الدرس الثاني والثلاثون
التحذيرُ من انتِقاصِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم
والردُّ على بعض شُبُهاتِ الملاحِدَةِ وأنهُ لا خالقَ إلا اللهُ
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الـمُحدِّثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ الهرريُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى في الخامسِ عشر من جُمادى الآخرةِ سنةَ ثلاثٍ وأربعمائة وألف وهو في بيانِ التحذيرِ من انتقاصِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم والردِّ على بعضِ شُبُهاتِ الملاحدةِ في ما يتعلقُ بزوجاتِهِ صلى الله عليه وسلم وأنهُ لا خالقَ إلا اللهُ تعالى.
قال رحمه اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على أكرَمِ الـمُرسَلينَ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ.
وبعدُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى فرضَ على المؤمنينَ والمؤمناتِ إنكارَ أي إزالةَ ما حرَّمَهُ اللهُ تعالى على مَنِ استطاعَ وأشدُّ المنكرِ الكفرُ فهوَ رأسُ الذنبِ وأشدُّهُ وأعظَمُهُ عندَ اللهِ، ومِن أشدِّ المنكراتِ التي هيَ مِنْ نوعِ الكفرِ انتِقاصُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والطّعنُ فيهِ.
فمِنَ الكفرِ الذي هوَ مِنْ هذا القبيلِ طَعنُ بعضِ الـمُلحِدينَ فيهِ بقولهم إنهُ كانَ مَفتونًا بالنساءِ فمِنهُم مَنْ يتطرَّقُ إلى ذلكَ بالاعتراضِ عليهِ في تزوُّجِهِ بعائشةَ رضيَ اللهُ عنها قبلَ سِنّ عشرِ سنينَ فإنهُ صلى الله عليه وسلم أُدخِلَتْ عائشةُ عليهِ وعُمُرُها تِسعُ سنواتٍ وهذا لا مَطعَنَ فيهِ في عادةِ العربِ ولا مطعَنَ فيه مِنْ حيثُ شرائعُ الأنبياءِ فإنهُ منَ المعروفِ في عادةِ عربِ الحجازِ بلِ الجزيرةِ العربيةِ بأسرِها البِناءُ بالزوجةِ أيِ الدخولُ بها في سنِّ تسعِ سنينَ ليسَ في ذلكَ عارٌ في الجزيرةِ العربيةِ وليسَ في ذلك إضرارٌ بها وقدْ وُجِدَ في الجزيرةِ العربيةِ عِدَّةُ نساءٍ وَلَدْنَ في العاشرةِ بل حصلَ أنْ وَلَدَتِ امرأةٌ في العاشرةِ بنتًا ثمَّ تزوَّجَتْ هذهِ البنتُ بعدَ تسعِ سنينَ فولَدَتْ بعدَ عشرِ سنينَ فكانتِ الأولى جدَّةً وعُمرُها إحدى وعشرونَ سنةً.
ومَعلومٌ سُنَّةُ اللهِ في أنبيائِهِ أنْ أعطاهُم خَوارقَ للعادةِ ومِنْ جُملةِ الخوارِقِ التي أعطاهُم قوةُ غريزةِ الشهوةِ مِنْ غيرِ أن تَشغَلَهُم عن طاعةِ اللهِ بلْ يزدادُ أجرُهُم على الثُّبوتِ في طاعةِ اللهِ وعدمِ التقصيرِ فيها معَ هذهِ القوةِ الغريزيةِ وهذا كمالٌ في حقِّهِم وقد صحَّ أنَّ نبيَّ اللهِ سليمانَ حلفَ ذاتَ يومٍ قالَ لأطُوفَنَّ الليلةَ على مائةِ امرأةٍ حتى تحمِلَ كلُّ واحدةٍ منهُنَّ فتَلِدَ ولدًا يكونُ فارسًا يُجاهِدُ في سبيلِ اللهِأما بعدُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى رضِيَ لعبادِهِ التواضعَ فقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ تواضَعَ للهِ رَفَعَهُ1 اهـ وكذلكَ صحَّ عنْ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنهُ طافَ بعضَ الأيامِ على عدةٍ مِنْ نِسائِهِ ليُعَظِّمَ اللهُ لهُ الأجرَ حيثُ إنهُ معَ قوةِ غَريزَتِهِ لـم تكنِ النساءُ يَشْغَلنَهُ عنِ الاستعدادِ الكاملِ للآخرةِ وقد صحَّ عنْ عائشةَ أنها قالتْ ما أتتْ ليلةٌ من لياليَّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا خرجَ فيها إلى البقيعِ يَزُورُهُم فيَستَغفرُ لهم2 اهـ والبقيعُ مقبرةُ أهلِ المدينةِ فهذا يدلُّ دلالةً ظاهرةً على أنهُ لـم يكُنْ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ كما زعموا. لو كانَ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ لـم يكُنْ يتركُ عائشةَ في دَورِها ونَوْبَتِها على الفراشِ ثمَّ يذهبُ إلى الجَبَّانةِ وحدَهُ ليَستغفرَ لأهلِ الجبانةِ ويدعو لهم ويقضي هناكَ منَ الوقتِ ما شاءَ اللهُ معَ أنَّ عُمُرَ عائشةَ عندَ وفاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ ثمانيَ عشرةَ سنةً وكانتْ أجملَ نسائِهِ أو مِنْ أجمَلِهِنَّ معَ حداثةِ السنِّ ولـم يكُنْ دورُها من بينِ نسائِهِ صلى الله عليه وسلم إلا نحوَ يومٍ في عشرةِ أيام. ومما يدلُّ على أنهُ صلى الله عليه وسلم لـم يكُنْ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ أنَّ شخصًا عرضَ عليهِ بنتَهُ ووصفها بالجمالِ وقالَ إنها لـم تمرَضْ قطُّ فقالَ لا حاجةَ لي فيها، وذلكَ لأنَّ خِيارَ الناسِ همُ الذينَ يُصابُونَ في هذهِ الدنيا بالمصائبِ فاعتبَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قليلةَ الحظّ فلـم يرضَ بزواجِها معَ ما وُصفَت بهِ منَ الجمالِ فلو كانَ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ لـم يُفَوِّتْ هذهِ الفرصةَ.
3فيجبُ على المؤمنِ تزييفُ كلامِ الـمُلحدينَ بلا تقصيرٍ ولا هَوادَةٍ.
وأما تعديدُ الزواجِ بالنسبةِ لسيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فمِمَّا خَصَّهُ اللهُ بهِ منَ الأحكامِ حِلُّ الجَمعِ بينَ أكثرَ مِنْ أربعٍ في ءانٍ واحدٍ وتحريمُ ذلكَ على أمتِهِ. وكانَ واجِبًا عليهِ صلى الله عليه وسلم إظهارُ هذا الحُكمِ الذي هوَ تشريعٌ منَ اللهِ وفي ذلكَ دلالةٌ على صِدقِهِ صلى الله عليه وسلم في دعوى نبوَّتِهِ ورِسالتِهِ لأنهُ لو لـم يَكُنْ يتبعُ الوحيَ مِنْ ربِّهِ لـم يتجرأ على أنْ يقولَ للناسِ أنا يجوزُ لي أنْ أجمَعَ بينَ أكثرَ منْ أربعٍ منَ النساءِ ولا يجوزُ لغيري الجمعُ بينَ أكثرَ منْ أربعٍ لكنهُ لا يُبالي إلا بتنفيذِ ما يُوحَى إليهِ كانَ هَمُّهُ صلى الله عليه وسلم إرضاءَ ربِّهِ بتبليغِ تشريعِ مولاهُ مِنْ غيرِ تحريفٍ ولا تبديلٍ ولا تقصيرٍ ولا هَوادةٍ فلـم يكَنْ يصرِفُهُ عنْ ذلكَ خوفٌ منَ الناسِ ولا مِنْ وقيعةٍ واعتراضِ بعضٍ عليهِ.
وفي هذا البابِ قالَ القائلُ
إنْ صحَّ منكَ الرِّضَى يا مَنْ هوَ الطلبُ ***** فلا أبالي بكلِّ الناسِ إنْ غضِبوا
كانَ همُّهُ صلى الله عليه وسلم أن يُرضِيَ ربَّهُ وأن يُؤَدِّيَ ما أمرَهُ بهِ ربُّهُ مِنْ عملٍ يعملُهُ في نفسِهِ أو تبليغٍ يبلِّغُهُ إذْ كانَ قلبُهُ ممتلِئًا بشُهُودِ أنهُ لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا اللهُ فهذا هوَ معنى لا إلهَ إلا اللهُ لأنَّ هذهِ الكلمةَ تحتوي على هذا المعنى لأنَّ اللهَ اختصَّ باستحقاقِ العبادةِ عنْ غيرِهِ لأنهُ لا خالقَ لمنفعةٍ ولا مَضرةٍ في الظاهرِ أو في الباطنِ إلا هوَ قالَ تعالى في سورةِ فاطر ﴿هلْ مِنْ خالِقٍ غيرُ اللهِ﴾ ومعنى هذهِ الآيةِ أنهُ لا أحدَ سِوى اللهِ يخلُقُ عينًا منَ الأعيانِ ولا أثرًا منَ الآثارِ إلا اللهُ، يشملُ ذلكَ ما يحصلُ للعبادِ منْ لَذَّةِ وألمٍ وفرحٍ وحُزنٍ وهمّ وغمّ وشِبَعٍ وجوعٍ وعطشٍ وإدراكٍ وفهمٍ وعلمٍ ولَمْحةٍ وطرْفةٍ وحرَكةٍ وسُكونٍ فإنهُ لا يكونُ إلا بخلقِ اللهِ لا بخلقِ أحدٍ غيرِهِ فلا تخلقُ الأسبابُ على اختلافِ أنواعِها شيئًا منْ مُسبَّباتِها فالنارُ لا تخلُقُ الإحراقَ وإنما اللهُ تعالى يخلُقُ الإحراقَ عندَ مُماسّةِ النّارِ بمشيئتِهِ وعلمِهِ فهذا إبراهيمُ عليهِ السلامُ رُمِيَ في تلكَ النارِ العظيمةِ فلـم تُحرِقْهُ ولا ثيابَهُ وهذا الحيوانُ الـمُسمَّى سَمَنْدَرًا لا تُحرِقهُ النارُ حتى شعرَهُ معَ أنهُ كغيرهِ منَ الحيواناتِ منْ حيثُ تركيبُ جِسمه إذْ هوَ مِنْ جلدٍ ولحمٍ ودمٍ وهذهِ النعامةُ تأكلُ الجمرَ الأحمرَ وتَسْتَمْرِئُ4 بذلك وكذلكَ كثيرٌ منْ مشايخِ الرفاعيةِ وغيرِهم دخلوا أفرانًا حاميةً فلـم تُحرِقْهُم ولا ثيابَهم، فلو كانتِ النارُ تخلقُ الإحراقَ لما حصل هذا. وكذلكَ الأكلُ لا يخلقُ الشِّبعَ والصحةَ والقوةَ فلو كانَ كذلكَ لـم يحصلْ لكثيرٍ منْ أفرادِ هذهِ الأمةِ المحمدِيَّةِ أن يعيشوا بلا أكلٍ وشربٍ أيامًا بلْ ثبتَ أنَّ بعضًا منْ أفرادِ الأمةِ الـمُحمَّديةِ عاشَ خمسَ عشرةَ ليلةً بلا أكلٍ وهوَ أحدُ التابعينَ في أيامِ الحجّاجِ أغلقَ الحجاجُ عليهِ بيتًا ليموتَ بالجوعِ إلى خمسةَ عشرَ يومًا ثمَّ أمرَ بإخراجِهِ فوجدهُ صحيحًا فأعفاهُ منَ القتلِ وهذا الرجلُ من عبادِ اللهِ الصالحينَ منَ العلماءِ العامِلينَ منْ رواةِ حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُسمَّى عبدَ الرحمنِ بنَ أبي نُعْم.
وهذه المرأةُ التي استُشهِدَ زوجُها في القرنِ الثالثِ الهجريّ في ناحيةٍ من نواحي خُراسان عاشتْ نحوَ عشرينَ سنةٍ لا تأكلُ شيئًا وهيَ بصحةٍ تامَّةٍ تَمشي إذا مشَتْ بنشاطٍ بعدَ لُقمةٍ أكلَتْها في المنامِ من يدِ زوجِها الشهيدِ وكذلكَ غيرُها من نساءٍ وحصلَ في عصرنا هذا أنَّ رجلاً5 في جهةِ الجزيرةِ في سورية ظلَّ أربعَ عشرةَ عامًا لا يأكلُ لا ليلاً ولا نهارًا وهوَ يتجولُ في البلادِ بنشاطٍ وقوةٍ فجرَّبَ الناسُ أمرَهُ فتحقَّقُوا من ذلك.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------
1- رواه البخاري في صحيحه باب من طلب الولد للجهاد.
2- رواه النسائي في سننه باب الأمر بالإستغفار للمؤمنين.
3- الهوادة السكون و المراد هنا بلا ترك للتزييف.
4- تستهنىء اهـ.
5- هو الشيخ محمد طوقان رحمه الله تعالى.
التحذيرُ من انتِقاصِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم
والردُّ على بعض شُبُهاتِ الملاحِدَةِ وأنهُ لا خالقَ إلا اللهُ
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الـمُحدِّثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ الهرريُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى في الخامسِ عشر من جُمادى الآخرةِ سنةَ ثلاثٍ وأربعمائة وألف وهو في بيانِ التحذيرِ من انتقاصِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم والردِّ على بعضِ شُبُهاتِ الملاحدةِ في ما يتعلقُ بزوجاتِهِ صلى الله عليه وسلم وأنهُ لا خالقَ إلا اللهُ تعالى.
قال رحمه اللهُ تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ والصلاةُ والسلامُ على أكرَمِ الـمُرسَلينَ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الطيبينَ الطاهرينَ.
وبعدُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى فرضَ على المؤمنينَ والمؤمناتِ إنكارَ أي إزالةَ ما حرَّمَهُ اللهُ تعالى على مَنِ استطاعَ وأشدُّ المنكرِ الكفرُ فهوَ رأسُ الذنبِ وأشدُّهُ وأعظَمُهُ عندَ اللهِ، ومِن أشدِّ المنكراتِ التي هيَ مِنْ نوعِ الكفرِ انتِقاصُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والطّعنُ فيهِ.
فمِنَ الكفرِ الذي هوَ مِنْ هذا القبيلِ طَعنُ بعضِ الـمُلحِدينَ فيهِ بقولهم إنهُ كانَ مَفتونًا بالنساءِ فمِنهُم مَنْ يتطرَّقُ إلى ذلكَ بالاعتراضِ عليهِ في تزوُّجِهِ بعائشةَ رضيَ اللهُ عنها قبلَ سِنّ عشرِ سنينَ فإنهُ صلى الله عليه وسلم أُدخِلَتْ عائشةُ عليهِ وعُمُرُها تِسعُ سنواتٍ وهذا لا مَطعَنَ فيهِ في عادةِ العربِ ولا مطعَنَ فيه مِنْ حيثُ شرائعُ الأنبياءِ فإنهُ منَ المعروفِ في عادةِ عربِ الحجازِ بلِ الجزيرةِ العربيةِ بأسرِها البِناءُ بالزوجةِ أيِ الدخولُ بها في سنِّ تسعِ سنينَ ليسَ في ذلكَ عارٌ في الجزيرةِ العربيةِ وليسَ في ذلك إضرارٌ بها وقدْ وُجِدَ في الجزيرةِ العربيةِ عِدَّةُ نساءٍ وَلَدْنَ في العاشرةِ بل حصلَ أنْ وَلَدَتِ امرأةٌ في العاشرةِ بنتًا ثمَّ تزوَّجَتْ هذهِ البنتُ بعدَ تسعِ سنينَ فولَدَتْ بعدَ عشرِ سنينَ فكانتِ الأولى جدَّةً وعُمرُها إحدى وعشرونَ سنةً.
ومَعلومٌ سُنَّةُ اللهِ في أنبيائِهِ أنْ أعطاهُم خَوارقَ للعادةِ ومِنْ جُملةِ الخوارِقِ التي أعطاهُم قوةُ غريزةِ الشهوةِ مِنْ غيرِ أن تَشغَلَهُم عن طاعةِ اللهِ بلْ يزدادُ أجرُهُم على الثُّبوتِ في طاعةِ اللهِ وعدمِ التقصيرِ فيها معَ هذهِ القوةِ الغريزيةِ وهذا كمالٌ في حقِّهِم وقد صحَّ أنَّ نبيَّ اللهِ سليمانَ حلفَ ذاتَ يومٍ قالَ لأطُوفَنَّ الليلةَ على مائةِ امرأةٍ حتى تحمِلَ كلُّ واحدةٍ منهُنَّ فتَلِدَ ولدًا يكونُ فارسًا يُجاهِدُ في سبيلِ اللهِأما بعدُ فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى رضِيَ لعبادِهِ التواضعَ فقد قالَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مَنْ تواضَعَ للهِ رَفَعَهُ1 اهـ وكذلكَ صحَّ عنْ سيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنهُ طافَ بعضَ الأيامِ على عدةٍ مِنْ نِسائِهِ ليُعَظِّمَ اللهُ لهُ الأجرَ حيثُ إنهُ معَ قوةِ غَريزَتِهِ لـم تكنِ النساءُ يَشْغَلنَهُ عنِ الاستعدادِ الكاملِ للآخرةِ وقد صحَّ عنْ عائشةَ أنها قالتْ ما أتتْ ليلةٌ من لياليَّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلا خرجَ فيها إلى البقيعِ يَزُورُهُم فيَستَغفرُ لهم2 اهـ والبقيعُ مقبرةُ أهلِ المدينةِ فهذا يدلُّ دلالةً ظاهرةً على أنهُ لـم يكُنْ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ كما زعموا. لو كانَ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ لـم يكُنْ يتركُ عائشةَ في دَورِها ونَوْبَتِها على الفراشِ ثمَّ يذهبُ إلى الجَبَّانةِ وحدَهُ ليَستغفرَ لأهلِ الجبانةِ ويدعو لهم ويقضي هناكَ منَ الوقتِ ما شاءَ اللهُ معَ أنَّ عُمُرَ عائشةَ عندَ وفاةِ النبيّ صلى الله عليه وسلم كانَ ثمانيَ عشرةَ سنةً وكانتْ أجملَ نسائِهِ أو مِنْ أجمَلِهِنَّ معَ حداثةِ السنِّ ولـم يكُنْ دورُها من بينِ نسائِهِ صلى الله عليه وسلم إلا نحوَ يومٍ في عشرةِ أيام. ومما يدلُّ على أنهُ صلى الله عليه وسلم لـم يكُنْ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ أنَّ شخصًا عرضَ عليهِ بنتَهُ ووصفها بالجمالِ وقالَ إنها لـم تمرَضْ قطُّ فقالَ لا حاجةَ لي فيها، وذلكَ لأنَّ خِيارَ الناسِ همُ الذينَ يُصابُونَ في هذهِ الدنيا بالمصائبِ فاعتبَرَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قليلةَ الحظّ فلـم يرضَ بزواجِها معَ ما وُصفَت بهِ منَ الجمالِ فلو كانَ مُتعلِّقَ القلبِ بالنساءِ لـم يُفَوِّتْ هذهِ الفرصةَ.
3فيجبُ على المؤمنِ تزييفُ كلامِ الـمُلحدينَ بلا تقصيرٍ ولا هَوادَةٍ.
وأما تعديدُ الزواجِ بالنسبةِ لسيدِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فمِمَّا خَصَّهُ اللهُ بهِ منَ الأحكامِ حِلُّ الجَمعِ بينَ أكثرَ مِنْ أربعٍ في ءانٍ واحدٍ وتحريمُ ذلكَ على أمتِهِ. وكانَ واجِبًا عليهِ صلى الله عليه وسلم إظهارُ هذا الحُكمِ الذي هوَ تشريعٌ منَ اللهِ وفي ذلكَ دلالةٌ على صِدقِهِ صلى الله عليه وسلم في دعوى نبوَّتِهِ ورِسالتِهِ لأنهُ لو لـم يَكُنْ يتبعُ الوحيَ مِنْ ربِّهِ لـم يتجرأ على أنْ يقولَ للناسِ أنا يجوزُ لي أنْ أجمَعَ بينَ أكثرَ منْ أربعٍ منَ النساءِ ولا يجوزُ لغيري الجمعُ بينَ أكثرَ منْ أربعٍ لكنهُ لا يُبالي إلا بتنفيذِ ما يُوحَى إليهِ كانَ هَمُّهُ صلى الله عليه وسلم إرضاءَ ربِّهِ بتبليغِ تشريعِ مولاهُ مِنْ غيرِ تحريفٍ ولا تبديلٍ ولا تقصيرٍ ولا هَوادةٍ فلـم يكَنْ يصرِفُهُ عنْ ذلكَ خوفٌ منَ الناسِ ولا مِنْ وقيعةٍ واعتراضِ بعضٍ عليهِ.
وفي هذا البابِ قالَ القائلُ
إنْ صحَّ منكَ الرِّضَى يا مَنْ هوَ الطلبُ ***** فلا أبالي بكلِّ الناسِ إنْ غضِبوا
كانَ همُّهُ صلى الله عليه وسلم أن يُرضِيَ ربَّهُ وأن يُؤَدِّيَ ما أمرَهُ بهِ ربُّهُ مِنْ عملٍ يعملُهُ في نفسِهِ أو تبليغٍ يبلِّغُهُ إذْ كانَ قلبُهُ ممتلِئًا بشُهُودِ أنهُ لا ضارَّ ولا نافعَ على الحقيقةِ إلا اللهُ فهذا هوَ معنى لا إلهَ إلا اللهُ لأنَّ هذهِ الكلمةَ تحتوي على هذا المعنى لأنَّ اللهَ اختصَّ باستحقاقِ العبادةِ عنْ غيرِهِ لأنهُ لا خالقَ لمنفعةٍ ولا مَضرةٍ في الظاهرِ أو في الباطنِ إلا هوَ قالَ تعالى في سورةِ فاطر ﴿هلْ مِنْ خالِقٍ غيرُ اللهِ﴾ ومعنى هذهِ الآيةِ أنهُ لا أحدَ سِوى اللهِ يخلُقُ عينًا منَ الأعيانِ ولا أثرًا منَ الآثارِ إلا اللهُ، يشملُ ذلكَ ما يحصلُ للعبادِ منْ لَذَّةِ وألمٍ وفرحٍ وحُزنٍ وهمّ وغمّ وشِبَعٍ وجوعٍ وعطشٍ وإدراكٍ وفهمٍ وعلمٍ ولَمْحةٍ وطرْفةٍ وحرَكةٍ وسُكونٍ فإنهُ لا يكونُ إلا بخلقِ اللهِ لا بخلقِ أحدٍ غيرِهِ فلا تخلقُ الأسبابُ على اختلافِ أنواعِها شيئًا منْ مُسبَّباتِها فالنارُ لا تخلُقُ الإحراقَ وإنما اللهُ تعالى يخلُقُ الإحراقَ عندَ مُماسّةِ النّارِ بمشيئتِهِ وعلمِهِ فهذا إبراهيمُ عليهِ السلامُ رُمِيَ في تلكَ النارِ العظيمةِ فلـم تُحرِقْهُ ولا ثيابَهُ وهذا الحيوانُ الـمُسمَّى سَمَنْدَرًا لا تُحرِقهُ النارُ حتى شعرَهُ معَ أنهُ كغيرهِ منَ الحيواناتِ منْ حيثُ تركيبُ جِسمه إذْ هوَ مِنْ جلدٍ ولحمٍ ودمٍ وهذهِ النعامةُ تأكلُ الجمرَ الأحمرَ وتَسْتَمْرِئُ4 بذلك وكذلكَ كثيرٌ منْ مشايخِ الرفاعيةِ وغيرِهم دخلوا أفرانًا حاميةً فلـم تُحرِقْهُم ولا ثيابَهم، فلو كانتِ النارُ تخلقُ الإحراقَ لما حصل هذا. وكذلكَ الأكلُ لا يخلقُ الشِّبعَ والصحةَ والقوةَ فلو كانَ كذلكَ لـم يحصلْ لكثيرٍ منْ أفرادِ هذهِ الأمةِ المحمدِيَّةِ أن يعيشوا بلا أكلٍ وشربٍ أيامًا بلْ ثبتَ أنَّ بعضًا منْ أفرادِ الأمةِ الـمُحمَّديةِ عاشَ خمسَ عشرةَ ليلةً بلا أكلٍ وهوَ أحدُ التابعينَ في أيامِ الحجّاجِ أغلقَ الحجاجُ عليهِ بيتًا ليموتَ بالجوعِ إلى خمسةَ عشرَ يومًا ثمَّ أمرَ بإخراجِهِ فوجدهُ صحيحًا فأعفاهُ منَ القتلِ وهذا الرجلُ من عبادِ اللهِ الصالحينَ منَ العلماءِ العامِلينَ منْ رواةِ حديثِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يُسمَّى عبدَ الرحمنِ بنَ أبي نُعْم.
وهذه المرأةُ التي استُشهِدَ زوجُها في القرنِ الثالثِ الهجريّ في ناحيةٍ من نواحي خُراسان عاشتْ نحوَ عشرينَ سنةٍ لا تأكلُ شيئًا وهيَ بصحةٍ تامَّةٍ تَمشي إذا مشَتْ بنشاطٍ بعدَ لُقمةٍ أكلَتْها في المنامِ من يدِ زوجِها الشهيدِ وكذلكَ غيرُها من نساءٍ وحصلَ في عصرنا هذا أنَّ رجلاً5 في جهةِ الجزيرةِ في سورية ظلَّ أربعَ عشرةَ عامًا لا يأكلُ لا ليلاً ولا نهارًا وهوَ يتجولُ في البلادِ بنشاطٍ وقوةٍ فجرَّبَ الناسُ أمرَهُ فتحقَّقُوا من ذلك.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------
1- رواه البخاري في صحيحه باب من طلب الولد للجهاد.
2- رواه النسائي في سننه باب الأمر بالإستغفار للمؤمنين.
3- الهوادة السكون و المراد هنا بلا ترك للتزييف.
4- تستهنىء اهـ.
5- هو الشيخ محمد طوقان رحمه الله تعالى.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin