بسم الله الرحمن الرحيم.
اللهمّ صلّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
هل نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش
عبارة تتردد على الألسنة في بعض المجالس فما موقعها من الصحة؟ والجواب (غالباً ) يكون نأكل لنحيا ونستمتع بالطعام لنعيش
وقد لفت نظري وأنا أتصفح مجلة (الوعي الإسلامي ) الكويتية موضوع ( اعتكاف أو اعتلاف)
وهو موضوع جيد ولفتة نظر جديرة بالاهتمام وقد أجاد الكاتب في عرضه (جزاه الله خيراً) ووقع نظري في ثناياه على العبارة التالية وهي :( نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل ) فكان لي وجهة نظر أخرى ربما اختلفت عن وجهة الكاتب وأخذت منحى غير منحاه وهي رؤية بعيدة إلى حد ما عن رؤيته وعن المعنى الذي قصده والجواب الصواب الذي أراه أننا لا نعيش لنأكل ولا نأكل لنعيش للدنيا القريبة الزوال بل نأكل ونستمتع بالطيبات التي خلقها الله لنا في ظل عبادة الخالق جلّ جلاله قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا لعبدون) فالطيبات مخلوقة لنا لنستمتع بها ونحن العباد مخلوقون لعبادة الله ومن الخطأ أن ننشغل بما خلق لنا عما خلقنا له
فالثقلان (الإنس والجن ) مخلوقون لعبادة الله عز وجل وطاعته ومعرفته كما جاء في الأثر " كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اعرف فخلقت العباد ."
والإنس من بين الثقلين خص بمزيد من العناية الربانية إذ جعله ربه سبحانه وتعالى بعد خلقه آدم خليفته في الوجود كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً....)
والخليفة ينبغي أن يأخذ عن المستخلف ( بكسر اللام) أوامره ونواهيه وينفذها بدقةٍ وأمانة إذ تحمل هذا الخليفة الأمانة الكبرى وهي (افعل ولا تفعل) عن رضي وطواعية كما قال تعالى:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا)ً فإلانسان من بين المخلوقات أجمع تميز بها واختار أن يكون كذلك لما في هذه الخلافة من ميزات عظيمة وأهمها رفعته حيث اسجد الله ملائكته له قال تعالى :( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ{72}) ثم شرفه الله تعالى بالتكاليف أي بالعبادة (أمراً ونهياً) في حدود طاقته وسعته فقال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ل) فكانت العبادات المفروضة عليه من ربه جل وعلا في الكتب التي أنزلها الله على رسله من البشر حتى كان آخرها (القرآن الكريم) على خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام وفيه قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، والعبادة هنا تعني معرفته أولاً وعبادته ثانياً وتتلخص في أركان الإسلام من (صلاة وصيام وزكاة وحج) لكنها لا تقتصر عليها بل تتعداها إلى كل عمل صالح يقوم به الإنسان المسلم يبتغي به وجه الله تعالى سواء في ذلك الأعمال التي تتعلق بالآخرة كالتي ذكرناها أو تتعلق بالدنيا (كالعلم بأنواعه وتخصصاته ومجالاته الواسعة) و أشرفه (معرفة الله عز وجل ) وما يتصل به من أمور العقيدة وفروضها ثم ما له علاقة بالدنيا (كالعلوم الإنسانية والنظرية والتجريبية) وما توصل إليه الإنسان في الوقت المعاصر من اختراعات وصناعات وتقنية واتصالات سريعة حتى غدت الكرة الأرضية (قرية صغيرة)
وتعلم هذه العلوم وغيرها مما يستجد مطلوب شرعا بل فريضة قال تعالى ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض....) وعلى المسلم أن يسعى إليها ولو كانت في أقاصي المعمورة كما قال عليه الصلاة والسلام : "اطلبوا العلم ولو في الصين " لأن الحقائق العلمية لا وطن لها فهي ملكٌ للبشرية جمعاء .
والمسلم بحاثٌ عن الحكمة حتى إذا عثر عليها أخذها ففي الحديث " الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها" وفي لفظ آخر( كان أحق بها)
وعليه فإن الإسلام من بين الأديان جميعاً لم يفرق في تعاليمه وتوجيهاته بين العلوم الدنيوية والآخروية مادام كلها يصب في القنوات التي تنفع الإنسان في عبادة لله دائمة . وحتى يدفع المسلم إلى طلبها والتبحر فيها ويشوقه إليها جعلها فريضة وعبادة فقد قال تعالى مبيناً فضل العلماء ودرجتهم (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). ونفى المساواة بينهم وبين من لا يعلمون فقال تعالى: ( قلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علماً- أيّ علمٍ- سهل الله له طريقاً إلى الجنة) فالعلوم الدنيوية نتقلب إلى آخروية يؤجر عليها طلابها والسالكون إليها بشرطين :
أولهما (النية ) لقوله عليه الصلاة والسلام( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.)
وثانيهما (كونها نافعة) غير ضارة لحديث (لا ضرر ولا ضرار) لذلك كانت الصناعات بأنواعها والمخترعات بأصنافها عبادة لما في ذلك من قوةٍ للمسلمين ونفع لهم ولقوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ....) وكذلك المهن المختلفة كالغراس والزراعة قال عليه الصلاة والسلام ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فتأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به أجر.) ومثل الزراعة (التجارة) فهي عبادة كما قال عليه الصلاة والسلام (إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا قالوا صدقوا وإذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا كان لهم لم يعسروا وإذا كان عليهم لم يمطلوا)
والعمل عبادة فكرياً كان أو يدوياً فالتفكير عبادة بل فريضة قال تعالى {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وقال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ }
والعمل اليدوي عبادة قال عليه الصلاة والسلام ( من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له )
وهكذا نجد أن الإسلام قد شمل بتعاليمه علوم الدنيا والآخرة من خلال كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام لأنه دين الله قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) وأكمله ورضيه لعباده ديناً قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا)
وبهذا المعنى الشامل للعبادة يعمر الإنسان دنياه التي أنشأه الله من أرضها ووظفه لعمارتها فقال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) .
كما يؤمّن مستقبله الذي هو آيل إليه إن عاجلاً أو آجلاً بالانتقال منها إلى الدار الآخرة وهناك العيش وبهجته كما قال تعالى :( َإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) , أي الحياة الطيبة التي لا نكد فيها ولا حسد ولا بغض ولا حقد بل عيشٌ رغيدٌ وعمٌر مديدٌ .
ترى .... ألا يمكن للإنسان أن يعيش مع أخيه الإنسان في وئام وتراحم وحب وتفاهم دون تحارب أو تقاتل يفني بعضهم بعضاً بسب شرهه وطمعه وأنانيته وصلفه , والأرض التي نعيش عليها تسعه وتسع غيره وتكفيهم جميعاً كما قال الشاعر:
لعمرك ما ضاق البلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق
ألا يمكن أن نقيم حياتنا على سلم عالمي ( وهو ما يدعو إليه الإسلام ) قال تعالى : (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا )
ألا يمكن أن نعيش ونتعايش في أمن وآمان واطمئنان وسلام متوادين متراحمين ننعم بالحياة دون خوف أو فزع كما هو عليه في الوقت المعاصر يأكل بعضنا بعضاً كأننا في غابة للوحوش الضارية والسباع المتوحشة بل أشد ضراوة وفتكاً منها كما قال الشاعر :
ولم نر ذئباً يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
لماذا لا يكون الواحد منا بلسماً لجراح أخيه محباً له كما قال آخر :
كن بلسماً إن صار دهرك أرقما وحلاوة إن صار غيرك علقمــــاً
أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيــراً أبغض فيمسي الكون سجناً مظلمـاً
من ذا يكافئ زهرةً فـوّاحـــة أو من يثيب البلبل المتـــــر نمـــا
عد الكرام المحسنين وقسهـم بهمـا تجد هذين منهم أكـــــــرمــا
يا صاحِ خذ علم المحبة عنهما أنـي وجـدت الحبَّ علماً قيمـــــــاً[1]
إن أهل الجنة يتنعمون إخوة متحابين على سرر متقابلين لأن ما كان يفرقهم من (غِل) قد اُزيل
قال تعالى : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) .
حبذا راجعنا حساباتنا مع أنفسنا فأزلنا (الغِل) الذي يتمثل في الحقد والحسد والأنانية أو خففنا منه وتبعاً لذلك نخفف من ويلات الحروب ونار العداوات , ولنتواضع بعضنا لبعض فلا يتعالى أحدنا على الآخر بسب منصبه أو ماله أو جنسه أو لونه في جو من الإنسانية الرحيمة والنظرة المتفائلة واحترام الإنسان لأخيه الإنسان قال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
فإذا عرف المسلم هده الحقيقة عاش لله وسخر طاقاته المادية وملكاته الفكرية والعقلية لا رضاء ربه عز وجل وطاعته فهو لا يعيش ليأكل ولا يأكل لعيش عيش البهائم والدواب إنما يعيش في عبادة الله ليكون عبداً خالصاً لربه لا لدنياه . وهو بهذا سعيد كل السعادة لأنه وجد نفسه وعرفها ومن عرف نفسه معرفةً صحيحة عرف ربه وخالقه , عرف بأنه قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله فمن عرف الجانب الطيني منه ولم يعرف نفخة الروح فيه فقد جانب الصواب ولم يعرف حقيقته ومن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه وريه مما انبتت الأرض ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان بالله ومعرفته عز وجل وأشواق روحه وسلامة فطرته ولم يعطها حقها بل جهل قدرها وحرمها ما به حياتها وقوامها , فقد ظلم الفطرة الإنسانية
(كتب أحد الأطباء اللامعين جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها بالرغائب الدنيوية فذكر الآتي : الصحة, الحب , الموهبة , القوة , الثراء , الشهرة ثم تقدم بها إلى شيخٍ حكيم فقال الشيخ : جدولٌ بديع وهو موضوع على ترتيب لا بأس به ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعود جدولك بدونه عبأ لا يطاق وضرب بالقلم على الجدول كله وكتب كلمتين(سكينة النفس) وقال هذه هي الهبة التي يدخرها الله لأصفيائه وأنه ليعطي الكثيرين الذكاء والصحة والمال والثراء والشهرة أما سكينة النفس فإنه يمنحها بقدر)[2] فالذي يعيش ليأكل أو يأكل ليعيش شخصان لا يعرفان الغاية من وجودهما ولا الهدف من حياتهما فيعيشان للجسد ومتطلباته وشهواته وينسيان متطلبات الروح وأشواقها وما به سعادتها وراحتها ويرحم الله من قال :
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته تبتغي الربح مما فيه خسران
اقبل على النفس واستكمل فضائلهــا فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان.
ومثل هذا الإنسان لا يدري الغاية من وجوده كما لا يدري لم يعيش وكيف يعيش ومن أين جاء وإلى أي شيء يصير ! فهو وأمثاله يحيون حياةً لا طعم لها وعيشاً لا معنى له كله قلق وحيرة وعلامات استفهام وأسئلة لا تجد عندهم جواباً فهم كريشةٍ في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق.
تشعر بهذا حين تقرأ مؤلفاتهم وكتاباتهم (نثراً وشعراً) فهذا الشاعر إيليا أبو ماضي يقول في قصيدته التي سماها (الطلاسم) :
جئت لا اعلم من أين ولكن أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت كيف جئت كيف أبصرت طريقي (لست أدري)
وهي قصيدة طويلة اكتفينا منها بهذين البيتين اللذين تدل كلماتهما على حيرته وضياعه وجهله فإذا كان هذا الجهل والضياع والحيرة لشاعر كبير طار صيته في الآفاق وحفظ شعره الأجيال فما بالك بمن دونه!؟.
وهذا ما عليه الإنسان المعاصر اليوم ضياع في دنياه وجهل بمبدئه ومنتهاه شقيٌ في ظل الحضارة المادية التعيسة التي تغذيها المفاهيم الغربية والشرقية على حد سواء (من دعارة وخمر وجنس ومسكرات ) حتى أصبح إنساناً ممسوخاً روحاً وإنسانية وفكراً وأشواقاً بسب بعده عن الحقيقة وجهله بنفسه وربه الذي خلقه وقال له (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعبودية للخالق هي وظيفة المخلوق يقول أحد أقطاب الغرب: ( إذا لم نكن واعين فإن التاريخ سيذكرنا على أننا الجيل الذي رفع إنسانا إلى القمر بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات)[3] فإذا انتشرت في بلادهم وبين أسرهم وشبابهم الأمراض المستعصية النفسية منها والعضوية والجنسية التي كان آخرها الايدز والحالات العصبية من جنون وانتحار بنوعيه البطيء عن طريق المخدرات والسريع عن طريق إلقاء نفسه من شاهق أو في بحر ليغرق ليتخلص من أزماته الخانقة وأوجاعه الأليمة لفقده العنصر الروحي من حياته فهذا ليس بعجب ولا مستغرب والأعجب والأغرب أنهم يحسبون أنهم مهتدون وأنهم يحسنون صنعا.
وهنا يأتي دور الدعاة من العلماء الأكفاء ليبصروهم بواقعهم المؤلم وطريقهم المنحرف وإرشادهم إلى طريق النجاة المؤدية إلى دوحة الإيمان في ظل عبادة الرحمن حيث يجد الإنسان هناك الراحة الفكرية والسعادة النفسية و الطمأنينة القلبية والنوم العميق الهنيء ملء الجفون بلا حبوب( فوستان وفاليوم ) وعيرتهما المختلفة وبلا (ابر مورفين) ليأخذ قسطاً من الراحة لا تجديه شيئاً ولا تنتشله من أمراضه الكثيرة وازماته الخانقة بينما المسلم بإيمانه وعبادته لربه وتمسكه بكتابه وسيره على سنة نبيه و محجتها البيضاء في امنٍ وراحةٍ واطمئنانٍ قال تعالى : (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وكلما ازداد ذكراً لله تعالى ازداد طمأنينة وراحة بال لذا قال تعالى : (وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) .
ثم كانت الصلاة التي هي أهم عبادةٍ في الإسلام من أعظم وسائل الإصلاح الفردي والتربية الأخلاقية والترويح عن النفس قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال (أقمها يا بلال وأرحنا بها) وهكذا ... وهكذا يعيش المسلم لربه لا لبطنه فينتعش ويسعد ويطمئن إلى أن يلقى ربه عز وجل وهناك الفرحة الكبرى في الفراديس العالية والرضوان الأكبر من الله جل جلاله .
أما ما عليه الشعوب الغربية والشرقية على حد سواء فإنهم كما قال الله تعالى عنهم : (َعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
يعيش الإنسان في تلك البلاد لنفسه وشهواته العاجلة وملذاته القاتلة التي فيها شقاؤه وتعاسته وضياعه إذ لا هم له سوى إشباع شهوتيه (البطن والفرج) عيشة البهائم والدواب غافلا عن مصيره في الآخرة كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) ويقال لهم يوم القيامة يوم الحسرة والندامة - تبكيتا ً- (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) أجل يعيش هذا الإنسان المجانب هداية السماء والجاحد الإيمان بالله الواحد المنكر يوم المعاد والجزاء يوم توفى كل نفس ٍ ما كسبت وهم لا يظلمون لا يدري لعيشه سبباً سوى المزيد من الطعام والشراب كالبهائم التي لا هم لها سوى إشباع شهوتيها ينكح ويستمتع ولكن دون هدف أو غاية في جوٍ خانقٍ مسمومٍ مظلمٍ ويبقى هكذا يتنقل بين الشقاء والتعاسة والضياع ويبقى كذالك حتى يعثر على الإيمان الذي هو منه (قاب قوسين أو أدنى) قال تعالى (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) لكن غروره بعقله وعلومه ومنجزاته المادية يحول بينه وبين ذلك يقول تعالى عن هؤلاء وهم يصطرخون في النار (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ{10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ{11} ) جاء هذا الاعتراف متأخرا كثيراً عن وقته حين كان في الدنيا وهذه هي نهاية ذلك الإنسان الذي عاش ليأكل أو أكل ليعيش حياته شقاءً وتعاسة ويوم القيامة يرد إلى أشد العذاب فعلى الدعاة إلى الله ولاسيما الذين يعيشون بينهم ويلمسون ويرون هذا الضياع والشقاء والجهل بأنفسهم ومستقبلهم أن يدعوهم إلى الله أي إلى (الأمن والأمان وسكينة النفس واطمئنان القلب) في ندواتٍ ولقاءاتٍ وحواراتٍ بأسلوب عصري حكيم جذاب بالدعوة إلى ( العالمية ) بدلاً من العولمة والعدل والرحمة والمساواة بدلاً من (الديمقراطية) وفي نظري أنهم لو دُعو إلى الله بهذا الأسلوب المجدي الذي يتلخص في قوله تعالى : (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)على أن يكون بالخروج من حظوظ النفس وبالحوار الهادئ الهادف والقول الحسن كما قال تعالى : (وقولوا للناس حُسناٌ) .
لو فعل ذلك الدعاة إلى الله لأثروا فيهم تأثيراً كبيراً وأزالوا عنهم خيوط الجهل والغرور والغفلة وأخرجوهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ومن الجهل بمبدأهم ومنتهاهم إلى معرفة المبدأ والمصير كما قال تعالى : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
منها خلقناكم للثواب والعقاب وفيها نعيدكم للدود والتراب ومنها نخرجكم للعرض والحساب .
وبارك الله في جهود المخلصين من الدعاة والعاملين في حقل الدعوة الإسلامية أينما كانوا.
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين
[1]الشاعر إيليا أبو ماض
[2]الإيمان والحياة للقرضاوي
[3]إنسانية الإنسان (ريينه دوبو)
اللهمّ صلّ على سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
هل نعيش لنأكل أم نأكل لنعيش
عبارة تتردد على الألسنة في بعض المجالس فما موقعها من الصحة؟ والجواب (غالباً ) يكون نأكل لنحيا ونستمتع بالطعام لنعيش
وقد لفت نظري وأنا أتصفح مجلة (الوعي الإسلامي ) الكويتية موضوع ( اعتكاف أو اعتلاف)
وهو موضوع جيد ولفتة نظر جديرة بالاهتمام وقد أجاد الكاتب في عرضه (جزاه الله خيراً) ووقع نظري في ثناياه على العبارة التالية وهي :( نأكل لنعيش أم نعيش لنأكل ) فكان لي وجهة نظر أخرى ربما اختلفت عن وجهة الكاتب وأخذت منحى غير منحاه وهي رؤية بعيدة إلى حد ما عن رؤيته وعن المعنى الذي قصده والجواب الصواب الذي أراه أننا لا نعيش لنأكل ولا نأكل لنعيش للدنيا القريبة الزوال بل نأكل ونستمتع بالطيبات التي خلقها الله لنا في ظل عبادة الخالق جلّ جلاله قال تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا لعبدون) فالطيبات مخلوقة لنا لنستمتع بها ونحن العباد مخلوقون لعبادة الله ومن الخطأ أن ننشغل بما خلق لنا عما خلقنا له
فالثقلان (الإنس والجن ) مخلوقون لعبادة الله عز وجل وطاعته ومعرفته كما جاء في الأثر " كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن اعرف فخلقت العباد ."
والإنس من بين الثقلين خص بمزيد من العناية الربانية إذ جعله ربه سبحانه وتعالى بعد خلقه آدم خليفته في الوجود كما قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً....)
والخليفة ينبغي أن يأخذ عن المستخلف ( بكسر اللام) أوامره ونواهيه وينفذها بدقةٍ وأمانة إذ تحمل هذا الخليفة الأمانة الكبرى وهي (افعل ولا تفعل) عن رضي وطواعية كما قال تعالى:(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولا)ً فإلانسان من بين المخلوقات أجمع تميز بها واختار أن يكون كذلك لما في هذه الخلافة من ميزات عظيمة وأهمها رفعته حيث اسجد الله ملائكته له قال تعالى :( إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ{71} فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ{72}) ثم شرفه الله تعالى بالتكاليف أي بالعبادة (أمراً ونهياً) في حدود طاقته وسعته فقال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا ل) فكانت العبادات المفروضة عليه من ربه جل وعلا في الكتب التي أنزلها الله على رسله من البشر حتى كان آخرها (القرآن الكريم) على خاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام وفيه قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، والعبادة هنا تعني معرفته أولاً وعبادته ثانياً وتتلخص في أركان الإسلام من (صلاة وصيام وزكاة وحج) لكنها لا تقتصر عليها بل تتعداها إلى كل عمل صالح يقوم به الإنسان المسلم يبتغي به وجه الله تعالى سواء في ذلك الأعمال التي تتعلق بالآخرة كالتي ذكرناها أو تتعلق بالدنيا (كالعلم بأنواعه وتخصصاته ومجالاته الواسعة) و أشرفه (معرفة الله عز وجل ) وما يتصل به من أمور العقيدة وفروضها ثم ما له علاقة بالدنيا (كالعلوم الإنسانية والنظرية والتجريبية) وما توصل إليه الإنسان في الوقت المعاصر من اختراعات وصناعات وتقنية واتصالات سريعة حتى غدت الكرة الأرضية (قرية صغيرة)
وتعلم هذه العلوم وغيرها مما يستجد مطلوب شرعا بل فريضة قال تعالى ( قل انظروا ماذا في السموات والأرض....) وعلى المسلم أن يسعى إليها ولو كانت في أقاصي المعمورة كما قال عليه الصلاة والسلام : "اطلبوا العلم ولو في الصين " لأن الحقائق العلمية لا وطن لها فهي ملكٌ للبشرية جمعاء .
والمسلم بحاثٌ عن الحكمة حتى إذا عثر عليها أخذها ففي الحديث " الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها" وفي لفظ آخر( كان أحق بها)
وعليه فإن الإسلام من بين الأديان جميعاً لم يفرق في تعاليمه وتوجيهاته بين العلوم الدنيوية والآخروية مادام كلها يصب في القنوات التي تنفع الإنسان في عبادة لله دائمة . وحتى يدفع المسلم إلى طلبها والتبحر فيها ويشوقه إليها جعلها فريضة وعبادة فقد قال تعالى مبيناً فضل العلماء ودرجتهم (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). ونفى المساواة بينهم وبين من لا يعلمون فقال تعالى: ( قلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ)
وقال عليه الصلاة والسلام: ( من سلك طريقا يلتمس فيه علماً- أيّ علمٍ- سهل الله له طريقاً إلى الجنة) فالعلوم الدنيوية نتقلب إلى آخروية يؤجر عليها طلابها والسالكون إليها بشرطين :
أولهما (النية ) لقوله عليه الصلاة والسلام( إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.)
وثانيهما (كونها نافعة) غير ضارة لحديث (لا ضرر ولا ضرار) لذلك كانت الصناعات بأنواعها والمخترعات بأصنافها عبادة لما في ذلك من قوةٍ للمسلمين ونفع لهم ولقوله تعالى (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ....) وكذلك المهن المختلفة كالغراس والزراعة قال عليه الصلاة والسلام ( ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فتأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به أجر.) ومثل الزراعة (التجارة) فهي عبادة كما قال عليه الصلاة والسلام (إن أطيب الكسب كسب التجار الذين إذا قالوا صدقوا وإذا اؤتمنوا لم يخونوا وإذا باعوا لم يمدحوا وإذا اشتروا لم يذموا وإذا كان لهم لم يعسروا وإذا كان عليهم لم يمطلوا)
والعمل عبادة فكرياً كان أو يدوياً فالتفكير عبادة بل فريضة قال تعالى {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } وقال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ }
والعمل اليدوي عبادة قال عليه الصلاة والسلام ( من أمسى كالاً من عمل يده أمسى مغفوراً له )
وهكذا نجد أن الإسلام قد شمل بتعاليمه علوم الدنيا والآخرة من خلال كتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام لأنه دين الله قال تعالى (إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ) وأكمله ورضيه لعباده ديناً قال تعالى (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا)
وبهذا المعنى الشامل للعبادة يعمر الإنسان دنياه التي أنشأه الله من أرضها ووظفه لعمارتها فقال تعالى: (هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا) .
كما يؤمّن مستقبله الذي هو آيل إليه إن عاجلاً أو آجلاً بالانتقال منها إلى الدار الآخرة وهناك العيش وبهجته كما قال تعالى :( َإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) , أي الحياة الطيبة التي لا نكد فيها ولا حسد ولا بغض ولا حقد بل عيشٌ رغيدٌ وعمٌر مديدٌ .
ترى .... ألا يمكن للإنسان أن يعيش مع أخيه الإنسان في وئام وتراحم وحب وتفاهم دون تحارب أو تقاتل يفني بعضهم بعضاً بسب شرهه وطمعه وأنانيته وصلفه , والأرض التي نعيش عليها تسعه وتسع غيره وتكفيهم جميعاً كما قال الشاعر:
لعمرك ما ضاق البلاد بأهلها ولكن أحلام الرجال تضيق
ألا يمكن أن نقيم حياتنا على سلم عالمي ( وهو ما يدعو إليه الإسلام ) قال تعالى : (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا )
ألا يمكن أن نعيش ونتعايش في أمن وآمان واطمئنان وسلام متوادين متراحمين ننعم بالحياة دون خوف أو فزع كما هو عليه في الوقت المعاصر يأكل بعضنا بعضاً كأننا في غابة للوحوش الضارية والسباع المتوحشة بل أشد ضراوة وفتكاً منها كما قال الشاعر :
ولم نر ذئباً يأكل لحم ذئبٍ ويأكل بعضنا بعضاً عيانا
لماذا لا يكون الواحد منا بلسماً لجراح أخيه محباً له كما قال آخر :
كن بلسماً إن صار دهرك أرقما وحلاوة إن صار غيرك علقمــــاً
أحبب فيغدو الكوخ قصراً نيــراً أبغض فيمسي الكون سجناً مظلمـاً
من ذا يكافئ زهرةً فـوّاحـــة أو من يثيب البلبل المتـــــر نمـــا
عد الكرام المحسنين وقسهـم بهمـا تجد هذين منهم أكـــــــرمــا
يا صاحِ خذ علم المحبة عنهما أنـي وجـدت الحبَّ علماً قيمـــــــاً[1]
إن أهل الجنة يتنعمون إخوة متحابين على سرر متقابلين لأن ما كان يفرقهم من (غِل) قد اُزيل
قال تعالى : (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ) .
حبذا راجعنا حساباتنا مع أنفسنا فأزلنا (الغِل) الذي يتمثل في الحقد والحسد والأنانية أو خففنا منه وتبعاً لذلك نخفف من ويلات الحروب ونار العداوات , ولنتواضع بعضنا لبعض فلا يتعالى أحدنا على الآخر بسب منصبه أو ماله أو جنسه أو لونه في جو من الإنسانية الرحيمة والنظرة المتفائلة واحترام الإنسان لأخيه الإنسان قال تعالى : (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) .
فإذا عرف المسلم هده الحقيقة عاش لله وسخر طاقاته المادية وملكاته الفكرية والعقلية لا رضاء ربه عز وجل وطاعته فهو لا يعيش ليأكل ولا يأكل لعيش عيش البهائم والدواب إنما يعيش في عبادة الله ليكون عبداً خالصاً لربه لا لدنياه . وهو بهذا سعيد كل السعادة لأنه وجد نفسه وعرفها ومن عرف نفسه معرفةً صحيحة عرف ربه وخالقه , عرف بأنه قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله فمن عرف الجانب الطيني منه ولم يعرف نفخة الروح فيه فقد جانب الصواب ولم يعرف حقيقته ومن أعطى الجزء الطيني فيه غذاءه وريه مما انبتت الأرض ولم يعط الجانب الروحي غذاءه من الإيمان بالله ومعرفته عز وجل وأشواق روحه وسلامة فطرته ولم يعطها حقها بل جهل قدرها وحرمها ما به حياتها وقوامها , فقد ظلم الفطرة الإنسانية
(كتب أحد الأطباء اللامعين جدولاً لطيبات الحياة المعترف بها بالرغائب الدنيوية فذكر الآتي : الصحة, الحب , الموهبة , القوة , الثراء , الشهرة ثم تقدم بها إلى شيخٍ حكيم فقال الشيخ : جدولٌ بديع وهو موضوع على ترتيب لا بأس به ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعود جدولك بدونه عبأ لا يطاق وضرب بالقلم على الجدول كله وكتب كلمتين(سكينة النفس) وقال هذه هي الهبة التي يدخرها الله لأصفيائه وأنه ليعطي الكثيرين الذكاء والصحة والمال والثراء والشهرة أما سكينة النفس فإنه يمنحها بقدر)[2] فالذي يعيش ليأكل أو يأكل ليعيش شخصان لا يعرفان الغاية من وجودهما ولا الهدف من حياتهما فيعيشان للجسد ومتطلباته وشهواته وينسيان متطلبات الروح وأشواقها وما به سعادتها وراحتها ويرحم الله من قال :
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته تبتغي الربح مما فيه خسران
اقبل على النفس واستكمل فضائلهــا فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان.
ومثل هذا الإنسان لا يدري الغاية من وجوده كما لا يدري لم يعيش وكيف يعيش ومن أين جاء وإلى أي شيء يصير ! فهو وأمثاله يحيون حياةً لا طعم لها وعيشاً لا معنى له كله قلق وحيرة وعلامات استفهام وأسئلة لا تجد عندهم جواباً فهم كريشةٍ في مهب الريح طائرة لا تستقر على حال من القلق.
تشعر بهذا حين تقرأ مؤلفاتهم وكتاباتهم (نثراً وشعراً) فهذا الشاعر إيليا أبو ماضي يقول في قصيدته التي سماها (الطلاسم) :
جئت لا اعلم من أين ولكن أتيت ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت
وسأبقى سائراً شئت هذا أم أبيت كيف جئت كيف أبصرت طريقي (لست أدري)
وهي قصيدة طويلة اكتفينا منها بهذين البيتين اللذين تدل كلماتهما على حيرته وضياعه وجهله فإذا كان هذا الجهل والضياع والحيرة لشاعر كبير طار صيته في الآفاق وحفظ شعره الأجيال فما بالك بمن دونه!؟.
وهذا ما عليه الإنسان المعاصر اليوم ضياع في دنياه وجهل بمبدئه ومنتهاه شقيٌ في ظل الحضارة المادية التعيسة التي تغذيها المفاهيم الغربية والشرقية على حد سواء (من دعارة وخمر وجنس ومسكرات ) حتى أصبح إنساناً ممسوخاً روحاً وإنسانية وفكراً وأشواقاً بسب بعده عن الحقيقة وجهله بنفسه وربه الذي خلقه وقال له (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فالعبودية للخالق هي وظيفة المخلوق يقول أحد أقطاب الغرب: ( إذا لم نكن واعين فإن التاريخ سيذكرنا على أننا الجيل الذي رفع إنسانا إلى القمر بينما هو غائص إلى ركبتيه في الأوحال والقاذورات)[3] فإذا انتشرت في بلادهم وبين أسرهم وشبابهم الأمراض المستعصية النفسية منها والعضوية والجنسية التي كان آخرها الايدز والحالات العصبية من جنون وانتحار بنوعيه البطيء عن طريق المخدرات والسريع عن طريق إلقاء نفسه من شاهق أو في بحر ليغرق ليتخلص من أزماته الخانقة وأوجاعه الأليمة لفقده العنصر الروحي من حياته فهذا ليس بعجب ولا مستغرب والأعجب والأغرب أنهم يحسبون أنهم مهتدون وأنهم يحسنون صنعا.
وهنا يأتي دور الدعاة من العلماء الأكفاء ليبصروهم بواقعهم المؤلم وطريقهم المنحرف وإرشادهم إلى طريق النجاة المؤدية إلى دوحة الإيمان في ظل عبادة الرحمن حيث يجد الإنسان هناك الراحة الفكرية والسعادة النفسية و الطمأنينة القلبية والنوم العميق الهنيء ملء الجفون بلا حبوب( فوستان وفاليوم ) وعيرتهما المختلفة وبلا (ابر مورفين) ليأخذ قسطاً من الراحة لا تجديه شيئاً ولا تنتشله من أمراضه الكثيرة وازماته الخانقة بينما المسلم بإيمانه وعبادته لربه وتمسكه بكتابه وسيره على سنة نبيه و محجتها البيضاء في امنٍ وراحةٍ واطمئنانٍ قال تعالى : (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وكلما ازداد ذكراً لله تعالى ازداد طمأنينة وراحة بال لذا قال تعالى : (وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ) .
ثم كانت الصلاة التي هي أهم عبادةٍ في الإسلام من أعظم وسائل الإصلاح الفردي والتربية الأخلاقية والترويح عن النفس قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) وكان النبي عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر لجأ إلى الصلاة وقال (أقمها يا بلال وأرحنا بها) وهكذا ... وهكذا يعيش المسلم لربه لا لبطنه فينتعش ويسعد ويطمئن إلى أن يلقى ربه عز وجل وهناك الفرحة الكبرى في الفراديس العالية والرضوان الأكبر من الله جل جلاله .
أما ما عليه الشعوب الغربية والشرقية على حد سواء فإنهم كما قال الله تعالى عنهم : (َعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ).
يعيش الإنسان في تلك البلاد لنفسه وشهواته العاجلة وملذاته القاتلة التي فيها شقاؤه وتعاسته وضياعه إذ لا هم له سوى إشباع شهوتيه (البطن والفرج) عيشة البهائم والدواب غافلا عن مصيره في الآخرة كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ) ويقال لهم يوم القيامة يوم الحسرة والندامة - تبكيتا ً- (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا) أجل يعيش هذا الإنسان المجانب هداية السماء والجاحد الإيمان بالله الواحد المنكر يوم المعاد والجزاء يوم توفى كل نفس ٍ ما كسبت وهم لا يظلمون لا يدري لعيشه سبباً سوى المزيد من الطعام والشراب كالبهائم التي لا هم لها سوى إشباع شهوتيها ينكح ويستمتع ولكن دون هدف أو غاية في جوٍ خانقٍ مسمومٍ مظلمٍ ويبقى هكذا يتنقل بين الشقاء والتعاسة والضياع ويبقى كذالك حتى يعثر على الإيمان الذي هو منه (قاب قوسين أو أدنى) قال تعالى (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) لكن غروره بعقله وعلومه ومنجزاته المادية يحول بينه وبين ذلك يقول تعالى عن هؤلاء وهم يصطرخون في النار (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ{10} فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ{11} ) جاء هذا الاعتراف متأخرا كثيراً عن وقته حين كان في الدنيا وهذه هي نهاية ذلك الإنسان الذي عاش ليأكل أو أكل ليعيش حياته شقاءً وتعاسة ويوم القيامة يرد إلى أشد العذاب فعلى الدعاة إلى الله ولاسيما الذين يعيشون بينهم ويلمسون ويرون هذا الضياع والشقاء والجهل بأنفسهم ومستقبلهم أن يدعوهم إلى الله أي إلى (الأمن والأمان وسكينة النفس واطمئنان القلب) في ندواتٍ ولقاءاتٍ وحواراتٍ بأسلوب عصري حكيم جذاب بالدعوة إلى ( العالمية ) بدلاً من العولمة والعدل والرحمة والمساواة بدلاً من (الديمقراطية) وفي نظري أنهم لو دُعو إلى الله بهذا الأسلوب المجدي الذي يتلخص في قوله تعالى : (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)على أن يكون بالخروج من حظوظ النفس وبالحوار الهادئ الهادف والقول الحسن كما قال تعالى : (وقولوا للناس حُسناٌ) .
لو فعل ذلك الدعاة إلى الله لأثروا فيهم تأثيراً كبيراً وأزالوا عنهم خيوط الجهل والغرور والغفلة وأخرجوهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ومن الجهل بمبدأهم ومنتهاهم إلى معرفة المبدأ والمصير كما قال تعالى : (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).
منها خلقناكم للثواب والعقاب وفيها نعيدكم للدود والتراب ومنها نخرجكم للعرض والحساب .
وبارك الله في جهود المخلصين من الدعاة والعاملين في حقل الدعوة الإسلامية أينما كانوا.
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين
[1]الشاعر إيليا أبو ماض
[2]الإيمان والحياة للقرضاوي
[3]إنسانية الإنسان (ريينه دوبو)
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin