الطريقة : العبادة غير المحدودة والعزيمة لا الرخصة
من المناحي الأخرى التي يمكن إتباعها لتفهم المزيد عن الطريقة دراسة طبيعة العلاقة بين ما تمثله العبادات في كل من الطريقة والشريعة . من المعروف أن فروض الشريعة هي عبادات محدد نوعا وكما ووقتا . فهناك مثلا الصلاة اليومية في أوقاتها الخمسة وصيام شهر رمضان . ألا ان هذه العبادات التي انزلها الله عز و جل ليس المقصود بها أن تمثل كل ما يجب أن يقوم به الإنسان من واجبات تعبدية تجاه ربه . أي أن كونها ذات خصوصية محددة بأنها (فروض) لا يعني بأنها تشمل (كل)واجبات الإنسان التعبدية . وهذا الأمر يبدو واضحا تماما من دراسة حياة الرسول الذي كان مستمراً على إقامة الكثير من العبادات الإضافية التي تعرف بالنوافل إضافة إلى فروض الشريعة ، بل أن نوافله كانت أكثر بكثير من فروض الشريعة التي كان يواظب على تأديتها . قال الله عز و جل أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً.وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّـكَ مَقَامـاً مَّحْمُـوداً(1) . فمن هذه النوافل (أو السنن) صلوات كان يقيمها الرسول قبل أو بعد الفرض مثلا سنة صلاة العشاء وهي عبارة عن ركعتين قبل الفرض واثنتين بعدها . كما كان للرسول أدعية وأذكار خاصة وغير ذالك من العبادات النفلية . بل انه كان يقوم في عبادة ربه حتى تتورم قدماه الشريفتان رغم أن ربه عز و جل تفضل عليه كما لم يتفضل على احد من العالمين :وَكَانَ فَضْـلُ اللّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمـاً(2). ولما سُئل عن سبب تعبده بهذا الشكل مع فضل الله عليه أجاب : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ (3).
تشكل فروض الشريعة الحد الأدنى من العبادات التي يجب على المسلم أن يقيمها ، في الفارق بين المسلم وغير المسلم ، لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف الصلاة عماد الدين فمن تركها هدم الدين . ألا أن عبادات الشريعة المحدودة ليست كافية لتطبيق الأمر الإلهي الذي تتضمنه الآية الكريمة :وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ولذلك فان أقامة النوافل من العبادات هي الطريق نحو جعل الإنسان لحياته بأكملها حياة عبادة خالصة . ولما كانت الطريقة هي أفعال الرسول وفروض الطريقة هي جزء محدد من أفعال الرسول التعبدية ، يصبح واضحاً اذاً بان فروض الشريعة هي جزء من الطريقة التي هي مجمل الأفعال التعبدية غير المحدودة للوصول إلى الله سبحانه وتعالى . وفي تفسير العلاقة بين الشريعة والطريقة يقول الشيخ محمد الكسنزان : (الشريعة أطار الطريقة ، والطريقة نواة الشريعة ، فلا طريقة بدون شريعة ولا شريعة بدون طريقة) (4) . إذا فالشريعة تحيط بالطريقة كإطار بحيث لا يمكن أن يكون المرء عاملا بالطريقة ما لم يكن ملتزما بالشريعة . كما أن تشبيه الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره للشريعة بالإطار مقارنة بالنواة التي هي الطريقة يبين بان الشريعة ليست الهدف النهائي وإنما هي فقط الانطلاق ، أي البداية التي يجب أن لا يتوقف عندها الإنسان وإنما ينطلق منها فقط . فهي بداية الطريق الأطول والأصعب والذي تمثله الطريقة بالعبادات النفليّة . لذلك فان كل من يصبح مريدا من مريدي الطريقة الكسنـزانية يتوجب عليه التزام بفروض الشريعة ، كالصلاة اليومية ، قبل المباشرة بعبادات الطريقة من أذكار وغيرها .
تبيّن حقيقة العلاقة بين الطريقة والشريعة الخطأ الكبير الذي وقع فيه كل من زعم بان الطريقة والشريعة هما نهجان مختلفان . فقد ظهر على مر التاريخ افراد وجماعات ادعوا بان نهج الطريقة هو طريق للوصول إلى معرفة الله سبحانه وتعالى من غير الحاجة للالتزام بإقامة فروض الشريعة ، وأرادوا بذلك أن يجعلوا هنالك فرقا بين الدين بعبادته التقليدية والطريقة . وفي عالم اليوم هنالك إشكال مختلفة لمثل هذه الدعوات تتبناها على وجه الخصوص بعض الحركات الصوفية في الغرب التي نسبت نفسها من غير وجه حق إلى الطريقة . كما ظهر من يدعي بأن سلوك نهج الطريقة يمكن أن يصل بالإنسان إلى مرحلة من المعرفة بربه سبحانه وتعالى تسقط عندها فروض الشريعة عنه . الا أن مشايخ الطريقة كانوا على مر الزمان يؤكدون بالقول والفعل بان هذه الدعوات هي انحراف تام عن المعنى الحقيقي للطريقة .
فعندما سمع الشيخ الجنيد البغدادي قدس الله سره رجلا يدّعي بأن (اهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات [يقصد العبادات] من باب البر والتقرب إلى الله عز و جل )استنكر قوله وقال رداً عليه (أن هذا قول قوما تكلموا بإسقاط الاعمال وهو عندي عظيمة [أي من الذنوب العظيمة] ، والذي يسرق يزني أحسن حالا من الذي يقول هذا ، فان العارفين بالله تعالى اخذوا الاعمال عن الله تعالى واليه راجعون فيها ولو بقيت الف عام لم أُنقِصَ من اعمال البر ذرة الا أن يحال بي دونها) (5) . فأصحاب الطريقة ما فارقوا النهج الذي اختطه الرسول . قال أبو عثمان : (خلاف السنة يا بني في الظاهر علامة رياء في الباطن) (6) .
هنالك وجه اخر للنظر إلى العلاقة بين الشريعة والطريقة انطلاقا من الحديث النبوي الشريف الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي) . فكون الشريعة هي أقوال الرسول والطريقة أفعاله فان الشريعة إذاً هي تفسير الطريقة ، وبهذا فان الأفعال التي لا تشهد لها الشريعة بالحق هي ليست من أفعال الطريقة ، أي ليست من أفعال الرسول ، وهذا هو باب آخر في تفسير قول الشيخ محمد الكسنزان قدس الله سره : (الشريعة اطار الطريقة) . يقول الشيخ عبد الكريم الكسنـزان قدس الله سره : (إذا تخالفت اعمال وأفعال وأقوال المريد مع أي حكم من إحكام الشريعة والقران فهو خارج عن طريقتنا) (7) . أي أن العلاقة بين الشريعة والطريقة هي علاقة تكاملية . يقول الشيخ ابن عطاء الله السكندري : (من استرسل من اطلاق التوحيد ورأى أن الملك لله وان لا ملك لغيره معه ولم يتقيد بظواهر الشريعة فقد قذف به في بحر الزندقة وعاد حاله بالوبال عليه ، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيدا وبالشريعة مقيدا ….. الانطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل) ( .
في إشارة إلى إن أصحاب الطريقة اختاروا سلوك الطريق الأشق والأصعب من العبادات على التوقف عند حدودها الدنيا المتمثلة في فروض الشريعة (وصف مشايخ الطريقة سلوك طريق النوافل اللامحدودة من العبادات بما يسمى في مصطلحات الطريقة بـ (العزم) مقارنة بالوقوف عند فروض الشريعة الذي يعرف بـ (الرخصة) . فكان الرسول ) لذلك صاحب اكبر عزم بين الخلق . يقول الشيخ عمر السهروردي : (الرخصة الوقوف على حد قوله [قول ] والعزيمة التأسي [اتخاذه أسوة] بفعله ) (9) ، وهذا القول يناظر الحديث النبوي الشريف : الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي . يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره : (عليكم بحفظ الصوم والصلوات الخمس في أوقاتها ، وحفظ حدود الشرع جميعها . إذا أديتم الفرض فانتقلوا إلى نفل . عليكم بالعزيمة والأعراض عن الرخصة) (10). يروي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره الحادثة التالية التي توضح الكثير عن الفرق بين من اخذ بعزم الطريقة ومن ترك نفسه مع رخصة الشريعة : (مررت يوما على قرية وحولها ذرة مزروعة ، فمددت يدي واخذت قصبة من قصب الذرة حتى أمصها ، وإذ قد جاءني رجلان من اهل القرية مع كل واحد منهما عصا ، فضرباني حتى وقعت على الأرض فعاهدت الله عز و جل في تلك الساعة اني لا أعود إلى ترخيص فيما لا يخصني ، لان الشرع أباح للمحتاج على الزرع والثمر أن يأكل منها قدر الحاجة ، ولا يأخذ منها شيئا ، فهذه رخصة عامة ، ولكني لم اترك مع هذه الرخصة ، وتوليت بالعزيمة طريق الورع ، كل من يكثر ذكر الموت يكثر ورعه ، وتقل رخصته ، وتكثر عزيمته) (11) .
في الأخذ بالرخصة خطر كبير يهدد استمرارية وثبات الإنسان على الصراط المستقيم فقد قال الرسول : من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، لذلك حذر أصحاب الطريقة من ترك العزم والأخذ بالرخصة يقول الشيخ عبد القادر قدس الله سره : (من لزم الرخصة وترك العزيمة خيف عليه من هلاك دينه ، العزيمة للرجال لأنها ركوب الأخطار والأشق الأدق . الرخصة للصبيان والنسوان لأنها الأسهل) (12) . وقال النفري : (من أنواع سوء آداب المريد المفضي على عطبه نزوله عن مقتضيات الحقيق) (13) الى رخص الشريعة ، فقد عدوا هذا من الجنايات العظيمة الموجبة لانحطاط الرتبة والبعد عن محل القرب ولهذا قالوا إذا رأيت المريد انحط عن رتبة الحقيقة إلى رخص الشريعة فاعلم انه قد نقض عهده مع الله وفسخ عقده بينه وبين الله . اما يوسف بن الحسين فقال : (إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص فاعلم انه لا يجيء منه شيء ) . وقال أبو اسحق ابرهيم بن شيبان : من أراد أن يتعطل ويتبطل فليلزم الرخص يعني بالرخصة (14).
أن الأخذ بالعزم لا يكون في العبادات المعروفة مثل الصلاة فحسب ، ولكن في كل تصرفات وسلوك الإنسان . فالزهد عند اهل العزم ليس زاهدا في المحرمات فقط ولكنه أكثر من ذلك بكثير ، فهو كما يصفه الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره (الترك للمحرمات ، ثم ترك الشبهات [أي ما لا يستطيع الإنسان أن يكون متأكدا من انه مما قد حلل أو حرم] ، ثم ترك المباحات ، ثم ترك الحلال المطلق في جميع الحالات حتى لا يبقى متروك في الجملة)(15). وكمثال على اختلاف زهد اهل الطريق عن اهل الرخصة يمكن الاستشهاد بقول الشيخ عبد القادر الكيلاني حول الزهد في الطعام (احبس نفسك عن أكل الحرام وأطعمها الحلال الطاهر حتى يزول لحمها الذي تربى على الحرام . وجنبها اكل الحرام ثم جنبها الحلال)(16) .
أن زهد اهل العزم لا يكون في الطعام فقط أو في جوانب معينة من جوانب الحياة دون غيرها ، وإنما وهو سلوك يطول جميع تصرفاتهم وكل دقائق حياتهم . لما سأل رويم الشيخ جنيد البغدادي عن الزهد أجابه بأنه (استصغار الدنيا ومحو أثارها من القلب)(17). ويبين الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره بان الزهد في الدنيا هو الابتعاد عن المحرمات والشبهات والزهد في الحلال من الطعام والملبس والمسكن والمال والزواج وكل ما يمكن ان تطمع فيه النفس ويكون فيه شاغل عن الله سبحانه وتعالى (18). وينصح الشيخ عبد القادر الكيلاني المريد بالزهد في الطعام قائلا عن النفس : (هي عبد سوء لا تعمل الاشغال الا بالعصا . لا تشبعها الا إذا علمت أن الشبع لا يطغيها وأنها تعمل في مقابل شبعها)(19). وعلى نفس القياس يـجب على المريد ان لا يأخذ من الحظوظ من حلال الدنيا ألا ما علم أن ما تناول ما كان لينقلب ضده .
ان حقيقة الزهد عند أصحاب الطريقة يتجاوز حدود الزهد في الدنيا ليكون زهدا في كل شيء غير الله عز و جل . لما سئل الشيخ أبو بكر الشبلي عن حقيقة زهد اهل الطريقة قـال : (أن تزهـد في ما سوى الله تعـالى) (20). بل أن زهد مشايخ الطريقة هو زهد حتى في الجنة نفسها ، وهذا أمر وان أمكن تصوره فان من غير الممكن فهمه من قبل من لم يكن من اهله . فالزهد لا يطلب سوى الله سـبحانه وتعالى ولا يريد ثمنا لعبادته سوى القرب منه ، يقول الشيخ عبد القادر الكيلانيقدس الله سره في هذا الخصوص : (حقيقة الزهد ترك الدنيا وترك الآخرة ، ترك الشهوات والذات ، ترك الوجود ، ترك طلب الحالات والدرجات والكرامات والمقامات ، ترك كل شيء سوى رب البريات ، حتى لا يبقى الا الخالق عز و جل ، إليه المنتهى ، وهو غاية الآمال ، اليه تصير الامور)(21) . ويقول الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره في نصحه للمريد ان يجعل حب الله عز و جل هو هدفه النهائي : (ابذل كلك ودع شهوتك ولذاتك ، وافن فيه عز و جل عنك ، ودع الجنة وما فيها واتركها ، ودع النفس و الهوى والطبع ، ودع الشهوات الدنيوية والأخروية ، ودع الكل واتركه وراء ظهرك) (22) . ويخاطب الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه الله عز و جل فيقول : (عبدك لا خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ، بل وجدتك الهاً تستحق العبادة فعبدتك)(23) .
الهوامش :
(1) الإسراء : 78 – 79 .
(2) النساء : 113.
(3) ابن سعد – ص 103.
(4)كل اقتباس من الشيخ محمد الكسنزان بدون ذكر المصدر قد تم اقتباسه باذن كريم من
الشيخ محمد الكسنزان من محاضرات الارشاد التي يلقيها .
(5) القشيري- ص 20.
(6) القشيري- ص 21.
(7) الكسنزان – ص 176.
( السكندري – أ 55 .
(9) السهروردي – ص 378.
(10) الكيلاني – ص 15.
(11) الكيلاني – ص 25 – 26.
(12) الكيلاني – ص 15 .
(13) يشار الى الطريقة ايضا بمصطلح الحقيقة اشارة الى انها مبنية على ما يعرف في
مصطلحات الطريقة بـ الحقيقة المحمدية والتي يبحثها ببعض التفصيل الفصل الرابع من الكتاب .
(14) النفري – ص 52 .
(15) الكيلاني – ص 37.
(16) الكيلاني – ص 38 .
(17) القشيري – ص 61.
(18) الكسنزان- ص 144- 146.
(19) الكيلاني – ص39.
(20) القشيري – ص61.
(21) الكيلاني – ص 24.
(22) الكيلاني – ص 50.
(23) تامر – ص 7 .
المصدر : الطريق الى الطريقة – ص 15 – 22 .
من المناحي الأخرى التي يمكن إتباعها لتفهم المزيد عن الطريقة دراسة طبيعة العلاقة بين ما تمثله العبادات في كل من الطريقة والشريعة . من المعروف أن فروض الشريعة هي عبادات محدد نوعا وكما ووقتا . فهناك مثلا الصلاة اليومية في أوقاتها الخمسة وصيام شهر رمضان . ألا ان هذه العبادات التي انزلها الله عز و جل ليس المقصود بها أن تمثل كل ما يجب أن يقوم به الإنسان من واجبات تعبدية تجاه ربه . أي أن كونها ذات خصوصية محددة بأنها (فروض) لا يعني بأنها تشمل (كل)واجبات الإنسان التعبدية . وهذا الأمر يبدو واضحا تماما من دراسة حياة الرسول الذي كان مستمراً على إقامة الكثير من العبادات الإضافية التي تعرف بالنوافل إضافة إلى فروض الشريعة ، بل أن نوافله كانت أكثر بكثير من فروض الشريعة التي كان يواظب على تأديتها . قال الله عز و جل أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً.وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّـكَ مَقَامـاً مَّحْمُـوداً(1) . فمن هذه النوافل (أو السنن) صلوات كان يقيمها الرسول قبل أو بعد الفرض مثلا سنة صلاة العشاء وهي عبارة عن ركعتين قبل الفرض واثنتين بعدها . كما كان للرسول أدعية وأذكار خاصة وغير ذالك من العبادات النفلية . بل انه كان يقوم في عبادة ربه حتى تتورم قدماه الشريفتان رغم أن ربه عز و جل تفضل عليه كما لم يتفضل على احد من العالمين :وَكَانَ فَضْـلُ اللّـهِ عَلَيْكَ عَظِيمـاً(2). ولما سُئل عن سبب تعبده بهذا الشكل مع فضل الله عليه أجاب : أفلا أكون عبدا شكورا ؟ (3).
تشكل فروض الشريعة الحد الأدنى من العبادات التي يجب على المسلم أن يقيمها ، في الفارق بين المسلم وغير المسلم ، لذلك جاء في الحديث النبوي الشريف الصلاة عماد الدين فمن تركها هدم الدين . ألا أن عبادات الشريعة المحدودة ليست كافية لتطبيق الأمر الإلهي الذي تتضمنه الآية الكريمة :وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ، ولذلك فان أقامة النوافل من العبادات هي الطريق نحو جعل الإنسان لحياته بأكملها حياة عبادة خالصة . ولما كانت الطريقة هي أفعال الرسول وفروض الطريقة هي جزء محدد من أفعال الرسول التعبدية ، يصبح واضحاً اذاً بان فروض الشريعة هي جزء من الطريقة التي هي مجمل الأفعال التعبدية غير المحدودة للوصول إلى الله سبحانه وتعالى . وفي تفسير العلاقة بين الشريعة والطريقة يقول الشيخ محمد الكسنزان : (الشريعة أطار الطريقة ، والطريقة نواة الشريعة ، فلا طريقة بدون شريعة ولا شريعة بدون طريقة) (4) . إذا فالشريعة تحيط بالطريقة كإطار بحيث لا يمكن أن يكون المرء عاملا بالطريقة ما لم يكن ملتزما بالشريعة . كما أن تشبيه الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره للشريعة بالإطار مقارنة بالنواة التي هي الطريقة يبين بان الشريعة ليست الهدف النهائي وإنما هي فقط الانطلاق ، أي البداية التي يجب أن لا يتوقف عندها الإنسان وإنما ينطلق منها فقط . فهي بداية الطريق الأطول والأصعب والذي تمثله الطريقة بالعبادات النفليّة . لذلك فان كل من يصبح مريدا من مريدي الطريقة الكسنـزانية يتوجب عليه التزام بفروض الشريعة ، كالصلاة اليومية ، قبل المباشرة بعبادات الطريقة من أذكار وغيرها .
تبيّن حقيقة العلاقة بين الطريقة والشريعة الخطأ الكبير الذي وقع فيه كل من زعم بان الطريقة والشريعة هما نهجان مختلفان . فقد ظهر على مر التاريخ افراد وجماعات ادعوا بان نهج الطريقة هو طريق للوصول إلى معرفة الله سبحانه وتعالى من غير الحاجة للالتزام بإقامة فروض الشريعة ، وأرادوا بذلك أن يجعلوا هنالك فرقا بين الدين بعبادته التقليدية والطريقة . وفي عالم اليوم هنالك إشكال مختلفة لمثل هذه الدعوات تتبناها على وجه الخصوص بعض الحركات الصوفية في الغرب التي نسبت نفسها من غير وجه حق إلى الطريقة . كما ظهر من يدعي بأن سلوك نهج الطريقة يمكن أن يصل بالإنسان إلى مرحلة من المعرفة بربه سبحانه وتعالى تسقط عندها فروض الشريعة عنه . الا أن مشايخ الطريقة كانوا على مر الزمان يؤكدون بالقول والفعل بان هذه الدعوات هي انحراف تام عن المعنى الحقيقي للطريقة .
فعندما سمع الشيخ الجنيد البغدادي قدس الله سره رجلا يدّعي بأن (اهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات [يقصد العبادات] من باب البر والتقرب إلى الله عز و جل )استنكر قوله وقال رداً عليه (أن هذا قول قوما تكلموا بإسقاط الاعمال وهو عندي عظيمة [أي من الذنوب العظيمة] ، والذي يسرق يزني أحسن حالا من الذي يقول هذا ، فان العارفين بالله تعالى اخذوا الاعمال عن الله تعالى واليه راجعون فيها ولو بقيت الف عام لم أُنقِصَ من اعمال البر ذرة الا أن يحال بي دونها) (5) . فأصحاب الطريقة ما فارقوا النهج الذي اختطه الرسول . قال أبو عثمان : (خلاف السنة يا بني في الظاهر علامة رياء في الباطن) (6) .
هنالك وجه اخر للنظر إلى العلاقة بين الشريعة والطريقة انطلاقا من الحديث النبوي الشريف الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي) . فكون الشريعة هي أقوال الرسول والطريقة أفعاله فان الشريعة إذاً هي تفسير الطريقة ، وبهذا فان الأفعال التي لا تشهد لها الشريعة بالحق هي ليست من أفعال الطريقة ، أي ليست من أفعال الرسول ، وهذا هو باب آخر في تفسير قول الشيخ محمد الكسنزان قدس الله سره : (الشريعة اطار الطريقة) . يقول الشيخ عبد الكريم الكسنـزان قدس الله سره : (إذا تخالفت اعمال وأفعال وأقوال المريد مع أي حكم من إحكام الشريعة والقران فهو خارج عن طريقتنا) (7) . أي أن العلاقة بين الشريعة والطريقة هي علاقة تكاملية . يقول الشيخ ابن عطاء الله السكندري : (من استرسل من اطلاق التوحيد ورأى أن الملك لله وان لا ملك لغيره معه ولم يتقيد بظواهر الشريعة فقد قذف به في بحر الزندقة وعاد حاله بالوبال عليه ، ولكن الشأن أن يكون بالحقيقة مؤيدا وبالشريعة مقيدا ….. الانطلاق مع الحقيقة من غير تقييد بالشريعة تعطيل) ( .
في إشارة إلى إن أصحاب الطريقة اختاروا سلوك الطريق الأشق والأصعب من العبادات على التوقف عند حدودها الدنيا المتمثلة في فروض الشريعة (وصف مشايخ الطريقة سلوك طريق النوافل اللامحدودة من العبادات بما يسمى في مصطلحات الطريقة بـ (العزم) مقارنة بالوقوف عند فروض الشريعة الذي يعرف بـ (الرخصة) . فكان الرسول ) لذلك صاحب اكبر عزم بين الخلق . يقول الشيخ عمر السهروردي : (الرخصة الوقوف على حد قوله [قول ] والعزيمة التأسي [اتخاذه أسوة] بفعله ) (9) ، وهذا القول يناظر الحديث النبوي الشريف : الشريعة أقوالي والطريقة أفعالي . يقول الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره : (عليكم بحفظ الصوم والصلوات الخمس في أوقاتها ، وحفظ حدود الشرع جميعها . إذا أديتم الفرض فانتقلوا إلى نفل . عليكم بالعزيمة والأعراض عن الرخصة) (10). يروي الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره الحادثة التالية التي توضح الكثير عن الفرق بين من اخذ بعزم الطريقة ومن ترك نفسه مع رخصة الشريعة : (مررت يوما على قرية وحولها ذرة مزروعة ، فمددت يدي واخذت قصبة من قصب الذرة حتى أمصها ، وإذ قد جاءني رجلان من اهل القرية مع كل واحد منهما عصا ، فضرباني حتى وقعت على الأرض فعاهدت الله عز و جل في تلك الساعة اني لا أعود إلى ترخيص فيما لا يخصني ، لان الشرع أباح للمحتاج على الزرع والثمر أن يأكل منها قدر الحاجة ، ولا يأخذ منها شيئا ، فهذه رخصة عامة ، ولكني لم اترك مع هذه الرخصة ، وتوليت بالعزيمة طريق الورع ، كل من يكثر ذكر الموت يكثر ورعه ، وتقل رخصته ، وتكثر عزيمته) (11) .
في الأخذ بالرخصة خطر كبير يهدد استمرارية وثبات الإنسان على الصراط المستقيم فقد قال الرسول : من حام حول الحمى أوشك أن يقع فيه ، لذلك حذر أصحاب الطريقة من ترك العزم والأخذ بالرخصة يقول الشيخ عبد القادر قدس الله سره : (من لزم الرخصة وترك العزيمة خيف عليه من هلاك دينه ، العزيمة للرجال لأنها ركوب الأخطار والأشق الأدق . الرخصة للصبيان والنسوان لأنها الأسهل) (12) . وقال النفري : (من أنواع سوء آداب المريد المفضي على عطبه نزوله عن مقتضيات الحقيق) (13) الى رخص الشريعة ، فقد عدوا هذا من الجنايات العظيمة الموجبة لانحطاط الرتبة والبعد عن محل القرب ولهذا قالوا إذا رأيت المريد انحط عن رتبة الحقيقة إلى رخص الشريعة فاعلم انه قد نقض عهده مع الله وفسخ عقده بينه وبين الله . اما يوسف بن الحسين فقال : (إذا رأيت المريد يشتغل بالرخص فاعلم انه لا يجيء منه شيء ) . وقال أبو اسحق ابرهيم بن شيبان : من أراد أن يتعطل ويتبطل فليلزم الرخص يعني بالرخصة (14).
أن الأخذ بالعزم لا يكون في العبادات المعروفة مثل الصلاة فحسب ، ولكن في كل تصرفات وسلوك الإنسان . فالزهد عند اهل العزم ليس زاهدا في المحرمات فقط ولكنه أكثر من ذلك بكثير ، فهو كما يصفه الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره (الترك للمحرمات ، ثم ترك الشبهات [أي ما لا يستطيع الإنسان أن يكون متأكدا من انه مما قد حلل أو حرم] ، ثم ترك المباحات ، ثم ترك الحلال المطلق في جميع الحالات حتى لا يبقى متروك في الجملة)(15). وكمثال على اختلاف زهد اهل الطريق عن اهل الرخصة يمكن الاستشهاد بقول الشيخ عبد القادر الكيلاني حول الزهد في الطعام (احبس نفسك عن أكل الحرام وأطعمها الحلال الطاهر حتى يزول لحمها الذي تربى على الحرام . وجنبها اكل الحرام ثم جنبها الحلال)(16) .
أن زهد اهل العزم لا يكون في الطعام فقط أو في جوانب معينة من جوانب الحياة دون غيرها ، وإنما وهو سلوك يطول جميع تصرفاتهم وكل دقائق حياتهم . لما سأل رويم الشيخ جنيد البغدادي عن الزهد أجابه بأنه (استصغار الدنيا ومحو أثارها من القلب)(17). ويبين الشيخ محمد الكسنـزان قدس الله سره بان الزهد في الدنيا هو الابتعاد عن المحرمات والشبهات والزهد في الحلال من الطعام والملبس والمسكن والمال والزواج وكل ما يمكن ان تطمع فيه النفس ويكون فيه شاغل عن الله سبحانه وتعالى (18). وينصح الشيخ عبد القادر الكيلاني المريد بالزهد في الطعام قائلا عن النفس : (هي عبد سوء لا تعمل الاشغال الا بالعصا . لا تشبعها الا إذا علمت أن الشبع لا يطغيها وأنها تعمل في مقابل شبعها)(19). وعلى نفس القياس يـجب على المريد ان لا يأخذ من الحظوظ من حلال الدنيا ألا ما علم أن ما تناول ما كان لينقلب ضده .
ان حقيقة الزهد عند أصحاب الطريقة يتجاوز حدود الزهد في الدنيا ليكون زهدا في كل شيء غير الله عز و جل . لما سئل الشيخ أبو بكر الشبلي عن حقيقة زهد اهل الطريقة قـال : (أن تزهـد في ما سوى الله تعـالى) (20). بل أن زهد مشايخ الطريقة هو زهد حتى في الجنة نفسها ، وهذا أمر وان أمكن تصوره فان من غير الممكن فهمه من قبل من لم يكن من اهله . فالزهد لا يطلب سوى الله سـبحانه وتعالى ولا يريد ثمنا لعبادته سوى القرب منه ، يقول الشيخ عبد القادر الكيلانيقدس الله سره في هذا الخصوص : (حقيقة الزهد ترك الدنيا وترك الآخرة ، ترك الشهوات والذات ، ترك الوجود ، ترك طلب الحالات والدرجات والكرامات والمقامات ، ترك كل شيء سوى رب البريات ، حتى لا يبقى الا الخالق عز و جل ، إليه المنتهى ، وهو غاية الآمال ، اليه تصير الامور)(21) . ويقول الشيخ عبد القادر الكيلاني قدس الله سره في نصحه للمريد ان يجعل حب الله عز و جل هو هدفه النهائي : (ابذل كلك ودع شهوتك ولذاتك ، وافن فيه عز و جل عنك ، ودع الجنة وما فيها واتركها ، ودع النفس و الهوى والطبع ، ودع الشهوات الدنيوية والأخروية ، ودع الكل واتركه وراء ظهرك) (22) . ويخاطب الإمام علي بن ابي طالب كرم الله وجهه الله عز و جل فيقول : (عبدك لا خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ، بل وجدتك الهاً تستحق العبادة فعبدتك)(23) .
الهوامش :
(1) الإسراء : 78 – 79 .
(2) النساء : 113.
(3) ابن سعد – ص 103.
(4)كل اقتباس من الشيخ محمد الكسنزان بدون ذكر المصدر قد تم اقتباسه باذن كريم من
الشيخ محمد الكسنزان من محاضرات الارشاد التي يلقيها .
(5) القشيري- ص 20.
(6) القشيري- ص 21.
(7) الكسنزان – ص 176.
( السكندري – أ 55 .
(9) السهروردي – ص 378.
(10) الكيلاني – ص 15.
(11) الكيلاني – ص 25 – 26.
(12) الكيلاني – ص 15 .
(13) يشار الى الطريقة ايضا بمصطلح الحقيقة اشارة الى انها مبنية على ما يعرف في
مصطلحات الطريقة بـ الحقيقة المحمدية والتي يبحثها ببعض التفصيل الفصل الرابع من الكتاب .
(14) النفري – ص 52 .
(15) الكيلاني – ص 37.
(16) الكيلاني – ص 38 .
(17) القشيري – ص 61.
(18) الكسنزان- ص 144- 146.
(19) الكيلاني – ص39.
(20) القشيري – ص61.
(21) الكيلاني – ص 24.
(22) الكيلاني – ص 50.
(23) تامر – ص 7 .
المصدر : الطريق الى الطريقة – ص 15 – 22 .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin