عطايا الله لرسوله في رحلة المعراج
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
بعد فرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، تكرم الله على رسوله بعطايا لأمته.. فمى هي تلك العطايا؟عطايا الله لرسوله في رحلة المعراج
لم يكن عطاء ربِّ العالمين لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأمته في رحلة الإسراء والمعراج واقفًا عند حدِّ الصلوات الخمس فقط، إنما أعطاه في هذا المقام ثلاثة أمور أخرى عظيمة؛ هي: أولاً تحديد نظام جديد كريم لحساب الحسنات والسيئات، وثانيًا: خواتيم سورة البقرة، وثالثًا: غفران الـمُقْحِمات لمن لم يشُرك بالله شيئًا.
أولا:ً تحديد نظام جديد كريم لحساب الحسنات والسيئات
فقد قال اللهُ تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في المرَّة الأخيرة: "يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً"[1]. فهذا نظام عجيب، خرج من مجرَّد العدل إلى كامل الفضل، ومن إحقاق الحقِّ إلى سابغ العفو والصفح والكرم.
ثانيًا: خواتيم سورة البقرة
وأما الأمران الثاني والثالث فقد جاءا في حديث آخر، وقد ذُكِرا مع الصلوات الخمس؛ روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا"، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، قَالَ: "فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ". قَالَ: "فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا، الْمُقْحِمَاتُ [2]"[3]. وفي رواية الترمذي بسند صحيح زاد: "فَأَعْطَاهُ اللهُ عِنْدَهَا ثَلاَثًا لَمْ يُعْطِهِنَّ نَبِيًّا كَانَ قَبْلَهُ.."[4]. ثم ذكر ما جاء في حديث مسلم.
أُعْطِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذن في هذه المشهد العظيم خواتيمَ سورة البقرة! أعني الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285 - 286].
وهاتان الآيتان لهما من الفضل ما يصعب علينا سرده في مقامنا هذا! فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ، فَخَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلاَ تُقْرَأنَّ فِي دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا الشَّيْطَانُ" [5]. وروى حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ: جُعِلَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ، وَأُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ بَعْدِي" [6].
وروى أبو ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي" [7]. وروى أبُو مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" [8].
آيتان فقط لهما كلُّ هذا الفضل!
ومع ذلك فهناك إشكال في توقيت نزول هاتين الآيتين، فبين أيدينا الآن أنهما نزلا في ليلة المعراج؛ بينما نجد بعض الروايات التي تذكر سببًا للنزول في المدينة!
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نَزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ". قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. قَالَ: "نَعَمْ". {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. قَالَ: "نَعَمْ". {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. قَالَ: "نَعَمْ". {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]. قَالَ: "نَعَمْ" [9].
وحلُّ هذا الإشكال أن الله تعالى أعطى في هذه الليلة لرسوله صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين؛ ولكنه سبحانه "ادَّخرهما" عنده ليُنزلهما بعد ذلك في المدينة عند حدوث هذا الموقف السابق؛ وذلك حتى يشعر المسلمون برحمة الله بهم، وفضله عليهم.
ثالثًا: غفران الـمُقْحِمات لمن لم يشُرك بالله شيئًا
هذا بالنسبة إلى خواتيم سورة البقرة، أما غفران المقحمات فهي مِنَّة أخرى كبيرة!
فالـمُقْحِمات هي الكبائر من المعاصي، وهي التي تُقْحِم مرتكبيها في النار، وقد يُفْهَم من هذا أن هناك تعارضًا مع الأحاديث الكثيرة التي تُوجب العقاب على مرتكبي الكبائر، والحقُّ أنه لا تعارض؛ ولكن ينبغي التدبُّر قليلاً في الأمر!
إن ارتكاب الكبائر موجبٌ لعقاب الله فعلاً؛ فعقوق الوالدين، والتعامل بالربا، وشرب الخمر، والقتل، كلُّ هذه من الكبائر التي أوجب الله لمرتكبيها العذاب، والأصل أن يُقْحَم صاحبها في النار، غير أن الله تعالى من رحمته أعطى أصحابها -في ليلة المعراج- فرصة للنجاة؛ وهي "إمكانية" أن يغفر الله عز وجل له هذه المقحمات، وهذا لم يكن متاحًا قبل إعطاء هذه المنحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن هذه المنحة مشروطة -كما دلَّت- عليه أحاديث كثيرة بالتوبة الصادقة، فإن لم يقمْ بالتوبة عذَّبه الله تعالى؛ ولكن على الرغم من هذا العذاب فإنه لا "يخلد" في جهنم، ما دام أنه لا يشرك بالله شيئًا، وهذا -أيضًا- داخل في معنى منحة غفران المقحمات.
ولنأخذ مثالين لتفهُّم هذا الأمر الدقيق؛ وذلك لكي لا يظنَّ ظانٌّ أن غفران المقحمات يعطي الفرصة للعصاة أن يرتكبوا الكبائر دون وجل:
أما المثال الأول فهو خاص بكبيرة القتل؛ وهي كبيرة موجبة للعذاب، ومُقْحِمة في النار؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. فهذا القاتل مستحقٌّ للعذاب؛ بل للخلود في النار بنصِّ الآية، ومع ذلك فبفضل المنحة الربانية التي أعطاها اللهُ تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته فإن هذا الذنب يُغْفر لو تاب العبد توبة صادقة، وهو ما جاء في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ" [10]. فهذا رجل كان محكومًا عليه بالعذاب، فتاب توبة نصوحًا، فتقبَّل الله توبته، وغفر له، وهذا لأُمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو من بركات ليلة المعراج.
والمثال الثاني خاصٌّ بالزنا والسرقة! فقد روى البخاري ومسلم أن أبا ذر رض بالله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبٌ أبيض، وهو نائمٌ، ثمَّ أتيته وقد استيقظ، فقال: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ". وكان أبو ذرٍّ إذا حدَّث بهذا قال: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ. قال أبو عبد الله [11]: هذا عند الموت، أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله. غُفِرَ لَهُ [12].
يتَّضح من المثال السابق أن أبا ذرٍّ لا يستوعب أن يدخل عبدٌ ارتكب بعض الـمُقْحِمات أن يدخل الجنَّة؛ لهذا كرَّر السؤال ثلاث مرات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نتيجة هذه المنحة الربانية؛ التي أعطت الزاني والسارق فرصة دخول الجنَّة، كما ينبغي أن نلحظ تعليق أبي عبد الله -وهو البخاري رحمه الله- في آخر الحديث من أن هذا مشروط بتوبة وندم، مع قول: لا إله إلا الله. قبل الموت؛ أي إخلاص التوحيد لله تعالى، وهو ما اشترطه الله تعالى عند إعطاء المنحة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ".
وهذا المعنى الذي ذكرناه سابقًا نزل بعد ذلك في آيات كثيرة؛ مثل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]. ومثل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. وغيرها من الآيات التي اشترطت عدم الشرك بالله لكي تتم المغفرة.
وينبغي قبل الانتهاء من هذه النقطة أن نلفت الانتباه إلى أن الذي يُداوم على فعل الكبائر -أي الـمُقْحِمات- دون توبة فهو عرضة لوقوع شبهات في قلبه حول قضية التوحيد، وبالتالي قد يقع في إثم الشرك بالله، وعندئذٍ يكون قد خرج من نعمة غفران المقحمات إلى مصيبة الكفر بالله أو الشرك به، وهذا يُوجب له الخلود في جهنم.
_________________
[1] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (162)، وأحمد (12527).
[2] قال النووي: المقحمات: معناه الذنوب العظام؛ الكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار وتقحمهم إياها، والتقحُّم الوقوع في المهالك؛ ومعنى الكلام: من مات من هذه الأمة غير مشرك بالله غُفر له المقحمات، والمراد -والله أعلم- بغفرانها: أنه لا يخلد في النار بخلاف المشركين، وليس المراد أنه لا يعذب أصلاً؛ فقد تقررت نصوص الشرع وإجماع أهل السنة على إثبات عذاب بعض العصاة من الموحدين، ويحتمل أن يكون المراد بهذا خصوصًا من الأمة؛ أي يغفر لبعض الأمة المقحمات... والله أعلم. النووي: المنهاج 3/3.
[3] مسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، (173).
[4] الترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النجم (3276)، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي 3/337.
[5] الترمذي: كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في آخر سورة البقرة (2882)، والنسائي (10803)، وأحمد (18438)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والدارمي (3387)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. وقال ابن حجر العسقلاني: هذا حديث حسن، أخرجه أحمد. انظر: ابن حجر: نتائج الأفكار 3/275، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي، 3/153، 154.
[6] النسائي: كتاب فضائل القرآن، الآيتان من آخر سورة البقرة (8022)، وأحمد (23299)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وابن حبان (1697)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الصحيح. وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 6/312، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 3/243.
[7] أحمد (21382) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره. وقال الهيثمي عن الروايات المختلفة تعليقًا على هذا الحديث: رواه كله أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 6/312.
[8] البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، (4722)، واللفظ له، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، (808).
[9] مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، (125)، وأحمد (9333).
[10] البخاري: كتاب الأنبياء، باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [الكهف: 9]، (3283)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، (2766)، واللفظ له.
[11] قال ابن حجر: وقوله: "قال أبو عبد الله". هو البخاري. انظر: فتح الباري 10/283.
[12] البخاري: كتاب اللباس، باب الثياب البيض، (5489)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، (94).
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
بعد فرض الصلاة في رحلة الإسراء والمعراج، تكرم الله على رسوله بعطايا لأمته.. فمى هي تلك العطايا؟عطايا الله لرسوله في رحلة المعراج
لم يكن عطاء ربِّ العالمين لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم وأمته في رحلة الإسراء والمعراج واقفًا عند حدِّ الصلوات الخمس فقط، إنما أعطاه في هذا المقام ثلاثة أمور أخرى عظيمة؛ هي: أولاً تحديد نظام جديد كريم لحساب الحسنات والسيئات، وثانيًا: خواتيم سورة البقرة، وثالثًا: غفران الـمُقْحِمات لمن لم يشُرك بالله شيئًا.
أولا:ً تحديد نظام جديد كريم لحساب الحسنات والسيئات
فقد قال اللهُ تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في المرَّة الأخيرة: "يَا مُحَمَّدُ، إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلاَةٍ عَشْرٌ، فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلاَةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً"[1]. فهذا نظام عجيب، خرج من مجرَّد العدل إلى كامل الفضل، ومن إحقاق الحقِّ إلى سابغ العفو والصفح والكرم.
ثانيًا: خواتيم سورة البقرة
وأما الأمران الثاني والثالث فقد جاءا في حديث آخر، وقد ذُكِرا مع الصلوات الخمس؛ روى مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: "لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا"، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، قَالَ: "فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ". قَالَ: "فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثَلاَثًا: أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا، الْمُقْحِمَاتُ [2]"[3]. وفي رواية الترمذي بسند صحيح زاد: "فَأَعْطَاهُ اللهُ عِنْدَهَا ثَلاَثًا لَمْ يُعْطِهِنَّ نَبِيًّا كَانَ قَبْلَهُ.."[4]. ثم ذكر ما جاء في حديث مسلم.
أُعْطِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذن في هذه المشهد العظيم خواتيمَ سورة البقرة! أعني الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 285 - 286].
وهاتان الآيتان لهما من الفضل ما يصعب علينا سرده في مقامنا هذا! فقد روى النعمان بن بشير رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إِنَّ اللهَ كَتَبَ كِتَابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِأَلْفَيْ عَامٍ، فَأَنْزَلَ مِنْهُ آيَتَيْنِ، فَخَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فَلاَ تُقْرَأنَّ فِي دَارٍ ثَلاَثَ لَيَالٍ فَيَقْرَبَهَا الشَّيْطَانُ" [5]. وروى حذيفة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلاَثٍ: جُعِلَتِ الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا، وَجُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلاَئِكَةِ، وَأُوتِيتُ هَؤُلاَءِ الآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ كَنْزٍ تَحْتَ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُ أَحَدٌ قَبْلِي، وَلاَ يُعْطَى أَحَدٌ بَعْدِي" [6].
وروى أبو ذر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ بَيْتِ كَنْزٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ، لَمْ يُعْطَهُنَّ نَبِيٌّ قَبْلِي" [7]. وروى أبُو مسعودٍ رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البَقَرَةِ فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ" [8].
آيتان فقط لهما كلُّ هذا الفضل!
ومع ذلك فهناك إشكال في توقيت نزول هاتين الآيتين، فبين أيدينا الآن أنهما نزلا في ليلة المعراج؛ بينما نجد بعض الروايات التي تذكر سببًا للنزول في المدينة!
روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نَزَلَتْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لِلهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284]، قَالَ: فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَتَوْا رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بَرَكُوا عَلَى الرُّكَبِ، فَقَالُوا: أَيْ رَسُولَ اللهِ، كُلِّفْنَا مِنَ الأَعْمَالِ مَا نُطِيقُ، الصَّلاَةَ وَالصِّيَامَ وَالْجِهَادَ وَالصَّدَقَةَ، وَقَدْ أُنْزِلَتْ عَلَيْكَ هَذِهِ الآيَةُ وَلاَ نُطِيقُهَا. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الْكِتَابَيْنِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بَلْ قُولُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ". قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. فَلَمَّا اقْتَرَأَهَا الْقَوْمُ، ذَلَّتْ بِهَا أَلْسِنَتُهُمْ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِي إِثْرِهَا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ نَسَخَهَا اللهُ تَعَالَى، فَأَنْزَلَ اللهُ عز وجل: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286]. قَالَ: "نَعَمْ". {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}. قَالَ: "نَعَمْ". {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ}. قَالَ: "نَعَمْ". {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286]. قَالَ: "نَعَمْ" [9].
وحلُّ هذا الإشكال أن الله تعالى أعطى في هذه الليلة لرسوله صلى الله عليه وسلم هاتين الآيتين؛ ولكنه سبحانه "ادَّخرهما" عنده ليُنزلهما بعد ذلك في المدينة عند حدوث هذا الموقف السابق؛ وذلك حتى يشعر المسلمون برحمة الله بهم، وفضله عليهم.
ثالثًا: غفران الـمُقْحِمات لمن لم يشُرك بالله شيئًا
هذا بالنسبة إلى خواتيم سورة البقرة، أما غفران المقحمات فهي مِنَّة أخرى كبيرة!
فالـمُقْحِمات هي الكبائر من المعاصي، وهي التي تُقْحِم مرتكبيها في النار، وقد يُفْهَم من هذا أن هناك تعارضًا مع الأحاديث الكثيرة التي تُوجب العقاب على مرتكبي الكبائر، والحقُّ أنه لا تعارض؛ ولكن ينبغي التدبُّر قليلاً في الأمر!
إن ارتكاب الكبائر موجبٌ لعقاب الله فعلاً؛ فعقوق الوالدين، والتعامل بالربا، وشرب الخمر، والقتل، كلُّ هذه من الكبائر التي أوجب الله لمرتكبيها العذاب، والأصل أن يُقْحَم صاحبها في النار، غير أن الله تعالى من رحمته أعطى أصحابها -في ليلة المعراج- فرصة للنجاة؛ وهي "إمكانية" أن يغفر الله عز وجل له هذه المقحمات، وهذا لم يكن متاحًا قبل إعطاء هذه المنحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن هذه المنحة مشروطة -كما دلَّت- عليه أحاديث كثيرة بالتوبة الصادقة، فإن لم يقمْ بالتوبة عذَّبه الله تعالى؛ ولكن على الرغم من هذا العذاب فإنه لا "يخلد" في جهنم، ما دام أنه لا يشرك بالله شيئًا، وهذا -أيضًا- داخل في معنى منحة غفران المقحمات.
ولنأخذ مثالين لتفهُّم هذا الأمر الدقيق؛ وذلك لكي لا يظنَّ ظانٌّ أن غفران المقحمات يعطي الفرصة للعصاة أن يرتكبوا الكبائر دون وجل:
أما المثال الأول فهو خاص بكبيرة القتل؛ وهي كبيرة موجبة للعذاب، ومُقْحِمة في النار؛ قال تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. فهذا القاتل مستحقٌّ للعذاب؛ بل للخلود في النار بنصِّ الآية، ومع ذلك فبفضل المنحة الربانية التي أعطاها اللهُ تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ولأمته فإن هذا الذنب يُغْفر لو تاب العبد توبة صادقة، وهو ما جاء في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها ما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: "كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لاَ. فَقَتَلَهُ، فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً، ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ، فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللهَ فَاعْبُدِ اللهَ مَعَهُمْ، وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ، فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ: إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ، فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ، فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ، فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ، فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ" [10]. فهذا رجل كان محكومًا عليه بالعذاب، فتاب توبة نصوحًا، فتقبَّل الله توبته، وغفر له، وهذا لأُمَّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو من بركات ليلة المعراج.
والمثال الثاني خاصٌّ بالزنا والسرقة! فقد روى البخاري ومسلم أن أبا ذر رض بالله عنه قال: أَتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وعليه ثوبٌ أبيض، وهو نائمٌ، ثمَّ أتيته وقد استيقظ، فقال: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلاَّ دَخَلَ الجَنَّةَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ". قُلْتُ: وإن زنى وإن سرق؟ قال: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ". وكان أبو ذرٍّ إذا حدَّث بهذا قال: وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي ذَرٍّ. قال أبو عبد الله [11]: هذا عند الموت، أو قبله إذا تاب وندم، وقال: لا إله إلا الله. غُفِرَ لَهُ [12].
يتَّضح من المثال السابق أن أبا ذرٍّ لا يستوعب أن يدخل عبدٌ ارتكب بعض الـمُقْحِمات أن يدخل الجنَّة؛ لهذا كرَّر السؤال ثلاث مرات على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم هو نتيجة هذه المنحة الربانية؛ التي أعطت الزاني والسارق فرصة دخول الجنَّة، كما ينبغي أن نلحظ تعليق أبي عبد الله -وهو البخاري رحمه الله- في آخر الحديث من أن هذا مشروط بتوبة وندم، مع قول: لا إله إلا الله. قبل الموت؛ أي إخلاص التوحيد لله تعالى، وهو ما اشترطه الله تعالى عند إعطاء المنحة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَغُفِرَ لِمَنْ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا الْمُقْحِمَاتُ".
وهذا المعنى الذي ذكرناه سابقًا نزل بعد ذلك في آيات كثيرة؛ مثل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48]. ومثل: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا} [النساء: 116]. وغيرها من الآيات التي اشترطت عدم الشرك بالله لكي تتم المغفرة.
وينبغي قبل الانتهاء من هذه النقطة أن نلفت الانتباه إلى أن الذي يُداوم على فعل الكبائر -أي الـمُقْحِمات- دون توبة فهو عرضة لوقوع شبهات في قلبه حول قضية التوحيد، وبالتالي قد يقع في إثم الشرك بالله، وعندئذٍ يكون قد خرج من نعمة غفران المقحمات إلى مصيبة الكفر بالله أو الشرك به، وهذا يُوجب له الخلود في جهنم.
_________________
[1] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (162)، وأحمد (12527).
[2] قال النووي: المقحمات: معناه الذنوب العظام؛ الكبائر التي تهلك أصحابها وتوردهم النار وتقحمهم إياها، والتقحُّم الوقوع في المهالك؛ ومعنى الكلام: من مات من هذه الأمة غير مشرك بالله غُفر له المقحمات، والمراد -والله أعلم- بغفرانها: أنه لا يخلد في النار بخلاف المشركين، وليس المراد أنه لا يعذب أصلاً؛ فقد تقررت نصوص الشرع وإجماع أهل السنة على إثبات عذاب بعض العصاة من الموحدين، ويحتمل أن يكون المراد بهذا خصوصًا من الأمة؛ أي يغفر لبعض الأمة المقحمات... والله أعلم. النووي: المنهاج 3/3.
[3] مسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، (173).
[4] الترمذي: أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة النجم (3276)، وقال: حديث حسن صحيح. وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي 3/337.
[5] الترمذي: كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في آخر سورة البقرة (2882)، والنسائي (10803)، وأحمد (18438)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والدارمي (3387)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح. وقال ابن حجر العسقلاني: هذا حديث حسن، أخرجه أحمد. انظر: ابن حجر: نتائج الأفكار 3/275، وصححه الألباني، انظر: صحيح سنن الترمذي، 3/153، 154.
[6] النسائي: كتاب فضائل القرآن، الآيتان من آخر سورة البقرة (8022)، وأحمد (23299)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم. وابن حبان (1697)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الصحيح. وقال الهيثمي: رواه أحمد، والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 6/312، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 3/243.
[7] أحمد (21382) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح لغيره. وقال الهيثمي عن الروايات المختلفة تعليقًا على هذا الحديث: رواه كله أحمد بأسانيد، ورجال أحدها رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 6/312.
[8] البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل سورة البقرة، (4722)، واللفظ له، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضل الفاتحة وخواتيم سورة البقرة، والحث على قراءة الآيتين من آخر البقرة، (808).
[9] مسلم: كتاب الإيمان، باب بيان أنه سبحانه وتعالى لم يكلف إلا ما يطاق، (125)، وأحمد (9333).
[10] البخاري: كتاب الأنبياء، باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ} [الكهف: 9]، (3283)، ومسلم: كتاب التوبة، باب قبول توبة القاتل وإن كثر قتله، (2766)، واللفظ له.
[11] قال ابن حجر: وقوله: "قال أبو عبد الله". هو البخاري. انظر: فتح الباري 10/283.
[12] البخاري: كتاب اللباس، باب الثياب البيض، (5489)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة ومن مات مشركًا دخل النار، (94).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin