الصفحة 6 من 61
ذكر الله عز وجل
1- مع ذكر الله تعالى:
في الحديث مُعَاذ بنِ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَيُّ الْجِهَادِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرًا». قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرًا». ثُمَّ ذَكَرَ لَنَا الصَّلاَةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ كُلُّ ذَلِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرًا»([1]).
وعنه أيضًا في فضل ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، فقال عمر: إِذًا نَسْتَكْثِرُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الله أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ»([2]).
يمتاز المسلم الصوفي بأنه من أهل الذكر، يحاول ذلك ويداوم عليه.
وبرغم أن التصوف (خُلُقٌ وعِبادة وعمل ودعوة) إلا أن صفة الذكر غلبت عليه حتى عُرِفَ بها وعُرِفَت به، إذ التصوف الحق حضور ومراقبة وشهود، وتسام روحي، فلا يكون مع الغفلة أبدًا ذاكرًا بقلبه ولسانه، وبنظره وبفكره وبكل حركاته وسكناته، فكل سلوكه الدنيوي كالديني عبادة، ظهرت أم خفيت، فهو بكل ما يصدر منه من قول أو عمل عابد -حتى المتعة- يريد بها وجه الله ليس إلا.
2- من فضل الذكر:
وقد قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]. قال السادة: لو لم يكن في القرآن من الحث على الذكر وبيان فضله إلا هذه الآية لكفت وأوفت. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:41-42] فطلب الذكر بكثرة غير محدودة بعدد، ولا وقت، ولا كيفية. وليس هذا شأن بقية العبادات، فكلها محددة مؤقتة؛ مما يدل على فضل الذكر وامتيازه.
وقد مدح الله تعالى أولي الألباب بأنهم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [آل عمران:191] فكان معنى هذا أن الذين لا يفعلون ذلك الذكر والفكر لا يكونون من أولي الألباب.
وروى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: سُئِلَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم أَيُّ العِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ». قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الكُفَّارِ وَالمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيُخَضَّبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً»([3]).
وروى الطبراني بسند صحيح عَنْ جَابِرٍ قال: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا عَمِلَ امْرِؤٌ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ». قيل: وَلا الجِهَاد فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَال: «وَلا الجهاد فِي سَبِيلِ اللهِ، إلَّا أنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ»([4]).
وروى الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رضى الله عنه قَالَ: قالَ صلى الله عليه وسلم: «ألَا أُنَبئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعَهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ([5])، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى»([6]).
ومن أجل كل ذلك جاء قول السادة: الذكر مع الغفلة خير من الغفلة مع الذكر.
3- تعليل فضل الذكر:
والمراد بذلك هو الذكر المستوفي شروطه الظاهرة والباطنة، والذي ينقل صاحبه إلى رتبة ولاية الله الحق، فهو مع الله أبدًا؛ لتحققه بذكره قلبا ولسانا، ونظرًا وفكرًا، فالذاكر لا يقع على الممنوع، ولا يدع شيئًا من المشروع. فهو صمام أمان، وصوت للرحمن، وإنقاذ للإنسان، ودعوة مجسدة إلى معالي الأمور، وقدوة محسوسة في التسامي المطلق بالبشرية، وبمثله يغاث الناس وينزل المدد.
قال الإمام ابن بطال في شرح البخاري، وأقره الحافظ ابن حجر: هذه الفضائل الورادة في فضل الذكر، إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال، كالطهارة من الحرام، والمعاصي العظام، فلا تظن من أدمن الذكر وأصر على ماشاء من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح([7])اهـ. فيلاحظ ذلك.
وقد يستطيع أي إنسان أن يحمل سلاح الحرب والمقاتلة، ولكن لا يستطيع كل إنسان أن يحمل سلاح الدعوة والخدمة. وهو سلاح ذكر الله على أعلى المستويات وأسمى المعاني. وهكذا ينكشف أن الذكر هو روح الحياة، وسر الإنسانية، وأن للذاكر مزيد فضل ومزية، فاستحق أن يكون هذا الذاكر الذي يعم نفعه الدينا من حيث إنه يؤدي عمل الدنيا بنية الآخرة؛ أفضل من المجاهد الذي قد لا يعود فضل جهاده إلا عليه وحده. وخير الناس أنفعهم للناس. إن الذاكر الحق إنسان متكامل يحمل إلى الناس عبق النبوة وريحها الإلهي؛ ولذلك جاء في البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيْتِ»([8]).
وفي الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ بُسْرٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»([9]).
فالذاكر أبدًا في مقام الأنس والمراقبة والورع، قدوة خير قدوة، ذاكر ومذكر، فهو لا يقع على خسيسة، ولا يتخلف عن مكرمة، فهو المسلم النموذجي الداعي إلى الله بسلوكه وعمله.
4- تجارب الصوفية:
وقد دخل الصوفية الراشدون على الله من باب الذكر، فأفادوا الدين والدينا، ونجحت تجاربهم إلى درجة اليقين القطعي عندهم. وقد أصابوا ويصبون من أسرار القدس الأعلى وأنواره ما لا طاقة لكاتب بوصفه أو تفصيله، وكانت تجاربهم في هداية الناس أنجح ما عرف الناس، وستظل كذلك -بإذن الله-.
والذكر يورث الذاكر: أدبًا، وفضلًا، وتذوقًا، ورقة، وأمانة، وسماحة نورانية. وإذا تحقق الذاكر بذكره، وانعكست أنواره على سلوكه وسر ذاته؛ أصبح ربانيا، يفيض عطفا وعاطفة، وتفقها وبرا بالناس. وما رأينا أحدا تجافى الذكر، عالما كان أم جاهلا، إلا كان فيه غلظة، وخشونة، وجفافا، وجفاء، وجاهلية خلقية تنعكس على ذاته بثقل الظل على تصرفاته بالشذوذ، والخطل([10])، والبهيمية، والوحشية.
5- حلقات الذكر الجماعية وبعض المعاني:
كانت حلقات الذكر في جماعة موجودة ومكررة فعلا على عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رآها صلى الله عليه وسلم واشترك فيها، وبَشَّرَ أهلها، وحث على ارتيادها حثَّا ما عليه من مزيد.
وكل ما جاء في كتب الأحاديث الصحيحة وغيرها من ذكر لفظ (حِلَق أو حلقات الذكر) يفيد لغة وعقلًا معنى التجمع والمشاركة، كما سترى في الأحاديث الآتية([11]). فالإسلام دين التجمع، والتكتل، والتكافل، والتعاون.
وإذا أطلق لفظ الذكر من غير مُخَصِّصٍ ملحوظ أو ملفوظ فقد أريد به كل ما ذُكِرَ اللهُ تعالى فيه أو به، سواء كان صلاة، أو علمًا، أو قرآنًا، أو تسبيحًا، أو تهليلًا، أو تكبيرًا. فأيما شيء من ذلك فهو مشمول بعموم النص، ومستحق للثواب. حتى الفكر هو ذكر قلبي مأثور مادام بشروطه.
ولكن الذكر هنا مُخَصَّصٌ بمعنى التهليل، والتكبير، والتسبيح، والتحميد، والتفريد، والتمجيد، وما هو منه بالتصريح والقرينة.
قال الإمام النووي: اعلم كما أنه يستحب الذكر، يستحب الجلوس في حِلَقِ أهله. وقد تظاهرت الأدلة على ذلك. ويكفي في ذلك حديث ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَّنَةِ فَارْتَعُوا». قالوا: وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قاَلَ: «حِلَقُ الذَّكْرِ»([12]). ولا تكون الحلقة إلا من جماعة.
قلنا: وفي صحيح مسلم عن معاوية قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَلَقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ»؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى وَنَحْمَدُه عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «آللهِ -يعني والله - مِا أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟». وكررها في رواية، ثم قال: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفَكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِكُمُ المَلَائِكَةَ»([13]).
وفي أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً»([14]).
وفي مسلم أيضا عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيِّ: «لَا يَقْعُدُ قُومٌ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى إِلَّا حَفَّتُهُمُ المَلَائِكَةَ، وَغَشِيَتُهُمُ الرَّحَمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهَ فِيمَنْ عِنْدَهُ»([15]). أَيْ فِي المَلَإِ الأَعْلَى.
وحديث الصحيحين الطويل عن الملائكة السيَّاحين، الذين يلتمسون مجالس الذكر، حديث مشهور، وفيه: إن الله يغفر لهؤلاء الذين يسبحونه ويمجدونه، يبتغون جنته، ويخافون عذابه. ويغفر -أيضًا- لمن جلس معهم. أولئك القوم لا يشقى لهم جليس([16]) وإن لم يكن منهم، أو كان قد جاء لشأن خاص غير الذكر.
وفي الصحيحين: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ مَا ذَكَرَنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ
ذكر الله عز وجل
1- مع ذكر الله تعالى:
في الحديث مُعَاذ بنِ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ فَقَالَ: أَيُّ الْجِهَادِ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرًا». قَالَ: فَأَيُّ الصَّائِمِينَ أَعْظَمُ أَجْرًا؟ قَالَ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرًا». ثُمَّ ذَكَرَ لَنَا الصَّلاَةَ وَالزَّكَاةَ وَالْحَجَّ وَالصَّدَقَةَ كُلُّ ذَلِكَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «أَكْثَرُهُمْ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذِكْرًا»([1]).
وعنه أيضًا في فضل ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1]، فقال عمر: إِذًا نَسْتَكْثِرُ يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «الله أَكْثَرُ وَأَطْيَبُ»([2]).
يمتاز المسلم الصوفي بأنه من أهل الذكر، يحاول ذلك ويداوم عليه.
وبرغم أن التصوف (خُلُقٌ وعِبادة وعمل ودعوة) إلا أن صفة الذكر غلبت عليه حتى عُرِفَ بها وعُرِفَت به، إذ التصوف الحق حضور ومراقبة وشهود، وتسام روحي، فلا يكون مع الغفلة أبدًا ذاكرًا بقلبه ولسانه، وبنظره وبفكره وبكل حركاته وسكناته، فكل سلوكه الدنيوي كالديني عبادة، ظهرت أم خفيت، فهو بكل ما يصدر منه من قول أو عمل عابد -حتى المتعة- يريد بها وجه الله ليس إلا.
2- من فضل الذكر:
وقد قال تعالى: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ [البقرة:152]. قال السادة: لو لم يكن في القرآن من الحث على الذكر وبيان فضله إلا هذه الآية لكفت وأوفت. وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الأحزاب:41-42] فطلب الذكر بكثرة غير محدودة بعدد، ولا وقت، ولا كيفية. وليس هذا شأن بقية العبادات، فكلها محددة مؤقتة؛ مما يدل على فضل الذكر وامتيازه.
وقد مدح الله تعالى أولي الألباب بأنهم: ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [آل عمران:191] فكان معنى هذا أن الذين لا يفعلون ذلك الذكر والفكر لا يكونون من أولي الألباب.
وروى الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ: سُئِلَ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم أَيُّ العِبَادِ أَفْضَلُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ قَالَ: «الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ». قَالَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الغَازِي فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَالَ: «لَوْ ضَرَبَ بِسَيْفِهِ فِي الكُفَّارِ وَالمُشْرِكِينَ حَتَّى يَنْكَسِرَ وَيُخَضَّبَ دَمًا، لَكَانَ الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا أَفْضَلَ مِنْهُ دَرَجَةً»([3]).
وروى الطبراني بسند صحيح عَنْ جَابِرٍ قال: قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا عَمِلَ امْرِؤٌ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللهِ مِنْ ذِكْرِ اللهِ». قيل: وَلا الجِهَاد فِي سَبِيلِ اللهِ؟ قَال: «وَلا الجهاد فِي سَبِيلِ اللهِ، إلَّا أنْ يَضْرِبَ بِسَيْفِهِ حَتَّى يَنْقَطِعَ»([4]).
وروى الترمذي وابن ماجه وصححه الحاكم عَنْ أبِي الدَّرْدَاءِ رضى الله عنه قَالَ: قالَ صلى الله عليه وسلم: «ألَا أُنَبئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعَهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ([5])، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ»؟ قَالُوا: بَلَى. قَالَ: «ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى»([6]).
ومن أجل كل ذلك جاء قول السادة: الذكر مع الغفلة خير من الغفلة مع الذكر.
3- تعليل فضل الذكر:
والمراد بذلك هو الذكر المستوفي شروطه الظاهرة والباطنة، والذي ينقل صاحبه إلى رتبة ولاية الله الحق، فهو مع الله أبدًا؛ لتحققه بذكره قلبا ولسانا، ونظرًا وفكرًا، فالذاكر لا يقع على الممنوع، ولا يدع شيئًا من المشروع. فهو صمام أمان، وصوت للرحمن، وإنقاذ للإنسان، ودعوة مجسدة إلى معالي الأمور، وقدوة محسوسة في التسامي المطلق بالبشرية، وبمثله يغاث الناس وينزل المدد.
قال الإمام ابن بطال في شرح البخاري، وأقره الحافظ ابن حجر: هذه الفضائل الورادة في فضل الذكر، إنما هي لأهل الشرف في الدين والكمال، كالطهارة من الحرام، والمعاصي العظام، فلا تظن من أدمن الذكر وأصر على ماشاء من شهواته، وانتهك دين الله وحرماته أنه يلتحق بالمطهرين المقدسين، ويبلغ منازلهم بكلام أجراه على لسانه ليس معه تقوى ولا عمل صالح([7])اهـ. فيلاحظ ذلك.
وقد يستطيع أي إنسان أن يحمل سلاح الحرب والمقاتلة، ولكن لا يستطيع كل إنسان أن يحمل سلاح الدعوة والخدمة. وهو سلاح ذكر الله على أعلى المستويات وأسمى المعاني. وهكذا ينكشف أن الذكر هو روح الحياة، وسر الإنسانية، وأن للذاكر مزيد فضل ومزية، فاستحق أن يكون هذا الذاكر الذي يعم نفعه الدينا من حيث إنه يؤدي عمل الدنيا بنية الآخرة؛ أفضل من المجاهد الذي قد لا يعود فضل جهاده إلا عليه وحده. وخير الناس أنفعهم للناس. إن الذاكر الحق إنسان متكامل يحمل إلى الناس عبق النبوة وريحها الإلهي؛ ولذلك جاء في البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لَا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيْتِ»([8]).
وفي الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بِنْ بُسْرٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللهِ»([9]).
فالذاكر أبدًا في مقام الأنس والمراقبة والورع، قدوة خير قدوة، ذاكر ومذكر، فهو لا يقع على خسيسة، ولا يتخلف عن مكرمة، فهو المسلم النموذجي الداعي إلى الله بسلوكه وعمله.
4- تجارب الصوفية:
وقد دخل الصوفية الراشدون على الله من باب الذكر، فأفادوا الدين والدينا، ونجحت تجاربهم إلى درجة اليقين القطعي عندهم. وقد أصابوا ويصبون من أسرار القدس الأعلى وأنواره ما لا طاقة لكاتب بوصفه أو تفصيله، وكانت تجاربهم في هداية الناس أنجح ما عرف الناس، وستظل كذلك -بإذن الله-.
والذكر يورث الذاكر: أدبًا، وفضلًا، وتذوقًا، ورقة، وأمانة، وسماحة نورانية. وإذا تحقق الذاكر بذكره، وانعكست أنواره على سلوكه وسر ذاته؛ أصبح ربانيا، يفيض عطفا وعاطفة، وتفقها وبرا بالناس. وما رأينا أحدا تجافى الذكر، عالما كان أم جاهلا، إلا كان فيه غلظة، وخشونة، وجفافا، وجفاء، وجاهلية خلقية تنعكس على ذاته بثقل الظل على تصرفاته بالشذوذ، والخطل([10])، والبهيمية، والوحشية.
5- حلقات الذكر الجماعية وبعض المعاني:
كانت حلقات الذكر في جماعة موجودة ومكررة فعلا على عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد رآها صلى الله عليه وسلم واشترك فيها، وبَشَّرَ أهلها، وحث على ارتيادها حثَّا ما عليه من مزيد.
وكل ما جاء في كتب الأحاديث الصحيحة وغيرها من ذكر لفظ (حِلَق أو حلقات الذكر) يفيد لغة وعقلًا معنى التجمع والمشاركة، كما سترى في الأحاديث الآتية([11]). فالإسلام دين التجمع، والتكتل، والتكافل، والتعاون.
وإذا أطلق لفظ الذكر من غير مُخَصِّصٍ ملحوظ أو ملفوظ فقد أريد به كل ما ذُكِرَ اللهُ تعالى فيه أو به، سواء كان صلاة، أو علمًا، أو قرآنًا، أو تسبيحًا، أو تهليلًا، أو تكبيرًا. فأيما شيء من ذلك فهو مشمول بعموم النص، ومستحق للثواب. حتى الفكر هو ذكر قلبي مأثور مادام بشروطه.
ولكن الذكر هنا مُخَصَّصٌ بمعنى التهليل، والتكبير، والتسبيح، والتحميد، والتفريد، والتمجيد، وما هو منه بالتصريح والقرينة.
قال الإمام النووي: اعلم كما أنه يستحب الذكر، يستحب الجلوس في حِلَقِ أهله. وقد تظاهرت الأدلة على ذلك. ويكفي في ذلك حديث ابن عمر قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَّنَةِ فَارْتَعُوا». قالوا: وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قاَلَ: «حِلَقُ الذَّكْرِ»([12]). ولا تكون الحلقة إلا من جماعة.
قلنا: وفي صحيح مسلم عن معاوية قال: خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى حَلَقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «مَا أَجْلَسَكُمْ»؟ قَالُوا: جَلَسْنَا نَذْكُرُ اللهَ تَعَالَى وَنَحْمَدُه عَلَى مَا هَدَانَا لِلإِسْلَامِ وَمَنَّ بِهِ عَلَيْنَا. قَالَ صلى الله عليه وسلم: «آللهِ -يعني والله - مِا أَجْلَسَكُمْ إلَّا ذَاكَ؟». وكررها في رواية، ثم قال: «أَمَا إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفَكُمْ تُهْمَةً لَكُمْ، وَلَكِنَّهُ أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِكُمُ المَلَائِكَةَ»([13]).
وفي أبي داود عنه صلى الله عليه وسلم قال: «لَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى مِنْ صَلَاةِ الغَدَاةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ؛ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وَلَدِ إِسْمَاعِيلَ. وَلَأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرُونَ اللهَ مِنْ صَلَاةِ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ؛ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتِقَ رَقَبَةً»([14]).
وفي مسلم أيضا عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدَرِيِّ: «لَا يَقْعُدُ قُومٌ يَذْكُرُونَ اللهَ تَعَالَى إِلَّا حَفَّتُهُمُ المَلَائِكَةَ، وَغَشِيَتُهُمُ الرَّحَمَةُ، وَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهَ فِيمَنْ عِنْدَهُ»([15]). أَيْ فِي المَلَإِ الأَعْلَى.
وحديث الصحيحين الطويل عن الملائكة السيَّاحين، الذين يلتمسون مجالس الذكر، حديث مشهور، وفيه: إن الله يغفر لهؤلاء الذين يسبحونه ويمجدونه، يبتغون جنته، ويخافون عذابه. ويغفر -أيضًا- لمن جلس معهم. أولئك القوم لا يشقى لهم جليس([16]) وإن لم يكن منهم، أو كان قد جاء لشأن خاص غير الذكر.
وفي الصحيحين: «يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ مَا ذَكَرَنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin