رابعا ـ الماء
في اليوم الرابع.. كان الحديث عن الماء في القرآن الكريم، وفي العلم..
وقد تحدث علماء الدين بطريقتهم وأسلوبهم الذي تعودنا عليه.. فخلطوا بين التفسير واللغة والفقه.
وتحدث صديقي عالم المياه عن المياه كما نص عليها العلم..
ولم يكن هناك أي رابط يربط ما ذكره بما ذكروه.
وصاحبي هذا عاشق للمياه بأنواعها، فلا تراه يتحدث إلا عنها، لست أدري سر ذلك بالضبط.. ولكن البيئة التي ولد فيها ونشأ كانت لها علاقة كبرى بالمياه، فقد كان يسكن على شاطئ بحر يمتزج بمياه بحيرة تصب فيه، وكان لوالده سفينة صيد تربى صاحبنا فيها، كما يتربى سائر الصبيان في المحاضن.. لقد كان البحر هو المهد الذي يذكره بصباه.
وفي كبره، كان أول ما فعله صاحبنا أن اشترى سفينة مجهزة بكل الوسائل التي يتطلبها البحث في علوم البحار وكنوز البحار.. وكان لا يستقر إلا فيها.. وقد جاب بها بحار العالم، وهو يتحدث عنها كما نتحدث نحن عن بلدان العالم.
وكان في صاحبنا استعداد كبير للتدين.. فقد كان له من الصفاء النفسي ما للمياه، وكان فيه من حياة الروح ما لها.
ولكنه صدم بوقائع كثيرة جعلته يسقط في الغفلة لا الازدراء.. فلم يكن يزدري الدين.. ولكنه لم يكن يجد فيما بين يديه من الأديان من يقنع عقله وروحه التي عشقت المياه.
في ذلك المساء أرسلت إلى علي بأن نلتقي عند بحيرة عذبة صغيرة كانت تتواجد في منطقة قريبة من المدينة التي كنا بها.
1 ـ أصل الماء
عند البحيرة الجميلة جلسنا على بعض الصخور المحيطة بها، ورحنا نتحدث مع صاحبنا عالم المياه عن المياه..
كان أول سؤال خطر على بالي أن أسأله إياه يرتبط بالأصل والمبدأ.. بأصل المياه على الأرض..
كان صاحبي مغرما بالتفاصيل.. بكل التفاصيل العلمية والتاريخية، فلذلك راح يبدأ من الأول، فقال: لقد تضاربت آراء العلماء حول أصل الماء علي سطح الأرض تضاربا كبيرا[1], ولم يحاول أحدهم ربط ذلك بماء المطر علي الرغم من وضوح ذلك:
ففي الحضارة اليونانية القديمة اقترح أفلاطون(428 ـ348 ق.م.) وجود خزانات جوفية هائلة علي هيئة عدد من الممرات والقنوات تحت سطح الأرض تقوم بتغذية جميع أشكال الماء علي سطح الأرض من جداول وأنهار, وبحيرات وبحار ومحيطات وغيرها, وتخيل أن هذا الخزان المائي الهائل ليس له قاع إذ يتخلل الأرض كلها, وأن الماء يمور فيه بصفة مستمرة.
أما أرسطو(385 ـ322 ق.م) فقد رفض هذه الفكرة علي أساس أن مثل هذا الخزان لابد أن يكون أكبر من حجم الأرض لكي يتمكن من الإبقاء علي جميع الأنهار متدفقة, ونادي بأن هواء باردا في داخل الأرض يتحول إلي الماء كما يتحول الهواء البارد حول الأرض, واقترح أن تضاريس الأرض العالية تعمل عمل قطع الإسفنج الهائلة حيث تتشبع بهذا الماء المتكون في داخل الأرض من تكثف الهواء الجوفي البارد, وأنها تقطر هذا الماء فتغذي به الأنهار والجداول والينابيع.
كذلك نادي فيزوفيوس في القرن الأول الميلادي (وهو من مفكري الحضارة الرومانية) بأن الأودية بين الجبال أكثر حظا من الجبال في غزارة ماء المطر, وأن الثلج يبقي فوق الأرض لفترة أطول في المناطق المكسوة بالغابات الكثيفة, وأنه عند انصهاره يتحول إلي ماء فيتخلل فتحات الأرض, ويصل في النهاية إلي أسافل الجبال التي تسيل منها الجداول وتتدفق.
وظل العديد من العلماء حتي أواخر القرن السابع عشر الميلادي مقتنعين بفكرة الكهوف الكبيرة في داخل الأرض كمصدر رئيسي لماء الأنهار, أو أن الماء المتجمع تحت سطح الأرض يأتي من البحر, وقد لخص هذه الآراء الخاطئة عالم أوروبي باسم أثناسيوس كيرثر(1602-1680 م) مفترضا أن البحر مرتبط بجبال جوفاء تتدفق منها الأنهار والجداول.
ولم يستطع أحد من علماء الغرب ومفكريه تصور إمكانية أن تكون زخات المطر المتفرقة علي مدار السنة كافية لابقاء الأنهار وغيرها من مجاري الماء متدفقة به علي مرور الزمن علي الرغم من أن فرنسيا باسم برنارد باليسي(1510 م-1590م) كان قد أعلن أن الأنهار والينابيع لا يمكن أن يكون لها مصدر غير ماء المطر, وأشار إلي أن الماء تبخره حرارة الشمس, وتحمل الرياح الجافة التي تضرب الأرض هذا البخار فتتشكل السحب التي تتحرك في كل الاتجاهات, وعندما تدفع الرياح تلك الأبخرة يسقط الماء فوق أجزاء من الأرض, ثم تذوب تلك السحب التي ليست سوى كتلة من الماء, وتتحول إلي مطر يسقط علي الأرض, وعندما يواصل هذ الماء نزوله من خلال شقوق الأرض، ويستمر في النزول حتي يجد منطقة مغلفة بالصخور الكثيفة فيستقر عندها علي هيئة مخزون فوق هذا القاع الذي يتدفق منه الماء عندما يجد فتحة توصله إلي سطح الأرض علي هيئة ينابيع أو جداول أو أنهار.
وهذا القول هو الحقيقة التي تاه الكثير في البحث عنها.. فالشمس تبخر كما هائلا من ماء الأرض، فيرتفع علي هيئة بخار يعلق بأجزاء من الغلاف الغازي للأرض, ثم يتكثف في أجزاء منها علي هيئة قطيرات دقيقة من الماء مكونا السحب .
ويقدر مايرتفع من الأرض إلي غلافها الغازي سنويا بنحو(380,000 كيلومترا مكعبا) من الماء, يتبخر أغلبه من أسطح البحار والمحيطات(320,000 كيلومترا مكعبا), ويرتفع الباقي من اليابسة(60,000 كيلومترا مكعبا).
ويعود كل مايتبخر من ماء الأرض إليها ثانية (380,000 كيلومترا مكعبا في السنة) ينزل منه (284,000 كم3) فوق البحار والمحيطات, و(000,.96 كم3) فوق اليابسة.
وفي عودته إلي الأرض يتحرك بحسب نسب مقدرة محددة، فالفرق بين البخر من أسطح البحار والمحيطات والمطر فوقها( ناقص36,000 كم3) هو نفسه الفرق بين الإمطار علي اليابسة والبخر الصاعد منها (زائد36,000 كم3)، والزائد علي اليابسة يفيض إلي البحار والمحيطات للمحافظة علي مستوي منسوب الماء فيها في كل فترة زمنية محددة.
ما وصل صاحبي عالم المياه من حديثه إلى هذا الموضع حتى مر علي، وهو يقرأ بصوته الخاشع قوله تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[2] (المؤمنون:18)،
فسكت عالم المياه، وكأنه يسمع شيئا جديدا لم يسمعه من قبل..
ثم نهض، واقترب من علي، وقال: أعد علي ما كنت تقرأ.
أعاد علي الآية التي قرأها، فقال عالم المياه: أهذا هو القرآن الذي جاء به محمد؟
قال علي: أجل.. هذا هو القرآن الذي تكلم الله به لعباده.. هذا هو القرآن الذي شرح الله لنا فيه حقيقتنا وحقيقة الوجود.
قال عالم المياه: لقد سبق محمد برنارد باليسي إذن[3]..
قال علي: فيم سبقه؟
قال عالم المياه: في أصل المياه التي تمتلئ بها الأنهار والآبار [4]..
قال علي: هذا كلام الله.. والله أعلم بما خلقه..
قال عالم المياه: إن الآية التي قرأتها تحوي حقائق جليلة ترتبط بأصل المياه.
قال علي: فعلمني من علمها.. فلكل آية علماؤها.. ولا أراك إلا من علمائها.
المياه المقدرة:
قال عالم المياه: أول ما تنبهنا إليه الآية أن الماء المنزل من السماء منزل بقدر معلوم.. وهذه حقيقة علمية عظيمة.
قال علي: وهي حقيقة قرآنية عظيمة.. فقد أشار القرآن الكريم إلى التوازن العجيب في تصريف المياه، فقال:﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ (الشورى:27)، وقال:﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ (الزخرف:11)
قال عالم المياه: لقد نصت هذه الآيات على أن المطر ينزل بكمية محسوبة، وقد دلت الأبحاث الحديثة على هذا، وتقدر هذه الأبحاث أنه في الثانية الواحدة يتبخر من الأرض تقريباً 16 مليون طنا من الماء، وهذا يعني أن الكمية التي تتبخر في السنة الواحدة تبلغ 513 تريليون طن من الماء، وهذا الرقم مساو لكمية المطر التي تنزل على الأرض خلال سنة.
وهذا يعني أن المياه تدور دورة متوازنة ومحسوبة عليها تقوم الحياة على الأرض، وحتى لو استعمل الناس كل وسائل التكنولوجيا المتوفرة في العالم فلن يستطيعوا أن يعيدوا إنتاج هذه الدورة بطريقة صناعية.
قال علي: لقد أشار رسول الله r إلى إلى ثبات كمية الأمطار كل عام، فقد قال:( ما من عام بأقلّ مطراً من عام ولكن الله يصرِّفه )[5]
فقد حدد هذا الحديث الفترة التي يتم خلالها حساب نسبة الأمطار على سطح الكرة الأرضية، وأنها قد تختلف من شهر لآخر، ومن فصل لآخر حسب درجة الحرارة وحالة الطقس.. ولكن إذا حسبنا كمية الأمطار الهاطلة خلال (12 شهراً) نجدها ثابتة[6].
قال عالم المياه: هذه حقيقة علمية، فهذه الدورة المائية المعجزة حول الأرض استمرت منذ خرج ماء الأرض من داخلها إلي اليوم الراهن, وبهذه الدورة يتحرك الماء من الغلاف المائي للأرض إلي غلافها الهوائي ليتطهر مما يتجمع فيه من ملوثات ومواد ذائبة فيه وعالقة به, وتمتد هذه الدورة من نحو الكيلومتر تحت سطح الأرض إلي ارتفاع يقدر بنحو خمسة عشر كيلومترا فوق مستوى سطح البحر.
خزانات المياه:
قال علي: فهمت الإشارة الأولى.. فما الإشارة الثانية التي شدت انتباهك؟
قال عالم المياه: لقد أشارت الآية التي كنت تقرؤها إلى خزانات المياه.. فالماء في الأرض مخزن بدقة معجزة.
وعندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود لملايين السنين، وهذه المياه تسكن تحت الأرض منذ ملايين السنين، وفيها أحياء لا زالت تعيش وتتكاثر.
إنه من العجيب أن يستخدم كلمة ﴿ فَأَسْكَنَّاهُ﴾ ، إن القرآن يتحدث هنا عن المدة الزمنية الكبيرة التي يمكث فيها الماء في الأرض دون أن يفسد أو يختلط ويتفاعل مع صخور الأرض، ففي قوله:﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ إشارة إلى أن الماء يسكن في الأرض، ويقيم فترة طويلة من الزمن على الرغم من وجود الأحياء الدقيقة والفطريات والأملاح والمعادن والمواد الملوثة تحت سطح الأرض، إلا أن الماء يبقى نقياً وماكثاً لا يذهب.
قال علي: لقد تحدث القرآن الكريم عن منته على عباده بتخزين المياه وحفظها، فهو يقول:﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾(الحجر: 22)
قال عالم المياه: صدق القرآن.. ما أدل هذه الكلمة على الحقيقة.. ﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾.. فمن الذي أودع في الماء خصائص تجعله قابلاً للتخزين في الأرض آلاف السنين؟ ومن الذي أعطى لقشرة الأرض ميزات تجعلها تحتضن هذه الكميات الضخمة من المياه وتحتفظ بها غير مبدع الكون وخالقه.
قال علي: لقد تحدث القرآن عن الآلية التي يتم بها سكون الماء في الأرض، فقال:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾(الزمر: 21)
قال عالم المياه: هنا أيضا نلاحظ دقة القرآن العلمية، فكلمة (فَسَلَكَهُ) دقيقة جداً من الناحية العلمية، فالماء الذي ينزل من السماء يسلك طرقاً معقدة داخل الأرض، حتى إن العلماء اليوم يحاولون تقليد الاهتزازات التي يتعرض لها الماء خلال رحلته في الأرض، وهذا السلوك للماء هو الذي يعطيه طعماً مستساغاً.
إن الماء عندما ينزل من السماء ويتسرب خلال تربة الأرض، ويمر في مسامات التربة الأرضية وبين الصخور، تنحل فيه بعض المعادن والأملاح، وهي مفيدة للجسم غاية الإفادة.
قال علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا أيضا في قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً) (المرسلات:27)، فهذه الآية تربط بين الجبال الراواسي الشامخات أي ذات الارتفاع العالي، وبين الماء الفرات.
قال عالم المياه: هذه آية عظيمة.. إنها تشير إلى علاقة الجبال بنزول المطر وعلاقتها أيضاً بتنقية الماء [7] حتى إن العلماء اليوم ينظرون إلى الجبال كأبراج ماء ضخمة، فنحن اليوم نعيش في ظروف تلوث خطيرة بعد التطور الصناعي الكبير الذي رافقه إطلاق كميات ضخمة من الملوثات بسبب المصانع ووسائل النقل وما تطلقه من غازات سامة تضر بالبيئة والإنسان، ولذلك نجد أن ماء المطر اليوم لدى نزوله من الغيوم يمتص جزءاً من الملوثات الموجودة في الجو.
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الماء عند مروره في طبقات التراب والصخور المختلفة تتم عملية التنقية الطبيعية له، وكلما زادت المسافة التي تقطعها قطرة الماء زادت درجة نقاوتها، وهنا تتجلى معجزة هذه الاية ربط الماء العذب الفرات بالجبال الشامخة، لأن المسافة التي يقطعها ماء المطر خلال الجبال العالية طويلة والماء الناتج أنقى وأكثر عذوبة.
2 ـ الماء والحياة
نظر صديقي إلى الأسماك الجميلة الملونة التي كانت تبدو من خلال صفحة الماء، وقال: انظروا إلى جمال الحياة تحت الماء.. لا يمكن أبدا أن تكون هناك حياة بلا ماء.
قال علي: صدقت، لقد ورد ذكر الماء كثيرا في القرآن الكريم، باعتبار علاقته الوثيقة بالحياة، بل إن الله تعالى ذكر الماء عند ذكره لخلق السموات والأرض، فقال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الانبياء:30)
الحياة:
انتفض عالم المياه، وقال: صدق القرآن.. إنه يعبر عن الحقيقة بكل دقة وجمال، إن الماء ليس مجرد سائل كسائر السوائل.. إنه سر الحياة.. إنه الركيزة الكبرى في حياة الكائنات الحية، وعليه تتوقف جميع العمليات الحيوية فيها.
قلت: ما سر اختصاص الماء بهذه القدرات العجيبة؟
قال: يرجع ذلك إلى الخواص الفريدة للماء، والتي تجعله بحق سائل الحياة:
فمن خصائصه أنه يذيب العديد من المواد أكثر من أي سائل آخر، ويرجع هذا إلى مقدرة الماء العالية في فصل الجزيئات المتأينة وغير المتأينة بعيداً عن بعضها البعض.
وللماء حرارة نوعية عالية مقارنة بالكثير من السوائل، فله حرارة تبخر، وحرارة كامنة عاليتان بصورة غير عادية، وتساعد هاتان الخاصيتان على بقاء الماء بصورته السائلة في درجات حرارة مختلفة، بل تجعله صالحاً لحياة الكائنات الحية في درجات حرارة عالية أومنخفضة نسبياً.
ومع أن معظم المواد تكون عند أعلى كثافة لها في درجة التجمد، ولكن الماء يشذ عنها، حيث له أعلى كثافة عند درجة 4س، وهذه الخاصية مهمة للأحياء المائية البحرية، حيث يطفو الجليد على سطح الماء، وبذلك يعمل عازلاً لما تحته، ويمنع الماء السفلي من التجمد، وهذا يحمي الكائنات البحرية من الهلاك والتجمد.
والماء شفاف قابل لنفاذية الموجات الضوئية المرئية، وبذلك يصل الضوء إلى أعماق كبيرة في البحار، وإلى داخل أوراق النباتات الأرضية، فتتم عملية البناء الضوئي فيها.
وللماء خاصية شد سطحي أعلى من كل السوائل المعروفة، عدا الزئبق وهذه الخاصية تجعله يرتفع في أجزاء النبات إلى مسافات عالية تصل إلى أكثر من 60 مترا.
وللماء قدرة تلاصق كبيرة مع كل من جزيئات النشا والسليلوز والبروتين، بحيث إذا تلا مس الماء مع أي منهم تلاصقا بشدة مع بعضهما البعض، مما يؤدي إلى بلل تلك المواد، وهذه الخاصية مهمة للكائنات الحية، ولإتمام العملية الحيوية بها، وصعود الماء في النبات.
وبالإضافة إلى هذا كله، فقد أثبتت جميع التجارب العلمية أن للماء دوراً حيوياً كبيراً في حياة الكائنات الحية، ففقدان الجسم بالجوع 50 بالمائة من الدهون والبروتينات غير مهلك، ولكن فقدان الجسم نسبة 20 بالمائة فقط من مائة قاتل.
وقد ثبت أن موت الكلاب الجائعة يتأخر عشرة أضعاف في حالة إذا ما قدم لهذه الكلاب الماء فقط.
وسر هذا النشاط الحيوي للماء يرجع إلى أمور كثيرة، منها أن الماء ينظم بدقة العمليات الحيوية في الكائنات الحية، فجميع الأنشطة الحياتية وتفاعلاتها المتعددة من التغذية إلي الإخراج ومن النمو إلي التكاثر لا تتم في غيبة الماء بدءا من التمثيل الغذائي, وتبادل المحاليل بين الخلايا وبعضها البعض, وبينها وبين المسافات الفاصلة بينها, وذلك بواسطة الخاصية الشعرية للمحاليل المائية التي تعمل من خلال جدر الخلايا, وانتهاء ببناء الخلايا والأنسجة الجديدة مما يعين علي النمو والتكاثر, وقبل ذلك وبعده التخلص من سموم الجسم وفضلاته عن طريق مختلف صور الإفرازات والإخراجات.
هذا بالإضافة إلي ما يقوم به الماء من أدوار أساسية في عمليات بلع الطعام, وهضمه, وتمثيله, ونقله, وتوزيعه, ونقل كل من الفيتامينات, والهرمونات, وعناصر المناعة, ونقل الأوكسجين إلي جميع أجزاء الجسم, وإخراج السموم والنفايات إلي خارج الجسم, وحفظ حرارة الجسم ورطوبته وما يقدم لذلك أو يترتب عليه من العمليات الحيوية.
ومنها أنه منظم لدرجة حرارة الجسم, بما له من سعة حرارية كبيرة, ومنظم لضغط الدم, ولدرجات الحموضة, فإن في نقصه تعطش الخلايا ويضطرب عملها, وتتيبس الأنسجة, وتتلاصق المفاصل, ويتجلط الدم ويتخثر, ويوشك الكائن الحي علي الهلاك ولذلك فإن أعراض نقص الماء بالجسم الحي خطيرة للغاية, فإذا فقد الإنسان علي سبيل المثال1بالمائة من ماء جسده أحس بالظمأ, وإذا ارتفعت نسبة فقد الماء إلي5بالمائة جف حلقه ولسانه, وصعب نطقه, وتغضن جلده, وأصيب بانهيار تام, فإذا زادت النسبة المفقودة علي10بالمائة أشرف الإنسان علي الهلاك بالموت.
وفي المقابل فإن الزيادة في نسبة الماء بجسم الكائن الحي علي القدر المناسب له قد تقتله, فالزيادة في نسبة الماء بجسم الإنسان قد تسبب الغثيان, والضعف العام وتنتهي بالغيبوبة التي تفضي إلي الموت.
ومنها أن عمل العضيات الحيوية المهمة بالخلية مثل الميتوكوندريا (مواضع تكوين البروتين بالخلية) والبلاستيدات الخضراء (عضيات تكوين الغذاء في النبات من الضوء) يتوقف عملها جميعاً على امتلائها وانتفاخها بالضغط المائي.
ومنها أن الماء ينقل المركبات العضوية وغيرها بالجسم، نظراً لانخافض لزوجته ومقدرته على الحركة وإذابة كثير من المركبات العضوية وغير العضوية.
ومنها أن الماء يؤدي وظيفة إخراج نواتج الهدم في الأجزاء المتخصصة لذلك في الكائنات الحية.
ومنها أن الماء ضروري لعمليات التحلل المائي والأكسدة والاختزال في الأجسام الحية.
ومنها أن الماء ينظم درجة حرارة الكائنات الحية، وذلك لارتفاع حرارته النوعية ولتوصيله الجيد للحرارة.
ولهذا كله وغيره، فإن الماء يشكل العنصر الأساسي في بناء أجساد جميع الكائنات الحية, فقد ثبت بالتحليل أن نسبة الماء في جسم الإنسان تتراوح بين حوالي71بالمائة في الإنسان البالغ, و93بالمائة في الجنين ذي الأشهر المحدودة, بينما يكون الماء أكثر من80بالمائة من تركيب دم الإنسان, وأكثر من90بالمائة من أجساد العديد من النباتات والحيوانات.
ونتيجة لذلك، فلا يمكن للحياة أن تقوم بغير الماء أبدا, فمن الكائنات الحية ما يمكنه الاستغناء كلية عن أوكسجين الهواء, ولكن لا يوجد كائن حي واحد يمكنه الاستغناء عن الماء كلية.
ولهذا يغطي الماء حوالي71 بالمائة من مساحة سطح الأرض، بينما تشغل مساحة اليابسة حوالي29 بالمائة من تلك المساحة.
والأرض ـ بذلك ـ أغني كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تقدر كميته علي السطح بنحو1,4 بليون كيلو متر مكعب, بالإضافة إلي مخزون يقدر بمئات أضعاف هذا الرقم في نطاق الضعف الأرضي, يخرج بقدر معلوم مع ثورات البراكين.
ويتوزع أغلب الماء علي سطح الأرض( حوالي97,22بالمائة) في البحار والمحيطات التي تغطي مساحة تزيد علي362 مليون كيلو متر مربع, بمتوسط عمق يقدر بحوالي3800 مترا مما يعطي لبحار ومحيطات الأرض حجما يزيد قليلا علي(1375) مليون كيلو متر مكعب من الماء المالح.
هذا بالإضافة إلي كم من الجليد يغطي قطبي الأرض, وقمم الجبال بسمك يصل إلي أربعة كيلو مترات في القطب الجنوبي وإلي3800 متر في القطب الشمالي, ويقدركم الماء في هذا الغطاء الجليدي بحوالي(2,15بالمائة) من مجموع الماء علي سطح الأرض, والنسبة الباقية وتقدر بحوالي(0,63بالمائة) من مجموع ماء الأرض تمثل أغلبها بالمخزون المائي في صخور قشرة الأرض ونسبته0,613بالمائة ويمثل الباقي بمخزون البحيرات الداخلية, وكم الماء الجاري في الأنهار والجداول, ورطوبة كل من الجو والتربة, التي تعين الأرض علي الإنبات, وتلعب دورا مهما في تكوين السحب التي تدفع عن الأرض جزءا كبيرا من حرارة وأشعة الشمس بالنهار, كما ترد إلي الأرض معظم الدفء الذي تشعه صخورها إلي الجو بمجرد غياب الشمس.
وهذا التوزيع المعجز للماء علي سطح الأرض لعب ـ ولا يزال يلعب ـ دورا أساسيا في تهيئة مناخ الأرض لاستقبال الحياة, فلولا هذه المساحات المائية والجليدية الشاسعة لاستحالت الحياة التي نعرفها علي سطح الأرض, لأن درجة حرارة نطاق المناخ كان من الممكن أن تصل إلي أكثر من مائة درجة مئوية بالنهار, وأن تنخفض إلي ما دون المائة درجة تحت الصفر المئوي بالليل, وهو تباين لا تقوي عليه كل صور الحياة المعروفة لنا.
فالغلاف المائي للأرض الذي ينظم درجة حرارتها, وحرارة الهواء المحيط بها في نطاق المناخ, وذلك بتكرار عمليات التبخير بكميات كبيرة من الماء, وتكثيف هذا الكم الهائل من بخار الماء علي هيئات السحاب والضباب والندي, وإنزاله إلي الأرض علي هيئة المطر, والثلج والبرد, وما يصاحب ذلك من رعد وبرق, وما ينزل معهما من مركبات النيتروجين وغيره من العناصر التي تثري تربة الأرض بما يحتاجه النبات من مركبات, وما يصاحب كل ذلك من إحياء للأرض بعد موتها.
بالإضافة إلى هذا كله، فالماء يساعد علي حفظ درجات الحرارة في البحار والمحيطات في الحدود التي تعين الحياة البحرية علي النشاط, وذلك باختلاط التيارات البحرية الدافئة والباردة, وبامتصاص جزء كبير من أشعة الشمس، ومما تنتجه الأحياء البحرية من حرارة نتيجة لمختلف أنشطتها الحيوية, والعمل علي إعادة توزيعها, وكذلك توزيع الحرارة الناتجة عن ثورات البراكين فوق قيعان كل محيطات الأرض, وقيعان أعداد من بحارها.
الطهارة:
قال علي: لقد ذكر القرآن الكريم من تأثير الماء في الحياة أنه جعله سببا لطهارة الكائنات، ووسيلة لها، فقال:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ﴾ (الفرقان:48)
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدور التطهيري للمطر في قوله تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ﴾ (الفرقان: من الآية48)، وقال تعالى:﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴾ (لأنفال:11)
قال عالم المياه: صدق القرآن في هذا.. فعند نزول المطر إلي الأرض قد يتدفق فوق سطحها علي هيئة السيول الجارفة.. وقد يتسلل إلي التربة, أو يصل إلي طبقات صخرية عالية المسامية والنفاذية، فيتحرك رأسيا بالجاذبية الأرضية إلي أسفل حتي يصل إلي مخزون الماء تحت سطح الأرض، فيعمل علي تجديد عذوبته, وتعويض مايفيض أو يضخ منه.
وهذه الدورة المائية المعجزة يتم بواسطتها تطهير الماء, وتلطيف جو الأرض, وتوفير نسبة معينة من الرطوبة, في كل من غلافها الغازي وتربتها فتسمح للكائنات الحية بما تحتاجه منها.
وبواسطة هذه الدورة المائية تتم تسوية سطح الأرض, وشق الفجاج والسبل فيه, ويتم تفتيت الصخور, وتكوين كل من التربة والصخور الرسوبية, وخزن قدر من ماء المطر فيها وفي غيرها من صخور قشرة الأرض, وتركيز عدد من الخامات الاقتصادية.
قال علي: ولهذا يربط القرآن الكريم بين المطر وحياة الأرض، فيقول:﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ (البقرة: من الآية164)، وقال تعالى:﴿ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ (النحل:65)، وقال تعالى:﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ (العنكبوت:63)، وقال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (فصلت:39)، وقال تعالى:﴿ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (الجاثـية:5)
قال عالم المياه: بالإضافة إلى هذا كله.. فإن لدورة الماء حول الأرض فوائد كثيرة من أبرزها تطهير هذا الماء من عوالقه وشوائبه المختلفة, فحينما ينزل ماء المطر علي الأرض ويجري علي سطحها، فإنه يحمل معه من نفاياتها كما كبيرا إلي أحواض البحار والمحيطات في عملية تنظيف وتطهير مستمرة لسطح الأرض, وغسل لأدرانها المختلفة, والماء في جريانه علي سطح الأرض يذيب كل مايمكن اذابته من مكوناتها من مختلف العناصر والمركبات, كما يحمل ملايين الاطنان من العوالق غير المذابة والتي تترسب علي طول مجاري الانهار والأودية ودالاتها وفوق قيعان البحار والمحيطات والبحيرات وغيرها من التجمعات المائية, وفي هذه الأوساط المائية يحيا ويموت بلايين الكائنات الحية، ولذلك يتعفن الماء غير الجاري في التجمعات المائية المحدودة بسرعة كبيرة وبدرجات أقل في البحار الواسعة والمحيطات, ويزيد من تلوث هذه الأوساط المائية مايدفع إليها من مخلفات المصانع والمنازل.
وحينما تبخر أشعة الشمس هذا الماء فإنه يتطهر مما فيه من الملوثات, ويصعد إلي الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي علي هيئة بخار ماء نقي طاهر من كل ماكان فيه من أدران وأوساخ وأملاح.
وهذه هي عملية التطهير الرئيسية لماء الأرض, ولذلك فان أنقي صورة للماء الطبيعي هي ماء المطر, علي الرغم من أنه عند نزوله من السماء قد يذيب نسبة ضئيلة من مكونات الغلاف الغازي للأرض كما قد يحمل معه نسبة لاتكاد تدرك من ذرات بعض الأملاح اللازمة لصحة الإنسان وغيره من الكائنات الحية, وذلك لأن الماء الصافي تماما قد يكون ضارا بجسم الإنسان.
ولايفسد ماء السماء إلا الملوثات التي قد يطلقها الإنسان, وذلك من مثل أكاسيد الكبريت التي تسبب نزول مايسمي بالأمطار الحمضية أو إطلاق بعض الغبار المشع كالذي ينتج من التجارب النووية أو من التسرب من المنشئات القائمة علي مثل هذا النشاط كالمفاعلات النووية.
قال علي: ولهذا من الله على عباده بأن حفظ لهم طهارة الماء وصلاحه للشرب، فقال:﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ(69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) ﴾(سورة الواقعة)
وكان r إِذَا شَرِبَ الْمَاء قَالَ:( الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلهُ مِلْحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِنَا )[8]
قال عالم المياه: صدق محمد.. إن السلوك الإنساني الجشع والمدمر هو الذي يخرب هذا المخزون الهائل من المياه التي تمتلئ بها الأرض والسماء.. إن الذنوب هي التي حولت من المياه العذبة إلى مياه مسمومة.
سكت قليلا، ثم قال بنبرة حزينة: للأسف.. فإن المطر الآن يسقط في مناطق كثيرة ـ خاصة فى البيئات الصناعية ـ مطراً حمضياً يهلك الحرث والنسل، فقد بلغ الأس الهيدروجيني للمطر فى بعض المناطق الصناعية درجة عالية تجعل مياه الأمطار عالية الحموضة محدثه أضرار كثيرة.
لقد فقدت مئات من البحيرات فى أمريكا الشمالية وشمال غرب أو ربا ـ نتيجة ارتفاع درجة حموضة مياهها بسبب المطر الحمضي ـ معظم ما بها من ثروات سمكية وأصبحت 90 بحيرة فى منطقة جبال أدرونداك فى ولاية نيويورك ـ مثلا ـ خالية تماماً من الأسماك تحت تأثير الحموضة المتزايدة لمياه البحيرات، وهي حموضة قاتلة للأحياء.
ولايقتصر تأثير المطر الحمضي على الأضرار بمياه الأنهار والبحيرات، وإنما يمتد تأثيره إلي مخاطر كثيرة، فقد أعلن فريق من الباحثين فى جامعة نيوها مبشير بالولايات المتحدة الامريكية (1985) أن المطر الحمضي يمنع حاسة الشم عند سمك السالمون، ولهذا يفقد قدرته على إيجاد طريقة نحو مجاري الأنهار العليا من أجل وضع بيضة وإتمام عملية الفقس.
كما بدأت الأمطار الحمضية تضر بالمحاصيل الزراعية تحت تأثير ترسب كميات كبيرة من المواد الحمضية فى التربة مما يغير من تركيبها الكيماوي فى اتجاه الحموضية المتزايدة التى تضر، بل تقتل النباتات إذ تعمل الحموضة الزائدة فى التربة على إفقار التربة نتيجة إزالة الكاثيونات ( الأيونات الموجبة ) منها التى تعتبر القاعدة الأساسية لتغذية النباتات مثل الكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم.
