طَلْسَام تَوحِيد الذَّات
اعلم أن الله تعالى كان كنزاً خَفيًّا لَطيفاً أَزَلِيًّا لَمْ يَعرِفْهُ أحَدٌ، فلمَّا أراد أن يُعرَفَ تجلَّى بِتجلِّيات من ذلك الكنز كشفها وأظهرها بمقتضى اسمه الظاهر؛ ثم أبطنها وسَترَها بمُقتضى اسمِهِ الباطن، فصارَت ظاهرة باطنة أبطنها بما أظهر عليها من أحكام العبودية، وأوصاف البشريّة، ونعوت الحديثيَّة، من حِسِّ التكوين والتشكيل والتقييد والتحييز، ولا حادث في الحقيقة إنما تجدد له التجلي والظهور، فبطنت بعد ظهورها، فتحقق فيها اسمه الظاهر واسمه الباطن، فمن نظر إلى أصلها وغاب عن حسِّها لم يحتَجِب بها عن الحق تعالى ورآه ظاهرا فيها، ومن وقف غند حِسِّها الظاهر؛ حجب بها عن شهود الحق وصارت في حقه ظلمة؛ ولذلك قال في الحكم : "الْكَوْنُ كُلُّهُ ظُلْمَةٌ ، وَإِنَّمَا أَنَارَهُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِيهِ". فإنما هو ظلمة في حقِّ أهل الحجاب. وأمّا في حقِّ أهل العِيَانِ فالكونُ عندهُم كُلُّهُ نورٌ فإذا اتَّصَلَ العبد بْشَيخِ التَّربيَّةِ غَيَّبَهُ عن أوصاف بشريّته بشُهود روحانيته، وعن أحكام العبوديّة بظهور نورِ الرُّبوبية، وعن حسِّ الكائنات يشهود معاني أسرار الذَّاتِ فيغيب عن نفسه بشهود محبوبه، وعن الكون بشهودِ المُكوِّن، ويُقال :مقامُ المحبوبية كما ورد في بعض روايات الحديث المتقدم : "فإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُه"، فإذا انكسر هذا الطَّلسامُ وهو وجودُ العَبْدِ الوَهْمِي، ووقوفَهُ مع أوصاف بشريّته بالغَيبَةؤ عنها ظهر له هذا الكنزُ الذي كان خفيًّا؛ وهو الذّات الأَقدس، فيدخل مقام الإحسان وينالُ رتبة الشهود والعيان وهي الولاية الكُبرى، والسعادة العُظمى، وعن هذا عبَّر ابن العريف رضي الله عنه :
بِذَلِكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتَتَامُهُ ... وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامُهُ
فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ ... وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطَبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ
فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ ... عَلَى مَنْكِبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ
وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ ... شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ طَابَ نَعِيمُها... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ المُعَنَّى غَرَامُه
وقال الشُّشتُري في بعض أزجاله : "يَا قاصِدًا عَيْنَ الخَبَر غَطّاهُ أَيْنَكَ، الخُبِرُ مِنكَ والخَبَر والسرُّ عِندَك، ارجِعْ لذَاتِك واعْتَبِر ما ثَمَّ غَيْرُك
".
ثم قال : "اسمع كلامي والتهم، إن كنتَ تفهم؛ لأن كنزك قد عدم، عن كل طلسم".
واعلم أنَّ وجود هذا الطَّلسامِ حقٌّ وحكمةٌ صَدْرُ أسرار الذات العالية، وسرُّ أسرارِ الرُّبوبيَّة ليبقى الكنزُ مدفوناً، والسِّرُّ مَصُوناً ولولا هذا الطَّلسامُ لافتضحَ السرُّ ونالَهُ مَن لا يستحِقُّهُ فيُبتذل بلا إظهار، ويُنادى عليه بلسان الاشتهارِ وهذا هو المُرادُ الذي أشرنَا إليه في الحديث.
وما بين الناس، وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنّةِ عَدْنٍ، وهو رداءُ الحِسِّ والقهريَّةِ المنشُورِ على وجهِ أسرارِ المعاني، وهذا في حق أهل الحجاب في الدنيا.
وأمّا مَن زالَ عنه طلسامُ توحيد الذَّات فلا يُحجَبُ عنه الحَقُّ تعالى ساعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهم ينظرون إلى ذات الرحمن في كل أوان، ويُسمّى هذا الطلسام عالم الفرق، وعالم الحكمة، وعالم الملك، وعالم الأشباح، وعالم الأثر، وعالم الشهادة، ويسمّى الكنز الذي ستر به عالَمُ الجَمْعِ، وعَالَمُ القُدرةِ، وعالَمُ المَلكوتِ وعالمُ الأرواح، وعالَمُ الغَيبِ. وأمّا عالَمُ الجبرُوت فهو البحرُ اللّطيفُ الفيَّاضُ الذي يتدفَّقُ منهُ أنوارُ المَلكوت، وهو ما لم يقَع به التجلِّي من الكَنزِ المَصُونِ والسرِّ المكنُونِ، والحاصلُ أنَّ الوجودَ واحِدٌ وهو وُجود الحق تعالى. فما وقع به التجلِّي من نظره بعينِ الجمع سَمَّاهُ ملكوتًا، ومَن نظره بعين الفرق في عالم الحكمة سمَّاهُ ملكا، وما لم يقع به التجلي من الأسرار اللطيفة الغيبية فهو جبروت، وهذا مجرد اصطلاح - خارج عن اصطلاح- اللغة، فأهل الفرق من أهل الحجاب لا يرون إلا الملك لوقوفهم مع حس الكائنات، فاحتجبت عنهم أنوار الملكوت، وأهل الفناء لا يرون لا يرون الملكوت، وتسرح أفكارهم في أسار بحار الجبروت، وأهل البقاء يرون الملكوت، ويسرحون في بحار الجبروت، ويَتَنَزَّلُونَ إلى عالم الملك لأداء حقوق العبودية والأدب مع الربوبيّة ويَتفَنَّنونَ في عُلومه، فلا يحجبهم جمعهم عن فرقهم، ولا فرقهم عن جمعهم، ولا فناؤهم عن بقائهم، ولا بقاؤهم عن فنائهم، بل يُعطُوا كل ذي حَقٍّ حَقَّه ويوفُون كل ذي قِسطٍ قِسطه.
جعلنا الله من خَواصِّهِم بمَنِّهِ وكرمه آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلِّم تسليماً والحمد لله ربِّ العالمين.
اعلم أن الله تعالى كان كنزاً خَفيًّا لَطيفاً أَزَلِيًّا لَمْ يَعرِفْهُ أحَدٌ، فلمَّا أراد أن يُعرَفَ تجلَّى بِتجلِّيات من ذلك الكنز كشفها وأظهرها بمقتضى اسمه الظاهر؛ ثم أبطنها وسَترَها بمُقتضى اسمِهِ الباطن، فصارَت ظاهرة باطنة أبطنها بما أظهر عليها من أحكام العبودية، وأوصاف البشريّة، ونعوت الحديثيَّة، من حِسِّ التكوين والتشكيل والتقييد والتحييز، ولا حادث في الحقيقة إنما تجدد له التجلي والظهور، فبطنت بعد ظهورها، فتحقق فيها اسمه الظاهر واسمه الباطن، فمن نظر إلى أصلها وغاب عن حسِّها لم يحتَجِب بها عن الحق تعالى ورآه ظاهرا فيها، ومن وقف غند حِسِّها الظاهر؛ حجب بها عن شهود الحق وصارت في حقه ظلمة؛ ولذلك قال في الحكم : "الْكَوْنُ كُلُّهُ ظُلْمَةٌ ، وَإِنَّمَا أَنَارَهُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِيهِ". فإنما هو ظلمة في حقِّ أهل الحجاب. وأمّا في حقِّ أهل العِيَانِ فالكونُ عندهُم كُلُّهُ نورٌ فإذا اتَّصَلَ العبد بْشَيخِ التَّربيَّةِ غَيَّبَهُ عن أوصاف بشريّته بشُهود روحانيته، وعن أحكام العبوديّة بظهور نورِ الرُّبوبية، وعن حسِّ الكائنات يشهود معاني أسرار الذَّاتِ فيغيب عن نفسه بشهود محبوبه، وعن الكون بشهودِ المُكوِّن، ويُقال :مقامُ المحبوبية كما ورد في بعض روايات الحديث المتقدم : "فإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُه"، فإذا انكسر هذا الطَّلسامُ وهو وجودُ العَبْدِ الوَهْمِي، ووقوفَهُ مع أوصاف بشريّته بالغَيبَةؤ عنها ظهر له هذا الكنزُ الذي كان خفيًّا؛ وهو الذّات الأَقدس، فيدخل مقام الإحسان وينالُ رتبة الشهود والعيان وهي الولاية الكُبرى، والسعادة العُظمى، وعن هذا عبَّر ابن العريف رضي الله عنه :
بِذَلِكَ سِرٌّ طَالَ عَنْكَ اكْتَتَامُهُ ... وَلَاحَ صَبَاحٌ كُنْتَ أَنْتَ ظَلَامُهُ
فَأَنْتَ حِجَابُ الْقَلْبِ عَنْ سِرِّ غَيْبِهِ ... وَلَوْلَاكَ لَمْ يُطَبَعْ عَلَيْهِ خِتَامُهُ
فَإِنْ غِبْتَ عَنْهُ حَلَّ فِيهِ وَطَنَّبَتْ ... عَلَى مَنْكِبِ الْكَشْفِ الْمَصُونِ خِيَامُهُ
وَجَاءَ حَدِيثٌ لَا يُمَلُّ سَمَاعُهُ ... شَهِيٌّ إِلَيْنَا نَثْرُهُ وَنِظَامُهُ
إِذَا ذَكَرَتْهُ النَّفْسُ طَابَ نَعِيمُها... وَزَالَ عَنِ الْقَلْبِ المُعَنَّى غَرَامُه
وقال الشُّشتُري في بعض أزجاله : "يَا قاصِدًا عَيْنَ الخَبَر غَطّاهُ أَيْنَكَ، الخُبِرُ مِنكَ والخَبَر والسرُّ عِندَك، ارجِعْ لذَاتِك واعْتَبِر ما ثَمَّ غَيْرُك
".
ثم قال : "اسمع كلامي والتهم، إن كنتَ تفهم؛ لأن كنزك قد عدم، عن كل طلسم".
واعلم أنَّ وجود هذا الطَّلسامِ حقٌّ وحكمةٌ صَدْرُ أسرار الذات العالية، وسرُّ أسرارِ الرُّبوبيَّة ليبقى الكنزُ مدفوناً، والسِّرُّ مَصُوناً ولولا هذا الطَّلسامُ لافتضحَ السرُّ ونالَهُ مَن لا يستحِقُّهُ فيُبتذل بلا إظهار، ويُنادى عليه بلسان الاشتهارِ وهذا هو المُرادُ الذي أشرنَا إليه في الحديث.
وما بين الناس، وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنّةِ عَدْنٍ، وهو رداءُ الحِسِّ والقهريَّةِ المنشُورِ على وجهِ أسرارِ المعاني، وهذا في حق أهل الحجاب في الدنيا.
وأمّا مَن زالَ عنه طلسامُ توحيد الذَّات فلا يُحجَبُ عنه الحَقُّ تعالى ساعة لا في الدنيا ولا في الآخرة، فهم ينظرون إلى ذات الرحمن في كل أوان، ويُسمّى هذا الطلسام عالم الفرق، وعالم الحكمة، وعالم الملك، وعالم الأشباح، وعالم الأثر، وعالم الشهادة، ويسمّى الكنز الذي ستر به عالَمُ الجَمْعِ، وعَالَمُ القُدرةِ، وعالَمُ المَلكوتِ وعالمُ الأرواح، وعالَمُ الغَيبِ. وأمّا عالَمُ الجبرُوت فهو البحرُ اللّطيفُ الفيَّاضُ الذي يتدفَّقُ منهُ أنوارُ المَلكوت، وهو ما لم يقَع به التجلِّي من الكَنزِ المَصُونِ والسرِّ المكنُونِ، والحاصلُ أنَّ الوجودَ واحِدٌ وهو وُجود الحق تعالى. فما وقع به التجلِّي من نظره بعينِ الجمع سَمَّاهُ ملكوتًا، ومَن نظره بعين الفرق في عالم الحكمة سمَّاهُ ملكا، وما لم يقع به التجلي من الأسرار اللطيفة الغيبية فهو جبروت، وهذا مجرد اصطلاح - خارج عن اصطلاح- اللغة، فأهل الفرق من أهل الحجاب لا يرون إلا الملك لوقوفهم مع حس الكائنات، فاحتجبت عنهم أنوار الملكوت، وأهل الفناء لا يرون لا يرون الملكوت، وتسرح أفكارهم في أسار بحار الجبروت، وأهل البقاء يرون الملكوت، ويسرحون في بحار الجبروت، ويَتَنَزَّلُونَ إلى عالم الملك لأداء حقوق العبودية والأدب مع الربوبيّة ويَتفَنَّنونَ في عُلومه، فلا يحجبهم جمعهم عن فرقهم، ولا فرقهم عن جمعهم، ولا فناؤهم عن بقائهم، ولا بقاؤهم عن فنائهم، بل يُعطُوا كل ذي حَقٍّ حَقَّه ويوفُون كل ذي قِسطٍ قِسطه.
جعلنا الله من خَواصِّهِم بمَنِّهِ وكرمه آمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلِّم تسليماً والحمد لله ربِّ العالمين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin