10ـ واعلم أن الأعمال تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: المعاصى، فلا تتغير عن موضعها بالنية، مثل من يبنى مسجداً بمال حرام يقصد بذلك الخير، فان النية لا تؤثر فيه، فان قصد الخير بالشر شر آخر، فان الخيرات إنما تعرف كونها خيرات بالشرع، فكيف يمكن أن يكون الشر خيراً، هيهات!.
واعلم: أن من تقرب من السلاطين ببناء المساجد والمدارس بالمال الحرام، كان كتقرب علماء السوء بتعليم العلم للسفهاء والأشرار المشغولين بالفسق، فان هؤلاء إذا تعلموا كانوا قطاع طريق الله تعالى، يتكالبون على الدنيا، ويتبعون الهوى، ووبال ذلك راجع إلى معلمهم، إذ علم فساد نياتهم ومقاصدهم.
ومن هذا القبيل تعلم القصاص القصص، فان مقاصد أكثرهم معروفة، وقصدهم اجتلاب الدنيا، وأخذ الأموال كيف اتفق، فتعليمهم إعانة على الفساد، فقد علمت أن الطاعة تنقلب معصية بالقصد.
وأما المعصية، فلا تنقلب طاعة بالقصد أصلاً بل إذا انضاف إليها قصد خبيث تضاعف وزرها وعظم وبالها.
القسم الثاني: الطاعات، وهى مرتبطة بالنيات في أصل صحتها، وفى تضاعف فضلها، وأما الأصل، فهو أن ينوى عبادة الله تعالى لا غير، فإن نوى الرياء صارت معصية. وأما تضاعف الفضل، فبكثرة النيات الحسنة، فإن الطاعة الواحدة يمكن أن ينوى بها خيرات كثيرة، فيكون له بكل نية ثواب، إذ كل واحدة منها حسنة، ثم تضاعف كل حسنة عشر أمثالها.
مثال ذلك القعود في المسجد، فإنه طاعة، ويمكن أن ينوى بها نيات كثيرة: منها أن ينوى بدخوله انتظار الصلاة، ومنها الاعتكاف وكف الجوارح، فإن الاعتكاف كف، ومنها دفع الشواغل الصارفة عن الله تعالى بالانقطاع إلى المسجد، وإلى ذكر الله تعالى فيه، ونحو ذلك، فهذا طريق تكثير النيات، فقس على ذلك سائر الطاعات، إذ ما من طاعة إلا وتحتمل نيات كثيرة.
القسم الثالث: المباحات، فما من شىء من المباحات إلا ويتحمل نية أو نيات، وتصير بها قربات، وينال بها معالي الدرجات، فما أعظم خسران من يغفل عنها ويتعاطاها تعاطى البهائم المهملة.
ولا ينبغي أن يحتقر العبد الخطرات واللحظات، فكل ذلك يسأل عنه في القيامة لم فعله؟ وما الذي قصد به؟
مثال ما ينوى به القربة من المباحات إن يتطيب، وينوى بالطيب اتباع السنه، واحترام المسجد، ودفع الروائح الكريهة التي تؤذى مخالطيه.
وقال الشافعي رحمه الله: من طاب ريحه زاد عقله.وكذلك معالجة رأسه تزايد فطنته وذكاءه، فيسهل عليه إدراك مهمات دنيه.
وقال بعض السلف: إنى لا ستحب أن يكون لى في كل شىء نية، وحتى في آكلي وشربي ونومي ودخولي الخلاء، وكل ذلك مما يمكن أن يقصد به التقرب إلى الله تعالى، لأن كل ما هو سبب لبقاء البدن وفراغ القلب من مهمات الدين، فمن قصد من الأكل التقوى على العبادة، ومن النكاح تحصين دينه، وتطييب قلب أهله، والتوصل إلى ولد يعبد الله بعده، أثيب على ذلك كله، ولا تحتقر شيئاً من حركاتك وكلماتك، وحاسب نفسك قبل أن تحاسب، وصحح قبل أن تفعل ما تفعله، وانظر في نيتك فيما تتركه أيضاً.
واعلم: أن النية هي انبعاث النفس وميلها إلى ما ظهر لها أنه مصلحة لها، إما في الحال أو المآل، وربما سمع بعض الجهال ما أوصينا به من تحسين النية، فقال عند أكله: نويت أن آكل لله، أو عند قراءته: نويت أن أقرأ لله، وظن أن ذلك نية، وليس كذلك، إنما النية انبعاث القلب، وتجرى مجرى الفتوح من الله تعالى، وليست النية داخلة تحت الاختيار، فقد تتيسر في بعض الأوقات، وقد تتعذر، وإنما تتيسر له في الغالب لمن قلبه يميل إلى الدين دون الدنيا .
والناس في النيات على أقسام:
منهم من يكون عمله للطاعة إجابة لباعث الخوف.
ومنهم من يكون عمله إجابة لباعث الرجاء. وثمة مقام أرفع من هذين، وهو أن يعمل الطاعة على نية جلال الله تعالى لاستحقاقه الطاعة والعبودية، وهذه لا تتيسر لراغب في الدنيا، وهى أعز النيات وأعلاها، وقليل من يفهمها، فضلاً عن أن يتعاطاها، وصاحب هذا المقام لا يجاوز ذكر الله تعالى والفكر في جلاله حباً له.
وقد حكى أحمد بن خضرويه أنه رأى رب العزة في منامه، فقال له: كل الناس يطلبون منى، وأبو يزيد يطلبني.
وغرضنا أن هذه النيات متفاوتة في الدرجات ومن غلب على قلبه منها، فربما لم يتيسر له العدول إلى غيرها، ومن حضرت له نية في المباح، ولم تحضر في فضيلة فالمباح أولى، وانتقلت الفضيلة إليه.
مثال ذلك أن تحضره نية الأكل والنوم ليتقوى بذلك على العبادة ويريح بدنه ولم تنبعث نيته في الحال إلى الصلاة والصوم، فالأكل والنوم أفضل، بل لو ملّ العبادة لكثرة مواظبته عليها، وعلم أنه لو رفه ساعة مباح عاد نشاطه، فذلك أفضل من التعبد حينئذ.
قال علي عليه السلام: روحوا القلوب، واطلبوا لها طرف الحكمة فإنها تمل كما تمل الأبدان.
وقال بعضهم: روحوا القلوب تعي الذكر.
وهذه دقائق لا تدركها إلا بممارسة العلماء، فإن الحاذق في الطب قد يعالج المحرور باللحم مع حرارته، ويستبعد ذلك القاصر في الطب، وإنما يبتغى به أن تعود قوته ليتحمل المعالجة، وكذلك الخبير بالقتال، قد يفر من بين يدي قرنه حيلة منه، ليستجره إلى مضيق، فسلوك طريق الله تعالى كله حرب مع الشيطان، ومعالجة للقلب، والمبصر الموفق يقف في تلك الطريق على لطائف من الحيل يستبعدها الضعفاء، فلا ينبغي لهم ما خفي عليهم، بل يسلمون لأصحاب الأحوال إلى أن ينكشف لهم أسرار ذلك، أو ينالوا ذلك المقام.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin