حياة ابن مسرة:
محمد بن عبد االله بن نجيح، كنيته أبو عبد االله القرطبي (1) ، يجمع أغلب من ترجم له على مولده في السابع من شعبان سنة 269هـ (2) ، الموافق لـ882م على عهد الأمير الأموي محمـد (238-273هـ/852-886م).
ينتسب إلى أسرة متواضعة النسب مـن المـوالي، اشـتهرت بنشاطها في المجال التجاري، إضافة إلى نشاطها العلمي (3)، فوالده حسب بالنثيا ورغم كونه من أهل البيع والشراء، إلا أنه كان يهوى آراء المعتزلة، فهو الذي علم ابنه محمـدا علـوم الـدين والفلسفة (4). وبهذا يكون والده عبد االله من أوائل المشايخ الذين تلقى ابن مسرة العلم على أيديهم.
كما نجد ضمن قائمة مشايخه كلا من محمد بن وضاح (ت287هـ) ومحمد بن بد السلام الخشني (ت286هـ)، وكلاهما من مدرسة الحديث(5) ، ومما يلاحظ هنا أن المصادر لم تـذكر أسماء الشخصيات الأخرى التي ساهمت في تكوين ابن مسرة خاصة تكوينه الفلسفي .
إلا أن الشيء الأكيد هنا انه اعتمد في تكوينه الفلسفي على مجهوده الفردي، حيث استفاد أولا من الكتب التي خلفها والده في مكتبته، يضاف على ذلك استفادته من الكتب الفلسفية التـي كانت منتشرة بالأندلس وقتئذ، من مثل أخبار الفلاسفة المنسوب لفورفوريوس ومؤلفات أرسطو التي تضمنت آراء الفلاسفة المتقدمين على سقراط، كآراء أمبذوقليس ، بمعنى أنه استفاد نوعا ما من الجو العلمي السائد في الأندلس آنذاك .
بعد ذلك انتقل ابن مسرة إلى مرحلة التعليم ونشر آرائه، فاعتزل في جبال قرطبـة – جبل العروس- مع بعض الطلبة والمريدين، وأخذ يلقنهم مبادئه الجديدة، متبعا فـي كـل هـذا السرية التامة، وذلك تفاديا لرد فعل فقهاء المالكية الذين كانت لهم سلطة كبيرة علـى العامـة، وكذلك نظرا للأحوال السياسية المضطربة خاصة ثورة عمر بن حفصون . ويبدو أن ابـن مسرة لم يعتمد في إيصال تعاليمه إلى طلبته ومريديه على طريقة الحوار والنقاش، وإنما اتبـع منهجا يعتمد وبدرجة كبيرة على سحر بيانه وقوة تعبيره وبلاغته المحكمة، حيـث يقـول ابـن الفرضي: «وكان له لسان يصل به إلى تأليف الكلام وتمويه الألفاظ وإخفاء المعاني» . كما بين ابن خاقان مدى براعته في البلاغة بقوله: «كان له تنميق في البلاغة وتـدقيق لمعانيها وتزويق لأغراضها وتشييد لمبانيها» . إضافة إلى ذلك نجد ابن حزم عده في رسـالته في فضل الأندلس التي نقلها لنا المقري ضمن البلغاء الذين أنجبتهم الأندلس بقوله: «ولنـا مـن البلغاء أحمد بن عبد الملك بن شهيد، ومحمد بن عبد االله بن مسرة» . تجمع ابن مسرة لم يدم طويلا، فابن الفرضي يقول: «إنه اتهم بالزندقة فخرج فارا إلـى . وكان هذا من قبل الفقهاء المالكية، وعلى رأسهم: أحمد بن خالد الملقب بالحباب (6) ، والذي ألف صحيفة في الرد على ابن مسرة ضمنها نقده لآرائه وأفكاره. كما اصدر الفقيه الكاتب عبد االله بن محمد الزجالي (ت301هـ-914م) مرسوم عقوبة ضد ابن مسرة الذي اعتبره مارقا . وأمام هذا الوضع وجد ابن مسرة في الرحلة إلى المشرق الحل الوحيد للخروج من بوتقة الزندقة والإلحاد التي اتهم بها، وبخروجه من الأندلس ينتهي الطور الأول من حيـاة ابن مسرة، طور أظهر فيه علامات الفكر المغاير لما كان اعتقـاد النـاس مبنيـا عليـه فـي الأندلس .
وقد عرف من بين تلامذته في هذه الفترة: محمد بن وهب القرطبي(7) ، ومحمد بن حزم(8)(التنوخي ، وأحمد بن غانم القرطبي (9).
وفي أثناء رحلته إلى المشرق، مر بالقيروان ولبث هناك مدة ، والتقى بالفقيـه جعفـر أحمد بن نصر، ويبدو أن المقام لم يطب له في القيروان بسبب الجو العلمي السائد آنذاك، والذي لم يره مشجعا له، وذلك نظرا لغلبة المذهب الشيعي سياسيا وفكريا ومزاحمته لبقيـة المـذاهب على الأخص المذهب المالكي، اتجه بعدها إلى مكة وأدى فريضة الحج، كما دخل المدينة وزار موطن النبي صلى الله عليه وسلم بها . وهناك بالمشرق، أتيحت له فرصة التردد على المتصوفة، وتعميق معرفته بمذهبـه ، وكان منهم أبو سعيد بن الأنصاري الذي لم يكن راضيا البتة عن أفكار ابن مسرة، وألف كتابـا في الرد عليها ونقدها . كما اتصل بأهل الجدل وأصحاب الكلام والمعتزلة بالعراق خاصـة المراكـز التـي انتعشت فيها الحركة الاعتزالية ، حيث استفاد كثيرا في صقل موهبته من ذلك الجو العلمي. بعد هذه الجولة في بلاد المشرق، قرر ابن مسرة العودة إلى بلاده، خاصة لما وصـلته أنباء هدوء البلاد بعدما تولى أمرها عبد الرحمن الثالث، وبقرار عودته إلى الأندلس دخل طور حياته الثالث والأخير. وما إن وطأت قدماه أرض الأندلس حتى عاد إلى ممارسة عمله القديم ونشـر مذهبـه معتمدا على السرية التامة، مستفيدا هذه المرة من اتصاله بالحلقات الباطنية في المشـرق ، أي أنه أخفى آراءه وأفكاره الحقيقية تحت ستار من النسك والورع . والأدهى من ذلك أنـه لـم يتوقف عند هذا الحد، بل اتبع طريقة مبسطة من أجل التقرب من العامـة، بهـدف اسـتمالتهم وكسب ودهم، بينما نلحظ أنه قد خص تلاميذه المقربين منه بجليل المذهب ودقيقه ، وهذا خوفا من السلطة التي كانت ترقب تصرفاته بعين يقظة خاصة الفقهاء المالكية المرتابين مـن أمـره، ولذلك نجده يتقوقع مع جماعته في مكان منعزل، غير معـروف تفاصـيله، ونتيجـة للعمـل المتواصل يصيبه الإرهاق فيتوفى من جراء ذلك ، وكان هذا سنة 319هـ-931م، وهو ابن خمسين سنة .
مؤلفات ابن مسرة
رغم عزلة ابن مسرة وتلاميذه في جبال قرطبة واشتباه السلطة بهم، إلا أن هذا لم يمنعه من التأليف للتعريف بمذهبه وشرح أصوله إلى تلاميذه، وعلى الأرجح إن مؤلفاته الثلاثة: كتاب الاعتبار الذي يسميه البعض بكتاب التبصرة، كتاب الحروف، وهي رسالة في خواص الحروف وحقائقها وأصولها ، كتاب توحيد الموقنين الذي ذكره ابن المرأة . ويبدو أن الناس قد اختلفوا في تصنيف درجته العلمية، فهناك من عده إماما بالغ العلـم والزهد، بينما البعض الآخر يرون فيه صورة مبتدع، مارق، ولـذلك لخروجـه عـن العلـوم المعلومة بأرض الأندلس .
** ** **
1)ابن الفرضي: المصدر السابق، 41 .الضبي: المصدر السابق، 16 .عمر رضا كحالة: معجم المؤلفين، ط1 ،مؤسسة الرسالة، بيروت، 1414هـ-1993م، 9/459
2) ابن الفرضي: المصدر السابق، 42 ،ابن خاقان أبو نصر الفتح بن محمد (ت569هـ-1135م): مطمح الأنفـس ومسرح التأنس في ملح أهل الأندلس، تح: محمد علي شوايكة، ط1 ،مؤسسة الرسالة، بيروت، 1403هـ- 1983م، 286 .
3) -محمد ألوزاد: الملامح العامة لشخصية ابن مسرة وآرائه، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ع6 ،فاس، 1982- .
4) أنخل جنتالث بانثيا: تاريخ الفكر الأندلسي، تر: حسين مؤنس، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، دت، 326 .
5) ) -ابن الفرضي: المصدر السابق، 41 .القفطي: جمال الدين أبو الحسن (ت646هـ- 1248م): تاريخ الحكماء وهو مختصر مختصر الزوزني المسمى بالمنتخبات الملتقطات من كتاب أخبار العلماء بأخبار الحكماء، مكتبة المثنى، بغداد، دت، 16.
6) أحمد بن خالد بن يزيد، من أهل قرطبة، ولد سنة 246هـ، سمع من ابن وضاح والخشني ورحلة، دخـل صنعاء وعاد إلى الأندلس، كان إمام عصره في الفقه والحديث والعبادة، توفي 320هـ.
7) محمد بن وهب القرطبي: من أهل قرطبة، يعرف بابن السيقل، صحب محمد بن مسرة، رافقه في طريق الحج، كان كان خيرا فاضلا، توفي 321هـ. انظر ابن الأبار أبو عبد االله محمد (ت658هـ-1260م): التكملة لكتاب الصلة، تح: عزت العطار الحسيني، مكتبة الخانجي، القاهرة، دت، 1/362 .
8) محمد بن حزم التنوخي: من أهل طليطلة، سكن قرطبة، يعرف بابن المديني، سحب محمد بن مسـرة، واخـتص (7( بمرافقته في طريق الحج، كان من أهل الورع والانقباض. انظر: ابن الأبار، المصدر نفسه، 1/365 .
9)) أحمد بن غانم : قرطبي يعرف بالمديني، رحل مرافقا ابن مسرة في وجهته إلى الحج سنة 311هـ. كان فقيها ورعا ناسكا انظر: ابن عبد الملك (ت703هـ-1303م).
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin