إن الذي وقع بهذا الجزء الثاني من الإقليم الثالث جمل من مدن وأقاليم وحصون وقلاع وأجناس وأمم فأما البلاد فمنها قمودة وباغاي ومسكيانة ومجانة وباجة وبونة ومرسى الخرز وبنزرت والاربس ومرماجنة وقسطيلية وبيلقان وتقيوس وزرود وقفصة ونفطة والحمة وتونس واقليبية وهرقلية وسوسة والمهدية وسفاقس وقابس ورغوغا وصبرة واطرابلس ولبدة وعلى ساحل هذا البحر بهذا الجزء حصون ومحارس وعمارات نذكرها فيما يأتي بعد هذا بعون الله.
فأما مدينة باغاي فمدينة كبيرة عليها سوران من حجر وربض عليه سور وكانت الأسواق فيه وأما الآن فالأسواق في المدينة والأرباض خالية بإفساد العرب لها وهي أول بلاد التمر ولها واد يجري إليها من جهة القبلة وشربهم منه ولهم أيضاً شرب من آبار عذبة وكانت لها بواد وقرى وعمارات والآن كل ذلك قليل فيها وحولها عمارات برابر يعاملون العرب وأكثر غلاتهم الحنطة والشعير وقبض معاوينها وتصرف أحوالها لأشياخها.
ويتصل بها وعلى أميال منها جبل اوراس وطوله نحو من اثني عشر يوماً وأهله مسلطون على من جاورهم.
ومن مدينة باغاي إلى قسنطينة ثلاث مراحل ومن باغاي إلى طبنة الزاب أربع مراحل ومن باغاي إلى مدينة قسطيلية أربع مراحل.
وهي تسمى توزر ولها سور حصين وبها نخل كثير جداً وتمرها كثير يعم بلاد إفريقية وبها الأترج الكبير الحسن الطيب وأكثر الفواكه التي بها في حال معتدلة وبقولها كثيرة موجودة متناهية في الكثرة والجودة وماؤها غير طيب ولا مرو وسعر الطعام بها في أكثر الأوقات غال لأنه يجلب إليها وزروع الحنطة والشعير بها قليل يسير.
ويتصل بها جنوب منها وشرق مدينة الحمة وبينهما مرحلة صغيرة وماء الحمة ليس بطيب لكنه شروب قنع به أهلها وبها نخل كثير وتمر غزير.
ومنها إلى تقيوس نحو من عشرين ميلاً وهي مدينة حسنة تقع بينها وبين قفصة وهي مدينة عامرة لها غلات الحناء والكمون والكروياء وبها نخل وتمر حسن وجملة بقول طيبة ناعمة ومن تقيوس إلى مدينة قفصة مرحلة.
ومدينة قفصة مدينة حسنة ذات سور ونهر جار ماؤه أطيب من ماء قسطيلية ولها في وسطها العين المسماة بالطرميذ ولها أسواق عامرة ومتاجر كثيرة وصناعات قائمة ويطيف بها نخل كثير يشتمل على ضروب من أنواع التمر العجيب ولها جمل جنات وبساتين وقصور قائمة معمورة يزرع بها ضروب من غلات الحناء والقطن وأهلها متبربرون وأكثرهم يتكلم باللسان اللطيني الإفريقي.
ومن مدينة قفصة إلى جهة الغرب ومع الجنوب يتصل بها هناك مدينة قاصرة وهي مدينة مذكورة ومدينة نقاوس ومدينة جمونس في الشرق منها وهذه البلاد كلها تتقارب في حالاتها وتتدانى في صفاتها ونخيلها ومياهها وغلاتها والحنطة بها أبداً قليلة لأنها في الأغلب تجلب إليها.
ومدينة قفصة مركز والبلاد بها دائرة فمن قفصة إلى مدينة القيروان شمالاً مع شرق أربع مراحل وعلى جهة المغرب مع الجنوب مدينة بيلقان على خمس مراحل وهي الآن خراب أفسدتها العرب واستولت على منافعها وعلى جميع أرضها ومياهها كثيرة ومنها إلى قفصة أربع مراحل ومن قفصة في جهة الجنوب إلى ناحية جبل نفوسة مدينة زرود وبينهما خمس مراحل ومن مدينة قفصة إلى مدينة نفطة مرحلتان صغيرتان وهي مدينة متحضرة عامرة بأهلها لها أسواق وتجارات ونخل وغلات ومياه جارية ومن قفصة إلى نفزاوة جنوباً يومان وبعض يوم ومن توزر إلى نفزاوة يوم ونصف يوم كبير.
ومن مدينة قفصة إلى جبل نفوسة في جهة الجنوب نحو من ستة أيام وهو جبل عال يكون نحواً عن ثلاثة أيام طولاً أو أقل من ذلك وفيه منبران لمدينتين تسمى إحداهما شروس في الجبل ولها مياه جارية وكروم وأعناب طيبة وتين وأكثر زروعهم الشعير الطيب المتناهي طيباً مما إذا خبز كان أطيب من سائر الطعام في سائر الأقاليم ولأهله في صنعة الخبز حذق وتمهر فاقوا في ذلك كل الناس ومن مدينة قفصة إلى مدينة سفاقس ثلاثة أيام.
وفيما بين جبل نفوسة ومدينة نفزاوة مدينة لوحقة ويتصل بها غرباً مدينة بسكرة وبادس.
وكل هذه البلاد تتقارب في مقاديرها وصفاتها وفي متاجرها وأسواقها.
ومن جبل نفوسة إلى وارقلان اثنتا عشرة مرحلة ومن نفطة إلى مدينة قابس ثلاث مراحل وبعض من مرحلة.
وقابس مدينة جليلة عامرة حفت بها من نواحيها غابات جنات ملتفة وحدائق مصطفة وفواكه عامة رخيصة وبها من التمر والزروع والضياع ما ليس بغيرها من البلاد وفيها زيتون وزيت وغلات وعليها سور منيع يحيط به من خارجه خندق ولها أسواق وعمارات وتجارات وبضاعات وكان بها فيما سلف طرز يعمل بها الحرير الحسن وبها الآن مدابغ للجلود ويتجهز بها منها ولها واد يأتيها من غدير كبير وعلى هذا الغدير قصر سجة وبينه وبين قابس ثلاثة أميال وهي مدينة صغيرة متحضرة وبها من ناحية البحر أيضاً سوق وباعة وحريريون كثيرون وشربهم من وادي قابس وماء مدينة قابس غير طيب لكنه شروب وأهلها يستسيغونه ومدينة قابس بينها وبين البحر ستة أميال من جهة الشمال وتصل بآخر غابة أشجارها إلى البحر رملة متصلة مقدار ميل وهذه الغابة أشجار وجنات وكروم وزيتون كثير يستعمل منه زيت كثير يتجهز به إلى سائر النواحي وبها أيضاً نخل ملتف به من الرطب الذي لا يعدله شيء في نهاية الطيب وذلك أن أهل قابس يجنونها طرية ثم يودعونها في دنانات فإذا كان بعد مدة من ذلك خرجت لها عسلية تعلو وجهها بكثير ولا يقدر على التناول منها إلا بعد زوال العسل عنها من أعلاها وليس في جميع البلاد المشهورة بالتمر شيء من التمر يشبهه ولا يحاكيه ولا يطابقه في علوكته وطيب مذاقته.
ومرساها في البحر ليس بشيء لأنه لا يستر من ريح وإنما ترسى القوارب بواديها وهو نهر صغير يدخله المد والجزر وترسى به المراكب الصغار وليس بكثير السعة وإنما يطلع المد للإرساء نحواً من رمية سهم وفي أهلها قلة دماثة ولهم زي ونظافة وفي باديتها عتو وفساد وقطع سبل.
ومن مدينة قابس إلى مدينة سفاقس نازلاً مع الجون سبعون ميلاً ومدينة سفاقس بينها وبين قفصة بين جنوب وغرب ثلاثة أيام.
ومدينة سفاقس مدينة قديمة عامرة لها أسواق كثيرة وعمارة شاملة وعليها سور من حجارة وأبواب عليها صفائح من حديد منيعة وعلى أسوارها محارس نفيسة للرباط وأسواقها متحركة وشرب أهلها من المواجل ويجلب إليها من مدينة قابس نفيس الفواكه وعجيب أنواعها ما يكفيها ويربى كثرة ورخص قيمة ويصاد بها من السمك ما يعظم خطره ويكثر قدره وأكثر صيدهم بالزروب المنصوبة لهم من الماء الميت بضروب حيل وجل غلاتها الزيتون والزيت وبها منه ما ليس يوجد بغيرها مثله وبها مرسى من ميت الماء وبالجملة إنها من عز البلاد وأهلها لهم نخوة وفي أنفسهم عزة وافتتحها الملك المعظم رجار في عام ثلاثة وأربعين وخمس مائة من سني الهجرة وهي الآن معمورة وليست مثل ما كانت عليه من العمارة والأسواق والمتاجر في الزمن القديم. ومن سفاقس إلى مدينة المهدية مرحلتان ولها عامل من قبل الملك المعظم رجار والمهدية مدينة لم تزل ذات إقلاع وحط للسفن الحجازية القاصدة إليها من بلاد المشرق والمغرب والأندلس وبلاد الروم وغيرها من البلاد وإليها تجلب البضائع الكثيرة بقناطير الأموال على مر الأيام وقد قل ذلك في وقتنا هذا ومدينة المهدية كانت مرسى وفرضة للقيروان واستحدثها المهدي عبيد الله وسماها بهذا الاسم وهي في نحر البحر ترحل من سفاقس إلى رقادة القيروان ثم ترحل إليها من مدينة رقادة ومدينة المغدية من مدينة القيروان على مرحلتين وكانت فيما سلف المسافر إليها كثير والبضائع إليها مجلوبة من سائر البلاد والأقطار والأمتعة والمتاجر بها نافقة وفيها بائعة والهمم على أهلها موقوفة وإليهم راجعة ولها حسن مبان لطيفة نظيفة المنازل والمتبوات وديارها حسنة وحماماتها جليلة وبها خانات بهيرة وهي في ذاتها حسنة الداخل والخارج بهية المنظر وأهلها حسان الوجوه نظاف الثياب ويعمل بها من الثياب الحسنة الدقيقة الجيدة المنسوبة إليها ما يحمل ويتجهز به التجار إلى جميع الآفاق في كل وقت وحين ما ليس يقدر على عمل مثله في غيرها من البلاد والأمصار لجودته وحسنه وشرب أهلها من المواجل وآبارها غير عذبة ويحيط بالمهدية سور حسن مبني من الحجارة وعليها بابان من حديد لفق بعضه على بعض من غير خشب وليس يدرى في معمور الأرض مثلهما صنعة ووثاقة وهما من عجائبها الموصوفة وليس لها جنات ولا بساتين نخل وإنما يجلب إليها شيء من الفواكه من قصور المنستير وبينهما في البحر ثلاثون ميلاً والمنستير قصور ثلاثة يسكنها قوم متعبدون والأعراب لا تضرهم في شيء من ضجرهم ولا من عماراتهم وبهذا المكان أعني المنستير يدفن أهل المهدية موتاهم يحملونهم في الزوارق إليها فيدفنونهم بها ثم يعودون إلى بلدهم وليس بالمهدية جبانة تعرف في وقتنا هذا والمهدية في حين تأليفنا هذا الكتاب مدينتان إحداهما مدينة المهدية والثانية مدينة زويلة ومدينة المهدية يسكنها السلطان وجنوده وبها قصره الحسن البناء العجيب الاتقان والارتقاء وكان بها قبل أن يفتحها الملك المعظم رجار في سنة ثلاث وأربعين وخمس مائة طيقان الذهب وكانت مما يفتخر به ملوكها واستفتحت المهدية وسلطانها يومئذ الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن بلقين ابن زيرى الصنهاجي وبمدينة زويلة الأسواق الجميلة والمباني الحسنة والشوارع الواسعة والأزقة الفسيحة وأهلها تجار مياسير نبلاء ذوو أذهان ثاقبة وأفهام ذكية وجل لباسهم البياض ولهم همم في أنفسهم وملابسهم وفيهم الجمال ولهم معرفة زائدة في التجارات وطريقتهم حميدة في المعاملات ولهذه المدينة أسوار عالية حصينة جداً تطيف بها من سائر جهاتها ونواحيها البرية والبحرية وجميعها مبني بالحجر وفيها فنادق كثيرة وحمامات جمة ولهذه المدينة من جهة البر خندق كبير تستقر به مياه السماء وبخارجها من جهة غربيها حمى كان قبل دخول العرب أرض إفريقية وإفسادهم لها فيه جنات وبساتين بسائر الثمار العجيبة والفواكه الطيبة ولم يبق الآن منها بهذا الحمى المذكور شيء وعلى مقربة من هذه المدينة قرى كثيرة ومنازل وقصور يسكنها قوم بواد ثم زروع كثيرة ومواش وأغنام وأبقار وإصابات كثيرة في القمح والشعير وبها زيتون كثير يعتصر منه زيت طيب عجيب يعم سائر بلاد إفريقية ويتجهز به إلى سائر بلاد المشرق وبين هاتين المدينتين أعني المهدية وزويلة فضاء كبير يسمى الرملة مقداره أشف من رمية سهم والمهدية قاعدة بلاد إفريقية وقطب مملكتها.
وإذ قد انتهى بنا القول في ذكر بلاد إفريقية فلنرجع الآن إلى ذكر بلاد نفزاوة فنقول إن مدينة سبيطلة كانت مدينة جرجيس ملك الروم الأفارقة وكانت من أحسن البلاد منظراً وأكبرها قطراً وأكثرها مياهاً وأعدلها هواء وأطيبه ثرى وكانت بها بساتين وجنات وافتتحها المسلمون في صدر الإسلام وقتلوا بها ملكها العظيم المسمى جرجيس ومنها إلى مدينة قفصة مرحلة وبعض ومنها أيضاً إلى القيروان سبعون ميلاً.
ومدينة القيروان أم أمصار وقاعدة أقطار وكانت أعظم مدن الغرب قطراً وأكثرها بشراً وأيسرها أموالاً وأوسعها أحوالاً وأتقنها بناء وأنفسها همماً وأربحها تجارة وأكثرها جباية وأنفقها سلعة وأنماها ربحاً وأجهزهم عصياناً وأطغاهم أغماراً والغالب على فضلائهم التمسك بالخير والوفاء بالعهد والتخلي عن الشبهات واجتناب المحارم والتفنن في محاسن العلوم والميل إلى القصد فسلط الله سبحانه عليها العرب وتوالت الجوائح عليها حتى لم يبق منها إلا أطلال دارسة وآثار طامسة وهي الآن في وقتنا هذا على جزء منها سور تراب وولاة أمورها العرب وهم يقبضون ما يتوفر من جباياتها وبها أقوام قليلون تجاراتهم يسيرة ومنافعها نزرة وفيما يذكر أهل النظر أنها عما قريب ستعود إلى ما كانت عليه من العمارة وغير ذلك ومياهها قليلة ومشرب أهلها من ماء الماجل الكبير الذي بها وهذا الماجل من عجيب البناء لأنه مبني على تربيع وفي وسطه بناء قائم كالصومعة وذرع كل وجه منه مائتا ذراع وهو كله مملوء ماء والقيروان كانت مدينتين إحداهما القيروان والثانية صبرة وصبرة كانت دار الملك وكان فيها أيام عمارتها ثلاث مائة حمام وأكثرها للديار وباقيها مبرز للناس كافة وصبرة الآن في وقتنا هذا خراب ليس بها ساكن وعلى ثلاثة أميال منها قصور رقادة الشاهقة الذرى الحسنة البناء الكثيرة البساتين والثمار وبها كانت الأغالب تربع في أيام دولتهما وزمان بهجتها وهي الآن خراب لا ينتظر جبرها ولا يعود خيرها.
ومن مدينة القيروان إلي مدينة تونس مرحلتان وبعض بسير القوافل وهي مدينة حسنة يحيط بها من جميع جهاتها فحوص ومزارع للحنطة والشعير وهي أكبر غلاتها وجل معاملات أهلها مع ثقات العرب وأمرائها وهي الآن في حين تأليفنا لهذا الكتاب معمورة موفورة الخيرات يلجأ إليها القريب والبعيد وعليها سور تراب وثيق ولها أبواب ثلاثة وجميع جناتها ومزارع بقولها في داخل سورها وليس لها خارج السور شيء يعول عليه والعرب تجاور أرضها وتأتي بأنواع الحبوب إليها والعسل والسمن ما يكفي أهلها غدقاً ويعمل بها من الخبز وأنواعه ما لا يمكن عمله في غيرها من البلاد ومدينة تونس في ذاتها قديمة أزلية حصينة اسمها في التواريخ ترشيش ولما افتتحها المسلمون وأحدثوا البناء بها سموها تونس وشرب أهلها من آبار شتى لكن أعظمها قدراً وأحلاها ماءً بئران احتفرتهما بعض سيدات الإسلام ابتغاء الثواب وهما في نهاية من سعة القدر وكثرة الماء وهذه المدينة مصاقبة لقرطاجنة المشهورة بالطيب وكثرة الفواكه وحسن الجهة وجودة الثمار واتساع الغلات ومن غلاتها القطن والقنب والكروياء والعصفر وقرطاجنة في وقتنا هذا خراب لا ساكن بها.
ومدينة تونس في وسط جون خارج عن البحر وهي على بحيرة محتفرة وعرضها أكثر من طولها وذلك أن طولها ستة أميال وعرضها ثمانية أميال ولها فم يتصل بالبحر وهو المسمى فم الوادي وذلك أن هذه البحيرة لم تكن قبل وإنما حفر في البر حفر انتهي به إلى مدينة تونس لأن بين تونس والبحر ستة أميال كما وصفناه قبل وسعة هذا النهر المحفور نحو من أربعين ذراعاً وعمقه من أربع قيم إلى ثلاث وقعره طين وطول هذا الحفر المسمى نهراً أربعة أميال ثم أجروا ماء البحر في ذلك النهر المحفور فعلا على الحفر حتى جاور أعلاه بربع قامة وأقل وأكثر إلى أن بلغ الماء خده فوقف وعند آخر هذا الحفر يتسع فيه الماء ويعمق واسمه وقور وإليه تصل المراكب الحمالة والنواشي والحرابي وترسى هناك واتصل فيض الماء الطافي في هذا النهر المحفور إلى مدينة تونس فهي على نحر البحيرة وأوساق المراكب تنفرغ بوقور في زوارق صغار تعوم في أقاصير المياه إلى مدينة تونس ودخول المراكب من البحر إلى النهر حتى تصل إلى وقور واحداً بعد واحد لأن سعة النهر لا يحتمل أكثر من ذلك ويتصل بعض من هذه البحيرة في جهة المغرب حتى يكون بينها وبين قرطاجنة ميلان ومن فم هذه البحيرة إلى مدينة قرطاجنة ثلاثة أميال ونصف.
وهي الآن خراب وإنما يعمر منها قطيعة مرتفعة تسمى المعلقة يحيط بها سور تراب ويسكنها رؤساء من العرب يعرفون ببني زياد ومدينة قرطاجنة كانت في وقت عمارتها من غرائب البلاد المذكورة بما فيها من عجائب البناء وإظهار القدرة في ذلك وبها الآن بقايا من بنيان الروم المشهور بها مثل الطياطر التي ليس لها نظير في مباني الأرض قدرة واستطاعة وذلك أن هذه الطياطر هي بناء في استدارة وهي نحو من خمسين قوساً قائمة في الهواء سعة كل قوس منها أزيد من ثلاثين شبراً وبين كل قوس وأختها سارية وعظمها وسعة السارية والعضادتين أربعة أشبار ونصف ويقوم على كل قوس من هذه الأقواس خمسة أقواس قوس على قوس صفة واحدة وبناء واحد من الحجر الكذان الذي لا يجانسه شيء في الجودة وعلى أعلى كل قوس من هذه القسي بحر دائر وقد صور في البحر الدائر على القسي السفلى أنواع من الصور وضروب من التماثيل العجيبة الثابتة في الصخر من صفات الناس والصناع والحيوانات والمراكب وكل ذلك قد أتقن بأبدع صنعة وأحدث حبكة وسائر البناء الأعلى أملس لا شيء به ويقال إن هذا البناء كان ملعباً ومجتمعاً في فصل ما ويوم ما من السنة ومن عجائب البناء بقرطاجنة الدواميس التي يبلغ عددها أربعة وعشرين داموساً في سطر واحد طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ست وعشرين خطوة ولكل داموس منها أقباء في أعلاه وبين كل داموس منها وصاحبه أثقاب وزراقات تصل منها المياه من بعض إلى بعض كل ذلك بهندسة وحكمة وكان الماء يجري إلى هذه الدواميس من عين شوقار التي هي بقرب القيروان وطول مسافة جري هذا الماء من العين إلى الدواميس ثلاث مراحل وكان جري الماء من هذه العين إلى هذه الدواميس على عدة قناطر لا يحصى لها عدد وجري الماء بوزنة معتدلة وهذه القناطر قسي مبنية بالصخر فما كان منها في نشز الأرض كان قصيراً وما كان منها في بطن الأرض وأخاديدها كان في نهاية العلو وهذا من أغرب شيء أبصر على وجه الأرض والماء في وقتنا هذا مقطوع عن هذه الدواميس لا يصل إليها منه شيء كل ذلك أوجبه خراب مدينة قرطاجنة ومع ذلك إنها من يوم خرابها إلى الآن يحفر على ما تهدم من قصورها وأصول بنائها فيتخرج منه من أنواع الرخام ما يكل عنه الواصف ولقد أخبر خبير بها أنه رأى ألواحاً استخرجت من الرخام طولها أربعون شبراً في عرض سبعة أشبار فما دونها والحفر في خرابها دائماً لا ينقطع وإخراج الرخام منها لا ينقضي ورخامها يحمل إلى جميع أقطار الأرض ولا سبيل إلى أن يخرج أحد منها في مركب أو غيره إلا ويحمل معه من رخامها الشيء الكثير حتى اشتهر ذلك وقد يوجد بها من أعمدة الرخام ما يكون محيط دور الواحدة منها أربعين شبرا فما دونه.
ويحيط بمدينة قرطاجنة أوطية من الأرض وسهول ولها مزارع وضروب غلات ومنافع جمة ويتصل بأرض قرطاجنة من جهة المغرب إقليم مدينة سطفورة وهو إقليم جليل به ثلاث مدائن فأقربها إلى تونس اشلونة وتينجة وبنزرت وهي مدينة على البحر حصينة أصغر من مدينة سوسة في ذاتها وبين تونس وبزرت يوم كبير في البر ومدينة بنزرت صغيرة عامرة بأهلها وبها مرافق وأسواق قائمة بذاتها وبالجهة الشرقية منها بحيرتها المعروفة بها والمنسوبة إليها وطولها ستة عشر ميلاً وعرضها ثمانية أميال وفمها متصل بالبحر وكلما أخذت في البرية اتسعت وما قربت من البحر ضاقت وانخرطت.
وهذه البحيرة من أعاجيب الدنيا وذلك أن بها اثني عشر نوعاً من السمك يوجد منها في كل شهر نوع واحد لا يمتزج بغيره من أصناف السمك فإذا تم الشهر لم يوجد شيء من ذلك النوع في الشهر الآتي ثم يوجد في الشهر الآتي صنف من السمك آخر غير الصنف الأول لا يمتزج بغيره هكذا لكل شهر نوع من السمك لا يمتزج بسمك غيره إلى كمال السنة هكذا في كل عام وهذه الاثنا عشر نوع من الحوت التي ذكرناها هي البوري والقاجوج والمحل والطلنط والاشبلينيات والشلبة والقاروض واللاج والجوجة والكحلاء والطنفلو والقلا.
ويتصل بهذه البحيرة من جهة الجنوب مع انحراف إلى الغرب بحيرة ثانية تسمى بحيرة تينجة وطولها أربعة أميال في عرض مثلها وبينهما فم تتصل منه مياه بعضها ببعض وفي أمر هاتين البحيرتين عجيب وذلك أن ماء بحيرة تينجة عذب وماء بحيرة بزرت ملح وكل واحدة من هاتين البحيرتين تصب في أختها ستة أشهر ثم ينعكس جريهما فتمسك الجارية عن الجري وتصب البحيرة الثانية إلى هذه الأولى ستة أشهر أخرى فلا بحيرة تينجة يتملح ماؤها ولا يعذب ماء بحيرة بنزرت وهذا أيضاً عجب آخر من عجائب هذا الصقع والسمك ببنزرت وبتونس أيضاً كثير رخيص جداً.
ومن بنزرت إلى مدينة طبرقة سبعون ميلاً وطبرقة حصن على البحر قليل العمارة وحوله عرب لا خلاق لهم ولا يحفظون في أحد من الناس إلا ولا ذمة وبها مرسى للمراكب ومراكب الأندلس تصفي إليها وتأخذها في قطعها روسية.
وعلى بعض الطريق من طبرقة إلى تونس مدينة باجة وهي مدينة حسنة في وطاء من الأرض كثيرة القمح والشعير ولها من غلات ذلك ما ليس بالمغرب مثله كثرة وجودة في المواضع المضاهية لباجة وهي صحيحة الهواء كثيرة الرخاء واسعة الدخل على وإليها والعرب مالكة لخراج قطرها ومتصل أرضها وبها عين في وسطها ينزل إليها بأدراج ومنها شرب أهلها وليس لها في خارجها عود نابت إلا فحوص ومزارع وبين باجة وطبرقة مرحلة وبعض ويقابل باجة في جهة الشمال وعلى نحر البحر الملح مدينة مرسى الخرز وبينهما مرحلة كبيرة.
وهي مدينة صغيرة عليها سور حصين ولها قصبة وحولها عرب كثير وعمارة أهلها لها على صيد المرجان والمرجان يوجد بها كثيراً وهو أجل جميع المرجان الموجود بسائر الأقطار مثل ما يوجد منه بمدينة سبتة وصقلية وسنذكر سبتة التي على مجاز البحر المسمى بالزقاق المتصل ببحر الظلمات ويقصد التجار من سائر البلاد إلى هذه المدينة فيخرجون منه الكثير إلى جميع الجهات.
ومعدن هذا المرجان في هذه المدينة مخدوم في كل سنة ويعمل به في كل الأوقات الخمسون قارباً والزائد والناقص وفي كل قارب العشرون رجلاً وما زاد ونقص والمرجان ينبت كالشجر ثم يتحجر في نفس البحر بين جبلين عظيمين ويصاد بآلات ذوات ذوائب كثيرة تصنع من القنب تدار هذه الآلة في أعلى المراكب فتلتف الخيوط على ما قاربها من نبات المرجان فيجذبه الرجال إلى أنفسهم ويستخرجون منه الشيء الكثير مما يباع بالأموال الطائلة وعمدة أهلها على ذلك وشرب أهلها من الآبار وهي قليلة الزرع وإنما يجلب إليها قوتها من بوادي العرب المجاورة لها وكذلك الفواكه ربما جلبت إليها من بونة وغيرها.
وبين مدينة مرسى الخرز ومدينة بونة مرحلة خفيفة وفي البحر أربعة وعشرون ميلاً روسية.
ومدينة بونة وسطة ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة ومقدارها في رقعتها كالاربس وهي على نحر البحر وكانت لها أسواق حسنة وتجارة مقصودة وأرباح موجودة وكان فيها كثير من الخشب موجود جيد الصفة ولها بساتين قليلة وشجر وبها من أنواع الفواكه ما يعم أهلها وأكثر فواكهها من باديتها والقمح بها والشعير في أوقات الإصابات كما وصفنا كثير جداً وبها معادن حديد جيد ويزرع بأرضها الكتان والعسل بها موجود ممكن وكذلك السمن وأكثر سوائمهم البقر ولها أقاليم وأرض واسعة تغلبت العرب عليها وافتتحت بونة على يدي أحد رجال الملك المعظم رجار في سنة ثمان وأربعين وخمس مائة وهي الآن في ضعف وقلة عمارة وبها عامل من قبل الملك المعظم رجار من آل حماد وعلى مدينة بونة وبجنبيها جبل يدوغ وهو عالي الذروة سامي القمة وبه معادن الحديد التي ذكرناها آنفاً.
ومن مدينة باجة المتقدم ذكرها إلى مدينة الاربس مرحلتان ومن الاربس إلى مدينة القيروان ثلاث مراحل وكذلك بين باجة والبحر مرحلتان خفيفتان.
ومدينة الاربس مدينة في وطاء من الأرض عليها سور تراب جيد وفي وسطها أعين ماء جارية لا تجف وشرب أهلها الآن من ماء تلك العيون واسم العين الواحدة منها عين رباح والأخرى عين زياد وماء عين زياد أطيب من ماء عين رباح وماؤها صحيح ولها معدن حديد وليس حولها من خارج شجرة نابتة البتة وهي على مزارع الحنطة والشعير ويدخر بها منهما الشيء الكثير ومنها على اثني عشر ميلاً مدينة ابة وهي بغربي الاربس وبها من الزعفران ما يضاهي الزعفران الأندلسي في الكثرة والجودة وأرضهما واحدة مختلطة وفي وسط مدينة ابة عين ماء جارية منها شرب أهلها وهي غدقة ماؤها غزير وكان على ابة فيما سلف من الزمان سور مبني من الطين وأسعارها رخيصة وأكثرها الآن خراب.
ومن مدينة الاربس إلى مدينة صغيرة تسمى تامديت مرحلتان وعليها سور تراب وشرب أهلها من عيون بها وغلات أهلها من الحنطة والشعير المقدار الكثير.
وبين الاربس وتامديت مدينة صغيرة تسمى مرماجنة وهي لأهلها وللعرب عليها ضريبة ويصيبون من القمح والشعير ما يعم بالكفاف وزيادة.
ومن تينجس إلى بونة الساحلية ثلاث مراحل ومن تينجس إلى مدينة المسيلة خمس مراحل وكذلك من مدينة الاربس إلى القيروان ثلاث مراحل ومن مدينة الاربس إلى تونس مرحلتان ومن تينجس إلى قسنطينة يومان وبين الاربس ومدينة بجاية اثنتا عشرة مرحلة ومن مرماجنة إلى مدينة مجانة مرحلتان خفيفتان بل هي مرحلة كبيرة.
وهي مدينة صغيرة عليها سور تراب وكان بها قديماً يزدرع بصل الزعفران كثيراً ولهم واد غزير الماء يأتي من جبل بمقربة منها يزرعون عليه غلاتهم وهو جبل شاهق ومنه تقطع أحجار المطاحن التي إليها الانتهاء في الجودة وحسن الطحين حتى أن الحجر منها ربما مر عليه عمر الإنسان فلا يحتاج إلى نقش ولا إلى صنعة هذا لصلابته ودقة أجزائه وأرض مجانة تغلبت العرب عليها وبها تخزن طعامها وبينها وبين القسنطينة ثلاث مراحل ومنها إلى بجاية الناصرية ست مراحل.
وبين تونس والحمامات مرحلة كبيرة وهذه المرحلة هي عرض الجزيرة المسماة بجزيرة باشو وهي أرض مباركة وطيبة ذات شجر زيتون وعمارات متصلات وبركات وخيرات وغلات ومياه ليست بكثيرة الجري على وجه الأرض لكنها ممكنة مياه الآبار وفيها بالجملة خصب زائد وهذه الجزيرة إقليم لها مدينة باشو ولم يبق الآن منها إلا مكانها وفيه قصر معمور ومنها قصر على البحر يسمى نابل وكان بالقرب من هذا القصر في أيام الروم مدينة عامرة فخربت وبقي الآن مكانها وهو قصر صغير معمور وكذلك قصر توسيهان بالقرب منها أثر مدينة كانت عامرة في أيام الروم فخربت وبقي مكانها.
وبين تونس ومدينة القيروان جبل زغوان وهو جبل عال جداً تقصد إليه المراكب من ظهر البحر لعلوه وارتقائه في الجو وهو أكثر الجبال ماء وفيه خصب ومزارع وعمارة ويعمر منه في أماكن قوم عباد مسلمون متفردون وكذلك جبل واسلات وطوله يومان ومنه إلى تونس يومان وبينه وبين القيروان خمسة عشر ميلاً وفيه عمارات كثيرة ومياه جارية وفيه من الحصون حصن الجوزات وحصن تيفاف وحصن القيطنة ودار إسماعيل ودار الدواب وكل هذه البلاد يعمرها قبائل من البربر وهم أهل هذه الناحية وهم في خصب ولهم مواش أبقار وأغنام وبغال ورماك والعرب متغلبون على سهول هذه الأرض كلها.
ولنذكر الآن الطرقات المسلوكة بين هذه البلاد فمن ذلك الطريق من القيروان إلى تاهرت.
فمن القيروان إلى الجهنيين وهي قرية مرحلة.
إلى مدينة سبيبة مرحلة وهي مدينة أزلية كثيرة المياه والجنات وعليها سور من حجارة حصين ولها ربض فيه الأسواق والخانات وشربهم من عين جارية كبيرة عليها جناتهم وبساتينهم وغلاتهم من الكمون والكروياء والبقول.
ومنها إلى مرماجنة وهي قرية لهوارة مرحلة.
ومنها إلى مدينة مجانة التي قدمنا ذكرها مرحلة.
ثم إلى مسكيانة مرحلة وهي قرية عامرة قديمة وبها زروع ومكاسب وعيون ولها سوق ممتدة كالسماط وهي أكبر من مرماجنة.
ومنها إلى باغاي وهي مدينة عامرة وقد قدمنا ذكرها فيما سلف من هذا الجزء والطريق يتمادى من مدينة باغاي إلى المسيلة كما قدمناه فيما سلف.
وطريق ثان ياخذ من القيروان إلى المسيلة على غير الطريق الذي قدمنا ذكره وهو يخرج من القيروان إلى جلولة مرحلة خفيفة وهي مدينة صغيرة عليها سور وبها عين ماء جارية عليها بساتين كثيرة ونخل كثير.
ومنها إلى احرى مرحلة وهي قرية حسنة ماؤها من الآبار وفيها زروع وحنطة وشعير كثير.
ومنها إلى قرية طامجنة مرحلة ولها فحص كبير وحنطتها وشعيرها ممكن كثير رخيص جداً.
ومنها إلى مدينة الاربس مرحلة.
ومن الاربس إلى تيفاش مرحلة وهي أيضاً مدينة أزلية قديمة عليها سور قديم بالحجر والجيار وبها عين ماء جارية ولها بساتين ورياضات وأكثر غلاتها الشعير.
ومن تيفاش إلى قصر الإفريقي مرحلة ولا سور لها وبها مزارع وإصابات جمة في الحنطة والشعير.
ومنها إلى قرية ازكو مرحلة ولها جنات وعيون ومياه وبساتين وغلات قمح وشعير وخير واسع.
ومنها إلى قرية البردوان مرحلة وكانت قرية كبيرة وهي من أقاليم القمح والشعير.
ومنها إلى قرية النهرين مرحلة وهي في وطاء من الأرض وفيها آبار ماء عذبة وكان لها سوق والغالب عليها البربر من كتامة ومزاتة.
ومنها إلى قرية تامسيت كتامة مرحلة وبها أشجار وعمارات.
ومنها إلى دكمة مرحلة وهي قرية لها سوق وأهلها من كتامة.
ومنها إلى اوسحنت مرحلة وهي قرية للبربر وبها مياه جارية ومزارع حنطة وشعير.
ومنها إلى المسيلة أقل من مرحلة.
ومن مدينة المسيلة إلى وارقلان اثنتا عشرة مرحلة كبار وهي مدينة فيها قبائل مياسير وتجار أغنياء يتجولون في بلاد السودان إلى بلاد غانة وبلاد ونقارة فيخرجون منها التبر ويضربونه في بلادهم باسم بلدهم وهم وهبية إباضية نكار خوارج في دين الإسلام.
فأما مدينة باغاي فمدينة كبيرة عليها سوران من حجر وربض عليه سور وكانت الأسواق فيه وأما الآن فالأسواق في المدينة والأرباض خالية بإفساد العرب لها وهي أول بلاد التمر ولها واد يجري إليها من جهة القبلة وشربهم منه ولهم أيضاً شرب من آبار عذبة وكانت لها بواد وقرى وعمارات والآن كل ذلك قليل فيها وحولها عمارات برابر يعاملون العرب وأكثر غلاتهم الحنطة والشعير وقبض معاوينها وتصرف أحوالها لأشياخها.
ويتصل بها وعلى أميال منها جبل اوراس وطوله نحو من اثني عشر يوماً وأهله مسلطون على من جاورهم.
ومن مدينة باغاي إلى قسنطينة ثلاث مراحل ومن باغاي إلى طبنة الزاب أربع مراحل ومن باغاي إلى مدينة قسطيلية أربع مراحل.
وهي تسمى توزر ولها سور حصين وبها نخل كثير جداً وتمرها كثير يعم بلاد إفريقية وبها الأترج الكبير الحسن الطيب وأكثر الفواكه التي بها في حال معتدلة وبقولها كثيرة موجودة متناهية في الكثرة والجودة وماؤها غير طيب ولا مرو وسعر الطعام بها في أكثر الأوقات غال لأنه يجلب إليها وزروع الحنطة والشعير بها قليل يسير.
ويتصل بها جنوب منها وشرق مدينة الحمة وبينهما مرحلة صغيرة وماء الحمة ليس بطيب لكنه شروب قنع به أهلها وبها نخل كثير وتمر غزير.
ومنها إلى تقيوس نحو من عشرين ميلاً وهي مدينة حسنة تقع بينها وبين قفصة وهي مدينة عامرة لها غلات الحناء والكمون والكروياء وبها نخل وتمر حسن وجملة بقول طيبة ناعمة ومن تقيوس إلى مدينة قفصة مرحلة.
ومدينة قفصة مدينة حسنة ذات سور ونهر جار ماؤه أطيب من ماء قسطيلية ولها في وسطها العين المسماة بالطرميذ ولها أسواق عامرة ومتاجر كثيرة وصناعات قائمة ويطيف بها نخل كثير يشتمل على ضروب من أنواع التمر العجيب ولها جمل جنات وبساتين وقصور قائمة معمورة يزرع بها ضروب من غلات الحناء والقطن وأهلها متبربرون وأكثرهم يتكلم باللسان اللطيني الإفريقي.
ومن مدينة قفصة إلى جهة الغرب ومع الجنوب يتصل بها هناك مدينة قاصرة وهي مدينة مذكورة ومدينة نقاوس ومدينة جمونس في الشرق منها وهذه البلاد كلها تتقارب في حالاتها وتتدانى في صفاتها ونخيلها ومياهها وغلاتها والحنطة بها أبداً قليلة لأنها في الأغلب تجلب إليها.
ومدينة قفصة مركز والبلاد بها دائرة فمن قفصة إلى مدينة القيروان شمالاً مع شرق أربع مراحل وعلى جهة المغرب مع الجنوب مدينة بيلقان على خمس مراحل وهي الآن خراب أفسدتها العرب واستولت على منافعها وعلى جميع أرضها ومياهها كثيرة ومنها إلى قفصة أربع مراحل ومن قفصة في جهة الجنوب إلى ناحية جبل نفوسة مدينة زرود وبينهما خمس مراحل ومن مدينة قفصة إلى مدينة نفطة مرحلتان صغيرتان وهي مدينة متحضرة عامرة بأهلها لها أسواق وتجارات ونخل وغلات ومياه جارية ومن قفصة إلى نفزاوة جنوباً يومان وبعض يوم ومن توزر إلى نفزاوة يوم ونصف يوم كبير.
ومن مدينة قفصة إلى جبل نفوسة في جهة الجنوب نحو من ستة أيام وهو جبل عال يكون نحواً عن ثلاثة أيام طولاً أو أقل من ذلك وفيه منبران لمدينتين تسمى إحداهما شروس في الجبل ولها مياه جارية وكروم وأعناب طيبة وتين وأكثر زروعهم الشعير الطيب المتناهي طيباً مما إذا خبز كان أطيب من سائر الطعام في سائر الأقاليم ولأهله في صنعة الخبز حذق وتمهر فاقوا في ذلك كل الناس ومن مدينة قفصة إلى مدينة سفاقس ثلاثة أيام.
وفيما بين جبل نفوسة ومدينة نفزاوة مدينة لوحقة ويتصل بها غرباً مدينة بسكرة وبادس.
وكل هذه البلاد تتقارب في مقاديرها وصفاتها وفي متاجرها وأسواقها.
ومن جبل نفوسة إلى وارقلان اثنتا عشرة مرحلة ومن نفطة إلى مدينة قابس ثلاث مراحل وبعض من مرحلة.
وقابس مدينة جليلة عامرة حفت بها من نواحيها غابات جنات ملتفة وحدائق مصطفة وفواكه عامة رخيصة وبها من التمر والزروع والضياع ما ليس بغيرها من البلاد وفيها زيتون وزيت وغلات وعليها سور منيع يحيط به من خارجه خندق ولها أسواق وعمارات وتجارات وبضاعات وكان بها فيما سلف طرز يعمل بها الحرير الحسن وبها الآن مدابغ للجلود ويتجهز بها منها ولها واد يأتيها من غدير كبير وعلى هذا الغدير قصر سجة وبينه وبين قابس ثلاثة أميال وهي مدينة صغيرة متحضرة وبها من ناحية البحر أيضاً سوق وباعة وحريريون كثيرون وشربهم من وادي قابس وماء مدينة قابس غير طيب لكنه شروب وأهلها يستسيغونه ومدينة قابس بينها وبين البحر ستة أميال من جهة الشمال وتصل بآخر غابة أشجارها إلى البحر رملة متصلة مقدار ميل وهذه الغابة أشجار وجنات وكروم وزيتون كثير يستعمل منه زيت كثير يتجهز به إلى سائر النواحي وبها أيضاً نخل ملتف به من الرطب الذي لا يعدله شيء في نهاية الطيب وذلك أن أهل قابس يجنونها طرية ثم يودعونها في دنانات فإذا كان بعد مدة من ذلك خرجت لها عسلية تعلو وجهها بكثير ولا يقدر على التناول منها إلا بعد زوال العسل عنها من أعلاها وليس في جميع البلاد المشهورة بالتمر شيء من التمر يشبهه ولا يحاكيه ولا يطابقه في علوكته وطيب مذاقته.
ومرساها في البحر ليس بشيء لأنه لا يستر من ريح وإنما ترسى القوارب بواديها وهو نهر صغير يدخله المد والجزر وترسى به المراكب الصغار وليس بكثير السعة وإنما يطلع المد للإرساء نحواً من رمية سهم وفي أهلها قلة دماثة ولهم زي ونظافة وفي باديتها عتو وفساد وقطع سبل.
ومن مدينة قابس إلى مدينة سفاقس نازلاً مع الجون سبعون ميلاً ومدينة سفاقس بينها وبين قفصة بين جنوب وغرب ثلاثة أيام.
ومدينة سفاقس مدينة قديمة عامرة لها أسواق كثيرة وعمارة شاملة وعليها سور من حجارة وأبواب عليها صفائح من حديد منيعة وعلى أسوارها محارس نفيسة للرباط وأسواقها متحركة وشرب أهلها من المواجل ويجلب إليها من مدينة قابس نفيس الفواكه وعجيب أنواعها ما يكفيها ويربى كثرة ورخص قيمة ويصاد بها من السمك ما يعظم خطره ويكثر قدره وأكثر صيدهم بالزروب المنصوبة لهم من الماء الميت بضروب حيل وجل غلاتها الزيتون والزيت وبها منه ما ليس يوجد بغيرها مثله وبها مرسى من ميت الماء وبالجملة إنها من عز البلاد وأهلها لهم نخوة وفي أنفسهم عزة وافتتحها الملك المعظم رجار في عام ثلاثة وأربعين وخمس مائة من سني الهجرة وهي الآن معمورة وليست مثل ما كانت عليه من العمارة والأسواق والمتاجر في الزمن القديم. ومن سفاقس إلى مدينة المهدية مرحلتان ولها عامل من قبل الملك المعظم رجار والمهدية مدينة لم تزل ذات إقلاع وحط للسفن الحجازية القاصدة إليها من بلاد المشرق والمغرب والأندلس وبلاد الروم وغيرها من البلاد وإليها تجلب البضائع الكثيرة بقناطير الأموال على مر الأيام وقد قل ذلك في وقتنا هذا ومدينة المهدية كانت مرسى وفرضة للقيروان واستحدثها المهدي عبيد الله وسماها بهذا الاسم وهي في نحر البحر ترحل من سفاقس إلى رقادة القيروان ثم ترحل إليها من مدينة رقادة ومدينة المغدية من مدينة القيروان على مرحلتين وكانت فيما سلف المسافر إليها كثير والبضائع إليها مجلوبة من سائر البلاد والأقطار والأمتعة والمتاجر بها نافقة وفيها بائعة والهمم على أهلها موقوفة وإليهم راجعة ولها حسن مبان لطيفة نظيفة المنازل والمتبوات وديارها حسنة وحماماتها جليلة وبها خانات بهيرة وهي في ذاتها حسنة الداخل والخارج بهية المنظر وأهلها حسان الوجوه نظاف الثياب ويعمل بها من الثياب الحسنة الدقيقة الجيدة المنسوبة إليها ما يحمل ويتجهز به التجار إلى جميع الآفاق في كل وقت وحين ما ليس يقدر على عمل مثله في غيرها من البلاد والأمصار لجودته وحسنه وشرب أهلها من المواجل وآبارها غير عذبة ويحيط بالمهدية سور حسن مبني من الحجارة وعليها بابان من حديد لفق بعضه على بعض من غير خشب وليس يدرى في معمور الأرض مثلهما صنعة ووثاقة وهما من عجائبها الموصوفة وليس لها جنات ولا بساتين نخل وإنما يجلب إليها شيء من الفواكه من قصور المنستير وبينهما في البحر ثلاثون ميلاً والمنستير قصور ثلاثة يسكنها قوم متعبدون والأعراب لا تضرهم في شيء من ضجرهم ولا من عماراتهم وبهذا المكان أعني المنستير يدفن أهل المهدية موتاهم يحملونهم في الزوارق إليها فيدفنونهم بها ثم يعودون إلى بلدهم وليس بالمهدية جبانة تعرف في وقتنا هذا والمهدية في حين تأليفنا هذا الكتاب مدينتان إحداهما مدينة المهدية والثانية مدينة زويلة ومدينة المهدية يسكنها السلطان وجنوده وبها قصره الحسن البناء العجيب الاتقان والارتقاء وكان بها قبل أن يفتحها الملك المعظم رجار في سنة ثلاث وأربعين وخمس مائة طيقان الذهب وكانت مما يفتخر به ملوكها واستفتحت المهدية وسلطانها يومئذ الحسن بن علي بن يحيى بن تميم بن المعز بن باديس بن المنصور بن بلقين ابن زيرى الصنهاجي وبمدينة زويلة الأسواق الجميلة والمباني الحسنة والشوارع الواسعة والأزقة الفسيحة وأهلها تجار مياسير نبلاء ذوو أذهان ثاقبة وأفهام ذكية وجل لباسهم البياض ولهم همم في أنفسهم وملابسهم وفيهم الجمال ولهم معرفة زائدة في التجارات وطريقتهم حميدة في المعاملات ولهذه المدينة أسوار عالية حصينة جداً تطيف بها من سائر جهاتها ونواحيها البرية والبحرية وجميعها مبني بالحجر وفيها فنادق كثيرة وحمامات جمة ولهذه المدينة من جهة البر خندق كبير تستقر به مياه السماء وبخارجها من جهة غربيها حمى كان قبل دخول العرب أرض إفريقية وإفسادهم لها فيه جنات وبساتين بسائر الثمار العجيبة والفواكه الطيبة ولم يبق الآن منها بهذا الحمى المذكور شيء وعلى مقربة من هذه المدينة قرى كثيرة ومنازل وقصور يسكنها قوم بواد ثم زروع كثيرة ومواش وأغنام وأبقار وإصابات كثيرة في القمح والشعير وبها زيتون كثير يعتصر منه زيت طيب عجيب يعم سائر بلاد إفريقية ويتجهز به إلى سائر بلاد المشرق وبين هاتين المدينتين أعني المهدية وزويلة فضاء كبير يسمى الرملة مقداره أشف من رمية سهم والمهدية قاعدة بلاد إفريقية وقطب مملكتها.
وإذ قد انتهى بنا القول في ذكر بلاد إفريقية فلنرجع الآن إلى ذكر بلاد نفزاوة فنقول إن مدينة سبيطلة كانت مدينة جرجيس ملك الروم الأفارقة وكانت من أحسن البلاد منظراً وأكبرها قطراً وأكثرها مياهاً وأعدلها هواء وأطيبه ثرى وكانت بها بساتين وجنات وافتتحها المسلمون في صدر الإسلام وقتلوا بها ملكها العظيم المسمى جرجيس ومنها إلى مدينة قفصة مرحلة وبعض ومنها أيضاً إلى القيروان سبعون ميلاً.
ومدينة القيروان أم أمصار وقاعدة أقطار وكانت أعظم مدن الغرب قطراً وأكثرها بشراً وأيسرها أموالاً وأوسعها أحوالاً وأتقنها بناء وأنفسها همماً وأربحها تجارة وأكثرها جباية وأنفقها سلعة وأنماها ربحاً وأجهزهم عصياناً وأطغاهم أغماراً والغالب على فضلائهم التمسك بالخير والوفاء بالعهد والتخلي عن الشبهات واجتناب المحارم والتفنن في محاسن العلوم والميل إلى القصد فسلط الله سبحانه عليها العرب وتوالت الجوائح عليها حتى لم يبق منها إلا أطلال دارسة وآثار طامسة وهي الآن في وقتنا هذا على جزء منها سور تراب وولاة أمورها العرب وهم يقبضون ما يتوفر من جباياتها وبها أقوام قليلون تجاراتهم يسيرة ومنافعها نزرة وفيما يذكر أهل النظر أنها عما قريب ستعود إلى ما كانت عليه من العمارة وغير ذلك ومياهها قليلة ومشرب أهلها من ماء الماجل الكبير الذي بها وهذا الماجل من عجيب البناء لأنه مبني على تربيع وفي وسطه بناء قائم كالصومعة وذرع كل وجه منه مائتا ذراع وهو كله مملوء ماء والقيروان كانت مدينتين إحداهما القيروان والثانية صبرة وصبرة كانت دار الملك وكان فيها أيام عمارتها ثلاث مائة حمام وأكثرها للديار وباقيها مبرز للناس كافة وصبرة الآن في وقتنا هذا خراب ليس بها ساكن وعلى ثلاثة أميال منها قصور رقادة الشاهقة الذرى الحسنة البناء الكثيرة البساتين والثمار وبها كانت الأغالب تربع في أيام دولتهما وزمان بهجتها وهي الآن خراب لا ينتظر جبرها ولا يعود خيرها.
ومن مدينة القيروان إلي مدينة تونس مرحلتان وبعض بسير القوافل وهي مدينة حسنة يحيط بها من جميع جهاتها فحوص ومزارع للحنطة والشعير وهي أكبر غلاتها وجل معاملات أهلها مع ثقات العرب وأمرائها وهي الآن في حين تأليفنا لهذا الكتاب معمورة موفورة الخيرات يلجأ إليها القريب والبعيد وعليها سور تراب وثيق ولها أبواب ثلاثة وجميع جناتها ومزارع بقولها في داخل سورها وليس لها خارج السور شيء يعول عليه والعرب تجاور أرضها وتأتي بأنواع الحبوب إليها والعسل والسمن ما يكفي أهلها غدقاً ويعمل بها من الخبز وأنواعه ما لا يمكن عمله في غيرها من البلاد ومدينة تونس في ذاتها قديمة أزلية حصينة اسمها في التواريخ ترشيش ولما افتتحها المسلمون وأحدثوا البناء بها سموها تونس وشرب أهلها من آبار شتى لكن أعظمها قدراً وأحلاها ماءً بئران احتفرتهما بعض سيدات الإسلام ابتغاء الثواب وهما في نهاية من سعة القدر وكثرة الماء وهذه المدينة مصاقبة لقرطاجنة المشهورة بالطيب وكثرة الفواكه وحسن الجهة وجودة الثمار واتساع الغلات ومن غلاتها القطن والقنب والكروياء والعصفر وقرطاجنة في وقتنا هذا خراب لا ساكن بها.
ومدينة تونس في وسط جون خارج عن البحر وهي على بحيرة محتفرة وعرضها أكثر من طولها وذلك أن طولها ستة أميال وعرضها ثمانية أميال ولها فم يتصل بالبحر وهو المسمى فم الوادي وذلك أن هذه البحيرة لم تكن قبل وإنما حفر في البر حفر انتهي به إلى مدينة تونس لأن بين تونس والبحر ستة أميال كما وصفناه قبل وسعة هذا النهر المحفور نحو من أربعين ذراعاً وعمقه من أربع قيم إلى ثلاث وقعره طين وطول هذا الحفر المسمى نهراً أربعة أميال ثم أجروا ماء البحر في ذلك النهر المحفور فعلا على الحفر حتى جاور أعلاه بربع قامة وأقل وأكثر إلى أن بلغ الماء خده فوقف وعند آخر هذا الحفر يتسع فيه الماء ويعمق واسمه وقور وإليه تصل المراكب الحمالة والنواشي والحرابي وترسى هناك واتصل فيض الماء الطافي في هذا النهر المحفور إلى مدينة تونس فهي على نحر البحيرة وأوساق المراكب تنفرغ بوقور في زوارق صغار تعوم في أقاصير المياه إلى مدينة تونس ودخول المراكب من البحر إلى النهر حتى تصل إلى وقور واحداً بعد واحد لأن سعة النهر لا يحتمل أكثر من ذلك ويتصل بعض من هذه البحيرة في جهة المغرب حتى يكون بينها وبين قرطاجنة ميلان ومن فم هذه البحيرة إلى مدينة قرطاجنة ثلاثة أميال ونصف.
وهي الآن خراب وإنما يعمر منها قطيعة مرتفعة تسمى المعلقة يحيط بها سور تراب ويسكنها رؤساء من العرب يعرفون ببني زياد ومدينة قرطاجنة كانت في وقت عمارتها من غرائب البلاد المذكورة بما فيها من عجائب البناء وإظهار القدرة في ذلك وبها الآن بقايا من بنيان الروم المشهور بها مثل الطياطر التي ليس لها نظير في مباني الأرض قدرة واستطاعة وذلك أن هذه الطياطر هي بناء في استدارة وهي نحو من خمسين قوساً قائمة في الهواء سعة كل قوس منها أزيد من ثلاثين شبراً وبين كل قوس وأختها سارية وعظمها وسعة السارية والعضادتين أربعة أشبار ونصف ويقوم على كل قوس من هذه الأقواس خمسة أقواس قوس على قوس صفة واحدة وبناء واحد من الحجر الكذان الذي لا يجانسه شيء في الجودة وعلى أعلى كل قوس من هذه القسي بحر دائر وقد صور في البحر الدائر على القسي السفلى أنواع من الصور وضروب من التماثيل العجيبة الثابتة في الصخر من صفات الناس والصناع والحيوانات والمراكب وكل ذلك قد أتقن بأبدع صنعة وأحدث حبكة وسائر البناء الأعلى أملس لا شيء به ويقال إن هذا البناء كان ملعباً ومجتمعاً في فصل ما ويوم ما من السنة ومن عجائب البناء بقرطاجنة الدواميس التي يبلغ عددها أربعة وعشرين داموساً في سطر واحد طول كل داموس مائة وثلاثون خطوة في عرض ست وعشرين خطوة ولكل داموس منها أقباء في أعلاه وبين كل داموس منها وصاحبه أثقاب وزراقات تصل منها المياه من بعض إلى بعض كل ذلك بهندسة وحكمة وكان الماء يجري إلى هذه الدواميس من عين شوقار التي هي بقرب القيروان وطول مسافة جري هذا الماء من العين إلى الدواميس ثلاث مراحل وكان جري الماء من هذه العين إلى هذه الدواميس على عدة قناطر لا يحصى لها عدد وجري الماء بوزنة معتدلة وهذه القناطر قسي مبنية بالصخر فما كان منها في نشز الأرض كان قصيراً وما كان منها في بطن الأرض وأخاديدها كان في نهاية العلو وهذا من أغرب شيء أبصر على وجه الأرض والماء في وقتنا هذا مقطوع عن هذه الدواميس لا يصل إليها منه شيء كل ذلك أوجبه خراب مدينة قرطاجنة ومع ذلك إنها من يوم خرابها إلى الآن يحفر على ما تهدم من قصورها وأصول بنائها فيتخرج منه من أنواع الرخام ما يكل عنه الواصف ولقد أخبر خبير بها أنه رأى ألواحاً استخرجت من الرخام طولها أربعون شبراً في عرض سبعة أشبار فما دونها والحفر في خرابها دائماً لا ينقطع وإخراج الرخام منها لا ينقضي ورخامها يحمل إلى جميع أقطار الأرض ولا سبيل إلى أن يخرج أحد منها في مركب أو غيره إلا ويحمل معه من رخامها الشيء الكثير حتى اشتهر ذلك وقد يوجد بها من أعمدة الرخام ما يكون محيط دور الواحدة منها أربعين شبرا فما دونه.
ويحيط بمدينة قرطاجنة أوطية من الأرض وسهول ولها مزارع وضروب غلات ومنافع جمة ويتصل بأرض قرطاجنة من جهة المغرب إقليم مدينة سطفورة وهو إقليم جليل به ثلاث مدائن فأقربها إلى تونس اشلونة وتينجة وبنزرت وهي مدينة على البحر حصينة أصغر من مدينة سوسة في ذاتها وبين تونس وبزرت يوم كبير في البر ومدينة بنزرت صغيرة عامرة بأهلها وبها مرافق وأسواق قائمة بذاتها وبالجهة الشرقية منها بحيرتها المعروفة بها والمنسوبة إليها وطولها ستة عشر ميلاً وعرضها ثمانية أميال وفمها متصل بالبحر وكلما أخذت في البرية اتسعت وما قربت من البحر ضاقت وانخرطت.
وهذه البحيرة من أعاجيب الدنيا وذلك أن بها اثني عشر نوعاً من السمك يوجد منها في كل شهر نوع واحد لا يمتزج بغيره من أصناف السمك فإذا تم الشهر لم يوجد شيء من ذلك النوع في الشهر الآتي ثم يوجد في الشهر الآتي صنف من السمك آخر غير الصنف الأول لا يمتزج بغيره هكذا لكل شهر نوع من السمك لا يمتزج بسمك غيره إلى كمال السنة هكذا في كل عام وهذه الاثنا عشر نوع من الحوت التي ذكرناها هي البوري والقاجوج والمحل والطلنط والاشبلينيات والشلبة والقاروض واللاج والجوجة والكحلاء والطنفلو والقلا.
ويتصل بهذه البحيرة من جهة الجنوب مع انحراف إلى الغرب بحيرة ثانية تسمى بحيرة تينجة وطولها أربعة أميال في عرض مثلها وبينهما فم تتصل منه مياه بعضها ببعض وفي أمر هاتين البحيرتين عجيب وذلك أن ماء بحيرة تينجة عذب وماء بحيرة بزرت ملح وكل واحدة من هاتين البحيرتين تصب في أختها ستة أشهر ثم ينعكس جريهما فتمسك الجارية عن الجري وتصب البحيرة الثانية إلى هذه الأولى ستة أشهر أخرى فلا بحيرة تينجة يتملح ماؤها ولا يعذب ماء بحيرة بنزرت وهذا أيضاً عجب آخر من عجائب هذا الصقع والسمك ببنزرت وبتونس أيضاً كثير رخيص جداً.
ومن بنزرت إلى مدينة طبرقة سبعون ميلاً وطبرقة حصن على البحر قليل العمارة وحوله عرب لا خلاق لهم ولا يحفظون في أحد من الناس إلا ولا ذمة وبها مرسى للمراكب ومراكب الأندلس تصفي إليها وتأخذها في قطعها روسية.
وعلى بعض الطريق من طبرقة إلى تونس مدينة باجة وهي مدينة حسنة في وطاء من الأرض كثيرة القمح والشعير ولها من غلات ذلك ما ليس بالمغرب مثله كثرة وجودة في المواضع المضاهية لباجة وهي صحيحة الهواء كثيرة الرخاء واسعة الدخل على وإليها والعرب مالكة لخراج قطرها ومتصل أرضها وبها عين في وسطها ينزل إليها بأدراج ومنها شرب أهلها وليس لها في خارجها عود نابت إلا فحوص ومزارع وبين باجة وطبرقة مرحلة وبعض ويقابل باجة في جهة الشمال وعلى نحر البحر الملح مدينة مرسى الخرز وبينهما مرحلة كبيرة.
وهي مدينة صغيرة عليها سور حصين ولها قصبة وحولها عرب كثير وعمارة أهلها لها على صيد المرجان والمرجان يوجد بها كثيراً وهو أجل جميع المرجان الموجود بسائر الأقطار مثل ما يوجد منه بمدينة سبتة وصقلية وسنذكر سبتة التي على مجاز البحر المسمى بالزقاق المتصل ببحر الظلمات ويقصد التجار من سائر البلاد إلى هذه المدينة فيخرجون منه الكثير إلى جميع الجهات.
ومعدن هذا المرجان في هذه المدينة مخدوم في كل سنة ويعمل به في كل الأوقات الخمسون قارباً والزائد والناقص وفي كل قارب العشرون رجلاً وما زاد ونقص والمرجان ينبت كالشجر ثم يتحجر في نفس البحر بين جبلين عظيمين ويصاد بآلات ذوات ذوائب كثيرة تصنع من القنب تدار هذه الآلة في أعلى المراكب فتلتف الخيوط على ما قاربها من نبات المرجان فيجذبه الرجال إلى أنفسهم ويستخرجون منه الشيء الكثير مما يباع بالأموال الطائلة وعمدة أهلها على ذلك وشرب أهلها من الآبار وهي قليلة الزرع وإنما يجلب إليها قوتها من بوادي العرب المجاورة لها وكذلك الفواكه ربما جلبت إليها من بونة وغيرها.
وبين مدينة مرسى الخرز ومدينة بونة مرحلة خفيفة وفي البحر أربعة وعشرون ميلاً روسية.
ومدينة بونة وسطة ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة ومقدارها في رقعتها كالاربس وهي على نحر البحر وكانت لها أسواق حسنة وتجارة مقصودة وأرباح موجودة وكان فيها كثير من الخشب موجود جيد الصفة ولها بساتين قليلة وشجر وبها من أنواع الفواكه ما يعم أهلها وأكثر فواكهها من باديتها والقمح بها والشعير في أوقات الإصابات كما وصفنا كثير جداً وبها معادن حديد جيد ويزرع بأرضها الكتان والعسل بها موجود ممكن وكذلك السمن وأكثر سوائمهم البقر ولها أقاليم وأرض واسعة تغلبت العرب عليها وافتتحت بونة على يدي أحد رجال الملك المعظم رجار في سنة ثمان وأربعين وخمس مائة وهي الآن في ضعف وقلة عمارة وبها عامل من قبل الملك المعظم رجار من آل حماد وعلى مدينة بونة وبجنبيها جبل يدوغ وهو عالي الذروة سامي القمة وبه معادن الحديد التي ذكرناها آنفاً.
ومن مدينة باجة المتقدم ذكرها إلى مدينة الاربس مرحلتان ومن الاربس إلى مدينة القيروان ثلاث مراحل وكذلك بين باجة والبحر مرحلتان خفيفتان.
ومدينة الاربس مدينة في وطاء من الأرض عليها سور تراب جيد وفي وسطها أعين ماء جارية لا تجف وشرب أهلها الآن من ماء تلك العيون واسم العين الواحدة منها عين رباح والأخرى عين زياد وماء عين زياد أطيب من ماء عين رباح وماؤها صحيح ولها معدن حديد وليس حولها من خارج شجرة نابتة البتة وهي على مزارع الحنطة والشعير ويدخر بها منهما الشيء الكثير ومنها على اثني عشر ميلاً مدينة ابة وهي بغربي الاربس وبها من الزعفران ما يضاهي الزعفران الأندلسي في الكثرة والجودة وأرضهما واحدة مختلطة وفي وسط مدينة ابة عين ماء جارية منها شرب أهلها وهي غدقة ماؤها غزير وكان على ابة فيما سلف من الزمان سور مبني من الطين وأسعارها رخيصة وأكثرها الآن خراب.
ومن مدينة الاربس إلى مدينة صغيرة تسمى تامديت مرحلتان وعليها سور تراب وشرب أهلها من عيون بها وغلات أهلها من الحنطة والشعير المقدار الكثير.
وبين الاربس وتامديت مدينة صغيرة تسمى مرماجنة وهي لأهلها وللعرب عليها ضريبة ويصيبون من القمح والشعير ما يعم بالكفاف وزيادة.
ومن تينجس إلى بونة الساحلية ثلاث مراحل ومن تينجس إلى مدينة المسيلة خمس مراحل وكذلك من مدينة الاربس إلى القيروان ثلاث مراحل ومن مدينة الاربس إلى تونس مرحلتان ومن تينجس إلى قسنطينة يومان وبين الاربس ومدينة بجاية اثنتا عشرة مرحلة ومن مرماجنة إلى مدينة مجانة مرحلتان خفيفتان بل هي مرحلة كبيرة.
وهي مدينة صغيرة عليها سور تراب وكان بها قديماً يزدرع بصل الزعفران كثيراً ولهم واد غزير الماء يأتي من جبل بمقربة منها يزرعون عليه غلاتهم وهو جبل شاهق ومنه تقطع أحجار المطاحن التي إليها الانتهاء في الجودة وحسن الطحين حتى أن الحجر منها ربما مر عليه عمر الإنسان فلا يحتاج إلى نقش ولا إلى صنعة هذا لصلابته ودقة أجزائه وأرض مجانة تغلبت العرب عليها وبها تخزن طعامها وبينها وبين القسنطينة ثلاث مراحل ومنها إلى بجاية الناصرية ست مراحل.
وبين تونس والحمامات مرحلة كبيرة وهذه المرحلة هي عرض الجزيرة المسماة بجزيرة باشو وهي أرض مباركة وطيبة ذات شجر زيتون وعمارات متصلات وبركات وخيرات وغلات ومياه ليست بكثيرة الجري على وجه الأرض لكنها ممكنة مياه الآبار وفيها بالجملة خصب زائد وهذه الجزيرة إقليم لها مدينة باشو ولم يبق الآن منها إلا مكانها وفيه قصر معمور ومنها قصر على البحر يسمى نابل وكان بالقرب من هذا القصر في أيام الروم مدينة عامرة فخربت وبقي الآن مكانها وهو قصر صغير معمور وكذلك قصر توسيهان بالقرب منها أثر مدينة كانت عامرة في أيام الروم فخربت وبقي مكانها.
وبين تونس ومدينة القيروان جبل زغوان وهو جبل عال جداً تقصد إليه المراكب من ظهر البحر لعلوه وارتقائه في الجو وهو أكثر الجبال ماء وفيه خصب ومزارع وعمارة ويعمر منه في أماكن قوم عباد مسلمون متفردون وكذلك جبل واسلات وطوله يومان ومنه إلى تونس يومان وبينه وبين القيروان خمسة عشر ميلاً وفيه عمارات كثيرة ومياه جارية وفيه من الحصون حصن الجوزات وحصن تيفاف وحصن القيطنة ودار إسماعيل ودار الدواب وكل هذه البلاد يعمرها قبائل من البربر وهم أهل هذه الناحية وهم في خصب ولهم مواش أبقار وأغنام وبغال ورماك والعرب متغلبون على سهول هذه الأرض كلها.
ولنذكر الآن الطرقات المسلوكة بين هذه البلاد فمن ذلك الطريق من القيروان إلى تاهرت.
فمن القيروان إلى الجهنيين وهي قرية مرحلة.
إلى مدينة سبيبة مرحلة وهي مدينة أزلية كثيرة المياه والجنات وعليها سور من حجارة حصين ولها ربض فيه الأسواق والخانات وشربهم من عين جارية كبيرة عليها جناتهم وبساتينهم وغلاتهم من الكمون والكروياء والبقول.
ومنها إلى مرماجنة وهي قرية لهوارة مرحلة.
ومنها إلى مدينة مجانة التي قدمنا ذكرها مرحلة.
ثم إلى مسكيانة مرحلة وهي قرية عامرة قديمة وبها زروع ومكاسب وعيون ولها سوق ممتدة كالسماط وهي أكبر من مرماجنة.
ومنها إلى باغاي وهي مدينة عامرة وقد قدمنا ذكرها فيما سلف من هذا الجزء والطريق يتمادى من مدينة باغاي إلى المسيلة كما قدمناه فيما سلف.
وطريق ثان ياخذ من القيروان إلى المسيلة على غير الطريق الذي قدمنا ذكره وهو يخرج من القيروان إلى جلولة مرحلة خفيفة وهي مدينة صغيرة عليها سور وبها عين ماء جارية عليها بساتين كثيرة ونخل كثير.
ومنها إلى احرى مرحلة وهي قرية حسنة ماؤها من الآبار وفيها زروع وحنطة وشعير كثير.
ومنها إلى قرية طامجنة مرحلة ولها فحص كبير وحنطتها وشعيرها ممكن كثير رخيص جداً.
ومنها إلى مدينة الاربس مرحلة.
ومن الاربس إلى تيفاش مرحلة وهي أيضاً مدينة أزلية قديمة عليها سور قديم بالحجر والجيار وبها عين ماء جارية ولها بساتين ورياضات وأكثر غلاتها الشعير.
ومن تيفاش إلى قصر الإفريقي مرحلة ولا سور لها وبها مزارع وإصابات جمة في الحنطة والشعير.
ومنها إلى قرية ازكو مرحلة ولها جنات وعيون ومياه وبساتين وغلات قمح وشعير وخير واسع.
ومنها إلى قرية البردوان مرحلة وكانت قرية كبيرة وهي من أقاليم القمح والشعير.
ومنها إلى قرية النهرين مرحلة وهي في وطاء من الأرض وفيها آبار ماء عذبة وكان لها سوق والغالب عليها البربر من كتامة ومزاتة.
ومنها إلى قرية تامسيت كتامة مرحلة وبها أشجار وعمارات.
ومنها إلى دكمة مرحلة وهي قرية لها سوق وأهلها من كتامة.
ومنها إلى اوسحنت مرحلة وهي قرية للبربر وبها مياه جارية ومزارع حنطة وشعير.
ومنها إلى المسيلة أقل من مرحلة.
ومن مدينة المسيلة إلى وارقلان اثنتا عشرة مرحلة كبار وهي مدينة فيها قبائل مياسير وتجار أغنياء يتجولون في بلاد السودان إلى بلاد غانة وبلاد ونقارة فيخرجون منها التبر ويضربونه في بلادهم باسم بلدهم وهم وهبية إباضية نكار خوارج في دين الإسلام.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin