الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن علي ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
الجزء التاسع
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 139 “
فقال له الشيخ : أين هو ؟ فقال : هو فيه ، فأخذته حالة وهو يقول : هو فيه ، فبهت الحاضرون وتحيروا .
أنشدنا ابن الأعرابي :
سقى اللّه حيا بين صارة والحمى * حمى فيه صوب المدجنات الواطر
أمين وادّ اللّه ركبا إليهم * بخير ووقاهم صروف المقادر
ولمهيار الديلمي في الشيب :
أسفت لحلم كان لي يوم بارق * فأخرجه جهل الصبابة عن بعدي
وما زلت أبكي منذ حلّت بحاجر * قوى جلدي حتى تداعى تجلدي
تحرّس بأحقاف اللوا عمر ساعة * ولولا مكان الريب قلت له ازدد
وقل صاحب لي ضلّ بألبان قلبه * لعلك أن يلقاك هاد فيهتدي
فسلم على ماء به برد غلتي * وظل أراك كان للوصل موعدي
وقل لحمام البانتين مهنئا * تغني خليّا من غرام وغرّد
فيا أهل نجد كيف بالغور بعدكم * بقاء تهاميّ يهيم بمنجد
ملكتم عزيزا رقه فتعطّفوا * على منكر للذل لم يتعود
وله أيضا من هذا الباب :
يا ليلتي بحاجر * إن عاد ماض فارجعي
أرضى بأخبار الريا * ح والبروق اللمع
وأين من برق الحمى * شائمة بلعلع
وله أيضا من هذا الباب :
أودع فؤادي حرقا أودع * ذاتك تؤذي أنت في أضلعي
وارم سهام الطرف ، أو كفها * أنت بما ترمي مصاب معي
موقعها القلب وأنت الذي * مسكنه بذاك الموضع
ومن ثمرات المحبة عند أهلها ما حدثني به عبد الرحمن ، عن أبي بكر ، عن الجيري ، عن ابن باكويه ، عن إبراهيم بن محمد المالكي ، عن يوسف بن أحمد البغدادي ، عن ابن أبي الحواري ، قال : حججت أنا وأبو سليمان الداراني ، فبينما نحن نسير إذ سقطت السطيحة مني ، وكان برد عظيم ، فأخبرت أبا سليمان ، فقال : سلّم وصلّ على محمد ، وقل : يا رادّ الضالة ، ويا هاديا من الضلالة ، ردّ الضالة ، فإذا بواحد ينادي : من ذهبت له سطيحة ، فأخذتها منه ، فقال لي أبو سليمان : لا تتركنا بلا ماء . فبينما نحن نسير إذا برجل
“ 140 “
عليه طمران ، أي ثوبان خلقان رثان ، ونحن قد تدرعنا بالفراء من شدة البرد ، وهو يرشح عرقا ، فقال له أبو سليمان : ألا نؤثرك ببعض ما معنا ؟ فقال الرجل : يا داراني الحر والبرد خلقان للّه عز وجل ، إن أمرهما أن يغشياني أصاباني ، وإن أمرهما أن يتركاني تركاني ، يا داراني ، تصف الزهد ، وتخاف من البرد ، أنا شيخ أسيح في هذه البريّة منذ ثلاثين سنة ما انتقضت ولا ارتعدت . يلبسني في البرد فيحا من محبته ، ويلبسني في الصيف برد محبته .
ثم ولّى ، وهو يقول : يا داراني ، تبكي وتصيح وتستريح على الترويح . فكان أبو سليمان يقول : لم يعرفني غيره .
قلت : كنت أطلب بيت المقدس ، فدخل عليّ شاب كالعود ، عليه أثر السياحة ، وأنا بمسجد بظاهر بيسان ، وكان صاحبي عبد الرحمن بن علي اللواتي يعمل لي شغلا بين يديّ ، فدنا منا ، وأخذ السكين من يد عبد الرحمن ، فأصلح به نعلا كان له ، ثم قال لي :
تكون فقيرا وتمشي بعدة ، فقلت له : يا فقير ، تراك قد احتجت إليها ، فلو كانت ما يضرك ؟
فقال لي : لما احتجت وجدتك ، فأصلحت شأني ، وأراحني اللّه من حملها ، فكن مثلي واتركها ، فإذا احتجت إليها وجدت حاجتك عند مثلك ، وتكون بينها سالم الحال مع اللّه .
ثم خرج مسرعا ، فطلبته فلم أره حتى الآن . سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، أستغفرك وأتوب إليك .
موعظة الفضيل بن عياض لأمير المؤمنين هارون الرشيد بمكة زادها اللّه شرفا
روينا من حديث أبي نعيم ، عن سليمان بن أحمد ، عن محمد بن زكريا العلائي ، عن أبي عمر النحوي ، عن الفضل بن الربيع ، قال : حج هارون الرشيد ، فأتاني ، فخرجت مسرعا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إليّ لأتيتك ، فقال : ويحك قد حاك في نفسي شيء ، فانظر لي رجلا أسأله . فقلت : هاهنا سفيان بن عيينة . قال : امض بنا إليه ، فأتيناه ، فقرعت الباب ، فقال : من ذا ؟ فقلت : أجب أمير المؤمنين ، فخرج مسرعا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسل إليّ لأتيتك ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك اللّه ، فحدثه ساعة ، ثم قال : عليك دين ؟ قال : نعم ، قال : اقض دينه . فلما خرجنا قال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . فقلت له : هاهنا عبد الرزاق ، فذكر مثل ما جرى له مع سفيان .
وقال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . فقلت : هاهنا الفضيل بن عياض ، قال : امض بنا إليه ، فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها ، قال : اقرع الباب ،
“ 141 “
فقرعت ، فقال : من ؟ قلت : أجب أمير المؤمنين ، قال : وما لي ولأمير المؤمنين ؟ فقلت :
سبحان اللّه ، أما عليك طاعته ؟ فنزل ففتح الباب ، ثم ارتقى إلى الغرفة ، ثم أطفأ السراج ، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت ، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا ، فسبقت كف هارون الرشيد قبلي إليه ، فقال : يا لها من كف ما ألينها ، إن نجت غدا من عذاب اللّه عز وجل .
فقلت في نفسي : ليكلمنا الليلة كلاما من قلب نقي ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك اللّه ، فقال له : إن عمر بن عبد العزيز لما ولّي الخلافة دعا سالم بن عبد اللّه ، ومحمد بن كعب القرظيّ ، ورجاء بن حيوة ، فقال لهم : إني قد ابتليت بهذا البلاء ، فأشيروا عليّ ، فعدّ الخلافة بلاء ، وعددتها أنت وأصحابك نعمة . فقال له سالم بن عبد اللّه : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فصم عن الدنيا ، وليكن إفطارك منها الموت .
وقال محمد بن كعبان : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فليكن كبير المؤمنين عندك أبا ، وأوسطهم عندك أخا ، وأصغرهم عندك ولدا ، فوقّر أباك ، وأكرم أخاك ، وتحنن على ولدك .
وقال رجاء بن حيوة : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكره لنفسك ، ثم متّ إن شئت . فإني أقول لك : يا هارون الرشيد ، إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزلّ فيه الأقدام ، فهل معك رحمك اللّه من يشير عليك بمثل هذا ؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه ، فقلت له : أرفق بأمير المؤمنين ، فقال : تقتله أنت وأصحابك ، وأرفق به أنا ، ثم أفاق فقال له : زدني رحمك اللّه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكى إليه ، فكتب إليه : يا أخي أذكّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد ، وإياك أن ينصرف بك من عند اللّه عز وجل ، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء . فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له : ما أقدمك ؟ قال : خلعت قلبي بكتابك ، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى اللّه ، قال : فبكى هارون بكاء شديدا ، ثم قال : زدني رحمك اللّه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن العباس عم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، أمّرني على إمارة ،
فقال له : « إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة ، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل » ، فبكى هارون ، وقال : زدني رحمك اللّه ،
قال : يا حسن الوجه ، أنت الذي يسألك اللّه تعالى عن هذا الخلق يوم القيامة ، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل ، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك ،
فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من أصبح عنده غش لم يرح رائحة الجنة » ، فبكى هارون ، وقال له : عليك دين ؟ قال : نعم ، لربي ، لم يحاسبني عليه ،
“ 142 “
والويل لي إن سألني ، والويل لي إن ناقشني ، والويل لي إن لم ألهم حجتي ، قال : إنما أعني من دين العباد ، قال : إن ربي لم يأمرني بهذا ، وقد قال اللّه عز وجل : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ، فقال له : هذه ألف دينار ، خذها وأنفقها على عيالك ، وتقوّى بها على عبادتك ، فقال : سبحان اللّه ، أنا أدلّك على طريق النجاة ، وأنت تكافئني بمثل هذا ، سلّمك اللّه ووفقك . ثم صمت فلم يكلمنا ، فخرجنا من عنده ، فلما صرنا على الباب قال لي هارون :
إذ أدللتني على رجل فدلّني على مثل هذا ، هذا سيد المسلمين . فدخلت عليه امرأة من نسائه ، فقالت : يا هذا ، ما ترى ما نحن فيه من ضيق الحال ؟ فلو قبلت هذا المال لفرّجت به عنّا ،
فقال لها : مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه ، فلما كبر نحروه ، فأكلوا لحمه .
فلما سمع هارون هذا الكلام قال : ندخل فعسى أن يأخذ المال ، فلما علم الفضيل بنا خرج فجلس في السطح على باب الغرفة ، فجاء هارون فجلس إلى جانبه ، فجعل يكلمه ولا يجيبه . فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء ،
فقالت : يا هذا ، قد آذيت الشيخ هذه الليلة فانصرف رحمك اللّه .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن ظاهر بن محمد بن يوسف بن علي بن وسيم ، عن جعفر بن إبراهيم ، عن عبد الكريم بن الهيثم ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن أبي زياد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إنما يوقى الناس من إحدى ثلاث : إما من شبهة في الدين ارتكبوها ، أو شهوة لذة آثروها ، أو غضبة لحمية أعملوها ، فإذا لاحت لكم شبهة فأجلوها باليقين ، وإذا عرضت لكم شهوة فأقمعوها بالزهد ، وإذا عرضت لكم غضبة فأردؤها بالعفو إنه ينادي مناد يوم القيامة : من له أجر على اللّه فليقم ، فيقومون العافون عن الناس . ألم تر إلى قوله تعالى : فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَ اللَّهِ » .
ومن سماعنا على قول الرضيّ بالنفس :
أما علم الغادون والقلب خلفهم * بضمّ زفير يصدع القلب ضمّه
بأن وميض البرق ما لا أشيمه * وإن نسيم الروض ما لا أشمّه
ومن سماعنا على قوله أيضا بالنفس :
ولما أبى الإظعان إلا فراقنا * وللبين وعد ليس فيه كذاب
رجعت ودمعي جازع من تجلدي * يروم نزولا للجوى فيهاب
وأثقل محمول على العين ماؤها * إذا بان أحباب وعزّ إياب
وعلى قوله في التوديع أيضا بالنفس :
“ 143 “
وإني إذا اصطكت ركاب مطيّكم * وثوّر حاد بالرفاق عجول
أخالف بين الراحتين على الحشى * وأنظر إني ملتم فأميل
ومن وقائع بعض الفقراء ، ما حدثنا به أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ المروزيّ بإشبيلية ، قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في الواقعة أبا مدين ، وأبا حامد ، وأبا طالب ، وأبا يزيد ، وخلقا كثيرا من الصوفية ،
فقال أبو يزيد لأبي مدين : زدنا من كلامك في التوحيد ، فقال : التوحيد هو الحق ، ومنوّر القلب ، ومحرّك الظواهر ، وعلّام الغيوب ، نظر العارفون فتاهوا إذ لم يعمّر قلوبهم إلا هو ، فهم به والهون ، قلوبهم تسرح في رضاه في الحضرة العليّة ، وأسرارهم مما سواه فارغة خليّة ، جالت أسرارهم في الملكوت فلاحظوا عظمته ، وتجلى لقلوبهم فأنطقهم حكمته ، فهو للعارف ضياء ونور ، وقد أشغله به عن الجنة والقصور ، آنسه به فهو جليسه ، وأفناه عنه فتلاشى كثيفة ، فامتزج المعني بالمعنى ، فكان هو .
ذهبت الرسوم ، وفنيت العلوم ، ولم يبق إذ ذاك إلا الحي القيوم ، وهو معنى المعاني ، والحي الباقي ، وكشف سرّ العارف ما ذا يلاقي من البر والإحسان ، ولذة النظر ، وغيبته عن الأغيار وعن جملة البشر ، تنزّه عن تنزيهه فنزّهه به ، وفني عن الأكوان بمشاهدة ربه ، فعدا عن الأسماء ، وسما عن الصفات ، واضمحلت كليته في مشاهدة الذات .
هذه علوم ، وهذه أسرار يكاشف بها من هو لها مختار ، فينبتها في الوجود ، فيظهر ما عنده ويحيي بها القلوب ، وينجز له وعده ، فيرويها الحق بالماء الصافي ، ويعالج علّتها بالعلم الشافي ، فيبري بها من الأسقام ، ومن جملة العلل ، ويصلحها ويعلّمها من الأسرار ما لم تكن تعلم ، فعلم العارف موصول المعرفة ، فيظهر له الحق فيألف لمألوفه . فاستمع لهذه العلوم ، واصغ إليها بقلبك ، فكلّ من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
ومن باب البلاغة
يحكى عن يحيى بن خالد ، أنه وصف الفضل بن سهل وهو غلام على دين المجوسية للرشيد ، وذكر أدبه وحسن معرفته ، فعمل على ضمّه إلى المأمون ، فقال ليحيى يوما : أدخل إليّ هذا الغلام المجوسي حتى أنظر إليه .
فأوصله ، فلما مثل بين يديه ووقف ، تحيّر ، فأراد الكلام فارتجّ عليه ، فأدركته كبوة . فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة ، لما كان يقدّم من إفراط ثنائه عليه ، فانبعث الفضل بن سهل ،
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من أيمن الدلالة على فراهة المملوك شدّة إفراط هيبته لسيده ، فقال له الرشيد : أحسنت ، واللّه إن كان سكوتك لتقول هذا ، إنه لحسن ، وإن كان شيء أدركك عند انقطاعك ، إنه لأحسن ،
“ 144 “
أو حسن . ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه فيه مقدّما ، فضمّه إلى المأمون .
حدثني أبو عبد اللّه بن عبد الجليل ، قال : مرّ الحجاج بن يوسف بشخص من عمّاله كان قد صلبه ، فوجد عند خشبته صبيا صغيرا ، فاستنطقه الحجاج فقال له : يا صبي ، ما تقول في هذا الراكب ؟ فقال : أيها الأمير ، هو زرع نعمتك ، وحصيد نقمتك . فسأل عن الغلام ، فوجده ابن ذلك المصلوب ، فقرّبه وأقعده مقعد أبيه .
وحدثنا أيضا عن الأصمعي ، قال : لقيت بالبادية صبيا لم يدرك الحلم ، فاستنطقته فوجدته بليغا فصيحا ، فاستخبرته هل عنده شيء من عرض الدنيا ، فقال : يا عم ، واللّه ما أملك اليوم درهما واحدا . قال : فقلت له : تودّ أن تكون لك مائة ألف وتكون أحمق ؟ فقال له : لا واللّه يا عم . قلت : ولم ؟ قال : أخاف أن يجني عليّ حمقي جناية تذهب بمالي ، ويبقى عليّ حمقي .
وحدثنا أيضا من هذا الباب ، قال : كان الرشيد يميل لعبد اللّه المأمون أكثر من ميله إلى محمد الأمين ، فقالت زبيدة ، وهي أمّ الأمين : يا أمير المؤمنين ، إنك تميل إلى المأمون أكثر من ميلك إلى ولدي الأمين . فقال لها : ما أنا حيث ظننت ، ولكني تفرّست في النجابة أكثر من الأمين . قالت : فأحبّ من أمير المؤمنين أن يختبرهما بحضرتي .
قال : فبعث خلف الأمين أولا ، فقال له : يا محمد ، إني جلست هذا المقام ، وآليت على نفسي لا يسألني منكم أحد شيئا إلا أعطيته ما سأل ، فقال : أسألك كلب بني فلان ، وبازي بني فلان ، فكلب مشهور ، وبازي مشهور . فقال له : لك ذلك ، ثم انصرف .
فاستدعى المأمون ، فوقف بباب الستر ، فأذن له ، فدخل وسلّم ، فقال له : ادن فدنا ، وخدم ووقف ، فما زال يقول : ادن وهو يدنو ويخدم ، إلى أن وقف بين يديه ، فأمره بزيادة الدنوّ ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، هذا مقام العبد من مولاه . فقال : يا بنيّ ، إني جلست هذا المقام ، وآليت على نفسي لا يسألني أحد منكم على شيء إلا أعطيته ما سأل . قال : فأطرق واغرورقت عيناه بالدموع ، وقال له : يا أمير المؤمنين ، أسألك في الخلافة بعدك ، وأرجو اللّه أن لا يذيقني فقدك . فقال : انصرف .
وحدثنا أيضا ، قال : مرّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بغلمان يلعبون وفيهم عبد اللّه بن الزبير ، ففرّ الصبيان خوفا من عمر إلا عبد اللّه بن الزبير . فقال له عمر : يا عبد اللّه ، لم لم تفرّ كما فرّ أصحابك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لم أكن على ريبة فأخافك ، ولم أكن في الطريق الضيّق فأوسّع لك .
“ 145 “
موعظة
حدّثنا صاحبنا أيضا أبو عبد اللّه بن عبد الجليل بمكة قال : يحكى أن ملكا من ملوك اليونانيين انتبه من منامه في بعض الغدوات فأتته قيّمة ملبسه بثيابه فلبسها ، وناولته المرآة فرأى شيبة في لحيته فقال : المقراض يا جارية ، فأتته به ، فقصّ الشيبة وناولها إياها ، فتناولتها ووضعتها في كفها وأصغت إليها بأذنها ساعة والملك ينظر إليها ، فقال لها : ما الذي تصغين إليه يا جارية ؟ قالت : أستمع إلى ما تقول هذه الشعرة التي عظم مصابها بمفارقة الكرامة العظمى حين سخطها الملك وأقصاها . فقال لها : فما الذي سمعت من قولها ؟
قالت : زعم قلبي أنه سمعه تقول كلاما لا يجترئ لساني على النطق به لاتقائي سطوة الملك .
فقال لها : قولي على حال آمنة وعدم توقّ ما لزمت أسلوب الحكمة .
قالت : إنها تقول : أيها الملك المسلّط على أمر قصير ، إني ظننت بك البطش والاعتداء عليّ ، فلم أظهر على سطح جسدك حتى بضت وحضنت بيضي ، فأفرخت وأعهدت لبناتي بالأخذ بثأري عهدا إذ كأنهنّ خرجن فجعلن للأخذ بثأري باستئصالك أو تنغيص لذتك وتنحيف قوّتك حتى تعدّ الهلك راحة . فقال : اكتبي كلامك هذا ، فكتبته في صحيفة فناولته إياها .
فتأملها مرارا ، ثم قام ودخل بيت النسّاك ولبس زيّ النسك ، وترك الملك حتى لحق بربه .
وأنشدني في هذا المعنى صاحبنا علي بن محمد القفصيّ :
وناذرة بالشيب حلّت بعارضي * فبادرتها بالنتف خوفا من الحتف
فقالت على ضعفي استطلت ووحدتي * رويدك للجيش الذي جاء من خلفي
ومن هذا الباب ما حدثنا أيضا به صاحبنا أبو عبد اللّه قال : دخلت حرقة بنت أبي قابوس النعمان بن المنذر ابن ماء السماء على سعد بن أبي وقاص ، وهو بالقادسية إذ ذاك مع جملة من جواريها وعليهن المسوح السود والصلبان صلت البنود ، فسلمن عليه ، فلم يميز حرقة من بين جواريها لمشاركتها إياهن في الزيّ وكنّ رواهب ، فقال سعد : أفيكنّ حرقة ؟
فقال : ها أنا ذه ، فقال : أنت حرقة ، فقالت : فما تكرارك استفهامي ، اعلم أيها الأمير أن الدنيا دار قلعة وزوال ، فما تدوم على حال ، تنتقل بأهلها انتقال ، وتعقبهم حالا بعد حال ، وإنا كنا ملوك هذه الأرض ، يجبى إلينا خراجها ، ويطيعنا أهلها ، فدنا مدى المدة ، وزوال الدولة ، فلما أدبر الأمر ، وصاح بنا صائح الدهر ، فصدع عصانا ، وشتت ملانا ، وكذا الدهر يا سعد ، إنه ليس من قوم أتحفهم بفرحة إلا أعقبهم بقرحة ،
وأنشدت :
بينا نسوس الناس والأمر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف
فأفّ لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلّب تارات بنا وتصرّف
“ 146 “
قال : فبينما هي تخاطب سعدا رضي اللّه عنه إذ دخل عمرو بن معدي كرب ، فقال :
أنت حرقة التي كانت تفرش لك الأرض من قصرك إلى بيعتك بالديباج المبطن بالوشي ؟
قالت : نعم ، قال لها : ما الذي دهمك ، وأذهب محمود شيمك ، وغوّر ينابيع نعمك ، وقطع سطوات نقمك ؟ قالت : يا عمرو ، إن للدهر عثرات تلحق السيد من الملوك بالعبد المملوك ، وتخفض ذا الرفعة ، وتذلّ ذا النعمة .
وإن هذا أمر كنا ننتظره ، فلما حل بنا لم ننكره ، فسألها سعد ، فيما ذا قصدت له ؟ فاستوصلته ، فوصلها وقضى حوائجها ، فلما انفصلت عنه سئلت ما ذا لقيت منه ؟
فأنشدت تقول :
صان لي ذمّتي وأكرم وجهي * إنما يكرم الكريم الكريم
وحدثنا أيضا قال : قال الأصمعيّ : بينما أطوف بالبيت إذ بجارية متعلقة بأستار الكعبة
وهي تنشد وتقول :
يا ربّ إنك ذو أمن ومغفرة * دارك بعفوك أرواح المحبّينا
الذاكرين الهوى ليلا إذا هجعوا * والنائمين على الأيدي مكبّينا
يا ربّ كن لهم عونا إذا ظلموا * واعطف بقلب الذي يهوون آمينا
قال : فقلت : يا جارية ، أفي هذا المقام ، وحول هذا البيت الحرام تذكرين الهوى ؟
قالت : أو تعرف الهوى ؟ قلت : وأنت تعرفينه ؟ قالت : بليت به صغيرة ، وأحطت به خبرا كبيرة . قلت : صفيه لي . قالت : جلّ أن يخفى ، ودق أن يرى ، فهو كامن ككمون النار في الحجر ، إن قدحته أورى ، وإن تركته توارى . قال الأصمعي : فما سمعت من وصفه بمثل ما وصفته .
وحدثنا محمد بن سعيد رحمه اللّه ، قال : قال وهب بن ناجية الرصافي : كنت أحد من وقعت عليه التهمة في مال مصر أيام الواثق ، فطلبني السلطان طلبا شديدا حتى ضاقت عليّ الرصافة وغيرها ، فخرجت إلى البادية مرتادا رجلا عزيز الدار ، منيع الجار ، أعوذ به ، وأنزل عليه ، فبينما أنا أسير إذ رأيت خياما ، فعدلت إليها ، فملت إلى بيت منها مضروب وبفنائه رمح مركوز ، وفرس مربوط ، فدنوت فسلّمت ، فردّ عليّ نساء من رواء السجف ، وقالت لي إحداهن : اطمئن يا حضريّ ، فنعم مناخ الضيفان بواك القدر ومهدك السفر .
قلت : وأنّى يطمئن المطلوب ، أو يأمن المرغوب ، من دون أن يأوي إلى جبل يعصمه ، أو مأمن ، أو مفزع يمنعه ، وقليلا ما يهجع من السلطان طالبه والخوف غالبه .
قالت : لقد ترجم لسانك عن ذنب عظيم ، وقلب صغير ، وإيم اللّه لقد حللت بفناء رجل لا يضام بفنائه أحد ، ولا يجوع بساحته كبد ، هذا الأسود بن قتان ، أخواله كعب ، وأعمامه شيبان ،
“ 147 “
صعلوك الحي في ماله ، وسيدهم في حاله ، وسندهم في فعاله ، صدوق الجوار ، وقود النار ، وبهذا وصفته إمامة بنت خزرج حيث تقول :
إذا شئت أن تلقى فتى لو وزنته * بكل معديّ وكل يماني
وفا بهما فضلا وجودا وسؤددا * وربّا فذاك الأسود بن قتان
فتى لا يرى في ساحة الأرض مثله * ليوم ضراب أو ليوم طعان
قال : فقلت : يا جارية ، وأنّى لي به ؟ فقالت : يا خادم ، مولاك ، فلم تلبث أن جاءت وهو معها في جماعة من قومه ، وقال : أي المنعمين علينا أنت ؟ فسبقتني المرأة وقالت : يا أبا المرهف ، هذا رجل بنت به أوطانه ، وأزعجه زمانه ، وأوحشه سلطانه ، وقد ضمنّا له ما يضمن لمثله على مثلك . قال : بل اللّه قاك ، أشهدكم يا بني عمي ، أن هذا الرجل في جواري وفي ذمتي ، فمن آذاه فقد آذاني ، ومن كاده فقد كادني ، وأمر ببيت فضرب إلى جانبه .
وقال : هذا بيتك وأنا جارك وهؤلاء رجالك . فلم أزل بينهم في خفض عيش حتى سرت عنهم .
أنشدني يونس بن يحيى ، قال : أنشدني أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي بن محمد الطائي ، قال : أنشدني أبو حفص عمر بن محمد الشيرازي ، قال : أنشدني القاضي أبو علي الحسن بن علي بن محمد الوحشي ،
قال : أنشدنا الفضل بن أحمد الحصيني لبعضهم :
أتلعب بالدعاء وتزدريه * وما يدريك ما فعل الدّعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن * لها أمد وللأمد انقضاء
وحدثني يونس بن يحيى ، قال : أنبأنا محمد بن محمد ، قال : أنا أبو بكر محمد بن منصور السمعاني ، قال : أخبرنا أبو منصور أحمد بن الحسين بن علي العموري ، حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن حمدان البصري ، انا بشر بن أحمد المهرجاني ، أنا أبو جعفر أحمد بن الحسن الحذّا ، انا بعض أصحابنا ، عن عبد الأعلى بن حماد البوسيّ ، قال :
دخلت على المتوكل فقال : يا أبا يحيى ، قد هممنا أن نصلك بخير فقد أفعت الأيام ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، سمعت مسلم بن خالد المكي يقول : من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة ، ثم قلت : أفلا أنشدك بيتين قالهما بعض الشعراء ؟ قال : ما هما ؟
فأنشدته :
لأشكرنك معروفا هممت به * إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر * فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
قال : فاستحسنهما وكتبهما بيده من إعجابه لهما ، وأمر لي بجائزة .
“ 148 “
روينا من حديث الهاشمي بسنده إلى ابن عباس رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أكثر واذكر هازم اللذات ، فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأجرتم ، وإن ذكرتموه في غنى بغّضه إليكم فجدتم به فأثبتم أن ذكر الموت قاطع الآمال ، والليالي مدنيات الآجال ، وإن المرء بين يومين : يوم قد مضى أحصى فيه عمله فختم عليه ، ويوم قد بقي لا يدري لعله لا يصل إليه ، وإن العبد عند خروج نفسه ، وحلول رمسه ، يرى جزاء ما أسلف ، وقلة غناء ما أخلف ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه » .
لما قرأنا هذا الحديث على شيخنا الإمام اللغوي الأديب أبي ذرّ مصعب بن محمد بن مسعود الخشني ، ثم الحياني ، قال لنا : هازم اللذات بالمعجمة ،
وقال : معناه قاطع ، هكذا رواه لنا .
موعظة بعض الصالحين لعبد الملك
روينا من حديث ابن مروان ، عن إبراهيم الحربي ، عن الرياشي ، عن الأصمعي ، قال : خطب عبد الملك بن مروان بمكة ، لما حجّ يوما ، فلما صار إلى موضع العظة ، قام إليه رجل فقال : مهلا ، إنكم تأمرون ولا تؤمرون ، وتنهون ولا تنهون ، أفنفتدي بسيرتكم في أنفسكم ، أم نطيع أمركم بألسنتكم ؟ فإن قلتم اقتدوا بسيرتنا ، فأين وكيف وما الحجة ؟
وكيف الاقتداء بسيرة الظلمة ؟ وإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا ، فكيف ينصح غيره من يغشّ نفسه ؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، فعلام قلّدناكم أزمّة أمورنا ؟ أما علمتم أن فينا من هو أفصح منكم بفنون العظات ، وأعرف بوجوه اللغات ؟ فتلجلجوا عنها ، وإلا فأطلقوا عقالها يبتدر إليها الذين شردتموهم في البلدان . إن لكل قائم يوما لا يعدوه ، وكتابا بعده يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .
روينا من حديث ابن الخطاب ، قال : قال محمد بن أحمد بن عمر الزيبقي ، ثنا محمد بن سليمان الفرار ، عن أبي بكر الحنفي ، عن بكر بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد بن أبي وقاص في إبل وغنم ، فأتاه ابنه عمر ، فلما رآه قال : أعوذ باللّه من شر هذا الراكب . فلما انتهى إليه قال : يا أبت ، أرضيت أن تكون أعرابيا في إبلك وغنمك ، والناس يتنازعون الملك ؟ قال : فضرب سعد صدر عمر بيده
وقال :اسكت يا بني ، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إن اللّه يحب العبد التقي الغني الخفي » .
وحدثنا بعض شيوخنا من أهل الأدب والتاريخ ، رحمه اللّه ، في بعض مجالسه ،
“ 149 “
وكان حسن المناظرة ، قال : لما كان من أمر عبد الرحمن بن الأشعث الكندي ما كان ، قال الحجاج : اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي ، في الأسرى أو في القتلى ، فطلبوه فوجدوه في الأسرى . فلما دخل على الحجاج ، قال له : من أنت ؟ قال : أنا شهاب بن حرقة . قال :
واللّه لأقتلنك . قال : لم يكن الأمير بالذي يقتلني . قال : ولم ويلك ؟ قال : لأن فيّ خصالا لا يرغب فيهنّ إلا أمير . قال : وما هنّ ؟ قال : ضروب الصحفة ، هزوم للكثيبة ، أحمي الجار ، وأذبّ عن الدمار ، وأجود في العسر واليسر ، غير بطيء عن النصر . قال الحجاج :
ما أحسن هذه الخصال . فأخبرني بأشد شيء مرّ عليك . قال : نعم ، أصلح اللّه الأمير .
شعر
بينا أنا أسير * ومركبي يسير
في عصبة من قومي * في ليلتي ويومي
يمضون كالأجادل * في الحرب كالبواسل
أنا المطاع فيهم * في كل ما يليهم
فسرت خمسا عوما * وبعد خمس يوما
حتى وردت أرضا * ما قد ترام عرضا
من بلد البحرين * عند طلوع العين
فجئتهم نهارا * ألتمس المغارا
حتى إذا كان السحر * من بعد ما غاب القمر
إذا أنا بعير * بقوها حقير
موفورة متاعا * مقبلة سراعا
فصلت بالسّنان * مع سادة فتيان
فسقتها جميعا * أحثّها سريعا
أريد رمل عالج * أنعج بالعناعج
أسير في الليالي * خرقا بعيدا خالي
وقد لقينا تعبا * وبعد ذاك نصبا
حتى إذا هبطنا * من بعد ما علونا
عنت لنا سدانه * قد كان فيها عانه
فرمتها بقوسي * في مهمه كالترس
“ 150 “
حتى إذا ما أمعنت * في القفر ثم درمت
وردت قصرا منهلا * في جوفه طام خلا
وعنده خيمة * في جوفها نعيمة
غريرة كالشمس * فاقت جميع الإنس
نعجت مهري عندها * حتى وقفت معها
حيّيت ثم ردّت * في لطف وحيّت
فقلت يا لعوب * والطفلة العروب
هل عندكم قراء * إذ نحن بالعراء
قالت نعم برحب * في لطف وقرب
اربع هنا عتيدا * ولا تكن بعيدا
حتى يجيك عامر * مثل الهلال الزاهر
فعجت عن قريب * في باطن الكثيب
حتى رأيت عامرا * يحمل ليثا حادرا
على عتيق سابح * كمثل طرف اللامحقال : وكان الحجاج متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : ويحك دعني من السجع والرجز وخذ في الحديث ، قال : نعم أيها الأمير ، ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة ، وأوقد عليها نارا ، وشقّ عن بطن الأسد ، وألقى مراقه في النار ، وجعلت أصلح اللّه الأمير أسمع للحم الأسد تشديدا ، فقالت له نعيمة : قد جاءنا ضيف وأنت في الصيد ، قال : فما فعل ؟ فقالت :
ها هو ذاك بظهر الخيمة ، فأومت إليّ فأتيتها ، فإذا أنا بغلام أمرد كأن وجهه دائرة القمر ، فربط فرسي إلى جنب فرسه ، ودعاني إلى طعامه فلم أمتنع من أكل لحم الأسد لشدة الجوع ، فأكلت أنا ونعيمة منه بعضه ، وأتى الغلام على آخره ، ثم مال إلى زقّ فيه خمر فشرب وسقاني ، فشربت ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره . فبينما نحن كذلك إذ سمعنا وقع حوافر خيل أصحابي ، فقمت وركبت فرسي ، وتناولت رمحي ، وسرت معهم ، ثم قلت : يا غلام ، خلّ عن الجارية ولك ما سواها ، فقال : ويحك احفظ الممالحة . قلت : لا بد من الجارية . فالتفت إليها وقال لها : قفي وانظري فعلي في هؤلاء اللئام . ثم قال : يا فتيان ، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟ فبرز إليه رجل من أصحابي ، فقال له الغلام : من أنت ؟ فلست أقاتل إلا كفؤا . قال : أنا عاصم بن كلبة السعديّ ، فشدّ عليه وأنشأ يقول :إنك يا عاصم بي لجاهل * إذ رمت أمرا أنت عنه نأكل
“ 151 “
إني كميّ في الحروب بازل * ليث إذا اصطك الليوث باسل
ضرّاب هامات العدا منازل * قتال أقران الوغى مقاتل
قال : ثم طعنه طعنة فقتله ، ثم قال : يا فتيان ، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟
فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام : من أنت ؟
قال : أنا صابر بن حرقة السعدي ، فشدّ عليه ،
وأنشأ يقول :
إنك والإله لست صابرا * على سنان يجذب المقادرا
ومنصل مثل الشهاب باترا * في كفّ قرن يمنع الحرائرا
إني إذا ما رمت أن أقاسرا * يكون قرني في الحروب باترا
ثم طعنه طعنة فقتله ، ثم قال : هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟ فلما رأيت ذلك هالني أمره ، وأشفقت على أصحابي ، فقلت : احملوا عليه حملة رجل واحد ،
فلما رأى ذلك أنشأ يقول :
الآن طاب الموت ثم طابا * إذ تطلبون رخصه كعابا
ولا نريد بعدها عتابا * فدونها الطعن مع الضرابا
فركبت نعيمة فرسها ، وأخذت رمحها ووقفت ، فما زال يجادلنا ونعيمة حتى قتل منا عشرين رجلا ، فأشفقت على أصحابي ، فقلت : يا عامر ، بحق الممالحة يا غلام قد قبلنا العافية ، ثم قال : ما كان أحسن هذا لو كان أولا ، وتركنا وسالمنا . ثم قلت : يا عامر ، بحق الممالحة من أنت ؟ قال : عامر بن حرقة الطائي وهذه ابنة عمي ، ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ، ما مرّ بنا أنسي غيركم ، فقلت : من أين طعامكم ؟ قال : من حشرات الطير والوحش والسباع ، قلت : من أين شرابكم ؟ قال : الخمر ، أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين ، قلت : إن معي مائة من الإبل موفورة متاعا ، فخذ منها حاجتك ، قال : لا حاجة لي فيها ، ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه ، فارتحلنا عنهم منصرفين .
قال الحجاج :
الآن طاب قتلك يا عدو اللّه لغدرك بالفتى ، قال : قد كان خروجي على الأمير أصلحه اللّه أعظم من ذلك ، فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني بغيره ، فأطلقه ووصله إلى بلاده . قلت : وهذا عامر بن حرقة الطائي منا ،
وربما قد ذكرته في بعض قصائدي مع المشاهير من أجدادي في المفاخرة .
ولنا في هذا الباب شعر :
أشدّ على قاسي اللجام سناني * فيكرع من حوض الدماء سناني
فأروي به من حوض كل غشمشم * يحمي قرونته ليوم طعان
“ 152 “
فيرجع ريّانا وقد كان يانعا * كما عاد مبيضّا لأحمر قاني
حتى إذا ضاق المجال على فتى * ضربت على رأس الحسام بناني
وجرّدته من غمده وكسوته * غمدا من الهامات والأبدان
وحدثني بعض الأدباء ، عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قال : قعد الحجاج يوما في سكرة له فيها جماعة من الناس من جملتهم حميد الأرقط ، وكان شاعرا ، فقام وأنشد قصيدة يصف فيها الحرب ، فقال له الحجاج : أما القول فقد أجدته ، وإني سائلك يا حميد عمّا ذا يسأل الأمير ؟ قال : هل قاتلت قط ؟ قال : لا أيها الأمير إلا في النوم ، فقال له : فكيف كانت وقعتك ؟
قال : انتبهت وأنا منهزم وقلت :
يقول لي الأمير بغير جرم * تقدّم حين جدّ بنا المراسي
وما لي أن أطعتك من حياة * وما لي غير هذا الرأس رأسي
قيل لبعضهم : ما لك لا تغزو ؟ قال : واللّه إني لأبغض الموت على فراشي ، فكيف أذهب إليه ركضا ؟
مثل
احذر من غراب ، وأجبن من صرصار . ويقال : من صافر . ويقال : أجبن من المنزوف ضرطا .
قال أبو ذرّ : كان من حديثه أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل ، فتزوجت واحدة منهن رجلا كان ينام إلى الضحى ، فإذا انتبه ضربنه ، وقلن له : قم فاصطبح ، فيقول : العادية نبهتني . فلما رأين ذلك يكثر منه سررن به ، وقلن : إن صاحبنا واللّه شجاع جريء ، ألا ترين إلى ما يقول كلما نبّهناه ؟ فقالت إحداهن : تعالين نجربه ، فأتينه وأيقظنه ، فقال : أو لعادية نبهتني ؟ فقلن له : نواصي الخيل معك ،
فجعل يقول :الخيل الخيل ، ويضرّط حتى مات ، فضرب به المثل .
يقول الغرّارة :
ما كان ينفعني مقال نسائهم * وقتلت خلف رجالهم لا يبعد
وقال الآخر عن فراره يعتذر :
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت * مرابطها من بر بعيص وميسرا
وقيل لبعض الجبناء : انهزمت فغضب الأمير عليك ، قال : لغضب الأمير وأنا حي أحب إليّ من أن يرضى عليّ وأنا ميت .
حدثنا بعض الأدباء ، قال : في أخبار عمرو بن معدي كرب الزبيدي صاحب
الجزء التاسع
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار في الأدبيات والنوادر والأخبار ج 1
“ 139 “
فقال له الشيخ : أين هو ؟ فقال : هو فيه ، فأخذته حالة وهو يقول : هو فيه ، فبهت الحاضرون وتحيروا .
أنشدنا ابن الأعرابي :
سقى اللّه حيا بين صارة والحمى * حمى فيه صوب المدجنات الواطر
أمين وادّ اللّه ركبا إليهم * بخير ووقاهم صروف المقادر
ولمهيار الديلمي في الشيب :
أسفت لحلم كان لي يوم بارق * فأخرجه جهل الصبابة عن بعدي
وما زلت أبكي منذ حلّت بحاجر * قوى جلدي حتى تداعى تجلدي
تحرّس بأحقاف اللوا عمر ساعة * ولولا مكان الريب قلت له ازدد
وقل صاحب لي ضلّ بألبان قلبه * لعلك أن يلقاك هاد فيهتدي
فسلم على ماء به برد غلتي * وظل أراك كان للوصل موعدي
وقل لحمام البانتين مهنئا * تغني خليّا من غرام وغرّد
فيا أهل نجد كيف بالغور بعدكم * بقاء تهاميّ يهيم بمنجد
ملكتم عزيزا رقه فتعطّفوا * على منكر للذل لم يتعود
وله أيضا من هذا الباب :
يا ليلتي بحاجر * إن عاد ماض فارجعي
أرضى بأخبار الريا * ح والبروق اللمع
وأين من برق الحمى * شائمة بلعلع
وله أيضا من هذا الباب :
أودع فؤادي حرقا أودع * ذاتك تؤذي أنت في أضلعي
وارم سهام الطرف ، أو كفها * أنت بما ترمي مصاب معي
موقعها القلب وأنت الذي * مسكنه بذاك الموضع
ومن ثمرات المحبة عند أهلها ما حدثني به عبد الرحمن ، عن أبي بكر ، عن الجيري ، عن ابن باكويه ، عن إبراهيم بن محمد المالكي ، عن يوسف بن أحمد البغدادي ، عن ابن أبي الحواري ، قال : حججت أنا وأبو سليمان الداراني ، فبينما نحن نسير إذ سقطت السطيحة مني ، وكان برد عظيم ، فأخبرت أبا سليمان ، فقال : سلّم وصلّ على محمد ، وقل : يا رادّ الضالة ، ويا هاديا من الضلالة ، ردّ الضالة ، فإذا بواحد ينادي : من ذهبت له سطيحة ، فأخذتها منه ، فقال لي أبو سليمان : لا تتركنا بلا ماء . فبينما نحن نسير إذا برجل
“ 140 “
عليه طمران ، أي ثوبان خلقان رثان ، ونحن قد تدرعنا بالفراء من شدة البرد ، وهو يرشح عرقا ، فقال له أبو سليمان : ألا نؤثرك ببعض ما معنا ؟ فقال الرجل : يا داراني الحر والبرد خلقان للّه عز وجل ، إن أمرهما أن يغشياني أصاباني ، وإن أمرهما أن يتركاني تركاني ، يا داراني ، تصف الزهد ، وتخاف من البرد ، أنا شيخ أسيح في هذه البريّة منذ ثلاثين سنة ما انتقضت ولا ارتعدت . يلبسني في البرد فيحا من محبته ، ويلبسني في الصيف برد محبته .
ثم ولّى ، وهو يقول : يا داراني ، تبكي وتصيح وتستريح على الترويح . فكان أبو سليمان يقول : لم يعرفني غيره .
قلت : كنت أطلب بيت المقدس ، فدخل عليّ شاب كالعود ، عليه أثر السياحة ، وأنا بمسجد بظاهر بيسان ، وكان صاحبي عبد الرحمن بن علي اللواتي يعمل لي شغلا بين يديّ ، فدنا منا ، وأخذ السكين من يد عبد الرحمن ، فأصلح به نعلا كان له ، ثم قال لي :
تكون فقيرا وتمشي بعدة ، فقلت له : يا فقير ، تراك قد احتجت إليها ، فلو كانت ما يضرك ؟
فقال لي : لما احتجت وجدتك ، فأصلحت شأني ، وأراحني اللّه من حملها ، فكن مثلي واتركها ، فإذا احتجت إليها وجدت حاجتك عند مثلك ، وتكون بينها سالم الحال مع اللّه .
ثم خرج مسرعا ، فطلبته فلم أره حتى الآن . سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، أستغفرك وأتوب إليك .
موعظة الفضيل بن عياض لأمير المؤمنين هارون الرشيد بمكة زادها اللّه شرفا
روينا من حديث أبي نعيم ، عن سليمان بن أحمد ، عن محمد بن زكريا العلائي ، عن أبي عمر النحوي ، عن الفضل بن الربيع ، قال : حج هارون الرشيد ، فأتاني ، فخرجت مسرعا ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، لو أرسلت إليّ لأتيتك ، فقال : ويحك قد حاك في نفسي شيء ، فانظر لي رجلا أسأله . فقلت : هاهنا سفيان بن عيينة . قال : امض بنا إليه ، فأتيناه ، فقرعت الباب ، فقال : من ذا ؟ فقلت : أجب أمير المؤمنين ، فخرج مسرعا ، فقال : يا أمير المؤمنين ، لو أرسل إليّ لأتيتك ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك اللّه ، فحدثه ساعة ، ثم قال : عليك دين ؟ قال : نعم ، قال : اقض دينه . فلما خرجنا قال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . فقلت له : هاهنا عبد الرزاق ، فذكر مثل ما جرى له مع سفيان .
وقال : ما أغنى عني صاحبك شيئا ، انظر لي رجلا أسأله . فقلت : هاهنا الفضيل بن عياض ، قال : امض بنا إليه ، فإذا هو قائم يصلي يتلو آية من القرآن يرددها ، قال : اقرع الباب ،
“ 141 “
فقرعت ، فقال : من ؟ قلت : أجب أمير المؤمنين ، قال : وما لي ولأمير المؤمنين ؟ فقلت :
سبحان اللّه ، أما عليك طاعته ؟ فنزل ففتح الباب ، ثم ارتقى إلى الغرفة ، ثم أطفأ السراج ، ثم التجأ إلى زاوية من زوايا البيت ، فدخلنا فجعلنا نجول عليه بأيدينا ، فسبقت كف هارون الرشيد قبلي إليه ، فقال : يا لها من كف ما ألينها ، إن نجت غدا من عذاب اللّه عز وجل .
فقلت في نفسي : ليكلمنا الليلة كلاما من قلب نقي ، فقال له : خذ لما جئناك له رحمك اللّه ، فقال له : إن عمر بن عبد العزيز لما ولّي الخلافة دعا سالم بن عبد اللّه ، ومحمد بن كعب القرظيّ ، ورجاء بن حيوة ، فقال لهم : إني قد ابتليت بهذا البلاء ، فأشيروا عليّ ، فعدّ الخلافة بلاء ، وعددتها أنت وأصحابك نعمة . فقال له سالم بن عبد اللّه : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فصم عن الدنيا ، وليكن إفطارك منها الموت .
وقال محمد بن كعبان : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فليكن كبير المؤمنين عندك أبا ، وأوسطهم عندك أخا ، وأصغرهم عندك ولدا ، فوقّر أباك ، وأكرم أخاك ، وتحنن على ولدك .
وقال رجاء بن حيوة : إن أردت النجاة من عذاب اللّه فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك ، واكره لهم ما تكره لنفسك ، ثم متّ إن شئت . فإني أقول لك : يا هارون الرشيد ، إني أخاف عليك أشد الخوف يوم تزلّ فيه الأقدام ، فهل معك رحمك اللّه من يشير عليك بمثل هذا ؟ فبكى هارون بكاء شديدا حتى غشي عليه ، فقلت له : أرفق بأمير المؤمنين ، فقال : تقتله أنت وأصحابك ، وأرفق به أنا ، ثم أفاق فقال له : زدني رحمك اللّه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكى إليه ، فكتب إليه : يا أخي أذكّرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد ، وإياك أن ينصرف بك من عند اللّه عز وجل ، فيكون آخر العهد وانقطاع الرجاء . فلما قرأ الكتاب طوى البلاد حتى قدم على عمر بن عبد العزيز فقال له : ما أقدمك ؟ قال : خلعت قلبي بكتابك ، لا أعود إلى ولاية حتى ألقى اللّه ، قال : فبكى هارون بكاء شديدا ، ثم قال : زدني رحمك اللّه ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن العباس عم المصطفى صلى اللّه عليه وسلم ، جاء إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه ، أمّرني على إمارة ،
فقال له : « إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة ، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل » ، فبكى هارون ، وقال : زدني رحمك اللّه ،
قال : يا حسن الوجه ، أنت الذي يسألك اللّه تعالى عن هذا الخلق يوم القيامة ، فإن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل ، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لأحد من رعيتك ،
فإن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « من أصبح عنده غش لم يرح رائحة الجنة » ، فبكى هارون ، وقال له : عليك دين ؟ قال : نعم ، لربي ، لم يحاسبني عليه ،
“ 142 “
والويل لي إن سألني ، والويل لي إن ناقشني ، والويل لي إن لم ألهم حجتي ، قال : إنما أعني من دين العباد ، قال : إن ربي لم يأمرني بهذا ، وقد قال اللّه عز وجل : إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ، فقال له : هذه ألف دينار ، خذها وأنفقها على عيالك ، وتقوّى بها على عبادتك ، فقال : سبحان اللّه ، أنا أدلّك على طريق النجاة ، وأنت تكافئني بمثل هذا ، سلّمك اللّه ووفقك . ثم صمت فلم يكلمنا ، فخرجنا من عنده ، فلما صرنا على الباب قال لي هارون :
إذ أدللتني على رجل فدلّني على مثل هذا ، هذا سيد المسلمين . فدخلت عليه امرأة من نسائه ، فقالت : يا هذا ، ما ترى ما نحن فيه من ضيق الحال ؟ فلو قبلت هذا المال لفرّجت به عنّا ،
فقال لها : مثلي ومثلكم كمثل قوم كان لهم بعير يأكلون من كسبه ، فلما كبر نحروه ، فأكلوا لحمه .
فلما سمع هارون هذا الكلام قال : ندخل فعسى أن يأخذ المال ، فلما علم الفضيل بنا خرج فجلس في السطح على باب الغرفة ، فجاء هارون فجلس إلى جانبه ، فجعل يكلمه ولا يجيبه . فبينما نحن كذلك إذ خرجت جارية سوداء ،
فقالت : يا هذا ، قد آذيت الشيخ هذه الليلة فانصرف رحمك اللّه .
وروينا من حديث ابن ودعان ، عن ظاهر بن محمد بن يوسف بن علي بن وسيم ، عن جعفر بن إبراهيم ، عن عبد الكريم بن الهيثم ، عن أبي اليمان ، عن شعيب ، عن أبي زياد ، عن عبد الرحمن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إنما يوقى الناس من إحدى ثلاث : إما من شبهة في الدين ارتكبوها ، أو شهوة لذة آثروها ، أو غضبة لحمية أعملوها ، فإذا لاحت لكم شبهة فأجلوها باليقين ، وإذا عرضت لكم شهوة فأقمعوها بالزهد ، وإذا عرضت لكم غضبة فأردؤها بالعفو إنه ينادي مناد يوم القيامة : من له أجر على اللّه فليقم ، فيقومون العافون عن الناس . ألم تر إلى قوله تعالى : فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَ اللَّهِ » .
ومن سماعنا على قول الرضيّ بالنفس :
أما علم الغادون والقلب خلفهم * بضمّ زفير يصدع القلب ضمّه
بأن وميض البرق ما لا أشيمه * وإن نسيم الروض ما لا أشمّه
ومن سماعنا على قوله أيضا بالنفس :
ولما أبى الإظعان إلا فراقنا * وللبين وعد ليس فيه كذاب
رجعت ودمعي جازع من تجلدي * يروم نزولا للجوى فيهاب
وأثقل محمول على العين ماؤها * إذا بان أحباب وعزّ إياب
وعلى قوله في التوديع أيضا بالنفس :
“ 143 “
وإني إذا اصطكت ركاب مطيّكم * وثوّر حاد بالرفاق عجول
أخالف بين الراحتين على الحشى * وأنظر إني ملتم فأميل
ومن وقائع بعض الفقراء ، ما حدثنا به أبو محمد عبد اللّه ابن الأستاذ المروزيّ بإشبيلية ، قال : قال لي بعض الصالحين : رأيت في الواقعة أبا مدين ، وأبا حامد ، وأبا طالب ، وأبا يزيد ، وخلقا كثيرا من الصوفية ،
فقال أبو يزيد لأبي مدين : زدنا من كلامك في التوحيد ، فقال : التوحيد هو الحق ، ومنوّر القلب ، ومحرّك الظواهر ، وعلّام الغيوب ، نظر العارفون فتاهوا إذ لم يعمّر قلوبهم إلا هو ، فهم به والهون ، قلوبهم تسرح في رضاه في الحضرة العليّة ، وأسرارهم مما سواه فارغة خليّة ، جالت أسرارهم في الملكوت فلاحظوا عظمته ، وتجلى لقلوبهم فأنطقهم حكمته ، فهو للعارف ضياء ونور ، وقد أشغله به عن الجنة والقصور ، آنسه به فهو جليسه ، وأفناه عنه فتلاشى كثيفة ، فامتزج المعني بالمعنى ، فكان هو .
ذهبت الرسوم ، وفنيت العلوم ، ولم يبق إذ ذاك إلا الحي القيوم ، وهو معنى المعاني ، والحي الباقي ، وكشف سرّ العارف ما ذا يلاقي من البر والإحسان ، ولذة النظر ، وغيبته عن الأغيار وعن جملة البشر ، تنزّه عن تنزيهه فنزّهه به ، وفني عن الأكوان بمشاهدة ربه ، فعدا عن الأسماء ، وسما عن الصفات ، واضمحلت كليته في مشاهدة الذات .
هذه علوم ، وهذه أسرار يكاشف بها من هو لها مختار ، فينبتها في الوجود ، فيظهر ما عنده ويحيي بها القلوب ، وينجز له وعده ، فيرويها الحق بالماء الصافي ، ويعالج علّتها بالعلم الشافي ، فيبري بها من الأسقام ، ومن جملة العلل ، ويصلحها ويعلّمها من الأسرار ما لم تكن تعلم ، فعلم العارف موصول المعرفة ، فيظهر له الحق فيألف لمألوفه . فاستمع لهذه العلوم ، واصغ إليها بقلبك ، فكلّ من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
ومن باب البلاغة
يحكى عن يحيى بن خالد ، أنه وصف الفضل بن سهل وهو غلام على دين المجوسية للرشيد ، وذكر أدبه وحسن معرفته ، فعمل على ضمّه إلى المأمون ، فقال ليحيى يوما : أدخل إليّ هذا الغلام المجوسي حتى أنظر إليه .
فأوصله ، فلما مثل بين يديه ووقف ، تحيّر ، فأراد الكلام فارتجّ عليه ، فأدركته كبوة . فنظر الرشيد إلى يحيى نظرة منكرة ، لما كان يقدّم من إفراط ثنائه عليه ، فانبعث الفضل بن سهل ،
فقال : يا أمير المؤمنين ، إن من أيمن الدلالة على فراهة المملوك شدّة إفراط هيبته لسيده ، فقال له الرشيد : أحسنت ، واللّه إن كان سكوتك لتقول هذا ، إنه لحسن ، وإن كان شيء أدركك عند انقطاعك ، إنه لأحسن ،
“ 144 “
أو حسن . ثم جعل لا يسأله عن شيء إلا رآه فيه مقدّما ، فضمّه إلى المأمون .
حدثني أبو عبد اللّه بن عبد الجليل ، قال : مرّ الحجاج بن يوسف بشخص من عمّاله كان قد صلبه ، فوجد عند خشبته صبيا صغيرا ، فاستنطقه الحجاج فقال له : يا صبي ، ما تقول في هذا الراكب ؟ فقال : أيها الأمير ، هو زرع نعمتك ، وحصيد نقمتك . فسأل عن الغلام ، فوجده ابن ذلك المصلوب ، فقرّبه وأقعده مقعد أبيه .
وحدثنا أيضا عن الأصمعي ، قال : لقيت بالبادية صبيا لم يدرك الحلم ، فاستنطقته فوجدته بليغا فصيحا ، فاستخبرته هل عنده شيء من عرض الدنيا ، فقال : يا عم ، واللّه ما أملك اليوم درهما واحدا . قال : فقلت له : تودّ أن تكون لك مائة ألف وتكون أحمق ؟ فقال له : لا واللّه يا عم . قلت : ولم ؟ قال : أخاف أن يجني عليّ حمقي جناية تذهب بمالي ، ويبقى عليّ حمقي .
وحدثنا أيضا من هذا الباب ، قال : كان الرشيد يميل لعبد اللّه المأمون أكثر من ميله إلى محمد الأمين ، فقالت زبيدة ، وهي أمّ الأمين : يا أمير المؤمنين ، إنك تميل إلى المأمون أكثر من ميلك إلى ولدي الأمين . فقال لها : ما أنا حيث ظننت ، ولكني تفرّست في النجابة أكثر من الأمين . قالت : فأحبّ من أمير المؤمنين أن يختبرهما بحضرتي .
قال : فبعث خلف الأمين أولا ، فقال له : يا محمد ، إني جلست هذا المقام ، وآليت على نفسي لا يسألني منكم أحد شيئا إلا أعطيته ما سأل ، فقال : أسألك كلب بني فلان ، وبازي بني فلان ، فكلب مشهور ، وبازي مشهور . فقال له : لك ذلك ، ثم انصرف .
فاستدعى المأمون ، فوقف بباب الستر ، فأذن له ، فدخل وسلّم ، فقال له : ادن فدنا ، وخدم ووقف ، فما زال يقول : ادن وهو يدنو ويخدم ، إلى أن وقف بين يديه ، فأمره بزيادة الدنوّ ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، هذا مقام العبد من مولاه . فقال : يا بنيّ ، إني جلست هذا المقام ، وآليت على نفسي لا يسألني أحد منكم على شيء إلا أعطيته ما سأل . قال : فأطرق واغرورقت عيناه بالدموع ، وقال له : يا أمير المؤمنين ، أسألك في الخلافة بعدك ، وأرجو اللّه أن لا يذيقني فقدك . فقال : انصرف .
وحدثنا أيضا ، قال : مرّ عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه بغلمان يلعبون وفيهم عبد اللّه بن الزبير ، ففرّ الصبيان خوفا من عمر إلا عبد اللّه بن الزبير . فقال له عمر : يا عبد اللّه ، لم لم تفرّ كما فرّ أصحابك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، لم أكن على ريبة فأخافك ، ولم أكن في الطريق الضيّق فأوسّع لك .
“ 145 “
موعظة
حدّثنا صاحبنا أيضا أبو عبد اللّه بن عبد الجليل بمكة قال : يحكى أن ملكا من ملوك اليونانيين انتبه من منامه في بعض الغدوات فأتته قيّمة ملبسه بثيابه فلبسها ، وناولته المرآة فرأى شيبة في لحيته فقال : المقراض يا جارية ، فأتته به ، فقصّ الشيبة وناولها إياها ، فتناولتها ووضعتها في كفها وأصغت إليها بأذنها ساعة والملك ينظر إليها ، فقال لها : ما الذي تصغين إليه يا جارية ؟ قالت : أستمع إلى ما تقول هذه الشعرة التي عظم مصابها بمفارقة الكرامة العظمى حين سخطها الملك وأقصاها . فقال لها : فما الذي سمعت من قولها ؟
قالت : زعم قلبي أنه سمعه تقول كلاما لا يجترئ لساني على النطق به لاتقائي سطوة الملك .
فقال لها : قولي على حال آمنة وعدم توقّ ما لزمت أسلوب الحكمة .
قالت : إنها تقول : أيها الملك المسلّط على أمر قصير ، إني ظننت بك البطش والاعتداء عليّ ، فلم أظهر على سطح جسدك حتى بضت وحضنت بيضي ، فأفرخت وأعهدت لبناتي بالأخذ بثأري عهدا إذ كأنهنّ خرجن فجعلن للأخذ بثأري باستئصالك أو تنغيص لذتك وتنحيف قوّتك حتى تعدّ الهلك راحة . فقال : اكتبي كلامك هذا ، فكتبته في صحيفة فناولته إياها .
فتأملها مرارا ، ثم قام ودخل بيت النسّاك ولبس زيّ النسك ، وترك الملك حتى لحق بربه .
وأنشدني في هذا المعنى صاحبنا علي بن محمد القفصيّ :
وناذرة بالشيب حلّت بعارضي * فبادرتها بالنتف خوفا من الحتف
فقالت على ضعفي استطلت ووحدتي * رويدك للجيش الذي جاء من خلفي
ومن هذا الباب ما حدثنا أيضا به صاحبنا أبو عبد اللّه قال : دخلت حرقة بنت أبي قابوس النعمان بن المنذر ابن ماء السماء على سعد بن أبي وقاص ، وهو بالقادسية إذ ذاك مع جملة من جواريها وعليهن المسوح السود والصلبان صلت البنود ، فسلمن عليه ، فلم يميز حرقة من بين جواريها لمشاركتها إياهن في الزيّ وكنّ رواهب ، فقال سعد : أفيكنّ حرقة ؟
فقال : ها أنا ذه ، فقال : أنت حرقة ، فقالت : فما تكرارك استفهامي ، اعلم أيها الأمير أن الدنيا دار قلعة وزوال ، فما تدوم على حال ، تنتقل بأهلها انتقال ، وتعقبهم حالا بعد حال ، وإنا كنا ملوك هذه الأرض ، يجبى إلينا خراجها ، ويطيعنا أهلها ، فدنا مدى المدة ، وزوال الدولة ، فلما أدبر الأمر ، وصاح بنا صائح الدهر ، فصدع عصانا ، وشتت ملانا ، وكذا الدهر يا سعد ، إنه ليس من قوم أتحفهم بفرحة إلا أعقبهم بقرحة ،
وأنشدت :
بينا نسوس الناس والأمر أمرنا * إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف
فأفّ لدنيا لا يدوم نعيمها * تقلّب تارات بنا وتصرّف
“ 146 “
قال : فبينما هي تخاطب سعدا رضي اللّه عنه إذ دخل عمرو بن معدي كرب ، فقال :
أنت حرقة التي كانت تفرش لك الأرض من قصرك إلى بيعتك بالديباج المبطن بالوشي ؟
قالت : نعم ، قال لها : ما الذي دهمك ، وأذهب محمود شيمك ، وغوّر ينابيع نعمك ، وقطع سطوات نقمك ؟ قالت : يا عمرو ، إن للدهر عثرات تلحق السيد من الملوك بالعبد المملوك ، وتخفض ذا الرفعة ، وتذلّ ذا النعمة .
وإن هذا أمر كنا ننتظره ، فلما حل بنا لم ننكره ، فسألها سعد ، فيما ذا قصدت له ؟ فاستوصلته ، فوصلها وقضى حوائجها ، فلما انفصلت عنه سئلت ما ذا لقيت منه ؟
فأنشدت تقول :
صان لي ذمّتي وأكرم وجهي * إنما يكرم الكريم الكريم
وحدثنا أيضا قال : قال الأصمعيّ : بينما أطوف بالبيت إذ بجارية متعلقة بأستار الكعبة
وهي تنشد وتقول :
يا ربّ إنك ذو أمن ومغفرة * دارك بعفوك أرواح المحبّينا
الذاكرين الهوى ليلا إذا هجعوا * والنائمين على الأيدي مكبّينا
يا ربّ كن لهم عونا إذا ظلموا * واعطف بقلب الذي يهوون آمينا
قال : فقلت : يا جارية ، أفي هذا المقام ، وحول هذا البيت الحرام تذكرين الهوى ؟
قالت : أو تعرف الهوى ؟ قلت : وأنت تعرفينه ؟ قالت : بليت به صغيرة ، وأحطت به خبرا كبيرة . قلت : صفيه لي . قالت : جلّ أن يخفى ، ودق أن يرى ، فهو كامن ككمون النار في الحجر ، إن قدحته أورى ، وإن تركته توارى . قال الأصمعي : فما سمعت من وصفه بمثل ما وصفته .
وحدثنا محمد بن سعيد رحمه اللّه ، قال : قال وهب بن ناجية الرصافي : كنت أحد من وقعت عليه التهمة في مال مصر أيام الواثق ، فطلبني السلطان طلبا شديدا حتى ضاقت عليّ الرصافة وغيرها ، فخرجت إلى البادية مرتادا رجلا عزيز الدار ، منيع الجار ، أعوذ به ، وأنزل عليه ، فبينما أنا أسير إذ رأيت خياما ، فعدلت إليها ، فملت إلى بيت منها مضروب وبفنائه رمح مركوز ، وفرس مربوط ، فدنوت فسلّمت ، فردّ عليّ نساء من رواء السجف ، وقالت لي إحداهن : اطمئن يا حضريّ ، فنعم مناخ الضيفان بواك القدر ومهدك السفر .
قلت : وأنّى يطمئن المطلوب ، أو يأمن المرغوب ، من دون أن يأوي إلى جبل يعصمه ، أو مأمن ، أو مفزع يمنعه ، وقليلا ما يهجع من السلطان طالبه والخوف غالبه .
قالت : لقد ترجم لسانك عن ذنب عظيم ، وقلب صغير ، وإيم اللّه لقد حللت بفناء رجل لا يضام بفنائه أحد ، ولا يجوع بساحته كبد ، هذا الأسود بن قتان ، أخواله كعب ، وأعمامه شيبان ،
“ 147 “
صعلوك الحي في ماله ، وسيدهم في حاله ، وسندهم في فعاله ، صدوق الجوار ، وقود النار ، وبهذا وصفته إمامة بنت خزرج حيث تقول :
إذا شئت أن تلقى فتى لو وزنته * بكل معديّ وكل يماني
وفا بهما فضلا وجودا وسؤددا * وربّا فذاك الأسود بن قتان
فتى لا يرى في ساحة الأرض مثله * ليوم ضراب أو ليوم طعان
قال : فقلت : يا جارية ، وأنّى لي به ؟ فقالت : يا خادم ، مولاك ، فلم تلبث أن جاءت وهو معها في جماعة من قومه ، وقال : أي المنعمين علينا أنت ؟ فسبقتني المرأة وقالت : يا أبا المرهف ، هذا رجل بنت به أوطانه ، وأزعجه زمانه ، وأوحشه سلطانه ، وقد ضمنّا له ما يضمن لمثله على مثلك . قال : بل اللّه قاك ، أشهدكم يا بني عمي ، أن هذا الرجل في جواري وفي ذمتي ، فمن آذاه فقد آذاني ، ومن كاده فقد كادني ، وأمر ببيت فضرب إلى جانبه .
وقال : هذا بيتك وأنا جارك وهؤلاء رجالك . فلم أزل بينهم في خفض عيش حتى سرت عنهم .
أنشدني يونس بن يحيى ، قال : أنشدني أبو الفتوح محمد بن محمد بن علي بن محمد الطائي ، قال : أنشدني أبو حفص عمر بن محمد الشيرازي ، قال : أنشدني القاضي أبو علي الحسن بن علي بن محمد الوحشي ،
قال : أنشدنا الفضل بن أحمد الحصيني لبعضهم :
أتلعب بالدعاء وتزدريه * وما يدريك ما فعل الدّعاء
سهام الليل لا تخطي ولكن * لها أمد وللأمد انقضاء
وحدثني يونس بن يحيى ، قال : أنبأنا محمد بن محمد ، قال : أنا أبو بكر محمد بن منصور السمعاني ، قال : أخبرنا أبو منصور أحمد بن الحسين بن علي العموري ، حدثنا أبو سعيد عبد الرحمن بن حمدان البصري ، انا بشر بن أحمد المهرجاني ، أنا أبو جعفر أحمد بن الحسن الحذّا ، انا بعض أصحابنا ، عن عبد الأعلى بن حماد البوسيّ ، قال :
دخلت على المتوكل فقال : يا أبا يحيى ، قد هممنا أن نصلك بخير فقد أفعت الأيام ، فقلت : يا أمير المؤمنين ، سمعت مسلم بن خالد المكي يقول : من لم يشكر الهمة لم يشكر النعمة ، ثم قلت : أفلا أنشدك بيتين قالهما بعض الشعراء ؟ قال : ما هما ؟
فأنشدته :
لأشكرنك معروفا هممت به * إن اهتمامك بالمعروف معروف
ولا ألومك إن لم يمضه قدر * فالشيء بالقدر المحتوم مصروف
قال : فاستحسنهما وكتبهما بيده من إعجابه لهما ، وأمر لي بجائزة .
“ 148 “
روينا من حديث الهاشمي بسنده إلى ابن عباس رضي اللّه عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « أكثر واذكر هازم اللذات ، فإنكم إن ذكرتموه في ضيق وسعه عليكم فرضيتم به فأجرتم ، وإن ذكرتموه في غنى بغّضه إليكم فجدتم به فأثبتم أن ذكر الموت قاطع الآمال ، والليالي مدنيات الآجال ، وإن المرء بين يومين : يوم قد مضى أحصى فيه عمله فختم عليه ، ويوم قد بقي لا يدري لعله لا يصل إليه ، وإن العبد عند خروج نفسه ، وحلول رمسه ، يرى جزاء ما أسلف ، وقلة غناء ما أخلف ، ولعله من باطل جمعه ، ومن حق منعه » .
لما قرأنا هذا الحديث على شيخنا الإمام اللغوي الأديب أبي ذرّ مصعب بن محمد بن مسعود الخشني ، ثم الحياني ، قال لنا : هازم اللذات بالمعجمة ،
وقال : معناه قاطع ، هكذا رواه لنا .
موعظة بعض الصالحين لعبد الملك
روينا من حديث ابن مروان ، عن إبراهيم الحربي ، عن الرياشي ، عن الأصمعي ، قال : خطب عبد الملك بن مروان بمكة ، لما حجّ يوما ، فلما صار إلى موضع العظة ، قام إليه رجل فقال : مهلا ، إنكم تأمرون ولا تؤمرون ، وتنهون ولا تنهون ، أفنفتدي بسيرتكم في أنفسكم ، أم نطيع أمركم بألسنتكم ؟ فإن قلتم اقتدوا بسيرتنا ، فأين وكيف وما الحجة ؟
وكيف الاقتداء بسيرة الظلمة ؟ وإن قلتم أطيعوا أمرنا واقبلوا نصحنا ، فكيف ينصح غيره من يغشّ نفسه ؟ وإن قلتم خذوا الحكمة من حيث وجدتموها ، فعلام قلّدناكم أزمّة أمورنا ؟ أما علمتم أن فينا من هو أفصح منكم بفنون العظات ، وأعرف بوجوه اللغات ؟ فتلجلجوا عنها ، وإلا فأطلقوا عقالها يبتدر إليها الذين شردتموهم في البلدان . إن لكل قائم يوما لا يعدوه ، وكتابا بعده يتلوه ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ .
روينا من حديث ابن الخطاب ، قال : قال محمد بن أحمد بن عمر الزيبقي ، ثنا محمد بن سليمان الفرار ، عن أبي بكر الحنفي ، عن بكر بن مسمار ، قال : سمعت عامر بن سعد بن أبي وقاص قال : كان سعد بن أبي وقاص في إبل وغنم ، فأتاه ابنه عمر ، فلما رآه قال : أعوذ باللّه من شر هذا الراكب . فلما انتهى إليه قال : يا أبت ، أرضيت أن تكون أعرابيا في إبلك وغنمك ، والناس يتنازعون الملك ؟ قال : فضرب سعد صدر عمر بيده
وقال :اسكت يا بني ، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول : « إن اللّه يحب العبد التقي الغني الخفي » .
وحدثنا بعض شيوخنا من أهل الأدب والتاريخ ، رحمه اللّه ، في بعض مجالسه ،
“ 149 “
وكان حسن المناظرة ، قال : لما كان من أمر عبد الرحمن بن الأشعث الكندي ما كان ، قال الحجاج : اطلبوا لي شهاب بن حرقة السعدي ، في الأسرى أو في القتلى ، فطلبوه فوجدوه في الأسرى . فلما دخل على الحجاج ، قال له : من أنت ؟ قال : أنا شهاب بن حرقة . قال :
واللّه لأقتلنك . قال : لم يكن الأمير بالذي يقتلني . قال : ولم ويلك ؟ قال : لأن فيّ خصالا لا يرغب فيهنّ إلا أمير . قال : وما هنّ ؟ قال : ضروب الصحفة ، هزوم للكثيبة ، أحمي الجار ، وأذبّ عن الدمار ، وأجود في العسر واليسر ، غير بطيء عن النصر . قال الحجاج :
ما أحسن هذه الخصال . فأخبرني بأشد شيء مرّ عليك . قال : نعم ، أصلح اللّه الأمير .
شعر
بينا أنا أسير * ومركبي يسير
في عصبة من قومي * في ليلتي ويومي
يمضون كالأجادل * في الحرب كالبواسل
أنا المطاع فيهم * في كل ما يليهم
فسرت خمسا عوما * وبعد خمس يوما
حتى وردت أرضا * ما قد ترام عرضا
من بلد البحرين * عند طلوع العين
فجئتهم نهارا * ألتمس المغارا
حتى إذا كان السحر * من بعد ما غاب القمر
إذا أنا بعير * بقوها حقير
موفورة متاعا * مقبلة سراعا
فصلت بالسّنان * مع سادة فتيان
فسقتها جميعا * أحثّها سريعا
أريد رمل عالج * أنعج بالعناعج
أسير في الليالي * خرقا بعيدا خالي
وقد لقينا تعبا * وبعد ذاك نصبا
حتى إذا هبطنا * من بعد ما علونا
عنت لنا سدانه * قد كان فيها عانه
فرمتها بقوسي * في مهمه كالترس
“ 150 “
حتى إذا ما أمعنت * في القفر ثم درمت
وردت قصرا منهلا * في جوفه طام خلا
وعنده خيمة * في جوفها نعيمة
غريرة كالشمس * فاقت جميع الإنس
نعجت مهري عندها * حتى وقفت معها
حيّيت ثم ردّت * في لطف وحيّت
فقلت يا لعوب * والطفلة العروب
هل عندكم قراء * إذ نحن بالعراء
قالت نعم برحب * في لطف وقرب
اربع هنا عتيدا * ولا تكن بعيدا
حتى يجيك عامر * مثل الهلال الزاهر
فعجت عن قريب * في باطن الكثيب
حتى رأيت عامرا * يحمل ليثا حادرا
على عتيق سابح * كمثل طرف اللامحقال : وكان الحجاج متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : ويحك دعني من السجع والرجز وخذ في الحديث ، قال : نعم أيها الأمير ، ثم نزل فربط فرسه وجمع حجارة ، وأوقد عليها نارا ، وشقّ عن بطن الأسد ، وألقى مراقه في النار ، وجعلت أصلح اللّه الأمير أسمع للحم الأسد تشديدا ، فقالت له نعيمة : قد جاءنا ضيف وأنت في الصيد ، قال : فما فعل ؟ فقالت :
ها هو ذاك بظهر الخيمة ، فأومت إليّ فأتيتها ، فإذا أنا بغلام أمرد كأن وجهه دائرة القمر ، فربط فرسي إلى جنب فرسه ، ودعاني إلى طعامه فلم أمتنع من أكل لحم الأسد لشدة الجوع ، فأكلت أنا ونعيمة منه بعضه ، وأتى الغلام على آخره ، ثم مال إلى زقّ فيه خمر فشرب وسقاني ، فشربت ثم شرب الغلام حتى أتى على آخره . فبينما نحن كذلك إذ سمعنا وقع حوافر خيل أصحابي ، فقمت وركبت فرسي ، وتناولت رمحي ، وسرت معهم ، ثم قلت : يا غلام ، خلّ عن الجارية ولك ما سواها ، فقال : ويحك احفظ الممالحة . قلت : لا بد من الجارية . فالتفت إليها وقال لها : قفي وانظري فعلي في هؤلاء اللئام . ثم قال : يا فتيان ، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟ فبرز إليه رجل من أصحابي ، فقال له الغلام : من أنت ؟ فلست أقاتل إلا كفؤا . قال : أنا عاصم بن كلبة السعديّ ، فشدّ عليه وأنشأ يقول :إنك يا عاصم بي لجاهل * إذ رمت أمرا أنت عنه نأكل
“ 151 “
إني كميّ في الحروب بازل * ليث إذا اصطك الليوث باسل
ضرّاب هامات العدا منازل * قتال أقران الوغى مقاتل
قال : ثم طعنه طعنة فقتله ، ثم قال : يا فتيان ، هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟
فتقدم إليه آخر من أصحابي فقال له الغلام : من أنت ؟
قال : أنا صابر بن حرقة السعدي ، فشدّ عليه ،
وأنشأ يقول :
إنك والإله لست صابرا * على سنان يجذب المقادرا
ومنصل مثل الشهاب باترا * في كفّ قرن يمنع الحرائرا
إني إذا ما رمت أن أقاسرا * يكون قرني في الحروب باترا
ثم طعنه طعنة فقتله ، ثم قال : هل لكم في العافية وإلا فارس لفارس ؟ فلما رأيت ذلك هالني أمره ، وأشفقت على أصحابي ، فقلت : احملوا عليه حملة رجل واحد ،
فلما رأى ذلك أنشأ يقول :
الآن طاب الموت ثم طابا * إذ تطلبون رخصه كعابا
ولا نريد بعدها عتابا * فدونها الطعن مع الضرابا
فركبت نعيمة فرسها ، وأخذت رمحها ووقفت ، فما زال يجادلنا ونعيمة حتى قتل منا عشرين رجلا ، فأشفقت على أصحابي ، فقلت : يا عامر ، بحق الممالحة يا غلام قد قبلنا العافية ، ثم قال : ما كان أحسن هذا لو كان أولا ، وتركنا وسالمنا . ثم قلت : يا عامر ، بحق الممالحة من أنت ؟ قال : عامر بن حرقة الطائي وهذه ابنة عمي ، ونحن في هذه البرية منذ زمان ودهر ، ما مرّ بنا أنسي غيركم ، فقلت : من أين طعامكم ؟ قال : من حشرات الطير والوحش والسباع ، قلت : من أين شرابكم ؟ قال : الخمر ، أجلبها من بلاد البحرين كل عام مرة أو مرتين ، قلت : إن معي مائة من الإبل موفورة متاعا ، فخذ منها حاجتك ، قال : لا حاجة لي فيها ، ولو أردت ذلك لكنت أقدر عليه ، فارتحلنا عنهم منصرفين .
قال الحجاج :
الآن طاب قتلك يا عدو اللّه لغدرك بالفتى ، قال : قد كان خروجي على الأمير أصلحه اللّه أعظم من ذلك ، فإن عفا عني الأمير رجوت أن لا يؤاخذني بغيره ، فأطلقه ووصله إلى بلاده . قلت : وهذا عامر بن حرقة الطائي منا ،
وربما قد ذكرته في بعض قصائدي مع المشاهير من أجدادي في المفاخرة .
ولنا في هذا الباب شعر :
أشدّ على قاسي اللجام سناني * فيكرع من حوض الدماء سناني
فأروي به من حوض كل غشمشم * يحمي قرونته ليوم طعان
“ 152 “
فيرجع ريّانا وقد كان يانعا * كما عاد مبيضّا لأحمر قاني
حتى إذا ضاق المجال على فتى * ضربت على رأس الحسام بناني
وجرّدته من غمده وكسوته * غمدا من الهامات والأبدان
وحدثني بعض الأدباء ، عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه قال : قعد الحجاج يوما في سكرة له فيها جماعة من الناس من جملتهم حميد الأرقط ، وكان شاعرا ، فقام وأنشد قصيدة يصف فيها الحرب ، فقال له الحجاج : أما القول فقد أجدته ، وإني سائلك يا حميد عمّا ذا يسأل الأمير ؟ قال : هل قاتلت قط ؟ قال : لا أيها الأمير إلا في النوم ، فقال له : فكيف كانت وقعتك ؟
قال : انتبهت وأنا منهزم وقلت :
يقول لي الأمير بغير جرم * تقدّم حين جدّ بنا المراسي
وما لي أن أطعتك من حياة * وما لي غير هذا الرأس رأسي
قيل لبعضهم : ما لك لا تغزو ؟ قال : واللّه إني لأبغض الموت على فراشي ، فكيف أذهب إليه ركضا ؟
مثل
احذر من غراب ، وأجبن من صرصار . ويقال : من صافر . ويقال : أجبن من المنزوف ضرطا .
قال أبو ذرّ : كان من حديثه أن نسوة من العرب لم يكن لهن رجل ، فتزوجت واحدة منهن رجلا كان ينام إلى الضحى ، فإذا انتبه ضربنه ، وقلن له : قم فاصطبح ، فيقول : العادية نبهتني . فلما رأين ذلك يكثر منه سررن به ، وقلن : إن صاحبنا واللّه شجاع جريء ، ألا ترين إلى ما يقول كلما نبّهناه ؟ فقالت إحداهن : تعالين نجربه ، فأتينه وأيقظنه ، فقال : أو لعادية نبهتني ؟ فقلن له : نواصي الخيل معك ،
فجعل يقول :الخيل الخيل ، ويضرّط حتى مات ، فضرب به المثل .
يقول الغرّارة :
ما كان ينفعني مقال نسائهم * وقتلت خلف رجالهم لا يبعد
وقال الآخر عن فراره يعتذر :
وما جبنت خيلي ولكن تذكرت * مرابطها من بر بعيص وميسرا
وقيل لبعض الجبناء : انهزمت فغضب الأمير عليك ، قال : لغضب الأمير وأنا حي أحب إليّ من أن يرضى عليّ وأنا ميت .
حدثنا بعض الأدباء ، قال : في أخبار عمرو بن معدي كرب الزبيدي صاحب
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin