القسم الثاني
في الغناء المقارن للدف والشبابة
فقال أصحابنا المالكية: من السنة إعلان النكاح بالدف وحكاه شارح المقنع عن الحنابلة وأبو بكر العامري عن الشافعية. وذهبت طائفة إلى إباحته مطلقا وعليه جرى إمام الحرمين، والغزالي ، وحكى غير واحد من الشافعية وجهين في غير النكاح والختان، وصحح الرافعي الجواز، وكذا القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية.
وأما الشبابة - وهي القصبة المثقبة: قال أصحاب الموسيقى: إنها آلة كاملة وافية بجميع النغمات - فاختلف العلماء فيها: فذهبت طائفة إلى التحريم وذهبت طائفة إلى الإباحة، وهو مذهب جماعة من الشافعية، واختاره الغزالي، والعامري، والرافعي - في الشرح الصغير - وقال: انه الأظهر، وقال - في الكبير - : إنه الأقرب، واختاره الإمام: عز الدين بن عبد السلام، والإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والإمام قاضي القضاة: ابن جماعة: وقال تاج الدين الشريسي: إنه مقتضى المذهب، وقال الرافعي: إن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان يضرب بها في غنمه، قال: وروى عن الصحابة الترخيص في الراعى.
قالوا: والشبابة تجري الدمع، وترقق القلب، وتحث على السير، وتجمع البهائم إذا سرحت، ولم يزل أهل الصلاح والمعارف والعلم يحضرون السماع بالشبابة، وتجري على أيديهم الكرامات الظاهرة، وتحصل لهم الأحوال السنية، ومرتكب المحرم - لا سيما إذا أصر عليه - يفسق به وقد صرح إمام الحرمين، والمتولي وغيرهما من الأيمة بامتناع جريان الكرامة على يد الفاسق.
القسم الثالث
وهو سماع الغناء بالأوتار وسائر المزامير
أما العود - وهو معروف، ويقال إن أول من صنعه مالك بن آدم ابي البشر عليه السلام لما مات ولده، وقيل صنعه أهل الهند على طبائع الإنسان - فقد اختلف العلماء فيه وفيما جرى مجراه من الآلات المعروفة ذوات الأوتار، فالمشهور من مذاهب الأئمة الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام وذهبت طائفة إلى جوازه، ونقل سماعه عن: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص، وغيرهم. ومن التابعين عن: خارجة بن زيد وعبد الرحمان بن حسان، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وابن أبي عتيق، وأكثر فقهاء المدينة، ونقل عن مالك سماعه وليس ذلك بالمعروف عند أصحابه، وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي - في كتابه شرح الترمذي الذي سماه بالعارضة لما تكلم على إباحة الغناء - : وإن زاد فيه أحد على ما كان في عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عودا يصوت عليه نغمة فقد دخل في قوله: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فقال: دعهما فإنه يوم عيد، وإن اتصل نقرطنبور به، فلا يؤثر أيضا في تحريمه، فإنها كلها آلات تتعلق بها قلوب الضعفاء وللنفس عليها استراحة وطرح لثقل الجد الذي لا تحمله كل نفس: ولا يتعلق به قلب، فإن تعلقت به نفس فقد سمح الشرع لها فيه العود يسمى طنبورا، وهو المعروف في اللغة. وحكى إباحته المارودي عن بعض الشافعية، ومال إليه الأستاذ: أبو منصور البغدادي، ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه ومشهورا عنه، وأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه أنكره عليه، حكاه ابن طاهر المقدسي عنه، وكان قد عاصر الشيخ، وحكاه عن أهل المدينة، وادعى أنه لا خلاف بينهم فيه، وكان إبراهيم بن سعد: من علماء المدينة يقول بإباحته، ولا يحدث حديثا حتى يضرب به، ولما قدم بغداد واجتمع بالخليفة هارون قال له: حدثنا يا إبراهيم حديثا، ائتني بالعود يا أمير المؤمنين، قال: أتريد عود المجمر أم عود الغناء؟ قال: لا، عود الغناء، فأحضره له فضرب به وغناه ثم حدثه. وإبراهيم بن سعد أحد شيوخ الشافعي رضي الله عنه، وروى عنه البخاري، وهو إمام مجتهد مشهور، عدل بارز ثقة مأمون، ولما ضرب بالعود بين يدي هارون الرشيد قال له يا إبراهيم من قال بتحريم هذا من علمائكم؟ قال: من ربطه الله يا أمير المؤمنين. وذكر الإمام ابن عرفة - في مختصره الفقهي عن إبراهيم بن سعد - إباحة الغناء بالعود، ونقل الإمام المازري من أصحابنا المالكية عن عبد الله بن عبد الحكم أنه مكروه، وحكي عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه مباح، ثم اختلف الذين ذهبوا إلى تحريمه هل هو كبيرة أو صغيرة؟ والأصح - عند المتأخرين من الشافعية أنه صغيرة، وهو اختيار إمام الحرمين ولا ترد بسماعه شهادة وحكى المازري في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إذا كان في عرس أو صنيع فلا ترد به شهادة، قال الأستاذ: شرف الدين بن الفارض - رضي الله عنه:
ولاتك باللاهي عن اللهو معرضا ... فهزل الملاهي جّد نفس مجدة.
فصل في الرقص
وقد اختلف فيه الفقهاء: فذهبت طائفة إلى الكراهة، منهم: القفال حكاه الروباني في البحر، وقال الأستاذ: أبو منصور: تكلف الرقص على الإيقاع مكروه. وذهبت طائفة إلى اباحته، قال صاحب العهد من الشافعية: الغناء مباح أصله، وكذلك ضرب القضيب، والرقص، وما أشبه ذلك، وقال إمام الحرمين: الرقص ليس بمحرم، فإنه حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يحرم المروءة، وكذلك قال مجلي والعماد السهروردي والرافعي، واحتج عليه الرافعي بما يقتضي إباحته، وجزم الغزالي بإباحته. وقال الحلبي في منهاجه: إذا لم يكن فيه تثن وتكسر فلا بأس به.
قال الإمام النووي – في المنهاج – : ويباح رقص ما لم يكن بتكسر وتثن كهيئة مخنث. والأمر فيه مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن، وذهبت طائفة إلى التفرقة بين أرباب الأحوال وغيرهم، فيجوز لأرباب الأحوال ويكره لغيرهم. وهذا القول هو المرتضى وعليه أكثر الفقهاء المسوغين لسماع الغناء وهو مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم أجمعين وبعض المتصوفة يفرق بين أن يشير به شيخ أم لا، فإن أشار به شيخ اعتمد. وإلا فلا.
واحتج من ذهب لإباحة الرقص بالسنة والقياس، أما السنة لما روته عائشة رضي الله عنها – في الصحيح – من رقص الحبشة في المسجد يوم عيد، وأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعاها فوضعت رأسها على منكبه، قالت: فجعلت أنظر إليهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم. وأن جعفرا وعليا وزيدا حجلوا لما قال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما قال من الثناء عليهم. فقال لعلي – رضي الله عنه – أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وقال لجعفر: أشبهت خَلقي وخُلقي، وقال لزيد: أنت منا ومولانا.
والمشهور عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه كان يرقص في السماع، ذكره غير واحد عنه في طبقات الشافعية كالأستوي والسبكي، وغيرهما من الأئمة الثقات، وذكر ذلك عنه الشيخ العارف تاج الدين بن عطاء الله في كتابه: لطائف المنن.
وأما القياس فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، فيقاس على الأصل: فعل الحبشة، وفعل علي حين حجل هو ومن شاركه في فعله من الصحابة، فآفهم ذلك والله سبحانه أعلى وأعلم.
فصل في من حضر السماع
بالدف والشبابة من مشاهير العلماء المتأخرين من أهل المشرق ومن أهل المغرب.
فمن أهل المشرق: الشيخ عز الدين بن عبد السلام، حكاه عنه غير واحد من العلماء في كتبهم: ذكر ذلك الأدفوي في كتابه: الامتاع بأحكام السماع.
قال الشيخ الإمام ابن القماح: سئل الشيخ عز الدين عن الآلات كلها: فقال: مباح: فقال الشيخ شرف الدين التلمساني: يريد أنه لم يرد دليل صحيح من السنة على تحريمه، يخاطب بذلك أهل مصر فسمعه الشيخ عز الدين، قال: لا، أردت أن ذلك مباح.
وحضر السماع بالدف والشبابة الشيخ: تاج الدين الفزاري شيخ دمشق ومفتيها وحضره غير مرة. قال في كتابه الذي سماه: نور القبس: إنه كان في عصره شيخ مقعد فإذا غشيه الحال في السماع قام منتصبا زمانا طويلا كأصح الرجال.
وحضر السماع الإمام الحافظ الورع المجتهد: تقي الدين بن دقيق العيد غير مرة بالشبابة والدف. قالوا: ولما حضر بإسنا عمل لأجله سماع بالشبابة والدف، وكان المغني يغني والشيخ تقي الدين والشيخ بهاء الدين القفطي – تلميذ والد الشيخ – والفقهاء العدول حاضرون، والفقراء يرقصون في السماع. قال الأدفوي: فقيل للشيخ ابن دقيق العيد: ما تقول في هذا الأمر؟ قال: لم يرد حديث صحيح على منعه، ولا حديث صحيح على جوازه، وهذه مسالة اجتهاد: فمن اجتهد وأداه اجتهاده إلى التحريم قال به، ومن اجتهد وأداه اجتهاده إلى الجواز قال به، وأحضر أهل هذا السماع – الذي حضره الشيخ تقي الدين – الشيخ عليا الكردي نفعنا الله به، وحصل للجماعة حال وغيبة عظيمة، ثم حضرت الصلاة فتقدم بعض الجماعة للإمامة فقال الشيخ تقي الدين: حصل في نفسي شيء، فقلت: لو أنه توضأ؟ فلما فرغت الصلاة قال لي: الشيخ ما غاب غيبة يحصل بها نقض الوضوء. وكذلك لما حضر بأخميم، وحضر لحضور الشيخ جماعة أيمة، قال شهاب الدين بن عبد الظاهر: رأيت الشيخ تقي الدين وقد حصلت له غيبة وهو يتمشى ويقول: أرى السماع – لمثل هؤلاء – قربة. وسأل الشيخ شهاب الدين الدشناوي الشيخ تقي الدين – وهو يومئذ قاضى القضاة – : ما تقول في السماع ؟ فقال: هو مباح. قلت: بالشبابة والدف ؟! قال: إياه أعني. وقال الشيخ شمس الدين القماح: سمعت الشيخ تقي الدين يقول – في درس جامع ابن طولون – حضرت سماعا وفيه فقير وأن القوال غنى قصيدة ابن الخياط التي أولها:
خذِا من صبا نجد أمانا لقلبه فقد كاد ريّاها يطير بلبه
إلى أن قال:
وفي الركب مطوي الضلوع على جوى متى يدعه داعي الغرام يلبّه
وإن الفقير حط رأسه، وقال: لبيك، ومات رحمة الله عليه. قالوا وسمعه غير مرة الإمام قاضي القضاة: بدر الدين بن جماعة بالشبابة والدف، وشاهد فيه من بعض الصلحاء أحوالا عظيمة وحضره شيخ الشيوخ والعلماء: شمس الدين الأصبهاني الشارح المصنف الشهير مرات كثيرة، والشيخ النقوشاني، والشيخ: علاء الدين التركماني، والشيخ شهاب الدين الكركي.
ومن المغرب: حضره السلطان أبو الحسن: سلطان فاس المحروسة مع مشاهير من المفتين والمصنفين، فمنهم الإمام أبو زيد وأبو موسى، ولم يكن لهما نظير في عصرهما، وحضره الإمام حافظ المغرب: أبو عبد الله: محمد السطي، والإمام أبو عبد الله الأبلي أحد شيوخ الإمام ابن عرفة، ولقي هذا الإمام – في سياحته – الخضر وأخذ عنه الأسماء الحسنى، والإمام: القوري. والإمام أبو عبد الله بن عبد الرزاق الجزولي والإمام أبو الفضل المردعي، والإمام أبو عبد الله الصفار، والإمام أبو عبد الله بن الحفيد السلوي والإمام حافظ عصره ومحدث وقته: أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي، وهذا الإمام الحضرمي عبد المهيمن قال في حقه الأستاذ:ابن حيان:
ليس في المغرب عالم غير عبد المهيمن
نحن في العلم إسوة أنا منه وهو مني
بالتخفيف وهي لغة: والإمام أبو عبد الله الرندي، وإمام بجاية وحافظها أبو عبد الله بن المسفر والإمام أبو محمد بن الكاتب، وإمام عصره أبو عبد الله بن عبد السلام: شارح ابن الحاجب، والإمام أبو عبد الله ابن هارون: المصنف الشهير، والإمام أبو عبد الله محمد الأجمي: قاضي القضاة، وكانت تبدو منه العجائب من الأحوال وقت السماع. قال الشيخ: وممن رأيته يغيب وتبدو منه أحوال ومكاشفات وكرامات – في السماع – الشيخ محمد النحاس. بالقاهرة المحروسة: قلت: وسمعت من غير واحد عن الشيخ الإمام قاضي القضاة: شمس الدين البساطي رحمة الله عليه أنه كان يرقص في السماع بالدفوف والشبابة، وأخبرني من شاهده وهو معتنق مع ولي الله الكبير الشهير سيدي: علي بن وفا: رضي الله عنه يرقصان بالدف والشبابة، وهذا مشهور عنه. وعمل سماع بالشام أيام وفور الناس بها وحضره كل عالم ومفتي كان بها حتى قيل: لو وقع عليهم سقف لم يبق بها عالم ولا مفتي.
ومن له اتساع علم، وذوق ومشرب ورقة طبع أدرك معنى السماع، ومن حرم ذلك فهو حمار هالك، وما يعقلها إلا العالمون.
في الغناء المقارن للدف والشبابة
فقال أصحابنا المالكية: من السنة إعلان النكاح بالدف وحكاه شارح المقنع عن الحنابلة وأبو بكر العامري عن الشافعية. وذهبت طائفة إلى إباحته مطلقا وعليه جرى إمام الحرمين، والغزالي ، وحكى غير واحد من الشافعية وجهين في غير النكاح والختان، وصحح الرافعي الجواز، وكذا القاضي أبو بكر بن العربي من المالكية.
وأما الشبابة - وهي القصبة المثقبة: قال أصحاب الموسيقى: إنها آلة كاملة وافية بجميع النغمات - فاختلف العلماء فيها: فذهبت طائفة إلى التحريم وذهبت طائفة إلى الإباحة، وهو مذهب جماعة من الشافعية، واختاره الغزالي، والعامري، والرافعي - في الشرح الصغير - وقال: انه الأظهر، وقال - في الكبير - : إنه الأقرب، واختاره الإمام: عز الدين بن عبد السلام، والإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والإمام قاضي القضاة: ابن جماعة: وقال تاج الدين الشريسي: إنه مقتضى المذهب، وقال الرافعي: إن نبي الله داود عليه الصلاة والسلام كان يضرب بها في غنمه، قال: وروى عن الصحابة الترخيص في الراعى.
قالوا: والشبابة تجري الدمع، وترقق القلب، وتحث على السير، وتجمع البهائم إذا سرحت، ولم يزل أهل الصلاح والمعارف والعلم يحضرون السماع بالشبابة، وتجري على أيديهم الكرامات الظاهرة، وتحصل لهم الأحوال السنية، ومرتكب المحرم - لا سيما إذا أصر عليه - يفسق به وقد صرح إمام الحرمين، والمتولي وغيرهما من الأيمة بامتناع جريان الكرامة على يد الفاسق.
القسم الثالث
وهو سماع الغناء بالأوتار وسائر المزامير
أما العود - وهو معروف، ويقال إن أول من صنعه مالك بن آدم ابي البشر عليه السلام لما مات ولده، وقيل صنعه أهل الهند على طبائع الإنسان - فقد اختلف العلماء فيه وفيما جرى مجراه من الآلات المعروفة ذوات الأوتار، فالمشهور من مذاهب الأئمة الأربعة أن الضرب به وسماعه حرام وذهبت طائفة إلى جوازه، ونقل سماعه عن: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن جعفر، وعبد الله بن الزبير، ومعاوية بن أبي سفيان وعمر بن العاص، وغيرهم. ومن التابعين عن: خارجة بن زيد وعبد الرحمان بن حسان، وسعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والشعبي، وابن أبي عتيق، وأكثر فقهاء المدينة، ونقل عن مالك سماعه وليس ذلك بالمعروف عند أصحابه، وقال القاضي أبو بكر بن العربي المالكي - في كتابه شرح الترمذي الذي سماه بالعارضة لما تكلم على إباحة الغناء - : وإن زاد فيه أحد على ما كان في عهد النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عودا يصوت عليه نغمة فقد دخل في قوله: مزمار الشيطان في بيت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟! فقال: دعهما فإنه يوم عيد، وإن اتصل نقرطنبور به، فلا يؤثر أيضا في تحريمه، فإنها كلها آلات تتعلق بها قلوب الضعفاء وللنفس عليها استراحة وطرح لثقل الجد الذي لا تحمله كل نفس: ولا يتعلق به قلب، فإن تعلقت به نفس فقد سمح الشرع لها فيه العود يسمى طنبورا، وهو المعروف في اللغة. وحكى إباحته المارودي عن بعض الشافعية، ومال إليه الأستاذ: أبو منصور البغدادي، ونقل عن الشيخ أبي إسحاق الشيرازي أنه كان مذهبه ومشهورا عنه، وأنه لم ينقل عن أحد من العلماء أنه أنكره عليه، حكاه ابن طاهر المقدسي عنه، وكان قد عاصر الشيخ، وحكاه عن أهل المدينة، وادعى أنه لا خلاف بينهم فيه، وكان إبراهيم بن سعد: من علماء المدينة يقول بإباحته، ولا يحدث حديثا حتى يضرب به، ولما قدم بغداد واجتمع بالخليفة هارون قال له: حدثنا يا إبراهيم حديثا، ائتني بالعود يا أمير المؤمنين، قال: أتريد عود المجمر أم عود الغناء؟ قال: لا، عود الغناء، فأحضره له فضرب به وغناه ثم حدثه. وإبراهيم بن سعد أحد شيوخ الشافعي رضي الله عنه، وروى عنه البخاري، وهو إمام مجتهد مشهور، عدل بارز ثقة مأمون، ولما ضرب بالعود بين يدي هارون الرشيد قال له يا إبراهيم من قال بتحريم هذا من علمائكم؟ قال: من ربطه الله يا أمير المؤمنين. وذكر الإمام ابن عرفة - في مختصره الفقهي عن إبراهيم بن سعد - إباحة الغناء بالعود، ونقل الإمام المازري من أصحابنا المالكية عن عبد الله بن عبد الحكم أنه مكروه، وحكي عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه مباح، ثم اختلف الذين ذهبوا إلى تحريمه هل هو كبيرة أو صغيرة؟ والأصح - عند المتأخرين من الشافعية أنه صغيرة، وهو اختيار إمام الحرمين ولا ترد بسماعه شهادة وحكى المازري في شرح التلقين عن ابن عبد الحكم أنه قال: إذا كان في عرس أو صنيع فلا ترد به شهادة، قال الأستاذ: شرف الدين بن الفارض - رضي الله عنه:
ولاتك باللاهي عن اللهو معرضا ... فهزل الملاهي جّد نفس مجدة.
فصل في الرقص
وقد اختلف فيه الفقهاء: فذهبت طائفة إلى الكراهة، منهم: القفال حكاه الروباني في البحر، وقال الأستاذ: أبو منصور: تكلف الرقص على الإيقاع مكروه. وذهبت طائفة إلى اباحته، قال صاحب العهد من الشافعية: الغناء مباح أصله، وكذلك ضرب القضيب، والرقص، وما أشبه ذلك، وقال إمام الحرمين: الرقص ليس بمحرم، فإنه حركات على استقامة أو اعوجاج، ولكن كثيره يحرم المروءة، وكذلك قال مجلي والعماد السهروردي والرافعي، واحتج عليه الرافعي بما يقتضي إباحته، وجزم الغزالي بإباحته. وقال الحلبي في منهاجه: إذا لم يكن فيه تثن وتكسر فلا بأس به.
قال الإمام النووي – في المنهاج – : ويباح رقص ما لم يكن بتكسر وتثن كهيئة مخنث. والأمر فيه مختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأماكن، وذهبت طائفة إلى التفرقة بين أرباب الأحوال وغيرهم، فيجوز لأرباب الأحوال ويكره لغيرهم. وهذا القول هو المرتضى وعليه أكثر الفقهاء المسوغين لسماع الغناء وهو مذهب السادة الصوفية رضي الله عنهم أجمعين وبعض المتصوفة يفرق بين أن يشير به شيخ أم لا، فإن أشار به شيخ اعتمد. وإلا فلا.
واحتج من ذهب لإباحة الرقص بالسنة والقياس، أما السنة لما روته عائشة رضي الله عنها – في الصحيح – من رقص الحبشة في المسجد يوم عيد، وأن رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم دعاها فوضعت رأسها على منكبه، قالت: فجعلت أنظر إليهم حتى كنت أنا التي أنصرف عن النظر إليهم. وأن جعفرا وعليا وزيدا حجلوا لما قال لهم رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما قال من الثناء عليهم. فقال لعلي – رضي الله عنه – أنت مني بمنزلة هارون من موسى، وقال لجعفر: أشبهت خَلقي وخُلقي، وقال لزيد: أنت منا ومولانا.
والمشهور عن الإمام عز الدين بن عبد السلام أنه كان يرقص في السماع، ذكره غير واحد عنه في طبقات الشافعية كالأستوي والسبكي، وغيرهما من الأئمة الثقات، وذكر ذلك عنه الشيخ العارف تاج الدين بن عطاء الله في كتابه: لطائف المنن.
وأما القياس فهو مساواة فرع لأصل في علة حكمه، فيقاس على الأصل: فعل الحبشة، وفعل علي حين حجل هو ومن شاركه في فعله من الصحابة، فآفهم ذلك والله سبحانه أعلى وأعلم.
فصل في من حضر السماع
بالدف والشبابة من مشاهير العلماء المتأخرين من أهل المشرق ومن أهل المغرب.
فمن أهل المشرق: الشيخ عز الدين بن عبد السلام، حكاه عنه غير واحد من العلماء في كتبهم: ذكر ذلك الأدفوي في كتابه: الامتاع بأحكام السماع.
قال الشيخ الإمام ابن القماح: سئل الشيخ عز الدين عن الآلات كلها: فقال: مباح: فقال الشيخ شرف الدين التلمساني: يريد أنه لم يرد دليل صحيح من السنة على تحريمه، يخاطب بذلك أهل مصر فسمعه الشيخ عز الدين، قال: لا، أردت أن ذلك مباح.
وحضر السماع بالدف والشبابة الشيخ: تاج الدين الفزاري شيخ دمشق ومفتيها وحضره غير مرة. قال في كتابه الذي سماه: نور القبس: إنه كان في عصره شيخ مقعد فإذا غشيه الحال في السماع قام منتصبا زمانا طويلا كأصح الرجال.
وحضر السماع الإمام الحافظ الورع المجتهد: تقي الدين بن دقيق العيد غير مرة بالشبابة والدف. قالوا: ولما حضر بإسنا عمل لأجله سماع بالشبابة والدف، وكان المغني يغني والشيخ تقي الدين والشيخ بهاء الدين القفطي – تلميذ والد الشيخ – والفقهاء العدول حاضرون، والفقراء يرقصون في السماع. قال الأدفوي: فقيل للشيخ ابن دقيق العيد: ما تقول في هذا الأمر؟ قال: لم يرد حديث صحيح على منعه، ولا حديث صحيح على جوازه، وهذه مسالة اجتهاد: فمن اجتهد وأداه اجتهاده إلى التحريم قال به، ومن اجتهد وأداه اجتهاده إلى الجواز قال به، وأحضر أهل هذا السماع – الذي حضره الشيخ تقي الدين – الشيخ عليا الكردي نفعنا الله به، وحصل للجماعة حال وغيبة عظيمة، ثم حضرت الصلاة فتقدم بعض الجماعة للإمامة فقال الشيخ تقي الدين: حصل في نفسي شيء، فقلت: لو أنه توضأ؟ فلما فرغت الصلاة قال لي: الشيخ ما غاب غيبة يحصل بها نقض الوضوء. وكذلك لما حضر بأخميم، وحضر لحضور الشيخ جماعة أيمة، قال شهاب الدين بن عبد الظاهر: رأيت الشيخ تقي الدين وقد حصلت له غيبة وهو يتمشى ويقول: أرى السماع – لمثل هؤلاء – قربة. وسأل الشيخ شهاب الدين الدشناوي الشيخ تقي الدين – وهو يومئذ قاضى القضاة – : ما تقول في السماع ؟ فقال: هو مباح. قلت: بالشبابة والدف ؟! قال: إياه أعني. وقال الشيخ شمس الدين القماح: سمعت الشيخ تقي الدين يقول – في درس جامع ابن طولون – حضرت سماعا وفيه فقير وأن القوال غنى قصيدة ابن الخياط التي أولها:
خذِا من صبا نجد أمانا لقلبه فقد كاد ريّاها يطير بلبه
إلى أن قال:
وفي الركب مطوي الضلوع على جوى متى يدعه داعي الغرام يلبّه
وإن الفقير حط رأسه، وقال: لبيك، ومات رحمة الله عليه. قالوا وسمعه غير مرة الإمام قاضي القضاة: بدر الدين بن جماعة بالشبابة والدف، وشاهد فيه من بعض الصلحاء أحوالا عظيمة وحضره شيخ الشيوخ والعلماء: شمس الدين الأصبهاني الشارح المصنف الشهير مرات كثيرة، والشيخ النقوشاني، والشيخ: علاء الدين التركماني، والشيخ شهاب الدين الكركي.
ومن المغرب: حضره السلطان أبو الحسن: سلطان فاس المحروسة مع مشاهير من المفتين والمصنفين، فمنهم الإمام أبو زيد وأبو موسى، ولم يكن لهما نظير في عصرهما، وحضره الإمام حافظ المغرب: أبو عبد الله: محمد السطي، والإمام أبو عبد الله الأبلي أحد شيوخ الإمام ابن عرفة، ولقي هذا الإمام – في سياحته – الخضر وأخذ عنه الأسماء الحسنى، والإمام: القوري. والإمام أبو عبد الله بن عبد الرزاق الجزولي والإمام أبو الفضل المردعي، والإمام أبو عبد الله الصفار، والإمام أبو عبد الله بن الحفيد السلوي والإمام حافظ عصره ومحدث وقته: أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي، وهذا الإمام الحضرمي عبد المهيمن قال في حقه الأستاذ:ابن حيان:
ليس في المغرب عالم غير عبد المهيمن
نحن في العلم إسوة أنا منه وهو مني
بالتخفيف وهي لغة: والإمام أبو عبد الله الرندي، وإمام بجاية وحافظها أبو عبد الله بن المسفر والإمام أبو محمد بن الكاتب، وإمام عصره أبو عبد الله بن عبد السلام: شارح ابن الحاجب، والإمام أبو عبد الله ابن هارون: المصنف الشهير، والإمام أبو عبد الله محمد الأجمي: قاضي القضاة، وكانت تبدو منه العجائب من الأحوال وقت السماع. قال الشيخ: وممن رأيته يغيب وتبدو منه أحوال ومكاشفات وكرامات – في السماع – الشيخ محمد النحاس. بالقاهرة المحروسة: قلت: وسمعت من غير واحد عن الشيخ الإمام قاضي القضاة: شمس الدين البساطي رحمة الله عليه أنه كان يرقص في السماع بالدفوف والشبابة، وأخبرني من شاهده وهو معتنق مع ولي الله الكبير الشهير سيدي: علي بن وفا: رضي الله عنه يرقصان بالدف والشبابة، وهذا مشهور عنه. وعمل سماع بالشام أيام وفور الناس بها وحضره كل عالم ومفتي كان بها حتى قيل: لو وقع عليهم سقف لم يبق بها عالم ولا مفتي.
ومن له اتساع علم، وذوق ومشرب ورقة طبع أدرك معنى السماع، ومن حرم ذلك فهو حمار هالك، وما يعقلها إلا العالمون.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin