
فإكراهُ النَّاسِ جَميعاً على الإيمانِ أمرٌ يَسيرٌ على الله تعالى، ولكنَّ الإيمانَ بالإكراهِ لا يَكونُ دَليلاً على مَحَبَّةِ المُؤمِنِ، فاللهُ تعالى قادِرٌ على أن يُنَزِّلَ آيَةً من السَّماءِ تَجعَلُهُم خاضِعينَ مُؤمِنينَ، ولكنَّ ربَّنا عزَّ وجلَّ لا يَقهَرُ أحَداً على الإيمانِ، واللهُ تعالى لا يُريدُ قَوالِبَ، بل يُريدُ قُلوباً خاشِعَةً، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيُفَكِّرْ كُلُّ واحِدٍ منَّا في نَفسِهِ عِندَما يَحزَنُ على أهلِ المَعاصي والمُخالَفاتِ:
هل هوَ أولاً تارِكٌ لهذهِ المَعاصي والمُخالَفاتِ أم لا؟
ثانياً: هل يَحزَنُ منهُم أم عليهِم، والفارِقُ بينَ الأمرَينِ واضِحٌ، من حَزِنَ منهُم دَعا عليهِم، ومن حَزِنَ عليهِم دَعا لهُم.
ثالثاً: هل أنتَ حَريصٌ على إيمانِ الجَميعِ مهما فَعَلوا من المُخالَفاتِ، وتَتَمَنَّى لهُم سَعادَةَ الدَّارَينِ، أم تُريدُ أن يَموتوا على الغِوايَةِ؟
فَكِّرْ في نَفسِكَ!! ثمَّ انظُر إلى سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِتَعرِفَ قُربَكَ منهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أم بُعدَكَ عنهُ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ.
أسألُ اللهَ تعالى أن لا يَنزِعَ من قُلوبِنا الرَّحمَةَ على خَلقِ الله جَميعاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
47ـ الوصايا الربانية للحبيب صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (3)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: إنَّ سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَبِيُّ الرَّحمَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُسَمِّي لَنَا نَفْسَهُ أَسْمَاءً، فَقَالَ: «أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَحْمَدُ، وَالْمُقَفِّي ـ المُوَلِّي الذَّاهِبُ، يعني آخِرَ الأنبِياءِ المُتَّبِعُ لهُم، فإذا قفى فلا نَبِيَّ بَعدَهُ ـ وَالْحَاشِرُ ـ الذي يَحشُرُ النَّاسَ خَلفَهُ ـ وَنَبِيُّ التَّوْبَةِ، وَنَبِيُّ الرَّحْمَةِ».
حِرصُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ على الخَلقِ عامَّةً:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حَريصاً كُلَّ الحِرصِ على هِدايَةِ الخَلقِ جميعاً، وكانَ يَتَأثَّرُ التَّأثيرَ الشَّديدَ إذا أُصيبوا بِمُصيبَةٍ، وكانَ قَلبُهُ الشَّريفُ يُكِنُّ على هِدايَتِهِم ونَجاتِهِم وخَلاصِهِم مِمَّا يَنتابُهُم، وقد شَهِدَ اللهُ تعالى له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِشِدَّةِ حِرصِهِ على هِدايَةِ الخَلقِ جميعاً، قال تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم﴾.
روى الإمام مسلم عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «مَثَلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَاراً، فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهَا جَعَلَ الْفَرَاش، وَهَذِهِ الدَّوَابُّ الَّتِي فِي النَّارِ يَقَعْنَ فِيهَا، وَجَعَلَ يَحْجُزُهُنَّ وَيَغْلِبْنَهُ فَيَتَقَحَّمْنَ فِيهَا».
قَالَ: «فَذَلِكُمْ مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ، أَنَا آخِذٌ بِحُجَزِكُمْ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، هَلُمَّ عَن النَّارِ، فَتَغْلِبُونِي تَقَحَّمُونَ ـ تُقدِمونَ وتَقَعونَ في الأمورِ الشَّاقَّةِ ـ فِيهَا».
أيُّها الإخوة الكرام: سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَحزَنُ أن يَنالَ أمَّتَهُ تَعَبُ الآخِرَةِ، أو تَعَبُ الدُّنيا، ولذلكَ كانَ من كَمالِ رَحمَتِهِ حتَّى بَعدَ مَماتِهِ، كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُحَدِّثُونَ وَيُحَدَّثُ لَكُمْ، وَوَفَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ، تُعْرَضُ عَلَيَّ أَعْمَالَكُمْ، فَمَا رَأَيْتُ مِنْ خَيْرٍ حَمِدْتُ اللهَ عَلَيْهِ، وَمَا رَأَيْتُ مِنْ شَرٍّ اسْتَغْفَرْتُ اللهَ لَكُمْ» رواه البزار عن ابْن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
الوَصِيَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ الثَّالِثَةُ للحَبيبِ الأعظَمِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
أيُّها الإخوة الكرام: وهُنا تأتي الوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ لسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في سورَةِ الحِجرِ، فَيَقولُ اللهُ تعالى:
﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾
أيُّها الإخوة الكرام: من المَعلومِ أنَّ إرادَةَ الله تعالى الحَكيمَةَ قد قَضَت بأن يَضَعَ النَّاسَ في الحَياةِ الدُّنيا مَوضِعَ الامتِحانِ، وأنَّ على كُلِّ مُمتَحَنٍ مُكَلَّفٍ أن يَختارَ بِنَفسِهِ مَصيرَهُ، بَعدَ البيانِ الكافي.
فمن اختارَ لِنَفسِهِ طَريقَ جَهَنَّمَ وهوَ كامِلُ الأهلِيَّةِ الفِكرِيَّةِ والإرادِيَّةِ، فلا يَنبَغي أن يَحزَنَ أحَدٌ من أجلِهِ، إنَّهُ إذا لم يُشفِق هوَ على نَفسِهِ، وهيَ أحَبُّ شيءٍ إليهِ، أفَيَستَحِقُّ أن يَحزَنَ أحَدٌ من أجلِهِ؟!
ولكنَّ سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي جَبَلَهُ اللهُ تعالى على الرَّحمَةِ كانَ يَحزَنُ حُزناً شديداً على من خَالَفَهُ، وهذا أمرٌ طَبيعِيٌّ فيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّ اللهَ تعالى قالَ فيهِ: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ﴾. وقالَ فيهِ: ﴿حَرِيصٌ عَلَيْكُم﴾. وقالَ هوَ عن ذاتِهِ الشَّريفَةِ: «إنَّما أنا رَحمَةٌ مُهداةٌ» روا ه الحاكم عن أبي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
ولذلكَ تأتي الوَصِيَّةُ الثَّالِثَةُ في سورَةِ الحِجرِ: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾. ولَعَلَّنا أن نَتَنَبَّهَ إلى قَولِهِ تعالى: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾. ما قال: ولا تَحزَن منهم، لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كانَ يُحِبُّ أن يُؤمِنَ جَميعُ النَّاسِ حتَّى يَنجوَ الجَميعُ يَومَ القِيامَةِ.
وإنَّ الحُزنَ على من عصى دَليلٌ على مَحَبَّةِ الحَزينِ على المَحزونِ عليهِ، حتَّى أنَّهُ بَلَغَ حُزنُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عليهِم أن يُهلِكَ نَفسَهُ ويُتعِبَها من بَعدِ تَوَلِّيهِم عن الإيمانِ، لذلكَ عاتَبَهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ عِتابَ تَسلِيَةٍ وسُلوانٍ ومُواساةٍ، فقال تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً﴾.
لقد حَمَّلَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفسَهُ ما لم يُحَمِّلْهُ ربُّنا عزَّ وجلَّ إيَّاهُ، لذلكَ أمَرَهُ تبارَكَ وتعالى وأوصاهُ في سورَةِ الحجرِ بِقَولِهِ: ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ﴾. يعني: عليكَ البَلاغُ فقط، وليسَ عليكَ الهِدايَةُ، عليكَ أن تَهدي إلى الصِّراطِ المُستَقيمِ دِلالَةً، وليسَ عليكَ أن تَخلُقَ الهِدايَةَ في القُلوبِ، فإن أعرَضَ النَّاسُ عنكَ بَعدَ التَّبليغِ فَوِّض أمرَهُم إلى الله تعالى ولا تَحزَن عليهِم، لأنَّهُم لا يَستَحِقُّونَ هذا الحُزنَ.
اللهُ تعالى يُريدُ قُلوباً قَبلَ القالَبِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أتعَبَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَفسَهُ حِرصاً على هِدايَةِ الجَميعِ، ولكنَّ الحَقَّ تعالى يُبَيِّنُ له في سورَةِ الشُّعَراءِ أنَّهُ لو أرادَ قَهرَ الجَميعِ على الإيمانِ لَفَعَلَ، ولكن جَعَلَ لهُم حُرِّيَّةَ الاختِيارِ، قال تعالى في سورَةِ الشُّعَراءِ مُسَلِّياً سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: ﴿لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلا يَكُونُوا مُؤْمِنِين * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين﴾.
فإكراهُ النَّاسِ جَميعاً على الإيمانِ أمرٌ يَسيرٌ على الله تعالى، ولكنَّ الإيمانَ بالإكراهِ لا يَكونُ دَليلاً على مَحَبَّةِ المُؤمِنِ، فاللهُ تعالى قادِرٌ على أن يُنَزِّلَ آيَةً من السَّماءِ تَجعَلُهُم خاضِعينَ مُؤمِنينَ، ولكنَّ ربَّنا عزَّ وجلَّ لا يَقهَرُ أحَداً على الإيمانِ، واللهُ تعالى لا يُريدُ قَوالِبَ، بل يُريدُ قُلوباً خاشِعَةً، قال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين﴾.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لِيُفَكِّرْ كُلُّ واحِدٍ منَّا في نَفسِهِ عِندَما يَحزَنُ على أهلِ المَعاصي والمُخالَفاتِ:
هل هوَ أولاً تارِكٌ لهذهِ المَعاصي والمُخالَفاتِ أم لا؟
ثانياً: هل يَحزَنُ منهُم أم عليهِم، والفارِقُ بينَ الأمرَينِ واضِحٌ، من حَزِنَ منهُم دَعا عليهِم، ومن حَزِنَ عليهِم دَعا لهُم.
ثالثاً: هل أنتَ حَريصٌ على إيمانِ الجَميعِ مهما فَعَلوا من المُخالَفاتِ، وتَتَمَنَّى لهُم سَعادَةَ الدَّارَينِ، أم تُريدُ أن يَموتوا على الغِوايَةِ؟
فَكِّرْ في نَفسِكَ!! ثمَّ انظُر إلى سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِتَعرِفَ قُربَكَ منهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أم بُعدَكَ عنهُ ـ لا قَدَّرَ اللهُ تعالى ـ.
أسألُ اللهَ تعالى أن لا يَنزِعَ من قُلوبِنا الرَّحمَةَ على خَلقِ الله جَميعاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin