.كتاب الأحكام:
.باب هل يقضى القاضي أو يفتى وهو غضبان:
فيه أبو بكرة: إنه كتب إلى ابنه- وكان بسجستان- بأن لا تقضى بين اثنين، وأنت غضبان، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقضي حكم بين اثنين، وهو غضبان».
وفيه أبو مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله إني أتأخر عن صلاة الغداة من أجل ما يطيل بنا فلان فيها. فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قطّ أشدّ غضباً في موعظة منه يومئذ، ثم قال: «أيها الناس، إن فيكم منفّرين فأيكم ما صلّى بالناس فليوجز، فإن فيكم الكبير والصغير وذا الحاجة».
وفيه ابن عمر: إنه طلق امرأته- وهي حائض- فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم- فتغيّظ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «فليراجعها، ثم ليمسكها».
قلت: رضي الله عنك! أدخل في ترجمة الباب الحديث الأول، وهو دليل على منع الغضب. وأدخل الحديث الثاني وهو دليل جواز القضاء مع الغضب تنبيهاً منه على الجمع. فأما أن يحمل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوصية به للعصمة، والأمن من التعدي. وأما أن يقال: إن غضب للحق فلا يمنعه ذلك من القضاء مثل غضبه صلى الله عليه وسلم. وإن غضب غضباً معتاداً دنيوياً، فهذا هو المانع- والله أعلم-. كما قيل في شهادة العدّو إنها تقبل إن كانت العداوة دينيّة، وترد إن كانت دنيوية. والله سبحانه وتعالى أعلم.
.باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء:
فيه ابن عمر: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وأمّر عليهم أسامة بن زيد فطعن في إمارته، فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن هذا لمن أحبّ الناس إليّ بعده».
قلت: رضي الله عنك! لعلّه عنى بقوله:- باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم- وعدل عن قوله: باب عدم الاكتراث للتنبيه على أن الحال تختلف فالمنقول عنه أنه اكترث بالطعن على سعد، وسعد مكانته من الدين مشهورة. ولهذا قال له عمر لما اعتذر، وتبّرأ: ذلك الظن بك يا أبا اسحق!. والفرق بين الحالتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع بحال أسامة، وبسلامة العاقبة، ونجاحها في ولايته فلم يعارض العلم طعن. وأما عمر- رضي الله عنه- فإن حاله الظن، والظن لا يبعد عنه الطعن فعمل بالاحتياط. والله أعلم.
.باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان واحد:
وقال خارجة بن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلّم كتاب اليهود حتى كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقرأه كتبهم إذا كتبوا إليه وقال عمر وعنده عليّ وعبد الرحمن وعثمان-: ماذا تقول هذه؟. قال عبد الرحمن بن حاطب: تخبرك بصاحبها الذي صنع بها. وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس. وقال بعض الناس: لابد للحاكم من مترجمين.
فيه ابن عباس: أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش. ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا فإن كذبني فكذّبوه- فذكر الحديث- فقال للترجمان قل له: إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميّ هاتين.
قلت: رضي الله عنك! وجه الدليل من قصة هرقل، مع أن فعله لا يحتجّ به صوّب من رأيه. وكثيراً مما رآه في هذه القصة صواب موافق للحق. فموضع الدليل تصويب حملة الشريعة لهذا وأمثاله من رأيه، وحسن تفطنه، ومناسبة استدلاله.
.باب بيعة الصغير:
فيه أبو عقيل زهرة بن معبد: عن جدّه عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، بايعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صغير». فمسح رأسه، ودعا له.
قلت: رضي الله عنك! يعني بقوله: باب بيعة الصغير أي عدم انعقادها شرطاً، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يبايعه. فالترجمة موهمة، والحديث يزيل إيهامها.
.باب بيعة النساء:
رواه ابن عباس.
فيه عبادة: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله». الحديث.
وفيه عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {ولا يشركن بالله شيئاً} قالت: وما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة، إلاّ امرأة يملكها.
وفيه أم عطيّة: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ: {على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن} [الممتحنة: 12] ونهانا عن النياحة. الحديث.
قلت: رضي الله عنك! أدخل حديث عبادة في الترجمة على بيعة النساء، فإنها وردت في نصّ الكتاب العزيز في حق النساء، ثم استعملت في حق الرجال، فصارت البيعة معروفه بهن. والله أعلم.
.كتاب الإكراه:
.باب في بيع المكره في الحق وغيره:
فيه أبو هريرة: بينما نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «انطلقوا إلى يهود»، فخرجنا معه جئنا بيت المدارس. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم: «يا معشر يهود! أسلموا تسلموا» فقالوا: فقد بلغت يا أبا القاسم. قال: «ذاك أريد» ثم قالها ثلاثاً. فقال: «اعلموا أنما الأرض لله ولرسوله، وأنّي أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله».
قلت: رضي الله عنك! إن قيل: ترجم على بيع المكره في الحق وغيره ولم يذكر إلا بيع اليهود وأموالهم مكرهين على الجلاء والإكراه بحق لا غير. فما موقع قوله: وغيره.
قلت: يحتمل أن يريد: باب بيع المكره في الدين مثلاً وغيره. والكل حق وذكر الحديث لأنهم أكرهوا على بيع أموالهم، لا لحق عليهم، ولكن كان الإكراه حقاً. فالإكراه على البيع في الحق، ولسبب آخر غير ماليّ سواء في نفوذ البيع، كما نقل عن مالك أن المفسد يلزم بيع داره لحق جاره في إبعاده عنه على تفصيل عند الفقهاء.
.باب إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها:
لقوله تعالى: {ومن يكرههن فإنّ الله من بعد إكراههن غفورٌ رحيم} [النور: 33]. وقال الليث: حدثنا نافع أن صفية بنت أبى عبيدة أخبرته أن عبداً من رقيق الإمارة وقع على وليدة من الخمس. فاستكرهها حتى اقتضّها، فجلده عمر الحدّ، ونفاه، ولم يجلد الوليدة من أجل أنه استكرهها. وقال الزهري في الأمة البكر يفترعها الحر: يقيم ذلك الحكم من الأمة العذراء بقدر ثمنها ويجلد. وليس في الثيّب في قضاء الأئمة غرم، ولكن عليه الحد.
فيه أبو هريرة: هاجر إبراهيم بسارة، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك- أو جبّار من الجبابرة- فأرسل إليه أن أرسل بها إليّ. فأرسل بها. فقام إليها. فقامت توضأ وتصليّ. فقالت: اللهم إنيّ كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلّط على الكافر. فغطّ حتى ضرب برجله.
قلت: رضي الله عنك! إدخال حديث سارة في الترجمة غير حسن، ولا مطابق إلا من جهة الملامة عنها في الخلوة لكونها كانت مكرهة على ذلك وظهور الكرامة في إجابة الدعوة. ولم يكن من الأدب الحسن إدخال الحديث في الترجمة بالجملة. والله الموفق.
.كتاب الحيل:
.باب ترك الحيل والأعمال بالنيات، وإن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيره:
فيه عمر: يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قلت: رضي الله عنك! أدخل الترك في الترجمة حذراً من إيهام إجازة الحيل، وهو شديد على من أجازها، فتجرى في الترجمة خلاف إطلاقه في قوله: باب بيعة الصغير، وإن كان صلى الله عليه وسلم لم يبايعه كما تقدّم آنفاً. ولكن لا تدخل بيعته الإنكار كالحيل، ولهذا عوضه عن البيعة أن دعا له، ومسح رأسه والله أعلم.
.باب في الصلاة:
فيه أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ».
قلت: رضي الله عنك! إن قلت ما موقعها؟.
قلت: عدّ قول أبي حنيفة أن المحدث عمداً في أثناء الجلوس الأخير كالمسلم، من التحيّل لتصحيح الصلاة مع الحدث، لأن البخاري- رحمه الله- بنى على أن التحلّل من الصلاة ركن منها، فلا يقبل مع الحدث. والذي قبله بنى على أن التحلّل ضدها، لا ركنها، فتحيّل لقبوله بهذا الرأي.
.كتاب الفرائض:
.باب تعليم الفرائض:
قال عقبة: تعلموا قبل الظانين، يعني الذين يتكلمون بالظن.
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
قلت: رضي الله عنك! إنما خصّ البخاري تعليم الفرائض بأن أدخل في ترجمة بابه قوله: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». وإن كان كل باب من العلم يليق إدخال هذا الحديث في الحث على تعلّمه ولكن بخصوصية الفرائض أن الغالب عليها التعبّد، وانحسام وجوه الرأي والمناسبات فإن لم يفرض الفارض بنصّ وقع في مختبط الظنون التي لا تنضبط، وهو الظن المنهي عنه، وليس كذلك غيره من أبواب العلم، لأن للرأي فيها مجالاً، وللظنّ ضابطاً واستناداً.
.باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له:
فيه أسامة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».
قلت: رضي الله عنك! قوله: إذا أسلم قبل أن يقسم فلا ميراث له، بمعنى إذا مات مسلم، وله أولاد مسلمون، وولد كافر فلم يقسم ميراثه حتى أسلم الكافر. ووجه إدخاله في الترجمة أن عموم قوله: «لا يرث الكافر المسلم» يتناوله. والذي يقول: يرث إذا أسلم قبل القسمة، ورّثه فهو كافر إذ الميراث إنما ينتقل حالة الموت، وقد كان كافراً.
.باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني:
قلت: رضي الله عنك! أدخل البخاري هذه الترجمة، ولم يدخل فيها حديثاً، وكأنه أدرجها تحت الحديث المتقدم، ليفهم أن النظر فيها محتمل أن يقال: لا يرثه، عملاً بعموم الحديث. وأن يقال: يأخذ المال لأن العبد مال، وله انتزاع ماله حيًّا، فكيف لا يأخذه ميّتاً؟. هذا إن قلنا: إن يملك. وإن قلنا: لا يملك العبد البتّة فأولى.
.كتاب المحاربين:
.باب المحاربين من أهل الكفر والردّة:
وقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً} [المائدة: 33].
فيه أنس: قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر عن عكل، فأسلموا، فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها. ففعلوا فصحّوا، فارتدوا فقتلوا راعيها، واستاقوا الإبل. فبعث في آثارهم. فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا.
قلت: رضي الله عنك! ترجم على المحاربين الكفار، وأدخل الآية وهي عامّة لا تخصّ الكافر. وبها استدل الفقهاء على أحكام المحاربين المسلمين. ولكن- والله أعلم- بنى على قول من قال: إنها نزلت في هؤلاء النفر المرتدّين. وهو قول قتادة.
.باب الرجم في البلاط:
فيه ابن عمر: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية، قيل: زنيا جميعاً فقال لهم: «ما تجدون في كتابكم؟» فقالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه، والتجبية. قال ابن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة. فأتى بها، فوضع يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له ابن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند البلاط. فرأيت اليهودي أجنأ عليها.
قلت: رضي الله عنك! استشكل ابن بطال ترجمته هذه، وقال: البلاط وغيره سواء. أي فلا فائدة للاحتجاج على صورة هي غير مقصودة. ويحتمل عندي فائدتين تقصدان: إحداهما أن نبّه أن الرجم لا يختص بمكان مخصوص لأنه مرّة رجم بالبلاط، ومرّة بالمصلى، وهو الحديث الذي ترجم عليه يلي هذه الترجمة. ويحتمل أن نبّه على أنه لم يحفر للمرأة لأن البلاط لا يحفر فيه عادة. كما استدل على عدم الحفر بكون اليهودي أكبّ عليها يقيها بنفسه على أن منهم من قال: إن البلاط هو الأرض الملساء الصلبة. والظاهر أن البلاط مكان معروف عندهم بالمدينة وباقٍ على العرف المعهود في إطلاقه كما قدّمناه.
.كتاب الديات:
.باب من أخذ حقّه واقتصّ دون السلطان:
فيه أبو هريرة: لو اطلع أحد في بيتك ولم تأذن له حذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح.
وفيه أنس: إن رجلاً اطلع في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدد إليه مشقصاً.
قلت: رضي الله عنك! الحديث الأول مطابق للترجمة، والثاني ردّ عليه أن يقال المومئ بالمشقص هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإمام الأعظم، فكيف يستدل بهذا على أن آحاد الناس لهم ذلك دون الإمام؟. ويمكنه الإجابة عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة في حقوقه المتعلقة به. ولو لم يكن هذا لآحاد الناس لفعل فيه كما فعل في غيره من التحاكم إلى من دونه، كقصّته مع الذي أنكره حقاً التمسه منه في المبايعة في فرس.
.باب إذا قتل نفسه خطأ فلا دية له:
فيه سلمة بن الأكوع: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال رجل منهم: أسمعنا يا عامر من هنّاتك. فحدا بهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من السائق» قالوا: عامر، قال: «يرحمه الله» فقالوا: يا رسول الله هلاّ أمتعتنا به؟ فأصيب صبيحة ليلته. فقال القوم: حبط عمله، قتل نفسه. فلمّا رجعت- وهم يتحدثون أن عامراً حبط عمله- جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله:- فداك أبي وأمي- زعموا أن عامراً حبط عمله. فقال: كذب من قالها. إن له لأجرين اثنين: إنه لجاهد مجاهد، وأي قتل يزيد عليه.
قلت: رضي الله عنك! إنما يتم مقصود الترجمة بذكر القصة التي مات فيها عامر. وذلك أن سيفه كان قصيراً. فرجع إلى ركبته من ضربته. فمات منها. وقد بينه في غير هذا الموضع فاكتفي بذلك.
.باب إذا أصاب قوم من رجل، هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم:
قال مطرف عن الشعبي: في رجلين شهدا على رجل أنه سرق، فقطعه عليّ ثم جاء بآخر، قالا: أخطأنا، فأبطل شهادتهما. وأخذ بدية الأول. وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما.
فيه ابن عمر: إن غلاماً قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه صنعاء لقتلتهم به.
وفيه مغيرة بن حكيم عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبيًّا. فقال عمر مثله. وأقاد أبو بكر، وعليّ وابن الزبير، وسويد بن مقرّن من اللطمة وأقاد عمر من ضربة بالدّرة. وأقاد عليّ من ثلاثة أسواط. واقتصّ شريحٌ من سوط وخموش.
فيه عائشة: لددنا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه. وجعل يشير إلينا: «لا تلدّوني». فقلنا كراهية المريض للدواء. فلمّا أفاق، قال: «ألم أنهكم أن تلدّوني؟» قلنا: كراهية الدواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى منكم أحد إلاّ لدّ». وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم.
قلت: رضي الله عنك! ترجم على القصاص من الجماعة بالواحد وذكر في جملة الآثار القصاص من اللطمة، والسوط، يعني في المنفرد. فيقال: ما وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة؟. والجواب: إنه استفاد من إجراء القصاص في هذه الصغائر المحقّرات، وأن لا يقنع فيها بالأدب العام أجراه على الشركاء في الجناية، كالقتل وغيره. لأن نصيب كل واحدٍ منهم سهم عظيم معدود من الكبائر، فكيف لا نقتصّ منه، وقد اقتصصنا من الصغائر؟ والله أعلم.
.باب القسامة:
قال الأشعث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه». وقال ابن أبي مليكة: لم يعدّ بها معاوية. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطاة- وكان أمّره على البصرة- في قتيلٍ وجد عند بيت من بيوت السمانين: إن وجد أصحابه بينّة، وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلاً. وقالوا للذي وجد فيهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدا قتيلاً. فقال: «الكبر، الكبر». فقال: «تأتوني بالبيّنة على من قتله». قالوا: ما لنا بينّة؟ قال: «فيحلفون». قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة.
وقال أبو قلابة: إن عمر بن عبدالعزيز أبرز سريره يوماً للناس. ثم أذن لهم، فدخلوا فقال لهم: ما تقولون في القسامة؟ قالوا: نقول: القود بها حق. وقد أقادت الخلفاء بها. فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين! عندك رءوس الأجناد، وأشراف العرب. أرأيت لو خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى، ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل منهم بحمص أنه قد سرق أكنت تقطعه، ولم يروه؟ قال: لا. فقلت: والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً قطً إلا في إحدى ثلاثة خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتدّ عن الإسلام. فقال القوم: أوليس قد حدّث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في السرق، وسمر الأعين، ثم نبذهم في الشمس؟ فقلت: إنا نحدّثكم حديث أنس بن مالك، حدثني أنس: أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض فسقمت أجسادهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أفلا تخرجون إلى راعينا في إبله، فتصيبون من ألبانها وأبوالها»، فخرجوا فشربوا منها، فصحوا فقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهم. فأدركوا فجيء بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا. قلت: وأي شيء اشدّ مما صنع هؤلاء: ارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا وسرقوا؟ وقال عنبسة بن سعيد: والله إن سمعت كاليوم قط. فقلت: أتردّ عليّ حديثي يا عنبسة؟. قال: لا، ولكن جئت بالحديث على وجهه، والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم. قلت: وقد كان في هذا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عليه نفر من الأنصار، فتحدثوا عنده، فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل. فخرجوا بعده فإذا هم بصاحبهم يتشحّط في الدم. فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، صاحبنا خرج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشحّط في دمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تظنّون- أو: من ترون- قتله؟» قالوا: نرى أن اليهود قتلته. فأرسل إلى اليهود، فدعاهم فقال: «آنتم قتلتم هذا؟» قالوا: لا. قال: «أترضون نفل خمسين من اليهود: ما قتلوه؟» قالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينفلون أجمعين. قال: «أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟» قالوا: ما كنّا أن نحلف. فوداه من عنده. قلت: وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء. فانتبه له رجل منهم. فخذفه بالسيف فقتله. فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا. قال: إنهم قد خلعوا. قالوا: يقسم خمسون من هذيل: ما خلعوا. قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً وقدم رجلٌ منهم. فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلً آخر. فدفعه إلى أخي المقتول. فقرنت يده بيده. قال. فانطلقا والخمسون الذين أقسموا. حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء، فدخلوا في غارٍ في جبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان، واتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول، فعاش حولاً، ثم مات.
قلت: وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلاً بالقسامة، ثم ندم بعد ما صنع، فأمر بالخمسين الذين أقسموا فمحوا من الديوان، وسيّرهم إلى الشام.
قلت: رضي الله عنك! مذهب البخاري تضعيف القسامة. فلهذا أصدر الباب بالأحاديث الجارية على اليمين من جانب المدعى عليه. وذكر حديث سعيد بن عبيد، وهو جارٍ على قواعد الدواعي، وإلزام المدعى البيّنة. وليس من خصوصية القسامة في شيء. ثم ذكر البخاري حديث القسامة الدال على خروجها عن القواعد بطريق العرض في كتاب الموادعة والجزية حذراً من أن يذكره هاهنا، لئلا يعتمد على ظاهره في الاستدلال على القسامة، واعتبارها، فيغلط المستدل به على اعتقاد البخاري. وهذا الإخفاء مع صحة القصد ليس من قبيل كتمان العلم، بل هو من قبيل ما ورد: لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، فالنصيحة توجب توقى الغلط. والله أعلم. ووهم المهلب، فظن أن أبا قلابة اعترض على حديث القسامة بحديث العرنيين معارضاً به لحديث القسامة. فقال: لا تعارض لأن العرنيين اشتهر أمرهم وقتلهم الراعي وارتدادهم عن الإسلام. ولم يكن هذا بحيث إخفاؤه ولا جحوده، إنما قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت ذلك شرعاً بطريقه. وهذا وهم من المهلب إنما أبو قلابة لما اعترض عليه في إبطال القسامة بالحديث العام الذي دلّ على حصر القتل الشرعي في الثلاثة: قتل، أو كفر، أو زنى، بحديث العرنيين، لأن المعترض سبق إلى ذهنه أن العرنيين لم يثبت عليهم أحد الثلاثة، ومع هذا قتلوا. أجاب أبو قلابة فإنه قد ثبت عليهم ثبوتاً واضحاً القتل والردّة والمحاربة. وكلام أبي قلابة في هذا الجواب مستقيم. والله أعلم.
.كتاب استتابة المرتدّين:
.باب إذا عرضّ الذمي أو غيره بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصّرح، نحو قوله: السام عليك:
فيه انس: مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال السام عليك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وعليك». ثم قال: «أتدرون ما يقول؟» قال: «السام عليك». قالوا: يا رسول الله، ألا نقتله؟ قال: «لا إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم».
وفيه عائشة: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم. فقلت: بل عليكم السام واللعنة. فقال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كلّه»، قلت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: «قلت: عليكم».
وفيه ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود إذا سلموا على أحدكم إنما يقولون: سام عليكم. فقل: عليك».
وفيه ابن مسعود: قال كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكى نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه، فأدموه وهو يمسح الدم من وجهه، ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
قلت: رضي الله عنك! كأن البخاري كان على مذهب الكوفيين في هذا المسألة، وهو أن الذمّي إذا سبّ يعزر، ولا يقبل. ولهذا أدخل في الترجمة حديث ابن مسعود. ومقتضاه: إن خلق الأنبياء عليهم السلام الصبر والصفح ألا ترى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه قومه فأدموه، وهو يدعو لهم بالمغفرة. فأين هذا من السبّ؟ وكان حديث ابن مسعود يطابق الترجمة بالأولوية.
.باب هل يقضى القاضي أو يفتى وهو غضبان:
فيه أبو بكرة: إنه كتب إلى ابنه- وكان بسجستان- بأن لا تقضى بين اثنين، وأنت غضبان، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يقضي حكم بين اثنين، وهو غضبان».
وفيه أبو مسعود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: والله إني أتأخر عن صلاة الغداة من أجل ما يطيل بنا فلان فيها. فما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم قطّ أشدّ غضباً في موعظة منه يومئذ، ثم قال: «أيها الناس، إن فيكم منفّرين فأيكم ما صلّى بالناس فليوجز، فإن فيكم الكبير والصغير وذا الحاجة».
وفيه ابن عمر: إنه طلق امرأته- وهي حائض- فذكر عمر للنبي صلى الله عليه وسلم- فتغيّظ فيه النبي صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «فليراجعها، ثم ليمسكها».
قلت: رضي الله عنك! أدخل في ترجمة الباب الحديث الأول، وهو دليل على منع الغضب. وأدخل الحديث الثاني وهو دليل جواز القضاء مع الغضب تنبيهاً منه على الجمع. فأما أن يحمل قضاء النبي صلى الله عليه وسلم على الخصوصية به للعصمة، والأمن من التعدي. وأما أن يقال: إن غضب للحق فلا يمنعه ذلك من القضاء مثل غضبه صلى الله عليه وسلم. وإن غضب غضباً معتاداً دنيوياً، فهذا هو المانع- والله أعلم-. كما قيل في شهادة العدّو إنها تقبل إن كانت العداوة دينيّة، وترد إن كانت دنيوية. والله سبحانه وتعالى أعلم.
.باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم في الأمراء:
فيه ابن عمر: بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاً وأمّر عليهم أسامة بن زيد فطعن في إمارته، فقال: «إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل وأيم الله إن كان لخليقاً للإمارة، وإن هذا لمن أحبّ الناس إليّ بعده».
قلت: رضي الله عنك! لعلّه عنى بقوله:- باب من لم يكترث بطعن من لا يعلم- وعدل عن قوله: باب عدم الاكتراث للتنبيه على أن الحال تختلف فالمنقول عنه أنه اكترث بالطعن على سعد، وسعد مكانته من الدين مشهورة. ولهذا قال له عمر لما اعتذر، وتبّرأ: ذلك الظن بك يا أبا اسحق!. والفرق بين الحالتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع بحال أسامة، وبسلامة العاقبة، ونجاحها في ولايته فلم يعارض العلم طعن. وأما عمر- رضي الله عنه- فإن حاله الظن، والظن لا يبعد عنه الطعن فعمل بالاحتياط. والله أعلم.
.باب ترجمة الحاكم، وهل يجوز ترجمان واحد:
وقال خارجة بن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يتعلّم كتاب اليهود حتى كتب للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقرأه كتبهم إذا كتبوا إليه وقال عمر وعنده عليّ وعبد الرحمن وعثمان-: ماذا تقول هذه؟. قال عبد الرحمن بن حاطب: تخبرك بصاحبها الذي صنع بها. وقال أبو جمرة: كنت أترجم بين يدي ابن عباس وبين الناس. وقال بعض الناس: لابد للحاكم من مترجمين.
فيه ابن عباس: أن أبا سفيان أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش. ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا فإن كذبني فكذّبوه- فذكر الحديث- فقال للترجمان قل له: إن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدميّ هاتين.
قلت: رضي الله عنك! وجه الدليل من قصة هرقل، مع أن فعله لا يحتجّ به صوّب من رأيه. وكثيراً مما رآه في هذه القصة صواب موافق للحق. فموضع الدليل تصويب حملة الشريعة لهذا وأمثاله من رأيه، وحسن تفطنه، ومناسبة استدلاله.
.باب بيعة الصغير:
فيه أبو عقيل زهرة بن معبد: عن جدّه عبد الله بن هشام، وكان قد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وذهبت به أمه زينب بنت حميد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، بايعه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «هو صغير». فمسح رأسه، ودعا له.
قلت: رضي الله عنك! يعني بقوله: باب بيعة الصغير أي عدم انعقادها شرطاً، لأنّه صلى الله عليه وسلم لم يبايعه. فالترجمة موهمة، والحديث يزيل إيهامها.
.باب بيعة النساء:
رواه ابن عباس.
فيه عبادة: قال لنا النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس: «بايعوني على ألا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوا في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله». الحديث.
وفيه عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: {ولا يشركن بالله شيئاً} قالت: وما مسّت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة، إلاّ امرأة يملكها.
وفيه أم عطيّة: بايعنا النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ: {على أن لا يشركن بالله شيئاً، ولا يسرقن} [الممتحنة: 12] ونهانا عن النياحة. الحديث.
قلت: رضي الله عنك! أدخل حديث عبادة في الترجمة على بيعة النساء، فإنها وردت في نصّ الكتاب العزيز في حق النساء، ثم استعملت في حق الرجال، فصارت البيعة معروفه بهن. والله أعلم.
.كتاب الإكراه:
.باب في بيع المكره في الحق وغيره:
فيه أبو هريرة: بينما نحن في المسجد إذ خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «انطلقوا إلى يهود»، فخرجنا معه جئنا بيت المدارس. فقام النبي صلى الله عليه وسلم فناداهم: «يا معشر يهود! أسلموا تسلموا» فقالوا: فقد بلغت يا أبا القاسم. قال: «ذاك أريد» ثم قالها ثلاثاً. فقال: «اعلموا أنما الأرض لله ولرسوله، وأنّي أريد أن أجليكم فمن وجد منكم بماله شيئاً فليبعه، وإلا فاعلموا أن الأرض لله ولرسوله».
قلت: رضي الله عنك! إن قيل: ترجم على بيع المكره في الحق وغيره ولم يذكر إلا بيع اليهود وأموالهم مكرهين على الجلاء والإكراه بحق لا غير. فما موقع قوله: وغيره.
قلت: يحتمل أن يريد: باب بيع المكره في الدين مثلاً وغيره. والكل حق وذكر الحديث لأنهم أكرهوا على بيع أموالهم، لا لحق عليهم، ولكن كان الإكراه حقاً. فالإكراه على البيع في الحق، ولسبب آخر غير ماليّ سواء في نفوذ البيع، كما نقل عن مالك أن المفسد يلزم بيع داره لحق جاره في إبعاده عنه على تفصيل عند الفقهاء.
.باب إذا استكرهت المرأة على الزنا فلا حدّ عليها:
لقوله تعالى: {ومن يكرههن فإنّ الله من بعد إكراههن غفورٌ رحيم} [النور: 33]. وقال الليث: حدثنا نافع أن صفية بنت أبى عبيدة أخبرته أن عبداً من رقيق الإمارة وقع على وليدة من الخمس. فاستكرهها حتى اقتضّها، فجلده عمر الحدّ، ونفاه، ولم يجلد الوليدة من أجل أنه استكرهها. وقال الزهري في الأمة البكر يفترعها الحر: يقيم ذلك الحكم من الأمة العذراء بقدر ثمنها ويجلد. وليس في الثيّب في قضاء الأئمة غرم، ولكن عليه الحد.
فيه أبو هريرة: هاجر إبراهيم بسارة، دخل بها قرية فيها ملك من الملوك- أو جبّار من الجبابرة- فأرسل إليه أن أرسل بها إليّ. فأرسل بها. فقام إليها. فقامت توضأ وتصليّ. فقالت: اللهم إنيّ كنت آمنت بك وبرسولك فلا تسلّط على الكافر. فغطّ حتى ضرب برجله.
قلت: رضي الله عنك! إدخال حديث سارة في الترجمة غير حسن، ولا مطابق إلا من جهة الملامة عنها في الخلوة لكونها كانت مكرهة على ذلك وظهور الكرامة في إجابة الدعوة. ولم يكن من الأدب الحسن إدخال الحديث في الترجمة بالجملة. والله الموفق.
.كتاب الحيل:
.باب ترك الحيل والأعمال بالنيات، وإن لكل امرئ ما نوى في الأيمان وغيره:
فيه عمر: يقول سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إنما الأعمال بالنيات وإن لكل امرئ ما نوى. فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله. ومن هاجر إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه».
قلت: رضي الله عنك! أدخل الترك في الترجمة حذراً من إيهام إجازة الحيل، وهو شديد على من أجازها، فتجرى في الترجمة خلاف إطلاقه في قوله: باب بيعة الصغير، وإن كان صلى الله عليه وسلم لم يبايعه كما تقدّم آنفاً. ولكن لا تدخل بيعته الإنكار كالحيل، ولهذا عوضه عن البيعة أن دعا له، ومسح رأسه والله أعلم.
.باب في الصلاة:
فيه أبو هريرة: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ».
قلت: رضي الله عنك! إن قلت ما موقعها؟.
قلت: عدّ قول أبي حنيفة أن المحدث عمداً في أثناء الجلوس الأخير كالمسلم، من التحيّل لتصحيح الصلاة مع الحدث، لأن البخاري- رحمه الله- بنى على أن التحلّل من الصلاة ركن منها، فلا يقبل مع الحدث. والذي قبله بنى على أن التحلّل ضدها، لا ركنها، فتحيّل لقبوله بهذا الرأي.
.كتاب الفرائض:
.باب تعليم الفرائض:
قال عقبة: تعلموا قبل الظانين، يعني الذين يتكلمون بالظن.
فيه أبو هريرة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث».
قلت: رضي الله عنك! إنما خصّ البخاري تعليم الفرائض بأن أدخل في ترجمة بابه قوله: «إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث». وإن كان كل باب من العلم يليق إدخال هذا الحديث في الحث على تعلّمه ولكن بخصوصية الفرائض أن الغالب عليها التعبّد، وانحسام وجوه الرأي والمناسبات فإن لم يفرض الفارض بنصّ وقع في مختبط الظنون التي لا تنضبط، وهو الظن المنهي عنه، وليس كذلك غيره من أبواب العلم، لأن للرأي فيها مجالاً، وللظنّ ضابطاً واستناداً.
.باب لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم وإذا أسلم قبل أن يقسم الميراث فلا ميراث له:
فيه أسامة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».
قلت: رضي الله عنك! قوله: إذا أسلم قبل أن يقسم فلا ميراث له، بمعنى إذا مات مسلم، وله أولاد مسلمون، وولد كافر فلم يقسم ميراثه حتى أسلم الكافر. ووجه إدخاله في الترجمة أن عموم قوله: «لا يرث الكافر المسلم» يتناوله. والذي يقول: يرث إذا أسلم قبل القسمة، ورّثه فهو كافر إذ الميراث إنما ينتقل حالة الموت، وقد كان كافراً.
.باب ميراث العبد النصراني والمكاتب النصراني:
قلت: رضي الله عنك! أدخل البخاري هذه الترجمة، ولم يدخل فيها حديثاً، وكأنه أدرجها تحت الحديث المتقدم، ليفهم أن النظر فيها محتمل أن يقال: لا يرثه، عملاً بعموم الحديث. وأن يقال: يأخذ المال لأن العبد مال، وله انتزاع ماله حيًّا، فكيف لا يأخذه ميّتاً؟. هذا إن قلنا: إن يملك. وإن قلنا: لا يملك العبد البتّة فأولى.
.كتاب المحاربين:
.باب المحاربين من أهل الكفر والردّة:
وقوله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً} [المائدة: 33].
فيه أنس: قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم نفر عن عكل، فأسلموا، فاجتووا المدينة فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة فيشربوا من ألبانها وأبوالها. ففعلوا فصحّوا، فارتدوا فقتلوا راعيها، واستاقوا الإبل. فبعث في آثارهم. فأتى بهم فقطع أيديهم وأرجلهم، وسمل أعينهم، ثم لم يحسمهم حتى ماتوا.
قلت: رضي الله عنك! ترجم على المحاربين الكفار، وأدخل الآية وهي عامّة لا تخصّ الكافر. وبها استدل الفقهاء على أحكام المحاربين المسلمين. ولكن- والله أعلم- بنى على قول من قال: إنها نزلت في هؤلاء النفر المرتدّين. وهو قول قتادة.
.باب الرجم في البلاط:
فيه ابن عمر: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي ويهودية، قيل: زنيا جميعاً فقال لهم: «ما تجدون في كتابكم؟» فقالوا: إن أحبارنا أحدثوا تحميم الوجه، والتجبية. قال ابن سلام: ادعهم يا رسول الله بالتوراة. فأتى بها، فوضع يده على آية الرجم، وجعل يقرأ ما قبلها وما بعدها. فقال له ابن سلام: ارفع يدك فرفع يده، فإذا آية الرجم تحت يده، فأمر بهما النبي صلى الله عليه وسلم فرجما عند البلاط. فرأيت اليهودي أجنأ عليها.
قلت: رضي الله عنك! استشكل ابن بطال ترجمته هذه، وقال: البلاط وغيره سواء. أي فلا فائدة للاحتجاج على صورة هي غير مقصودة. ويحتمل عندي فائدتين تقصدان: إحداهما أن نبّه أن الرجم لا يختص بمكان مخصوص لأنه مرّة رجم بالبلاط، ومرّة بالمصلى، وهو الحديث الذي ترجم عليه يلي هذه الترجمة. ويحتمل أن نبّه على أنه لم يحفر للمرأة لأن البلاط لا يحفر فيه عادة. كما استدل على عدم الحفر بكون اليهودي أكبّ عليها يقيها بنفسه على أن منهم من قال: إن البلاط هو الأرض الملساء الصلبة. والظاهر أن البلاط مكان معروف عندهم بالمدينة وباقٍ على العرف المعهود في إطلاقه كما قدّمناه.
.كتاب الديات:
.باب من أخذ حقّه واقتصّ دون السلطان:
فيه أبو هريرة: لو اطلع أحد في بيتك ولم تأذن له حذفته بحصاة ففقأت عينه، ما كان عليك من جناح.
وفيه أنس: إن رجلاً اطلع في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسدد إليه مشقصاً.
قلت: رضي الله عنك! الحديث الأول مطابق للترجمة، والثاني ردّ عليه أن يقال المومئ بالمشقص هو النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإمام الأعظم، فكيف يستدل بهذا على أن آحاد الناس لهم ذلك دون الإمام؟. ويمكنه الإجابة عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أسوة في حقوقه المتعلقة به. ولو لم يكن هذا لآحاد الناس لفعل فيه كما فعل في غيره من التحاكم إلى من دونه، كقصّته مع الذي أنكره حقاً التمسه منه في المبايعة في فرس.
.باب إذا قتل نفسه خطأ فلا دية له:
فيه سلمة بن الأكوع: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، فقال رجل منهم: أسمعنا يا عامر من هنّاتك. فحدا بهم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من السائق» قالوا: عامر، قال: «يرحمه الله» فقالوا: يا رسول الله هلاّ أمتعتنا به؟ فأصيب صبيحة ليلته. فقال القوم: حبط عمله، قتل نفسه. فلمّا رجعت- وهم يتحدثون أن عامراً حبط عمله- جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا نبي الله:- فداك أبي وأمي- زعموا أن عامراً حبط عمله. فقال: كذب من قالها. إن له لأجرين اثنين: إنه لجاهد مجاهد، وأي قتل يزيد عليه.
قلت: رضي الله عنك! إنما يتم مقصود الترجمة بذكر القصة التي مات فيها عامر. وذلك أن سيفه كان قصيراً. فرجع إلى ركبته من ضربته. فمات منها. وقد بينه في غير هذا الموضع فاكتفي بذلك.
.باب إذا أصاب قوم من رجل، هل يعاقب أم يقتص منهم كلهم:
قال مطرف عن الشعبي: في رجلين شهدا على رجل أنه سرق، فقطعه عليّ ثم جاء بآخر، قالا: أخطأنا، فأبطل شهادتهما. وأخذ بدية الأول. وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما.
فيه ابن عمر: إن غلاماً قتل غيلة، فقال عمر: لو اشترك فيه صنعاء لقتلتهم به.
وفيه مغيرة بن حكيم عن أبيه: إن أربعة قتلوا صبيًّا. فقال عمر مثله. وأقاد أبو بكر، وعليّ وابن الزبير، وسويد بن مقرّن من اللطمة وأقاد عمر من ضربة بالدّرة. وأقاد عليّ من ثلاثة أسواط. واقتصّ شريحٌ من سوط وخموش.
فيه عائشة: لددنا النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه. وجعل يشير إلينا: «لا تلدّوني». فقلنا كراهية المريض للدواء. فلمّا أفاق، قال: «ألم أنهكم أن تلدّوني؟» قلنا: كراهية الدواء. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يبقى منكم أحد إلاّ لدّ». وأنا أنظر، إلا العباس فإنه لم يشهدكم.
قلت: رضي الله عنك! ترجم على القصاص من الجماعة بالواحد وذكر في جملة الآثار القصاص من اللطمة، والسوط، يعني في المنفرد. فيقال: ما وجه تعلق هذا الحديث بالترجمة؟. والجواب: إنه استفاد من إجراء القصاص في هذه الصغائر المحقّرات، وأن لا يقنع فيها بالأدب العام أجراه على الشركاء في الجناية، كالقتل وغيره. لأن نصيب كل واحدٍ منهم سهم عظيم معدود من الكبائر، فكيف لا نقتصّ منه، وقد اقتصصنا من الصغائر؟ والله أعلم.
.باب القسامة:
قال الأشعث قال النبي صلى الله عليه وسلم: «شاهداك أو يمينه». وقال ابن أبي مليكة: لم يعدّ بها معاوية. وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عديّ بن أرطاة- وكان أمّره على البصرة- في قتيلٍ وجد عند بيت من بيوت السمانين: إن وجد أصحابه بينّة، وإلا فلا تظلم الناس، فإن هذا لا يقضى فيه إلى يوم القيامة.
حدثنا أبو نعيم، حدثنا سعيد بن عبيد، عن بشير بن يسار، زعم أن رجلاً من الأنصار يقال له سهل بن أبي حثمة أخبره أن نفراً من قومه انطلقوا إلى خيبر، فتفرقوا فيها، ووجدوا أحدهم قتيلاً. وقالوا للذي وجد فيهم: قتلتم صاحبنا، قالوا: ما قتلنا، ولا علمنا قاتلاً، فانطلقوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله انطلقنا إلى خيبر فوجدنا أحدا قتيلاً. فقال: «الكبر، الكبر». فقال: «تأتوني بالبيّنة على من قتله». قالوا: ما لنا بينّة؟ قال: «فيحلفون». قالوا: لا نرضى بأيمان اليهود. فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبطل دمه، فوداه بمائة من إبل الصدقة.
وقال أبو قلابة: إن عمر بن عبدالعزيز أبرز سريره يوماً للناس. ثم أذن لهم، فدخلوا فقال لهم: ما تقولون في القسامة؟ قالوا: نقول: القود بها حق. وقد أقادت الخلفاء بها. فقال: ما تقول يا أبا قلابة؟ ونصبني للناس. فقلت: يا أمير المؤمنين! عندك رءوس الأجناد، وأشراف العرب. أرأيت لو خمسين منهم شهدوا على رجل محصن بدمشق أنه قد زنى، ولم يروه أكنت ترجمه؟ قال: لا. قلت: أرأيت لو أن خمسين منهم شهدوا على رجل منهم بحمص أنه قد سرق أكنت تقطعه، ولم يروه؟ قال: لا. فقلت: والله ما قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً قطً إلا في إحدى ثلاثة خصال: رجل قتل بجريرة نفسه فقتل، أو رجل زنى بعد إحصان، أو رجل حارب الله ورسوله، وارتدّ عن الإسلام. فقال القوم: أوليس قد حدّث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في السرق، وسمر الأعين، ثم نبذهم في الشمس؟ فقلت: إنا نحدّثكم حديث أنس بن مالك، حدثني أنس: أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام، فاستوخموا الأرض فسقمت أجسادهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أفلا تخرجون إلى راعينا في إبله، فتصيبون من ألبانها وأبوالها»، فخرجوا فشربوا منها، فصحوا فقتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل في آثارهم. فأدركوا فجيء بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسمر أعينهم. ثم نبذهم في الشمس حتى ماتوا. قلت: وأي شيء اشدّ مما صنع هؤلاء: ارتدّوا عن الإسلام، وقتلوا وسرقوا؟ وقال عنبسة بن سعيد: والله إن سمعت كاليوم قط. فقلت: أتردّ عليّ حديثي يا عنبسة؟. قال: لا، ولكن جئت بالحديث على وجهه، والله لا يزال هذا الجند بخير ما عاش هذا الشيخ بين أظهرهم. قلت: وقد كان في هذا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، دخل عليه نفر من الأنصار، فتحدثوا عنده، فخرج رجل منهم بين أيديهم فقتل. فخرجوا بعده فإذا هم بصاحبهم يتشحّط في الدم. فرجعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، صاحبنا خرج بين أيدينا، فإذا نحن به يتشحّط في دمه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من تظنّون- أو: من ترون- قتله؟» قالوا: نرى أن اليهود قتلته. فأرسل إلى اليهود، فدعاهم فقال: «آنتم قتلتم هذا؟» قالوا: لا. قال: «أترضون نفل خمسين من اليهود: ما قتلوه؟» قالوا: ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم ينفلون أجمعين. قال: «أفتستحقون الدية بأيمان خمسين منكم؟» قالوا: ما كنّا أن نحلف. فوداه من عنده. قلت: وقد كانت هذيل خلعوا خليعاً في الجاهلية، فطرق أهل بيت من اليمن بالبطحاء. فانتبه له رجل منهم. فخذفه بالسيف فقتله. فجاءت هذيل فأخذوا اليماني فرفعوه إلى عمر بالموسم وقالوا: قتل صاحبنا. قال: إنهم قد خلعوا. قالوا: يقسم خمسون من هذيل: ما خلعوا. قال: فأقسم منهم تسعة وأربعون رجلاً وقدم رجلٌ منهم. فسألوه أن يقسم، فافتدى يمينه منهم بألف درهم، فأدخلوا مكانه رجلً آخر. فدفعه إلى أخي المقتول. فقرنت يده بيده. قال. فانطلقا والخمسون الذين أقسموا. حتى إذا كانوا بنخلة أخذتهم السماء، فدخلوا في غارٍ في جبل، فانهجم الغار على الخمسين الذين أقسموا، فماتوا جميعاً وأفلت القرينان، واتبعهما حجر فكسر رجل أخي المقتول، فعاش حولاً، ثم مات.
قلت: وقد كان عبد الملك بن مروان أقاد رجلاً بالقسامة، ثم ندم بعد ما صنع، فأمر بالخمسين الذين أقسموا فمحوا من الديوان، وسيّرهم إلى الشام.
قلت: رضي الله عنك! مذهب البخاري تضعيف القسامة. فلهذا أصدر الباب بالأحاديث الجارية على اليمين من جانب المدعى عليه. وذكر حديث سعيد بن عبيد، وهو جارٍ على قواعد الدواعي، وإلزام المدعى البيّنة. وليس من خصوصية القسامة في شيء. ثم ذكر البخاري حديث القسامة الدال على خروجها عن القواعد بطريق العرض في كتاب الموادعة والجزية حذراً من أن يذكره هاهنا، لئلا يعتمد على ظاهره في الاستدلال على القسامة، واعتبارها، فيغلط المستدل به على اعتقاد البخاري. وهذا الإخفاء مع صحة القصد ليس من قبيل كتمان العلم، بل هو من قبيل ما ورد: لا تعطوا الحكمة غير أهلها فتظلموها، فالنصيحة توجب توقى الغلط. والله أعلم. ووهم المهلب، فظن أن أبا قلابة اعترض على حديث القسامة بحديث العرنيين معارضاً به لحديث القسامة. فقال: لا تعارض لأن العرنيين اشتهر أمرهم وقتلهم الراعي وارتدادهم عن الإسلام. ولم يكن هذا بحيث إخفاؤه ولا جحوده، إنما قتلهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد ثبوت ذلك شرعاً بطريقه. وهذا وهم من المهلب إنما أبو قلابة لما اعترض عليه في إبطال القسامة بالحديث العام الذي دلّ على حصر القتل الشرعي في الثلاثة: قتل، أو كفر، أو زنى، بحديث العرنيين، لأن المعترض سبق إلى ذهنه أن العرنيين لم يثبت عليهم أحد الثلاثة، ومع هذا قتلوا. أجاب أبو قلابة فإنه قد ثبت عليهم ثبوتاً واضحاً القتل والردّة والمحاربة. وكلام أبي قلابة في هذا الجواب مستقيم. والله أعلم.
.كتاب استتابة المرتدّين:
.باب إذا عرضّ الذمي أو غيره بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم ولم يصّرح، نحو قوله: السام عليك:
فيه انس: مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فقال السام عليك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وعليك». ثم قال: «أتدرون ما يقول؟» قال: «السام عليك». قالوا: يا رسول الله، ألا نقتله؟ قال: «لا إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم».
وفيه عائشة: استأذن رهط من اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا السام عليكم. فقلت: بل عليكم السام واللعنة. فقال: «يا عائشة، إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كلّه»، قلت: أولم تسمع ما قالوا؟ قال: «قلت: عليكم».
وفيه ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن اليهود إذا سلموا على أحدكم إنما يقولون: سام عليكم. فقل: عليك».
وفيه ابن مسعود: قال كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكى نبيًّا من الأنبياء ضربه قومه، فأدموه وهو يمسح الدم من وجهه، ويقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
قلت: رضي الله عنك! كأن البخاري كان على مذهب الكوفيين في هذا المسألة، وهو أن الذمّي إذا سبّ يعزر، ولا يقبل. ولهذا أدخل في الترجمة حديث ابن مسعود. ومقتضاه: إن خلق الأنبياء عليهم السلام الصبر والصفح ألا ترى إلى النبي صلى الله عليه وسلم ضربه قومه فأدموه، وهو يدعو لهم بالمغفرة. فأين هذا من السبّ؟ وكان حديث ابن مسعود يطابق الترجمة بالأولوية.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin