"فضلُ الاستعفافِ والغِنَى باللهِ"
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ: «مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» متفق عليه.
وسبب الرواية ما رواه أبو داود الطَّيالسي في "مسنده" (1/ 293) قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَمْزَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ هِلَالَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه فِي دَارِهِ، فَضَمَّنِي وَإِيَّاهُ الْمَجْلِسُ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ، قَالَ: أَصَابَنِي جُوعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ حَتَّى شَدَدْتُ عَلَى بَطْنِي حَجَرًا، فَقَالَتْ لِي امْرَأَتِي: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ فَسَأَلْتَهُ، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، فَقُلْتُ: لَا أَسْأَلُهُ حَتَّى لَا أَجِدَ شَيْئًا، فَالْتَمَسْتُ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَوَافَقْتُهُ يَخْطُبُ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ سَأَلَنَا فَإِمَّا أَنَّ نَبْذُلَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ نُوَاسِيَهُ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنَّا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ سَأَلَنَا» فَرَجَعْتُ فَمَا سَأَلْتُ أَحَدًا بَعْدَهُ شَيْئًا، فَجَاءَتِ الدُّنْيَا، فَمَا أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَكْثَرَ أَمْوَالًا مِنَّا.
يتعرض الحديث لفضل كلٍّ من الاستعفاف والغِنَى بالله، وقبل التَّعرض للفضل لابد من تحديدِ معنى كلٍّ منهما، فما هو الاستعفافُ؟ وما هو الاستغناءُ بالله؟
ويكاد يُجمع المفسِّرون والشَّارحون على أنَّ الاستعفافَ هو الامتناع عن سؤال النَّاس، ومن ثم كان الجزاءُ من جنسِ العمل فيُجازَى على استعفافه بصيانة وجهه ودفع فاقته، يقول ابن الجوزي: [لما كان التعفف يقتضي ستر الحال عن الخلق وإظهار الغنى عنهم فيكون صاحبه معاملًا لله في الباطِنِ فيقع له الرِّبح على قدر الصدق في ذلك] اهـ.
أما الاستغناء بالله فهو درجة أعلى؛ حيث إنه يظهر منه الغنى بالله فيصبر على المنع، وإذا أعطي لم يقبل.
وفي هذه الحالة أيضًا يكون الجزاء من جنس العمل، فإما أن يغنيه الله من عنده فيعطيه ما يستغني به عن السؤال.
وإما أن يخلق في قلبه الغنى؛ فإنَّ الغنى غنى النفس.
وأما من لم يستطع كل ذلك فعليه بالصبر، فإن لم يستطع فليتصبر؛ فيعالج نفسه على ترك السؤال، ويصبر إلى أن يحصل له الرزق.
وعندئذ يكون أيضًا الجزاء من جنس العمل؛ فيقويه الله سبحانه وتعالى، ويمكِّنه من نفسه حتى تنقاد له، ويذعن لتحمل الشِّدة، وعند ذلك يكون الله معه فيظفره بمطلوبه، بفضل منه سبحانه وتعالى.
والصبر هو الأساس في الاستعفاف والغِنى بالله، فمن أعطي الصبر تمكن من تحقيق العفاف والغنى، فما أعطي إنسان عطاءً خيرًا من الصبر، فالصبر هو الأصل لمكارم الأخلاق، وهو الجامع لمكارم الأخلاق.
بل إنَّ الصبر من الأخلاق المهمة التي يجب على المسلم أن يتحلَّى بها، وأن يُدَرِّبَ نفسه عليها، مع ما في ذلك من جهد ومجاهدة؛ فلقد عرَّف بعض العلماء الصبر في أحد تعريفاته بـ: "تجرع المرارة مع السكون".
وحياة المؤمن كلها محورها الصبر، فهو يصبر على طاعة الله تعالى، ويصبر أيضًا عن معصيته، كما يصبر على ما يصيبه من ضرَّاء في الحياة الدنيا تبعًا لأقدار الله بحلوها ومرها، لا يجزع ولا ييأس من رحمة الله، ولا يغترَّ بما فيه من نِعم؛ فيزلَّ خائبًا يخسر دنياه وآخرته.
المصادر:
- "المُفهِم في شرح صحيح مسلم" للإمام القرطبي.
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر.
- "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي.
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه، أَنَّ نَاسًا مِنَ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ، فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا عِنْدَهُ قَالَ: «مَا يَكُنْ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْرِ» متفق عليه.
وسبب الرواية ما رواه أبو داود الطَّيالسي في "مسنده" (1/ 293) قال: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو حَمْزَةَ رضي الله عنه، قَالَ: سَمِعْتُ هِلَالَ بْنَ حُصَيْنٍ رضي الله عنه، يَقُولُ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلْتُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ رضي الله عنه فِي دَارِهِ، فَضَمَّنِي وَإِيَّاهُ الْمَجْلِسُ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ، قَالَ: أَصَابَنِي جُوعٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ حَتَّى شَدَدْتُ عَلَى بَطْنِي حَجَرًا، فَقَالَتْ لِي امْرَأَتِي: لَوْ أَتَيْتَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآله وسَلَّمَ فَسَأَلْتَهُ، فَقَدْ أَتَاهُ فُلَانٌ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، وَأَتَاهُ فُلَانٌ فَسَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ، فَقُلْتُ: لَا أَسْأَلُهُ حَتَّى لَا أَجِدَ شَيْئًا، فَالْتَمَسْتُ فَلَمْ أَجِدْ شَيْئًا، فَانْطَلَقْتُ إِلَيْهِ فَوَافَقْتُهُ يَخْطُبُ، فَأَدْرَكْتُ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ يَسْتَعِفَّ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ سَأَلَنَا فَإِمَّا أَنَّ نَبْذُلَ لَهُ، وَإِمَّا أَنْ نُوَاسِيَهُ، وَمَنِ اسْتَغْنَى عَنَّا أَحَبُّ إِلَيْنَا مِمَّنْ سَأَلَنَا» فَرَجَعْتُ فَمَا سَأَلْتُ أَحَدًا بَعْدَهُ شَيْئًا، فَجَاءَتِ الدُّنْيَا، فَمَا أَهْلُ بَيْتٍ مِنَ الْأَنْصَارِ أَكْثَرَ أَمْوَالًا مِنَّا.
يتعرض الحديث لفضل كلٍّ من الاستعفاف والغِنَى بالله، وقبل التَّعرض للفضل لابد من تحديدِ معنى كلٍّ منهما، فما هو الاستعفافُ؟ وما هو الاستغناءُ بالله؟
ويكاد يُجمع المفسِّرون والشَّارحون على أنَّ الاستعفافَ هو الامتناع عن سؤال النَّاس، ومن ثم كان الجزاءُ من جنسِ العمل فيُجازَى على استعفافه بصيانة وجهه ودفع فاقته، يقول ابن الجوزي: [لما كان التعفف يقتضي ستر الحال عن الخلق وإظهار الغنى عنهم فيكون صاحبه معاملًا لله في الباطِنِ فيقع له الرِّبح على قدر الصدق في ذلك] اهـ.
أما الاستغناء بالله فهو درجة أعلى؛ حيث إنه يظهر منه الغنى بالله فيصبر على المنع، وإذا أعطي لم يقبل.
وفي هذه الحالة أيضًا يكون الجزاء من جنس العمل، فإما أن يغنيه الله من عنده فيعطيه ما يستغني به عن السؤال.
وإما أن يخلق في قلبه الغنى؛ فإنَّ الغنى غنى النفس.
وأما من لم يستطع كل ذلك فعليه بالصبر، فإن لم يستطع فليتصبر؛ فيعالج نفسه على ترك السؤال، ويصبر إلى أن يحصل له الرزق.
وعندئذ يكون أيضًا الجزاء من جنس العمل؛ فيقويه الله سبحانه وتعالى، ويمكِّنه من نفسه حتى تنقاد له، ويذعن لتحمل الشِّدة، وعند ذلك يكون الله معه فيظفره بمطلوبه، بفضل منه سبحانه وتعالى.
والصبر هو الأساس في الاستعفاف والغِنى بالله، فمن أعطي الصبر تمكن من تحقيق العفاف والغنى، فما أعطي إنسان عطاءً خيرًا من الصبر، فالصبر هو الأصل لمكارم الأخلاق، وهو الجامع لمكارم الأخلاق.
بل إنَّ الصبر من الأخلاق المهمة التي يجب على المسلم أن يتحلَّى بها، وأن يُدَرِّبَ نفسه عليها، مع ما في ذلك من جهد ومجاهدة؛ فلقد عرَّف بعض العلماء الصبر في أحد تعريفاته بـ: "تجرع المرارة مع السكون".
وحياة المؤمن كلها محورها الصبر، فهو يصبر على طاعة الله تعالى، ويصبر أيضًا عن معصيته، كما يصبر على ما يصيبه من ضرَّاء في الحياة الدنيا تبعًا لأقدار الله بحلوها ومرها، لا يجزع ولا ييأس من رحمة الله، ولا يغترَّ بما فيه من نِعم؛ فيزلَّ خائبًا يخسر دنياه وآخرته.
المصادر:
- "المُفهِم في شرح صحيح مسلم" للإمام القرطبي.
- "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر.
- "شرح صحيح مسلم" للإمام النووي.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin