كتاب: اختلاف الأصوليين في ترتيب المقاصد الضرورية / د. محمد علي هارب جبران

اختلاف الأصوليين في ترتيب المقاصد الضرورية / د. محمد علي هارب جبران
#ومعنى مقاصد الشريعة هي: (الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد).
وقداختلف علماء الأصول في تعريف المقاصد الضرورية نظراً لاختلاف الاعتبار الذي نظروا فيه إلى تلك المقاصد.
فهناك من نظر إليها من حيث القوة كالغزالي حيث قال :"هي أقوى المراتب في المصالح والآمدي حيث قال: "وهي أعلى مراتب المناسبات" .
وهنالك من نظر إليها: من حيث العدد كالرازي وابن السبكي والإسنوي وغيرهم قال الرازي: "أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة وهي حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل" .
وهناك من عرفها من حيث المدلول كالشاطبي حيث قال "فأما الضرورية فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة بل على فساد وتهارج وفوت حياة وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم والرجوع بالخسران المبين
حصر المقاصد الضرورية .
ذكر جمهور الأصوليين المقاصد الضرورية وفي عدهم لها اقتصروا على خمس #مقاصد وهي (1)الدين – (2) والنفس – (3) والعقل- (4) والنسل –(5) والمال وممن اقتصر في عده للمقاصد الضرورية على هذه الخمس الغزالي والرازي وابن قدامة المقدسي والآمدي والبيضاوي وصفي الدين الحنبلي والاسنوي والشاطبي فالغزالي بعد ذكره لهذه المقاصد قال: "وتحريم تفويت هذه الأصول الخمسة والزجر عنها يستحيل أن لا تشتمل عليه ملة من الملل
وذهب آخرون عند عدهم للمقاصد الضرورية إلى زيادة مقصد سادس وهو العرض وممن ذهب إلى ذلك القرافي وابن السبكي والزركشي وابن اللحام والشوكاني وابن بدران ، ومن العلماء المعاصرين كالنبهاني من أضاف حفظ الدولة وحفظ الأمن وحفظ الكرامة, إلى الضرورات الخمس وهذه داخلة في الضرورات السابقة
#ترتيب الأصوليين للمقاصد الضرورية.
تعددت مذاهب علماء الأصول في ترتيب المقاصد الضرورية إلى مذاهب عدة ومن ذلك :
(1) ترتيب الغزالي : رتب الغزالي المقاصد الضرورية في معرض تعريفه للمصلحة وأنها مندرجة في مقصود الشرع من الخلق فقال : "ومقصود الشرع من الخلق خمسة وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة"
(2) ترتيب الرازي ت: لم يلتزم الرازي ترتيباً معيناً فبدأ تارة بالنفس وجعل الدين والعقل في آخر الترتيب فقال: "أما التي في محل الضرورة فهي التي تتضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمسة وهى حفظ النفس والمال والنسب والدين والعقل " ثم رتبها في موضع آخر بصورة أخرى فجعل الدين في وسط المقاصد وأخر الأموال والأنساب فقال : " ثم قد عرفت أن المناسبة التي من باب الضرورة خمسة وهي مصلحة النفوس والعقول والأديان والأموال والأنساب".
(3) ترتيب ابن قدامة المقدسي ت: رتب ابن قدامة المقدسي المقاصد الضرورية عند تعريفه للضروريات فقال"ما يقع في رتبة الضروريات وهي ما عرف من الشارع الالتفات إليها وهي خمسة أن يحفظ عليهم دينهم وأنفسهم وعقلهم ونسبهم ومالهم"
(4) ترتيب الآمدي : رتب الآمدي المقاصد الضرورية في معرض سرده لها وتأكيده على أهميتها فقال : " المقاصد الخمسة التي لم تخل من رعايتها ملة من الملل ولا شريعة من الشرائع وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضروريات" وعند مناقشته لترتيب الضروريات قدم النسب على العقل.
(5) ترتيب الزنجاني : أورد الزنجاني ترتيبه للمقاصد الضرورية في معرض حديثه عن بيان أهمية الحدود والعقوبات فقال "والعقوبات والحدود سبب لاستبقاء الأنفس والعقول والأديان والأبضاع والأموال".
(6) ترتيب القرافي : رتب القرافي المقاصد الضرورية في معرض تعريفه للكليات الخمس فقال: "الكليات الخمس وهي حفظ النفوس والأديان والأنساب والعقول والأموال وقيل: الأعراض" .
(7) ترتيب البيضاوي : أورد البيضاوي ترتيبه للضرورات في معرض تعريفه للمناسب فقال: المناسب ما يجلب للإنسان نفعاً أويدفع عنه ضرراً وهو حقيقي دنيوي ضروري كحفظ النفس... والدين... والعقل... والمال... والنسب..." .
(8) ترتيب ابن تيمية : ذكر ابن تيمية ترتيباً للمقاصد الضرورية في رده على من يخص المصالح المرسلة بالحفاظ على المقاصد الضرورية وأورد الدين آخرها فقال: "لكن بعض الناس يخص المصالح المرسلة بحفظ النفوس والأموال والأعراض والعقول والأديان وليس كذلك بل المصالح المرسلة فى جلب المنافع وفى دفع المضار وما ذكروه من دفع المضار عن هذه الأمور الخمسة فهو أحد القسمين.
(9) ترتيب صفي الدين الحنبلي : في ذكره أقسام المصلحة المرسلة ذكر الضروري فقال : "وهو إما ضروري كقتل الكافر المضل وعقوبة المبتدع الداعي حفظاً للدين والقصاص حفظاً للنفس وحد الشرب حفظاً للعقل و حد الزنا حفظاً للنسب والقطع حفظاً للمال" .
(10) ترتيب ابن السبكي : لم يلتزم ابن السبكي ترتيباًٍ معيناً فتبع البيضاوي مرة وخالفه مرات ففي كتابه الإبهاج (الذي هو شرح لمنهاج البيضاوي) وافق البيضاوي عند تعريفه للمقاصد الضرورية فقال: " فالضروري ما تضمن حفظ مقصود من المقاصد الخمس التي اتفقت الملل على حفظها وهي النفس والدين والعقل والمال والنسب" .
#نستخلص مما سبق عدة أمور منها :
- علماء الأصول القدماء لم يتطرقوا إلى تعريف مقاصد الشريعة الإسلامية بالتعريف الاصطلاحي واكتفوا في ذلك بالمدلول اللغوي للمقاصد وأكثر المتأخرون من تعريفها .
- اختلف علماء الأصول في تعريف الضروري من المقاصد بحسب النظر إليها, ومن ذلك نظرهم إليها, من حيث القوة ومن حيث العدد ومن حيث المدلول .
- عدّ بعض العلماء المتأخرين العرض مقصداً سادساً للمقاصد الضرورية وأدخله آخرون في المقاصد الخمس وربطه بعضهم بالنسل بصورة خاصة .
- المقاصد الضرورية الخمس لها هيبة وسلطان عظيمين عند المسلمين وهناك آراء ودعوات لكثير من علماء الأصول المعاصرين بإدخال بعض المصالح التي أعلى الدين مكانتها لتكون محل تقديس وهيبة واحترام مثل المقاصد الضرورية الخمس كالحرية والعدل والمساواة وسلطان الدولة والأمن وغيرها ودعوات لإعادة النظر في المقاصد الضرورية وإضافة غيرها إليها .
- ترتيب المقاصد الضرورية مختلف عليها بين العلماء .
- الغالبية من العلماء لم يبينوا الترتيب المعتمد لديهم .
- المبررات التي أوردها كثير ممن تعرضوا لإثبات منهجهم محدودة ومقصورة في الغالب على بعض المقاصد الضرورية .
- لم يدلل كثير من الأصوليين على ما ذكروا في كتبهم من الترتيب للمقاصد الضرورية, ولكن وجدت اعتراضات كثيرة في مواطن متعددة تم إيرادها في المواضع المناسبة لها مع بيانها ومناقشتها .
ترتيب الغزالي للمقاصد الضرورية يعد هو الأبرز وهو المعتمد لدي جمهور الأصوليين في القديم وفي الحديث .
ادعاء أن ترتيب الغزالي مجمع عليه منقوض بوجود آراء مخالفة يعتد بها .
اعتبار حفظ الدين في مقدمة المقاصد الضرورية يليه حفظ النفس واعتبار المال آخر المقاصد الضرورية مما يقل الخلاف فيه بين الأصوليين.
كثر خلاف الأصوليين في أيهما يقدم على الآخر هل يقدم حفظ العقل على حفظ النسل أم العكس؟ والراجح الأول .
من قدم غير حفظ الدين على حفظ الدين ليس لكون حفظ الدين أقل وإنما لكون غير حفظ الدين فيه حقين حق الدين وحق العباد ولا يخلو تقديم غير حفظ الدين من شيء فيه حفظ الدين.
المقاصد الضرورية مترابطة بعضها ببعض ترابطاً قوياً يصعب فك بعضها عن بعض
هناك حاجة إلى دراسات تحليلية عميقة حول علاقة المقاصد الضرورية مع بعضها في صورة منظومة دائرية تكاملية يحتوي بعضها بعضاً ويتبين من خلالها قرب بعضها من بعض عن طريق استقراء النصوص والأحكام المتعلقة بكل مقصد من المقاصد الضرورية .
أهمية الترتيب ترجع إلى دفع التعارض بين المقاصد الضرورية مع بعضها البعض بحيث إذا تعارض مقصد حفظ الدين مع مقصد حفظ النفس قدم مقصد حفظ الدين على مقصد حفظ النفس وإذا تعارضا مع أي المراتب الأخرى قدما عليها ويقدم مقصد حفظ العقل على مقصد حفظ النسل والمال ويقدم مقصد حفظ النسل على مقصد حفظ المال .