كما يؤدي المطر الحمضي إلى تدمير الكثير من الأشجار والنباتات حيث تصاب بظاهرة الموت التراجعي حيث تموت الأشجار واقفه ـ كما يقولون ـ إذ تتلف الأوراق العلوية المعرضة مباشرة للمطر الحمضي الذى يقتل المادة الخضراء فيها، ثم ينتقل التأثير بعد ذلك الى الأوراق التحتية، فقد أو ضح تقرير من ألمانيا الاتحادية (1980) أن مساحة من الغابات تقدر بنحو560 ألف هكتار أي حوالي 7ر7 بالمائة من مجموع مساحات الغابات في ألمانيا قد دمرت أو أتلفت بدرجات متفاوته نتيجة المطر الحمضي والضباب الحمضي.
وفي تقرير صادر عن دول مجموعة التعاون الاقتصادي الأوربي (1988) حذر من تفاقم التلوث المائي الناجم عن تكثيف استخدام الأسمدة الكيماوية، ودعا التقرير إلى الحد من الاستخدام المكثف لهذه الأسمدة الكيماوية لما لها من مخاطر كبيرة على الأحياء المائية.
قال علي: لقد أشار القرآن الكريم كذلك إلى هذا، وحذر منه، فقال تعالى:﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ (الروم:41)
قال عالم المياه: صدق القرآن.. لم أكن أتصور أن يهتم كتاب مقدس بمثل هذه النواحي.
قال علي: بهذه المناسبة.. لقد ورد في الحديث عن رسول الله r أنه كان يقول في دعائه:( اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد )، فلماذا ذكر r هذه الثلاثة، ولم يكتف بالماء[9]، وهل هناك فرق في القدرة على التطهير بينها؟
قال عالم المياه: أجل.. فللماء قدرة عجيبة على التنظيف وإذابة المواد، وذلك بسبب ما يتمتع به من خواص، فهو يتكون من ذرتي هيدروجين مرتبطة مع ذرة واحدة من الأكسجين برابطة تساهمية قطبية.
وهذه القطبية الناتجة عن فرق السالبية الكهربائية بين ذرات الهيدروجين والأكسجين تعمل على تجميع جزيئات الماء بواسطة روابط هيدروجينية ضعيفة، تكسبه خصائص فريدة عن المركبات المشابهة له في التركيب، وتسبب تغيرات في خواصه الفيزيائية، فدرجة غليانه مرتفعة 100° س، والتوتر السطحي له كبير، وغيرها من الخواص التي سبق ذكر بعضها.
فالماء الذي اختص بقدرة كبيرة على إذابة المواد حتى سمي بـ (المذيب العام) له قدرة كبيرة على إذابة كثير من المواد الأيونية، حيث أن جزيئات الماء القطبية تهاجم بلورة المركب إذا كان أيونيا، فيعزل ايوناته المتجاذبة داخل الشبيكة البلورية، وتنشأ قوى تجاذب بين جزيئات الماء القطبية والأيونات، حيث تتغلب على قوى التجاذب بين الأيونات في البلورة، فتنتشر المادة المذابة بين جزيئات الماء.
ولهذا عندما تعلق البقع والأوساخ بالثوب تحدث قوى جذب بين القماش والأوساخ تسمى علميا بقوى الالتصاق.
والماء الذي اختص بقدرة كبيرة على إذابة المواد بسبب الخاصية القطبية وخاصية التوتر السطحي، والتي تساعده في التغلغل داخل خيوط القماش (بالخاصية الشعرية ) فيخترق البقعة ويبلل القماش وبالتالي يذيب الأوساخ بعزل ايوناتها عن بعضها، فتضعف قوى التجاذب بينها إذا كانت من النوع الذي يذوب في الماء.
أما إذا كانت البقع دهنية، ولا تذوب في الماء، فإن الماء ينقطع على شكل كرات ولا يبلل سطح النسيج لأن قوى الالتصاق بين الماء والبقع أقل من قوى التماسك بين جزيئات الماء، لذلك يمكن غسلها بالماء والصابون حيث أن محلول الصابون يقلل التوتر السطحي للماء، فينتشر محلول الصابون على الدهون ويتفاعل معها مكونا مستحلباً دهنياً، وتزداد قوى التجاذب بين الماء والبقع، فتترك الأوساخ السطح العالقة به.
قال علي: هذا الماء.. ولكن النبي r أشار إلى طريقة أخرى للتنظيف، وهي الثلج فكيف يكون الثلج وسيلة للتنظيف؟
قال عالم المياه: أنت تعلم أن الماء عندما يتجمد يصبح ثلجا عند درجة الصفر المئوي، وفي ذلك الحين تتغير طريقة ارتباط الجزيئات، فتصبح مثل حلقة البنزين.
هناك بعض الأوساخ التي لا تزول بالماء، أو بالماء والصابون، وذلك لأن قوى الالتصاق بين هذه البقع والقماش تكون كبيرة مثل بقع الشمع أو العلك على القماش.
فعند وضع قطعة من الثلج عليها فإن البرودة تعمل على تقارب جزيئات هذه المادة ( تنكمش ) فتقل قوى الالتصاق بينها وبين القماش مما يؤدي إلى انفصالها.
قال علي: والبرد.. لقد ورد في الحديث ذكر البرد.
قال عالم المياه: أنت تعلم أن البرد يتكون عند درجة حرارة أقل من الصفر المئوي، فإذا كانت هناك أوساخ مستعصية، فان البرد يعمل على انكماش جزيئات هذه الأوساخ بدرجة أكبر من الثلج، فتنفصل وتزول.
قال علي: لقد وردت الإشارة القرآنية بالربط بين تخزين الماء والشرب، فقال تعالى:﴿ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ (الحجر: من الآية22)،
فقد ربطت الآية الكريمة بين تخزين الماء وبين كونه قابلاً للشرب والسقاية، فهل اكتشف العلم ما يبين العلاقة بينهما [10]؟
قال عالم المياه: أجل.. لقد عرف العلم من خلال أبحاث كثيرة أن أفضل وأرخص طريقة لتنقية الماء تنقية كاملة هي بتخزينه تحت الأرض، فهذه الطريقة تقضي على أعتى أنواع الجراثيم وأخطرها قضاءً تاماً.
ولهذا يقوم العلماء اليوم بمحاولات لتخزين الماء الملوث تحت الأرض بهدف تنقيته وجعله صالحاً للشرب، فتخزين الماء تحت الأرض لعدة شهور يؤدي لقتل الجراثيم والفيروسات الموجودة فيه.
يقول الدكتور Dr Simon Toze: (إن الأبحاث تشير إلى أن المياه الملوثة بشدة يمكن أن تُنقّى بسهولة من خلال ضخها تحت الأرض وتركها لمدة كافية )
ويؤكد هذا العالم أن الناس لم يفهموا أهمية تخزين المياه إلا في مطلع القرن الحادي والعشرين، فقد تبين أن التنقية الطبيعية geopurificationيمكن أن تزيل الكثير من المواد والشوائب العالقة في المياه مثل الزيوت وبعض المواد الكيميائية وكثير من أنواع البكتريا والكائنات الضارة.
قال علي: لقد ربط القرآن الكريم ـ كذلك ـ بين الجبال العالية والمياة العذبة، فقال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ﴾ (المرسلات:27)، ففي هذه الآية الكريمة ربط بين الرواسي الشامخات وهي الجبال العالية، وبين الماء الفرات وهو شديد العذوبة.. فهل أثبت العلم العلاقة بينهما[11]؟
قال عالم المياه: قبل أن أجيبك عن سؤالك.. أحب أن أبين لك سر الربط بين الجبال العالية والمياه.
قال علي: فهل هناك علاقة بينهما؟
قال عالم المياه: أجل.. لقد رصد العلماء حركة تيارات الرياح وهي تحمل ذرات بخار الماء من سطح البحر، وهذه التيارات الهوائية تبدأ بالحركة الأفقية حتى تصطدم بالجبال، وهذا يؤدي إلى تغيير مسار الرياح باتجاه الأعلى، لذلك نجد أن قمم الجبال العالية تتجمع الغيوم حولها وتغطيها الثلوج طيلة أيام السنة تقريباً.
وكلما كان الجبل أكثر شموخاً وارتفاعاً أدى ذلك لتجمع كمية أكبر من الغيوم، ثم نزول المطر أو الثلج، ثم ذوبان هذا الثلج وتسرُّبه عبر طبقات الجبل ومسامه حتى تتفجر الينابيع شديدة العذوبة.
ولذلك نجد أن معظم الجبال الشامخة يوجد قربها أنهار وينابيع ومياه عذبة.
قال علي: وما سر العذوبة فيها، والتي أشار إليها القرآن الكريم؟
قال عالم المياه: إن مياه الينابيع هذه، والتي جاءت من الجبال العالية خضعت لعمليات تصفية متعددة.. ومن المعلوم أنه كلما مرَّت المياه عبر مراحل تصفية (فلترة) أكثر كلما كان الماء أنقى.
وفي حالة الجبال التي ترتفع عدة كيلومترات، تعمل هذه الجبال كأفضل جهاز لتنقية المياه على الإطلاق، ولا يمكن للإنسان مهما بلغ من التقدم العلمي أن يقلِّد هذه العمليات التي تتم عبر الجبال.
قال علي: لقد عبر القرآن الكريم عن هذا الماء بكونه فراتا أي عذبا.. والعذوبة شيء زائد على النقاء.. فهل أثبت العلم ذلك؟
قال عالم المياه: أجل.. فالماء النازل من السماء والعابر للصخور الموجودة في الجبال يمتزج ببعض المعادن والأملاح الموجودة في تلك الصخور ويكتسب الطعم المستساغ، ولولا وجود الجبال والصخور وانحلال هذه المواد في الماء لم يكن للماء أي طعم يذكر.
قال علي: لقد ذكر الله تعالى من أنواع الطهارة التي يقوم بها الماء طهارة النفس، فقال:﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) (لأنفال:11)
قال عالم المياه: صدق القرآن.. لقد عبرت هذه الآية عن حقائق كثيرة ترتبط بالمياه[12]، فالأطباء يذكرون أنه عند الخوف تفرز في الدماء مادة ترتعش منها الأطراف، فلا تثبت, ومن وسائل تثبيت الأطراف تقليل هذه المادة بأن يرش من هذه حالته بالماء.
بالإضافة إلى هذا فقد كان نزول الماء سببا لتثبيت تثبيت الأرض التي يسير عليها هؤلاء فتكون ثابتة تحت أقدامهم, لأن الرمال إذا بللت تماسكت وسار عليها السائر بعزم وثبات وتتقدم القدم، فلا تغوص.
في اليوم الرابع.. كان الحديث عن الماء في القرآن الكريم، وفي العلم..
وقد تحدث علماء الدين بطريقتهم وأسلوبهم الذي تعودنا عليه.. فخلطوا بين التفسير واللغة والفقه.
وتحدث صديقي عالم المياه عن المياه كما نص عليها العلم..
ولم يكن هناك أي رابط يربط ما ذكره بما ذكروه.
وصاحبي هذا عاشق للمياه بأنواعها، فلا تراه يتحدث إلا عنها، لست أدري سر ذلك بالضبط.. ولكن البيئة التي ولد فيها ونشأ كانت لها علاقة كبرى بالمياه، فقد كان يسكن على شاطئ بحر يمتزج بمياه بحيرة تصب فيه، وكان لوالده سفينة صيد تربى صاحبنا فيها، كما يتربى سائر الصبيان في المحاضن.. لقد كان البحر هو المهد الذي يذكره بصباه.
وفي كبره، كان أول ما فعله صاحبنا أن اشترى سفينة مجهزة بكل الوسائل التي يتطلبها البحث في علوم البحار وكنوز البحار.. وكان لا يستقر إلا فيها.. وقد جاب بها بحار العالم، وهو يتحدث عنها كما نتحدث نحن عن بلدان العالم.
وكان في صاحبنا استعداد كبير للتدين.. فقد كان له من الصفاء النفسي ما للمياه، وكان فيه من حياة الروح ما لها.
ولكنه صدم بوقائع كثيرة جعلته يسقط في الغفلة لا الازدراء.. فلم يكن يزدري الدين.. ولكنه لم يكن يجد فيما بين يديه من الأديان من يقنع عقله وروحه التي عشقت المياه.
في ذلك المساء أرسلت إلى علي بأن نلتقي عند بحيرة عذبة صغيرة كانت تتواجد في منطقة قريبة من المدينة التي كنا بها.
1 ـ أصل الماء
عند البحيرة الجميلة جلسنا على بعض الصخور المحيطة بها، ورحنا نتحدث مع صاحبنا عالم المياه عن المياه..
كان أول سؤال خطر على بالي أن أسأله إياه يرتبط بالأصل والمبدأ.. بأصل المياه على الأرض..
كان صاحبي مغرما بالتفاصيل.. بكل التفاصيل العلمية والتاريخية، فلذلك راح يبدأ من الأول، فقال: لقد تضاربت آراء العلماء حول أصل الماء علي سطح الأرض تضاربا كبيرا[1], ولم يحاول أحدهم ربط ذلك بماء المطر علي الرغم من وضوح ذلك:
ففي الحضارة اليونانية القديمة اقترح أفلاطون(428 ـ348 ق.م.) وجود خزانات جوفية هائلة علي هيئة عدد من الممرات والقنوات تحت سطح الأرض تقوم بتغذية جميع أشكال الماء علي سطح الأرض من جداول وأنهار, وبحيرات وبحار ومحيطات وغيرها, وتخيل أن هذا الخزان المائي الهائل ليس له قاع إذ يتخلل الأرض كلها, وأن الماء يمور فيه بصفة مستمرة.
أما أرسطو(385 ـ322 ق.م) فقد رفض هذه الفكرة علي أساس أن مثل هذا الخزان لابد أن يكون أكبر من حجم الأرض لكي يتمكن من الإبقاء علي جميع الأنهار متدفقة, ونادي بأن هواء باردا في داخل الأرض يتحول إلي الماء كما يتحول الهواء البارد حول الأرض, واقترح أن تضاريس الأرض العالية تعمل عمل قطع الإسفنج الهائلة حيث تتشبع بهذا الماء المتكون في داخل الأرض من تكثف الهواء الجوفي البارد, وأنها تقطر هذا الماء فتغذي به الأنهار والجداول والينابيع.
كذلك نادي فيزوفيوس في القرن الأول الميلادي (وهو من مفكري الحضارة الرومانية) بأن الأودية بين الجبال أكثر حظا من الجبال في غزارة ماء المطر, وأن الثلج يبقي فوق الأرض لفترة أطول في المناطق المكسوة بالغابات الكثيفة, وأنه عند انصهاره يتحول إلي ماء فيتخلل فتحات الأرض, ويصل في النهاية إلي أسافل الجبال التي تسيل منها الجداول وتتدفق.
وظل العديد من العلماء حتي أواخر القرن السابع عشر الميلادي مقتنعين بفكرة الكهوف الكبيرة في داخل الأرض كمصدر رئيسي لماء الأنهار, أو أن الماء المتجمع تحت سطح الأرض يأتي من البحر, وقد لخص هذه الآراء الخاطئة عالم أوروبي باسم أثناسيوس كيرثر(1602-1680 م) مفترضا أن البحر مرتبط بجبال جوفاء تتدفق منها الأنهار والجداول.
ولم يستطع أحد من علماء الغرب ومفكريه تصور إمكانية أن تكون زخات المطر المتفرقة علي مدار السنة كافية لابقاء الأنهار وغيرها من مجاري الماء متدفقة به علي مرور الزمن علي الرغم من أن فرنسيا باسم برنارد باليسي(1510 م-1590م) كان قد أعلن أن الأنهار والينابيع لا يمكن أن يكون لها مصدر غير ماء المطر, وأشار إلي أن الماء تبخره حرارة الشمس, وتحمل الرياح الجافة التي تضرب الأرض هذا البخار فتتشكل السحب التي تتحرك في كل الاتجاهات, وعندما تدفع الرياح تلك الأبخرة يسقط الماء فوق أجزاء من الأرض, ثم تذوب تلك السحب التي ليست سوى كتلة من الماء, وتتحول إلي مطر يسقط علي الأرض, وعندما يواصل هذ الماء نزوله من خلال شقوق الأرض، ويستمر في النزول حتي يجد منطقة مغلفة بالصخور الكثيفة فيستقر عندها علي هيئة مخزون فوق هذا القاع الذي يتدفق منه الماء عندما يجد فتحة توصله إلي سطح الأرض علي هيئة ينابيع أو جداول أو أنهار.
وهذا القول هو الحقيقة التي تاه الكثير في البحث عنها.. فالشمس تبخر كما هائلا من ماء الأرض، فيرتفع علي هيئة بخار يعلق بأجزاء من الغلاف الغازي للأرض, ثم يتكثف في أجزاء منها علي هيئة قطيرات دقيقة من الماء مكونا السحب .
ويقدر مايرتفع من الأرض إلي غلافها الغازي سنويا بنحو(380,000 كيلومترا مكعبا) من الماء, يتبخر أغلبه من أسطح البحار والمحيطات(320,000 كيلومترا مكعبا), ويرتفع الباقي من اليابسة(60,000 كيلومترا مكعبا).
ويعود كل مايتبخر من ماء الأرض إليها ثانية (380,000 كيلومترا مكعبا في السنة) ينزل منه (284,000 كم3) فوق البحار والمحيطات, و(000,.96 كم3) فوق اليابسة.
وفي عودته إلي الأرض يتحرك بحسب نسب مقدرة محددة، فالفرق بين البخر من أسطح البحار والمحيطات والمطر فوقها( ناقص36,000 كم3) هو نفسه الفرق بين الإمطار علي اليابسة والبخر الصاعد منها (زائد36,000 كم3)، والزائد علي اليابسة يفيض إلي البحار والمحيطات للمحافظة علي مستوي منسوب الماء فيها في كل فترة زمنية محددة.
ما وصل صاحبي عالم المياه من حديثه إلى هذا الموضع حتى مر علي، وهو يقرأ بصوته الخاشع قوله تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ)[2] (المؤمنون:18)،
فسكت عالم المياه، وكأنه يسمع شيئا جديدا لم يسمعه من قبل..
ثم نهض، واقترب من علي، وقال: أعد علي ما كنت تقرأ.
أعاد علي الآية التي قرأها، فقال عالم المياه: أهذا هو القرآن الذي جاء به محمد؟
قال علي: أجل.. هذا هو القرآن الذي تكلم الله به لعباده.. هذا هو القرآن الذي شرح الله لنا فيه حقيقتنا وحقيقة الوجود.
قال عالم المياه: لقد سبق محمد برنارد باليسي إذن[3]..
قال علي: فيم سبقه؟
قال عالم المياه: في أصل المياه التي تمتلئ بها الأنهار والآبار [4]..
قال علي: هذا كلام الله.. والله أعلم بما خلقه..
قال عالم المياه: إن الآية التي قرأتها تحوي حقائق جليلة ترتبط بأصل المياه.
قال علي: فعلمني من علمها.. فلكل آية علماؤها.. ولا أراك إلا من علمائها.
المياه المقدرة:
قال عالم المياه: أول ما تنبهنا إليه الآية أن الماء المنزل من السماء منزل بقدر معلوم.. وهذه حقيقة علمية عظيمة.
قال علي: وهي حقيقة قرآنية عظيمة.. فقد أشار القرآن الكريم إلى التوازن العجيب في تصريف المياه، فقال:﴿ وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ﴾ (الشورى:27)، وقال:﴿ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾ (الزخرف:11)
قال عالم المياه: لقد نصت هذه الآيات على أن المطر ينزل بكمية محسوبة، وقد دلت الأبحاث الحديثة على هذا، وتقدر هذه الأبحاث أنه في الثانية الواحدة يتبخر من الأرض تقريباً 16 مليون طنا من الماء، وهذا يعني أن الكمية التي تتبخر في السنة الواحدة تبلغ 513 تريليون طن من الماء، وهذا الرقم مساو لكمية المطر التي تنزل على الأرض خلال سنة.
وهذا يعني أن المياه تدور دورة متوازنة ومحسوبة عليها تقوم الحياة على الأرض، وحتى لو استعمل الناس كل وسائل التكنولوجيا المتوفرة في العالم فلن يستطيعوا أن يعيدوا إنتاج هذه الدورة بطريقة صناعية.
قال علي: لقد أشار رسول الله r إلى إلى ثبات كمية الأمطار كل عام، فقد قال:( ما من عام بأقلّ مطراً من عام ولكن الله يصرِّفه )[5]
فقد حدد هذا الحديث الفترة التي يتم خلالها حساب نسبة الأمطار على سطح الكرة الأرضية، وأنها قد تختلف من شهر لآخر، ومن فصل لآخر حسب درجة الحرارة وحالة الطقس.. ولكن إذا حسبنا كمية الأمطار الهاطلة خلال (12 شهراً) نجدها ثابتة[6].
قال عالم المياه: هذه حقيقة علمية، فهذه الدورة المائية المعجزة حول الأرض استمرت منذ خرج ماء الأرض من داخلها إلي اليوم الراهن, وبهذه الدورة يتحرك الماء من الغلاف المائي للأرض إلي غلافها الهوائي ليتطهر مما يتجمع فيه من ملوثات ومواد ذائبة فيه وعالقة به, وتمتد هذه الدورة من نحو الكيلومتر تحت سطح الأرض إلي ارتفاع يقدر بنحو خمسة عشر كيلومترا فوق مستوى سطح البحر.
خزانات المياه:
قال علي: فهمت الإشارة الأولى.. فما الإشارة الثانية التي شدت انتباهك؟
قال عالم المياه: لقد أشارت الآية التي كنت تقرؤها إلى خزانات المياه.. فالماء في الأرض مخزن بدقة معجزة.
وعندما نزل أحد العلماء إلى منجم للفحم يبلغ عمقه تحت سطح الأرض أكثر من ألف متر اكتشف وجود مياه تعود لملايين السنين، وهذه المياه تسكن تحت الأرض منذ ملايين السنين، وفيها أحياء لا زالت تعيش وتتكاثر.
إنه من العجيب أن يستخدم كلمة ﴿ فَأَسْكَنَّاهُ﴾ ، إن القرآن يتحدث هنا عن المدة الزمنية الكبيرة التي يمكث فيها الماء في الأرض دون أن يفسد أو يختلط ويتفاعل مع صخور الأرض، ففي قوله:﴿ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ﴾ إشارة إلى أن الماء يسكن في الأرض، ويقيم فترة طويلة من الزمن على الرغم من وجود الأحياء الدقيقة والفطريات والأملاح والمعادن والمواد الملوثة تحت سطح الأرض، إلا أن الماء يبقى نقياً وماكثاً لا يذهب.
قال علي: لقد تحدث القرآن الكريم عن منته على عباده بتخزين المياه وحفظها، فهو يقول:﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ﴾(الحجر: 22)
قال عالم المياه: صدق القرآن.. ما أدل هذه الكلمة على الحقيقة.. ﴿ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾.. فمن الذي أودع في الماء خصائص تجعله قابلاً للتخزين في الأرض آلاف السنين؟ ومن الذي أعطى لقشرة الأرض ميزات تجعلها تحتضن هذه الكميات الضخمة من المياه وتحتفظ بها غير مبدع الكون وخالقه.
قال علي: لقد تحدث القرآن عن الآلية التي يتم بها سكون الماء في الأرض، فقال:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ﴾(الزمر: 21)
قال عالم المياه: هنا أيضا نلاحظ دقة القرآن العلمية، فكلمة (فَسَلَكَهُ) دقيقة جداً من الناحية العلمية، فالماء الذي ينزل من السماء يسلك طرقاً معقدة داخل الأرض، حتى إن العلماء اليوم يحاولون تقليد الاهتزازات التي يتعرض لها الماء خلال رحلته في الأرض، وهذا السلوك للماء هو الذي يعطيه طعماً مستساغاً.
إن الماء عندما ينزل من السماء ويتسرب خلال تربة الأرض، ويمر في مسامات التربة الأرضية وبين الصخور، تنحل فيه بعض المعادن والأملاح، وهي مفيدة للجسم غاية الإفادة.
قال علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذا أيضا في قوله تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً) (المرسلات:27)، فهذه الآية تربط بين الجبال الراواسي الشامخات أي ذات الارتفاع العالي، وبين الماء الفرات.
قال عالم المياه: هذه آية عظيمة.. إنها تشير إلى علاقة الجبال بنزول المطر وعلاقتها أيضاً بتنقية الماء [7] حتى إن العلماء اليوم ينظرون إلى الجبال كأبراج ماء ضخمة، فنحن اليوم نعيش في ظروف تلوث خطيرة بعد التطور الصناعي الكبير الذي رافقه إطلاق كميات ضخمة من الملوثات بسبب المصانع ووسائل النقل وما تطلقه من غازات سامة تضر بالبيئة والإنسان، ولذلك نجد أن ماء المطر اليوم لدى نزوله من الغيوم يمتص جزءاً من الملوثات الموجودة في الجو.
وعلى الرغم من ذلك فإن هذا الماء عند مروره في طبقات التراب والصخور المختلفة تتم عملية التنقية الطبيعية له، وكلما زادت المسافة التي تقطعها قطرة الماء زادت درجة نقاوتها، وهنا تتجلى معجزة هذه الاية ربط الماء العذب الفرات بالجبال الشامخة، لأن المسافة التي يقطعها ماء المطر خلال الجبال العالية طويلة والماء الناتج أنقى وأكثر عذوبة.
2 ـ الماء والحياة
نظر صديقي إلى الأسماك الجميلة الملونة التي كانت تبدو من خلال صفحة الماء، وقال: انظروا إلى جمال الحياة تحت الماء.. لا يمكن أبدا أن تكون هناك حياة بلا ماء.
قال علي: صدقت، لقد ورد ذكر الماء كثيرا في القرآن الكريم، باعتبار علاقته الوثيقة بالحياة، بل إن الله تعالى ذكر الماء عند ذكره لخلق السموات والأرض، فقال تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الانبياء:30)
الحياة:
انتفض عالم المياه، وقال: صدق القرآن.. إنه يعبر عن الحقيقة بكل دقة وجمال، إن الماء ليس مجرد سائل كسائر السوائل.. إنه سر الحياة.. إنه الركيزة الكبرى في حياة الكائنات الحية، وعليه تتوقف جميع العمليات الحيوية فيها.
قلت: ما سر اختصاص الماء بهذه القدرات العجيبة؟
قال: يرجع ذلك إلى الخواص الفريدة للماء، والتي تجعله بحق سائل الحياة:
فمن خصائصه أنه يذيب العديد من المواد أكثر من أي سائل آخر، ويرجع هذا إلى مقدرة الماء العالية في فصل الجزيئات المتأينة وغير المتأينة بعيداً عن بعضها البعض.
وللماء حرارة نوعية عالية مقارنة بالكثير من السوائل، فله حرارة تبخر، وحرارة كامنة عاليتان بصورة غير عادية، وتساعد هاتان الخاصيتان على بقاء الماء بصورته السائلة في درجات حرارة مختلفة، بل تجعله صالحاً لحياة الكائنات الحية في درجات حرارة عالية أومنخفضة نسبياً.
ومع أن معظم المواد تكون عند أعلى كثافة لها في درجة التجمد، ولكن الماء يشذ عنها، حيث له أعلى كثافة عند درجة 4س، وهذه الخاصية مهمة للأحياء المائية البحرية، حيث يطفو الجليد على سطح الماء، وبذلك يعمل عازلاً لما تحته، ويمنع الماء السفلي من التجمد، وهذا يحمي الكائنات البحرية من الهلاك والتجمد.
والماء شفاف قابل لنفاذية الموجات الضوئية المرئية، وبذلك يصل الضوء إلى أعماق كبيرة في البحار، وإلى داخل أوراق النباتات الأرضية، فتتم عملية البناء الضوئي فيها.
وللماء خاصية شد سطحي أعلى من كل السوائل المعروفة، عدا الزئبق وهذه الخاصية تجعله يرتفع في أجزاء النبات إلى مسافات عالية تصل إلى أكثر من 60 مترا.
وللماء قدرة تلاصق كبيرة مع كل من جزيئات النشا والسليلوز والبروتين، بحيث إذا تلا مس الماء مع أي منهم تلاصقا بشدة مع بعضهما البعض، مما يؤدي إلى بلل تلك المواد، وهذه الخاصية مهمة للكائنات الحية، ولإتمام العملية الحيوية بها، وصعود الماء في النبات.
وبالإضافة إلى هذا كله، فقد أثبتت جميع التجارب العلمية أن للماء دوراً حيوياً كبيراً في حياة الكائنات الحية، ففقدان الجسم بالجوع 50 بالمائة من الدهون والبروتينات غير مهلك، ولكن فقدان الجسم نسبة 20 بالمائة فقط من مائة قاتل.
وقد ثبت أن موت الكلاب الجائعة يتأخر عشرة أضعاف في حالة إذا ما قدم لهذه الكلاب الماء فقط.
وسر هذا النشاط الحيوي للماء يرجع إلى أمور كثيرة، منها أن الماء ينظم بدقة العمليات الحيوية في الكائنات الحية، فجميع الأنشطة الحياتية وتفاعلاتها المتعددة من التغذية إلي الإخراج ومن النمو إلي التكاثر لا تتم في غيبة الماء بدءا من التمثيل الغذائي, وتبادل المحاليل بين الخلايا وبعضها البعض, وبينها وبين المسافات الفاصلة بينها, وذلك بواسطة الخاصية الشعرية للمحاليل المائية التي تعمل من خلال جدر الخلايا, وانتهاء ببناء الخلايا والأنسجة الجديدة مما يعين علي النمو والتكاثر, وقبل ذلك وبعده التخلص من سموم الجسم وفضلاته عن طريق مختلف صور الإفرازات والإخراجات.
هذا بالإضافة إلي ما يقوم به الماء من أدوار أساسية في عمليات بلع الطعام, وهضمه, وتمثيله, ونقله, وتوزيعه, ونقل كل من الفيتامينات, والهرمونات, وعناصر المناعة, ونقل الأوكسجين إلي جميع أجزاء الجسم, وإخراج السموم والنفايات إلي خارج الجسم, وحفظ حرارة الجسم ورطوبته وما يقدم لذلك أو يترتب عليه من العمليات الحيوية.
ومنها أنه منظم لدرجة حرارة الجسم, بما له من سعة حرارية كبيرة, ومنظم لضغط الدم, ولدرجات الحموضة, فإن في نقصه تعطش الخلايا ويضطرب عملها, وتتيبس الأنسجة, وتتلاصق المفاصل, ويتجلط الدم ويتخثر, ويوشك الكائن الحي علي الهلاك ولذلك فإن أعراض نقص الماء بالجسم الحي خطيرة للغاية, فإذا فقد الإنسان علي سبيل المثال1بالمائة من ماء جسده أحس بالظمأ, وإذا ارتفعت نسبة فقد الماء إلي5بالمائة جف حلقه ولسانه, وصعب نطقه, وتغضن جلده, وأصيب بانهيار تام, فإذا زادت النسبة المفقودة علي10بالمائة أشرف الإنسان علي الهلاك بالموت.
وفي المقابل فإن الزيادة في نسبة الماء بجسم الكائن الحي علي القدر المناسب له قد تقتله, فالزيادة في نسبة الماء بجسم الإنسان قد تسبب الغثيان, والضعف العام وتنتهي بالغيبوبة التي تفضي إلي الموت.
ومنها أن عمل العضيات الحيوية المهمة بالخلية مثل الميتوكوندريا (مواضع تكوين البروتين بالخلية) والبلاستيدات الخضراء (عضيات تكوين الغذاء في النبات من الضوء) يتوقف عملها جميعاً على امتلائها وانتفاخها بالضغط المائي.
ومنها أن الماء ينقل المركبات العضوية وغيرها بالجسم، نظراً لانخافض لزوجته ومقدرته على الحركة وإذابة كثير من المركبات العضوية وغير العضوية.
ومنها أن الماء يؤدي وظيفة إخراج نواتج الهدم في الأجزاء المتخصصة لذلك في الكائنات الحية.
ومنها أن الماء ضروري لعمليات التحلل المائي والأكسدة والاختزال في الأجسام الحية.
ومنها أن الماء ينظم درجة حرارة الكائنات الحية، وذلك لارتفاع حرارته النوعية ولتوصيله الجيد للحرارة.
ولهذا كله وغيره، فإن الماء يشكل العنصر الأساسي في بناء أجساد جميع الكائنات الحية, فقد ثبت بالتحليل أن نسبة الماء في جسم الإنسان تتراوح بين حوالي71بالمائة في الإنسان البالغ, و93بالمائة في الجنين ذي الأشهر المحدودة, بينما يكون الماء أكثر من80بالمائة من تركيب دم الإنسان, وأكثر من90بالمائة من أجساد العديد من النباتات والحيوانات.
ونتيجة لذلك، فلا يمكن للحياة أن تقوم بغير الماء أبدا, فمن الكائنات الحية ما يمكنه الاستغناء كلية عن أوكسجين الهواء, ولكن لا يوجد كائن حي واحد يمكنه الاستغناء عن الماء كلية.
ولهذا يغطي الماء حوالي71 بالمائة من مساحة سطح الأرض، بينما تشغل مساحة اليابسة حوالي29 بالمائة من تلك المساحة.
والأرض ـ بذلك ـ أغني كواكب المجموعة الشمسية بالماء الذي تقدر كميته علي السطح بنحو1,4 بليون كيلو متر مكعب, بالإضافة إلي مخزون يقدر بمئات أضعاف هذا الرقم في نطاق الضعف الأرضي, يخرج بقدر معلوم مع ثورات البراكين.
ويتوزع أغلب الماء علي سطح الأرض( حوالي97,22بالمائة) في البحار والمحيطات التي تغطي مساحة تزيد علي362 مليون كيلو متر مربع, بمتوسط عمق يقدر بحوالي3800 مترا مما يعطي لبحار ومحيطات الأرض حجما يزيد قليلا علي(1375) مليون كيلو متر مكعب من الماء المالح.
هذا بالإضافة إلي كم من الجليد يغطي قطبي الأرض, وقمم الجبال بسمك يصل إلي أربعة كيلو مترات في القطب الجنوبي وإلي3800 متر في القطب الشمالي, ويقدركم الماء في هذا الغطاء الجليدي بحوالي(2,15بالمائة) من مجموع الماء علي سطح الأرض, والنسبة الباقية وتقدر بحوالي(0,63بالمائة) من مجموع ماء الأرض تمثل أغلبها بالمخزون المائي في صخور قشرة الأرض ونسبته0,613بالمائة ويمثل الباقي بمخزون البحيرات الداخلية, وكم الماء الجاري في الأنهار والجداول, ورطوبة كل من الجو والتربة, التي تعين الأرض علي الإنبات, وتلعب دورا مهما في تكوين السحب التي تدفع عن الأرض جزءا كبيرا من حرارة وأشعة الشمس بالنهار, كما ترد إلي الأرض معظم الدفء الذي تشعه صخورها إلي الجو بمجرد غياب الشمس.
وهذا التوزيع المعجز للماء علي سطح الأرض لعب ـ ولا يزال يلعب ـ دورا أساسيا في تهيئة مناخ الأرض لاستقبال الحياة, فلولا هذه المساحات المائية والجليدية الشاسعة لاستحالت الحياة التي نعرفها علي سطح الأرض, لأن درجة حرارة نطاق المناخ كان من الممكن أن تصل إلي أكثر من مائة درجة مئوية بالنهار, وأن تنخفض إلي ما دون المائة درجة تحت الصفر المئوي بالليل, وهو تباين لا تقوي عليه كل صور الحياة المعروفة لنا.
فالغلاف المائي للأرض الذي ينظم درجة حرارتها, وحرارة الهواء المحيط بها في نطاق المناخ, وذلك بتكرار عمليات التبخير بكميات كبيرة من الماء, وتكثيف هذا الكم الهائل من بخار الماء علي هيئات السحاب والضباب والندي, وإنزاله إلي الأرض علي هيئة المطر, والثلج والبرد, وما يصاحب ذلك من رعد وبرق, وما ينزل معهما من مركبات النيتروجين وغيره من العناصر التي تثري تربة الأرض بما يحتاجه النبات من مركبات, وما يصاحب كل ذلك من إحياء للأرض بعد موتها.
بالإضافة إلى هذا كله، فالماء يساعد علي حفظ درجات الحرارة في البحار والمحيطات في الحدود التي تعين الحياة البحرية علي النشاط, وذلك باختلاط التيارات البحرية الدافئة والباردة, وبامتصاص جزء كبير من أشعة الشمس، ومما تنتجه الأحياء البحرية من حرارة نتيجة لمختلف أنشطتها الحيوية, والعمل علي إعادة توزيعها, وكذلك توزيع الحرارة الناتجة عن ثورات البراكين فوق قيعان كل محيطات الأرض, وقيعان أعداد من بحارها.
الطهارة:
قال علي: لقد ذكر القرآن الكريم من تأثير الماء في الحياة أنه جعله سببا لطهارة الكائنات، ووسيلة لها، فقال:﴿ وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ﴾ (الفرقان:48)
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا الدور التطهيري للمطر في قوله تعالى:﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً ﴾ (الفرقان: من الآية48)، وقال تعالى:﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ ﴾ (لأنفال:11)
قال عالم المياه: صدق القرآن في هذا.. فعند نزول المطر إلي الأرض قد يتدفق فوق سطحها علي هيئة السيول الجارفة.. وقد يتسلل إلي التربة, أو يصل إلي طبقات صخرية عالية المسامية والنفاذية، فيتحرك رأسيا بالجاذبية الأرضية إلي أسفل حتي يصل إلي مخزون الماء تحت سطح الأرض، فيعمل علي تجديد عذوبته, وتعويض مايفيض أو يضخ منه.
وهذه الدورة المائية المعجزة يتم بواسطتها تطهير الماء, وتلطيف جو الأرض, وتوفير نسبة معينة من الرطوبة, في كل من غلافها الغازي وتربتها فتسمح للكائنات الحية بما تحتاجه منها.
وبواسطة هذه الدورة المائية تتم تسوية سطح الأرض, وشق الفجاج والسبل فيه, ويتم تفتيت الصخور, وتكوين كل من التربة والصخور الرسوبية, وخزن قدر من ماء المطر فيها وفي غيرها من صخور قشرة الأرض, وتركيز عدد من الخامات الاقتصادية.
قال علي: ولهذا يربط القرآن الكريم بين المطر وحياة الأرض، فيقول:﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ (البقرة: من الآية164)، وقال تعالى:﴿ وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ (النحل:65)، وقال تعالى:﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ﴾ (العنكبوت:63)، وقال تعالى:﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (فصلت:39)، وقال تعالى:﴿ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (الجاثـية:5)
قال عالم المياه: بالإضافة إلى هذا كله.. فإن لدورة الماء حول الأرض فوائد كثيرة من أبرزها تطهير هذا الماء من عوالقه وشوائبه المختلفة, فحينما ينزل ماء المطر علي الأرض ويجري علي سطحها، فإنه يحمل معه من نفاياتها كما كبيرا إلي أحواض البحار والمحيطات في عملية تنظيف وتطهير مستمرة لسطح الأرض, وغسل لأدرانها المختلفة, والماء في جريانه علي سطح الأرض يذيب كل مايمكن اذابته من مكوناتها من مختلف العناصر والمركبات, كما يحمل ملايين الاطنان من العوالق غير المذابة والتي تترسب علي طول مجاري الانهار والأودية ودالاتها وفوق قيعان البحار والمحيطات والبحيرات وغيرها من التجمعات المائية, وفي هذه الأوساط المائية يحيا ويموت بلايين الكائنات الحية، ولذلك يتعفن الماء غير الجاري في التجمعات المائية المحدودة بسرعة كبيرة وبدرجات أقل في البحار الواسعة والمحيطات, ويزيد من تلوث هذه الأوساط المائية مايدفع إليها من مخلفات المصانع والمنازل.
وحينما تبخر أشعة الشمس هذا الماء فإنه يتطهر مما فيه من الملوثات, ويصعد إلي الطبقات الدنيا من الغلاف الغازي علي هيئة بخار ماء نقي طاهر من كل ماكان فيه من أدران وأوساخ وأملاح.
وهذه هي عملية التطهير الرئيسية لماء الأرض, ولذلك فان أنقي صورة للماء الطبيعي هي ماء المطر, علي الرغم من أنه عند نزوله من السماء قد يذيب نسبة ضئيلة من مكونات الغلاف الغازي للأرض كما قد يحمل معه نسبة لاتكاد تدرك من ذرات بعض الأملاح اللازمة لصحة الإنسان وغيره من الكائنات الحية, وذلك لأن الماء الصافي تماما قد يكون ضارا بجسم الإنسان.
ولايفسد ماء السماء إلا الملوثات التي قد يطلقها الإنسان, وذلك من مثل أكاسيد الكبريت التي تسبب نزول مايسمي بالأمطار الحمضية أو إطلاق بعض الغبار المشع كالذي ينتج من التجارب النووية أو من التسرب من المنشئات القائمة علي مثل هذا النشاط كالمفاعلات النووية.
قال علي: ولهذا من الله على عباده بأن حفظ لهم طهارة الماء وصلاحه للشرب، فقال:﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ(69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) ﴾(سورة الواقعة)
وكان r إِذَا شَرِبَ الْمَاء قَالَ:( الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي سَقَانَا عَذْبًا فُرَاتًا بِرَحْمَتِهِ وَلَمْ يَجْعَلهُ مِلْحًا أُجَاجًا بِذُنُوبِنَا )[8]
قال عالم المياه: صدق محمد.. إن السلوك الإنساني الجشع والمدمر هو الذي يخرب هذا المخزون الهائل من المياه التي تمتلئ بها الأرض والسماء.. إن الذنوب هي التي حولت من المياه العذبة إلى مياه مسمومة.
سكت قليلا، ثم قال بنبرة حزينة: للأسف.. فإن المطر الآن يسقط في مناطق كثيرة ـ خاصة فى البيئات الصناعية ـ مطراً حمضياً يهلك الحرث والنسل، فقد بلغ الأس الهيدروجيني للمطر فى بعض المناطق الصناعية درجة عالية تجعل مياه الأمطار عالية الحموضة محدثه أضرار كثيرة.
لقد فقدت مئات من البحيرات فى أمريكا الشمالية وشمال غرب أو ربا ـ نتيجة ارتفاع درجة حموضة مياهها بسبب المطر الحمضي ـ معظم ما بها من ثروات سمكية وأصبحت 90 بحيرة فى منطقة جبال أدرونداك فى ولاية نيويورك ـ مثلا ـ خالية تماماً من الأسماك تحت تأثير الحموضة المتزايدة لمياه البحيرات، وهي حموضة قاتلة للأحياء.
ولايقتصر تأثير المطر الحمضي على الأضرار بمياه الأنهار والبحيرات، وإنما يمتد تأثيره إلي مخاطر كثيرة، فقد أعلن فريق من الباحثين فى جامعة نيوها مبشير بالولايات المتحدة الامريكية (1985) أن المطر الحمضي يمنع حاسة الشم عند سمك السالمون، ولهذا يفقد قدرته على إيجاد طريقة نحو مجاري الأنهار العليا من أجل وضع بيضة وإتمام عملية الفقس.
كما بدأت الأمطار الحمضية تضر بالمحاصيل الزراعية تحت تأثير ترسب كميات كبيرة من المواد الحمضية فى التربة مما يغير من تركيبها الكيماوي فى اتجاه الحموضية المتزايدة التى تضر، بل تقتل النباتات إذ تعمل الحموضة الزائدة فى التربة على إفقار التربة نتيجة إزالة الكاثيونات ( الأيونات الموجبة ) منها التى تعتبر القاعدة الأساسية لتغذية النباتات مثل الكالسيوم والمغنيسيوم والبوتاسيوم.
كما يؤدي المطر الحمضي إلى تدمير الكثير من الأشجار والنباتات حيث تصاب بظاهرة الموت التراجعي حيث تموت الأشجار واقفه ـ كما يقولون ـ إذ تتلف الأوراق العلوية المعرضة مباشرة للمطر الحمضي الذى يقتل المادة الخضراء فيها، ثم ينتقل التأثير بعد ذلك الى الأوراق التحتية، فقد أو ضح تقرير من ألمانيا الاتحادية (1980) أن مساحة من الغابات تقدر بنحو560 ألف هكتار أي حوالي 7ر7 بالمائة من مجموع مساحات الغابات في ألمانيا قد دمرت أو أتلفت بدرجات متفاوته نتيجة المطر الحمضي والضباب الحمضي.
وفي تقرير صادر عن دول مجموعة التعاون الاقتصادي الأوربي (1988) حذر من تفاقم التلوث المائي الناجم عن تكثيف استخدام الأسمدة الكيماوية، ودعا التقرير إلى الحد من الاستخدام المكثف لهذه الأسمدة الكيماوية لما لها من مخاطر كبيرة على الأحياء المائية.
قال علي: لقد أشار القرآن الكريم كذلك إلى هذا، وحذر منه، فقال تعالى:﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ (الروم:41)
قال عالم المياه: صدق القرآن.. لم أكن أتصور أن يهتم كتاب مقدس بمثل هذه النواحي.
قال علي: بهذه المناسبة.. لقد ورد في الحديث عن رسول الله r أنه كان يقول في دعائه:( اللهم أغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد )، فلماذا ذكر r هذه الثلاثة، ولم يكتف بالماء[9]، وهل هناك فرق في القدرة على التطهير بينها؟
قال عالم المياه: أجل.. فللماء قدرة عجيبة على التنظيف وإذابة المواد، وذلك بسبب ما يتمتع به من خواص، فهو يتكون من ذرتي هيدروجين مرتبطة مع ذرة واحدة من الأكسجين برابطة تساهمية قطبية.
وهذه القطبية الناتجة عن فرق السالبية الكهربائية بين ذرات الهيدروجين والأكسجين تعمل على تجميع جزيئات الماء بواسطة روابط هيدروجينية ضعيفة، تكسبه خصائص فريدة عن المركبات المشابهة له في التركيب، وتسبب تغيرات في خواصه الفيزيائية، فدرجة غليانه مرتفعة 100° س، والتوتر السطحي له كبير، وغيرها من الخواص التي سبق ذكر بعضها.
فالماء الذي اختص بقدرة كبيرة على إذابة المواد حتى سمي بـ (المذيب العام) له قدرة كبيرة على إذابة كثير من المواد الأيونية، حيث أن جزيئات الماء القطبية تهاجم بلورة المركب إذا كان أيونيا، فيعزل ايوناته المتجاذبة داخل الشبيكة البلورية، وتنشأ قوى تجاذب بين جزيئات الماء القطبية والأيونات، حيث تتغلب على قوى التجاذب بين الأيونات في البلورة، فتنتشر المادة المذابة بين جزيئات الماء.
ولهذا عندما تعلق البقع والأوساخ بالثوب تحدث قوى جذب بين القماش والأوساخ تسمى علميا بقوى الالتصاق.
والماء الذي اختص بقدرة كبيرة على إذابة المواد بسبب الخاصية القطبية وخاصية التوتر السطحي، والتي تساعده في التغلغل داخل خيوط القماش (بالخاصية الشعرية ) فيخترق البقعة ويبلل القماش وبالتالي يذيب الأوساخ بعزل ايوناتها عن بعضها، فتضعف قوى التجاذب بينها إذا كانت من النوع الذي يذوب في الماء.
أما إذا كانت البقع دهنية، ولا تذوب في الماء، فإن الماء ينقطع على شكل كرات ولا يبلل سطح النسيج لأن قوى الالتصاق بين الماء والبقع أقل من قوى التماسك بين جزيئات الماء، لذلك يمكن غسلها بالماء والصابون حيث أن محلول الصابون يقلل التوتر السطحي للماء، فينتشر محلول الصابون على الدهون ويتفاعل معها مكونا مستحلباً دهنياً، وتزداد قوى التجاذب بين الماء والبقع، فتترك الأوساخ السطح العالقة به.
قال علي: هذا الماء.. ولكن النبي r أشار إلى طريقة أخرى للتنظيف، وهي الثلج فكيف يكون الثلج وسيلة للتنظيف؟
قال عالم المياه: أنت تعلم أن الماء عندما يتجمد يصبح ثلجا عند درجة الصفر المئوي، وفي ذلك الحين تتغير طريقة ارتباط الجزيئات، فتصبح مثل حلقة البنزين.
هناك بعض الأوساخ التي لا تزول بالماء، أو بالماء والصابون، وذلك لأن قوى الالتصاق بين هذه البقع والقماش تكون كبيرة مثل بقع الشمع أو العلك على القماش.
فعند وضع قطعة من الثلج عليها فإن البرودة تعمل على تقارب جزيئات هذه المادة ( تنكمش ) فتقل قوى الالتصاق بينها وبين القماش مما يؤدي إلى انفصالها.
قال علي: والبرد.. لقد ورد في الحديث ذكر البرد.
قال عالم المياه: أنت تعلم أن البرد يتكون عند درجة حرارة أقل من الصفر المئوي، فإذا كانت هناك أوساخ مستعصية، فان البرد يعمل على انكماش جزيئات هذه الأوساخ بدرجة أكبر من الثلج، فتنفصل وتزول.
قال علي: لقد وردت الإشارة القرآنية بالربط بين تخزين الماء والشرب، فقال تعالى:﴿ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ (الحجر: من الآية22)،
فقد ربطت الآية الكريمة بين تخزين الماء وبين كونه قابلاً للشرب والسقاية، فهل اكتشف العلم ما يبين العلاقة بينهما [10]؟
قال عالم المياه: أجل.. لقد عرف العلم من خلال أبحاث كثيرة أن أفضل وأرخص طريقة لتنقية الماء تنقية كاملة هي بتخزينه تحت الأرض، فهذه الطريقة تقضي على أعتى أنواع الجراثيم وأخطرها قضاءً تاماً.
ولهذا يقوم العلماء اليوم بمحاولات لتخزين الماء الملوث تحت الأرض بهدف تنقيته وجعله صالحاً للشرب، فتخزين الماء تحت الأرض لعدة شهور يؤدي لقتل الجراثيم والفيروسات الموجودة فيه.
يقول الدكتور Dr Simon Toze: (إن الأبحاث تشير إلى أن المياه الملوثة بشدة يمكن أن تُنقّى بسهولة من خلال ضخها تحت الأرض وتركها لمدة كافية )
ويؤكد هذا العالم أن الناس لم يفهموا أهمية تخزين المياه إلا في مطلع القرن الحادي والعشرين، فقد تبين أن التنقية الطبيعية geopurificationيمكن أن تزيل الكثير من المواد والشوائب العالقة في المياه مثل الزيوت وبعض المواد الكيميائية وكثير من أنواع البكتريا والكائنات الضارة.
قال علي: لقد ربط القرآن الكريم ـ كذلك ـ بين الجبال العالية والمياة العذبة، فقال تعالى:﴿ وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً ﴾ (المرسلات:27)، ففي هذه الآية الكريمة ربط بين الرواسي الشامخات وهي الجبال العالية، وبين الماء الفرات وهو شديد العذوبة.. فهل أثبت العلم العلاقة بينهما[11]؟
قال عالم المياه: قبل أن أجيبك عن سؤالك.. أحب أن أبين لك سر الربط بين الجبال العالية والمياه.
قال علي: فهل هناك علاقة بينهما؟
قال عالم المياه: أجل.. لقد رصد العلماء حركة تيارات الرياح وهي تحمل ذرات بخار الماء من سطح البحر، وهذه التيارات الهوائية تبدأ بالحركة الأفقية حتى تصطدم بالجبال، وهذا يؤدي إلى تغيير مسار الرياح باتجاه الأعلى، لذلك نجد أن قمم الجبال العالية تتجمع الغيوم حولها وتغطيها الثلوج طيلة أيام السنة تقريباً.
وكلما كان الجبل أكثر شموخاً وارتفاعاً أدى ذلك لتجمع كمية أكبر من الغيوم، ثم نزول المطر أو الثلج، ثم ذوبان هذا الثلج وتسرُّبه عبر طبقات الجبل ومسامه حتى تتفجر الينابيع شديدة العذوبة.
ولذلك نجد أن معظم الجبال الشامخة يوجد قربها أنهار وينابيع ومياه عذبة.
قال علي: وما سر العذوبة فيها، والتي أشار إليها القرآن الكريم؟
قال عالم المياه: إن مياه الينابيع هذه، والتي جاءت من الجبال العالية خضعت لعمليات تصفية متعددة.. ومن المعلوم أنه كلما مرَّت المياه عبر مراحل تصفية (فلترة) أكثر كلما كان الماء أنقى.
وفي حالة الجبال التي ترتفع عدة كيلومترات، تعمل هذه الجبال كأفضل جهاز لتنقية المياه على الإطلاق، ولا يمكن للإنسان مهما بلغ من التقدم العلمي أن يقلِّد هذه العمليات التي تتم عبر الجبال.
قال علي: لقد عبر القرآن الكريم عن هذا الماء بكونه فراتا أي عذبا.. والعذوبة شيء زائد على النقاء.. فهل أثبت العلم ذلك؟
قال عالم المياه: أجل.. فالماء النازل من السماء والعابر للصخور الموجودة في الجبال يمتزج ببعض المعادن والأملاح الموجودة في تلك الصخور ويكتسب الطعم المستساغ، ولولا وجود الجبال والصخور وانحلال هذه المواد في الماء لم يكن للماء أي طعم يذكر.
قال علي: لقد ذكر الله تعالى من أنواع الطهارة التي يقوم بها الماء طهارة النفس، فقال:﴿ إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) (لأنفال:11)
قال عالم المياه: صدق القرآن.. لقد عبرت هذه الآية عن حقائق كثيرة ترتبط بالمياه[12]، فالأطباء يذكرون أنه عند الخوف تفرز في الدماء مادة ترتعش منها الأطراف، فلا تثبت, ومن وسائل تثبيت الأطراف تقليل هذه المادة بأن يرش من هذه حالته بالماء.
بالإضافة إلى هذا فقد كان نزول الماء سببا لتثبيت تثبيت الأرض التي يسير عليها هؤلاء فتكون ثابتة تحت أقدامهم, لأن الرمال إذا بللت تماسكت وسار عليها السائر بعزم وثبات وتتقدم القدم، فلا تغوص.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin