الطريقة الشاذلية لسيدى أبى الحسن الشاذلى – الدكتور عامر النجار
أولا: الإمام الشاذلي والطريقة الشاذلية - حياته... رحلاته... ملامح شخصيته
أبو الحسن الشاذلي: (593-656هــــ) – (1197م-1258م)
هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
هكذا أجمعت كتب الطبقات والسيرة على هذا النسب وعلى صحة نسبه إلى الإمام الحسن بن علي ت... وقد أجمعت جميع المصادر التي أرخت للشاذلي أن مولده كان سنة 593هــــ بقرية «غمارة» المغربية من مدينة سبتة. ولم يخالف هذا الإجماع غير السيد أبي الحسن القاوقجي في «البدر المنير»،
و «خلاصة الزهر» حيث قال: أن مولده كان سنة 571هــــ. ولم يذكر المصدر الذي استقى منه هذا الخبر، وليس لنا أن نخالف الإجماع لرأي فردي([1]).
ولقد عاش أبو الحسن الشاذلي سنوات عمره مثالا للشيخ العالم الصوفي الحق.
..يقول الشيخ مكين الدين الأسمر: «مكثت أربعين سنة يشكل علي في طريق القوم، فلا أجد من يتكلم عليه ويزيل إشكاله حتى ورد الشيخ أبو الحسن ت فأزال كل شيء أشكل علي([2])».
ومن مكاتبات تلميذه الكبير أبو العباس المرسي لبعض أصحابه بتونس يصف الشيخ أبو الحسن: «...وإني صحبت رأسا من رءوس الصديقين، وأخذت منه سرا، لا يكون إلا لواحد بعد واحد، والشرح يطول، وبه أفتخر، وإليه أنسب ت، وهو أبو الحسن الشاذلي([3])».
رحلاته:
في نفس القرية الصغيرة «غمارة» القربية من مدينة سبتة التي ولد فيها الشاذلي وبها نشأ ونما.. وبها أيضا تعلم القرآن والحديث على يد شيوخها. واشتاق الصبي وهو صغير إلى علوم القوم فاتجه إلى شيخ من شيوخ الصوفية الكبار، فرحل إلى مدينة «فاس» وكان ذلك الشيخ هو الصوفي الكبير عبد الله بن أبي الحسن بن حرازم([4]) ولبس منه خرقة التصوف وسلك الطريق على يديه. ومن المعروف أن الشيخ عبد الله بن حرازم كان من أكبر تلامذة سيدي أبي مدين التلمساني. وهنا نرى بصمات مدرسة أبي مدين ودورها الكبير في تأسيس الطرق الصوفية والعمل بوعي وتخطيط كاملين لإقامة هذه الطرق. فاختاروا تلاميذهم بذكاء وبعثوهم بعد أن زودوهم بتعاليمهم حتى أصبحوا فيما بعد شيوخ الطرق الصوفية وروادها.. فقد التقى أبو مدين هذا كما قلنا سابقا –بالجيلاني بمكة.. وأتم بإرشاده علومه الصوفية وتأثر بطريقته، ويلاحظ أن أم سيدي أحمد البدوي حفيدة لأبي مدين.. وأبو مدين هذا هو أستاذ ابن مشيش. وابن مشيش هو أستاذ أبي الحسن الشاذلي. وأبو الحسين الشاذلي تلميذ أبي الفتح الواسطي وأبو الفتح الواسطي تلميذ الرفاعي كما أن الواسطي جد سيدي إبراهيم الدسوقي.
ومن هنا أستطيع أن أكرر ما سبق تأكيده من أن أبا مدين وابن مشيش والواسطي هم الرواد الحقيقيون وهم الرجال الذين عملوا على نشر أفكارهم على أوسع نطاق بنظام دقيق للغاية في العالم الإسلامي وخصوصا في مصر التي كانت تعد في ذلك الوقت بمثابة مركز الخلافة.
وإذا أردنا تتبع رحلات الشيخ أبو الحسن الشاذلي وجدنا أنه بعد لبس خرقة
التصوف من أستاذه عبد الله بن حرازم تلميذ أبي مدين رحل إلى «زويلة» ثم إلى مدينة تونس وتلقى على علمائها علوم الشريعة وتفقه على مذهب مالك ودرس علوم الفقه والأدب.
ويقول المرحوم الدكتور جمال الشيال: «إنه يبدو أن الجو في تونس كان أصلح منه في المغرب الأقصى، وحرية الفكر والدراسة مكفولة هناك إلى حد ما وفيها آنذاك كان يقيم عدد كبير من أعلام المتصوفة من أمثال الشيخ أبي محمد المهدوي([5])، والشيخ أبي سعيد الباجي([6]).. وقد عاصر الشاذلي أثناء تلقيه العلم في تونس هؤلاء الأعلام، ولا شك أنه اتصل بهم وتتلمذ عليهم وأخذ عنهم([7])».
«وكان الجو في تونس كلها يضوع منه شذى تعاليم أبي مدين وروحانيته، والكل هناك من تلاميذه الذين يسلكون طريقته، وقد تأثر الشاذلي بهذا الجو تأثرا شديدا وعشق التصوف وحياة المتصوفة منذ ذلك الحين ومنذ تلقى الطريقة من قبل في مدينة فاس على يد أبي عبد الله بن حرازم([8])».
وقد تجول الشاذلي في معظم بلدان المغرب وسافر إلى العراق واجتمع هناك بالولي أبي الفتح الواسطي عام 618هــــ تلميذ الإمام الرفاعي الكبير الذي أرسل الواسطي للإسكندرية لينشر بها الطريقة الرفاعية.. وكان الشاذلي أكثر اتصاله بالعباد والمتصوفة، وكان أكثر تأثره في رحلته هذه بالشيخ أبي الفتح الواسطي وهو من أكبر تلاميذ سيدي أحمد الرفاعي وكانت له منزلة عظيمة عند الرفاعية
مما دعاهم إلى إرساله إلى مصر ليعمل على نشر طريقتهم فيها، ووصل أبي الفتح إلى الإسكندرية في سنة 630هــــ وأقام بها مدة يعظ الناس ويدعوهم إلى طريقته وكان يلقي دروسه في مسجد العطارين، وقد قامت بينه وبين علماء الإسكندرية وفقهائها مساجلات وخصومات علمية كثيرة وتوفي بالإسكندرية في سنة 632هــــ وما زال ضريحه موجودا بالقرب من ضريح أبي الدرداء([9])».
يقول الشاذلي: «دخلت العراق ولقيت جملة من المشايخ فلم أر أحسن من الشيخ أبي الفتح الواسطي([10])» ومن هنا نؤكد مرة أخرى أثر الواسطي الكبير في حركة الطرق الصوفية فهو التلميذ النجيب لشيخ الطريقة الرفاعية وهو كما ذكرنا أستاذ الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية الكبيرة، ثم هو جد الإمام إبراهيم الدسوقي شيخ الطريقة البرهامية..
ومن هذا كله نرى أن الواسطي لم يسهم في إرساء وتأسيس حركة الطرق الصوفية في مصر فقط بل كان وراء نجاحها الكبير في القرن السابع الهجري أيضا. ولعله في مقدورنا الآن أن ندلل على هذا بأن الطرق الصوفية في مصر معظمها إن لم يكن كلها ذو أصل مغربي أو عراقي وليس هناك تصوف محلي ذو قيمة تذكر حتى الدسوقي الذي ولد وعاش في مصر كان حفيدا لأبي الفتح الواسطي العراقي([11]).
وكان للقاء الواسطي بأبي الحسن الشاذلي أثر كبير في مجرى حياة الشيخ الشاذلي فحين ذهب للعراق واجتمع به عام 618هــــ أبلغه أنه جاء للعراق يطلب القطب فقال له أبو الفتح الواسطي: أتطلب القطب بالعراق والقطب ببلادك فرجع للمغرب
واجتمع بالقطب الجليل أستاذه الروحي الكبير أبي محمد عبد السلام بن مشيش. وكانت مقابلته الأولى لأستاذه ابن مشيش في رأس جبل حيث كان يرابط متعبدا زاهدا خاشعا.. قال الشاذلي: «لما قدمت عليه وهو ساكن برباطه برأس جبل اغتسلت وخرجت من علمي وطلعت إليه فقير وإذا به هابط علي، فلما رآني قال: مرحبا بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار،.. وذكر نسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا علي طلعت إلينا فقيرا من علمك؟ أخذت منا علمي الدنيا والآخرة، فأخذني الدهش، وأقمت عنده أياما إلى أن فتح الله على بصيرتي، ورأيت له خوارق عادات وكرامات([12])».
وبعد أن صحبه مدة قال ابن مشيش للشاذلي: «يا علي: ارتحل إلى أفريقيا وأسكن بها بلدا تسمى شاذلة فإن الله تعالى يسميك الشاذلي. وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد تونس، ويؤتى عليك من قبل السلطنة، وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق وترث فيها القطبانية قال: فقلت له يا سيدي أوصني فقال لي: الله الله والناس. تنزه لسانك عن ذكرهم وقلبك عن التماثيل من قبلهم وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض وقد تمت ولاية الله عليك ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك وقد تم ورعك([13])».
وصدع الشاذلي لأمر أستاذه وارتحل إلى «شاذلة» وهي قرية قريبة من تونس وهناك قابل الشيخ التقي الصالح سيدي أبو محمد عبد الله بن سلامة الحبيبي الذي كان يرتقب لقاء الشاذلي من مدة، ويقول الشيخ الحبيبي كنت أحضر مجلس سيدنا الشيخ العارف أبي حفص الجاسوس، فأخذت بيده يوما أطلب منه أن يقبلني تلميذا له وقلت له: يا سيدي إني اتخذتك شيخي، فقال لي: يا بني ارتقب أستاذك حتى يصل من المغرب وهو شريف حسني من كبار الأولياء، وهو أستاذك وإليه تنتسب،
فكنت أرتقب كل من يأتي من الفقراء المغاربة وأصحبه، إلى أن من الله علي بلقاء الشيخ أبي الحسن فاتخذته شيخي وصحبته([14]). وعلى نهج أستاذه ابن مشيش لجأ الشاذ لي إلى الجبل.
وفي غار بجبل «زغوان» المطل على شاذلة سكن أبو الحسن الجبل وصحبه في معظم الأوقات تلميذه الحبيبي.
وظل الشاذلي في مغارته متعبدا واصلا الليل بالنهار في عبادة ربه والتقرب إليه بالنوافل والصيام.
وطالت إقامة الشاذلي «بشاذلة» وعرف هناك وذاع صيته وبدأت نبوءة أستاذه ابن مشيش تتحقق. فعرف منذ ذلك الحين بالشاذلي. وبدأ الناس يقصدونه، ثم أنه خرج عن رباطه فاتخذ له دارا (بمسجد البلاد) بمدينة تونس وأصبح ينتقل بينها وبين زاوية بجبل زغوان.
وأصبحت دروس الشيخ الشاذلي ومواعظه وتعاليمه بالمسجد من الأمور التي يحرص على الذهاب إليها مئات المريدين.. فبدأت حلقة الشيخ تتسع يوما بعد يوم ويزداد صيته في طول البلاد وعرضها. فكان إذا جلس للدرس التف حوله الأتباع المتكاثرون وإذا سار مشى في ركبه عشرات وعشرات.
وهذا الإقبال المتزايد من أهل تونس حول الشيخ الشاذلي عرضه لأحقاد ودسائس قاضي الجماعة بمدينة تونس (أبو القاسم بن البراء) فبدأ يكيد للشاذلي لدى سلطان تونس (أبي زكريا الحفصي) واتهمه بأنه جاسوس فاطمي جاء يتآمر عليه فهو حسني علوي.
والحق أن أبا القاسم بن البراء قاضي الجماعة بتونس كان ذكيا في ادعائه.. فقد
كانت تونس قبل ذلك فاطمية، وابن البراء لا يرى خلافا في كلمة القطب إلا أنها ستار يخفي وراءه معنى الإمام الفاطمي أو المهدي. لكن ابن البراء لم يكن على حق. فالشاذلي كان يقدر ويحترم الخلفاء الراشدين الأربعة ويعتبر أنه لا فرق بين أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي. فقد كان الشاذلي يجيب من يسأله عن شيخه بقوله: أما فيما مضى فعبد السلام بن مشيش، وأما الآن فأنا استقي من عشرة أبحر: خمسة آدمية وخمسة سماوية، فالخمسة الآدمية: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والنبي ×.
ويحدثنا صاحب (درة الأسرار) وصاحب (المفاخر العالية([15])) عن حسد ابن البراء ومحاولاته الوقيعة بين الشاذلي وبين سلطان تونس فيقول: أن ابن البراء أبلغ السلطان أن ها هنا رجلا من أهل شاذلة سراق الحمير يدعي الشرف ويدعي أنه الفاطمي ويشوش عليك في بلادك، واتهمه بالزندقة.. فأمر السلطان بأن يعقد مجلس يحضره الشاذلي والعلماء والفقهاء ويناقشون أبا الحسن.. وعقد المجلس وسألوه عن نسبه مرارا والشيخ يجيبهم.. وتحدثوا معه في علوم الدين والفقه فوجدوه عالما فقيها أذهل الجميع بحسن إجاباته. فقال لهم السلطان: دعوه عنكم هذا رجل من أكابر الأولياء. فقال له ابن البراء: والله إن تركته ليدخلن عليك أهل تونس ويخرجنك من أظهرهم، فإنهم مجتمعون على بابك، ولكن السلطان الذي تأكد من علم وتقى الشيخ الشاذلي لم يهتم بقول قاضي الجماعة وأمر الفقراء أن ينصرفوا ولبث مع الشيخ وقتا طيبا إلى أن حضر أخو السلطان أبو عبد الله اللحياني وكان كثير الاعتقاد في الشيخ فخرج مع الشاذلي إلى داره وصحبه وأكرمه.
وأحس أبو الحسن الشاذلي بغيرة وحقد قاضي القضاة نحوه فعزم على أن يترك تونس فلما علم السلطان قال: أي شيء يسمع به عن إقليمنا؟ إنه أتاه ولي من أولياء الله فضاق عليه حتى خرج فارا بنفسه.. فقال الشيخ الشاذلي: ما خرجت إلا بنية
الحج، وإذا قضى الله حاجتي أعود إلى تونس إن شاء الله تعالى فسمح له السلطان بالخروج.
ولكن ابن البراء الذي لا يزال قلبه مملوءًا بالغيرة كاد للشاذلي مكيدة أخرى خارج تونس فأعد رسالة سريعة إلى سلطان مصر الملك الكامل محمد الأيوبي. ووصل رسول ابن البراء للملك قبل وصول الشاذلي لمصر في طريقه إلى الحج.. وفي هذه الرسالة يقول قاضي الجماعة بتونس: «أن هذا الواصل إليكم –يقصد الشاذلي- شوش علينا بلادنا وكذلك يفعل ببلادكم».
ولم يكد الشاذلي يصل الإسكندرية حتى قبض عليه، وأرسل في حراسة مشددة للقلعة. وهناك عقد له مجلس من القضاة والعلماء وفقهاء الدين. واكتشفوا علمه وورعه وصدق إيمانه.. وأحس السلطان بأنها مكيدة من ابن البراء فاعتذر للشاذلي وأكرم وفادته.. وذهب أبو الحسن لحج بيت الله تعالى الحرام ثم عاد إلى تونس وفاء لوعده لدى السلطان التونسي. وهناك في هذه المرة التقى بتلميذه الكبير (أبو العباس المرسي) ومكث هناك حوالي عامين عمل خلالهما على تصفية أموره بتونس وأعد رحليه إلى الشرق في سنة 642هـــ حيث سافر إلى الإسكندرية ليقيم بها. وصحب معه أخلص تلاميذه أبو العباس المرسي([16]) الذي تعرف عليه حوالي عام 640هــــ بتونس. وكذا صحب معه إلى الإسكندرية خادمه الأمين أبا العزايم ماضي بن سلطان، والحاج محمد القرطبي، وأبو عبد الله البجائي، وأبا الحسن البجائي، والحزاز، وعددًا كبيرًا من أتباعه الذين أخذوا في التزايد كلما مر بمدينة من المدن في طريقهم إلى الإسكندرية.. ولما وصل الشيخ وأتباعه الإسكندرية اتخذ له دارا بالقرب من (كوم الدكة) ببرج من أبراج السور حبسه السلطان عليه وعلى ذريته، في أسفله مرابط للبهائم، وفي الوسطى منه مساكن للفقراء وجامع كبير، وفي أعلاه مسكنه
وبدأ الشاذلي يلقي دروسه ويدعو الناس إلى طريقته في مسجد العطارين كما
كان يعقد كل ليلة في داره مجلسا يأتي الناس إليه من البلد يسمعون كلامه.
ويقول أبو الحسن الشاذلي ت: إنه انتقل إلى الإسكندرية بناء على رؤيا رآها.. وفيها يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتقل إلى الديار المصرية.
وهنا نجد تشابها واضحًا بين رؤيا الشاذلي وسيدي أحمد البدوي. ونلاحظ أن مشايخ الطرق الصوفية يقولون: إنهم لا يتحركون من مكان إلى مكان إلا بإلهام أو رؤيا تأمرهم بالرحيل إلى هذا المكان أو غيره من الأمكنة.
المهم.. أن الإمام الشاذلي انتقل للديار المصرية وأسس بها طريقته الكبيرة التي انتشرت بها انتشارا سريعا.
يقول الأستاذ السندوبي: وما مثل مجيء الشاذلي إلى الديار المصرية من المغرب إلا كمثل مجيء السيد جمال الدين الأفغاني لها من المشرق كلاهما أحيا نفوسا بمعارفه وبعث همما بمواقفه، وأنار عقولا وملأ صدورا، وحرك قلوبا، ذلك باللطائف العلية والمعارف اللدنية، وهذا بالشرائع القدسية والعلوم الكونية، وكلاهما ترك تلاميذا ومريدين حملوا لواءه، وأذاعوا فضله. وأعلنوا نداءه، وترسموا منهج إصلاحه، وساروا في ضوء مصباحه، وكلاهما تركزت معارفه في واحد من أصحابه بذ أقرانه، وفاق إخوانه، فكان أبو العباس المرسي للشاذلي كمحمد عبده للأفغاني، كما كان ابن عطاء الله السكندري([17]) في إذاعة فضلهما ومبادئهما (بالنسبة للمرسي والشاذلي) كالسيد رشيد رضا بالنسبة لمحمد عبده والأفغاني([18]).
وظل الشاذلي بمصر قرابة أربعة عشر عاما من عام 642هــــ إلى أن توفي سنة 656هــــ «بحميزا» في صعيد مصر في صحراء «عيذاب» وهو في طريقه إلى الحج.
وبهذا المكان «حميزا([19])» قبره.
وبموت الشاذلي خلفه في طريقته تلميذه الكبير وأقرب الناس إلى قلبه أبو العباس المرسي (616هــــ-685هــــ) تلميذه وصاحبه وزوج ابنة الشاذلي. وقد أوصى أبو الحسن أتباعه به قبل أن يموت.. فقال لهم: إذا أنا مت فعليكم بأبي العباس المرسي، فإنه الخليفة من بعدي.
هذا هو الشاذلي: رحلة في طريق الله من المغرب إلى العراق إلى تونس إلى مصر.
ونستطيع أن نلمح من خلال ما كتب عنه الخطوط العريضة لهذه الشخصية الكبيرة، التي كان لها تأثير واضح في حركة الطرق الصوفية في مصر. والتي لا تزال أثرها حتى الآن أوضح ما يكون في انضمام كثير من عامة الشعب وخاصته إلى هذه الطريقة الكبيرة من الطرق الصوفية.
ولعل أوضح ما في شخصية الشاذلي معرفتها الحقة بالله.
يقول الشاذلي في روعة وجلال: «اعرف الله وكن كيف شئت([20])».
ولهذا فقد رأينا أبا الحسن يختلف عن بعض أصحاب الطريق حيث كان يرتدي
أحسن الثياب وأجملها. (دخل عليه مرة فقير وعليه لباس من شعر فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ، وأمسك بملبسه وقال: يا سيدي، ما عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، فأمسك الشيخ ملبسه فوجده فيه خشونة فقال: ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير فاعطوني([21])).
ودخل أبو العباس المرسي يوما على الشاذلي، وفي نفسه أن يأكل الخشن، وأن يلبس الخشن، فقال له الشيخ: يا أبا العباس (اعرف الله وكن كيف شئت).
ويقول أبو الحسن: (يا بني: برد الماء، فإنك إذا شربت الماء الساخن فقلت: الحمد لله تقولها بكزازة. وإذا شربت الماء البارد، فقلت: الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله([22])). الحق أن مثل هذه الأمثلة تعكس مزاجين مختلفين في التصوف:
(أ) العزيمة والتضييق والتشدد.
(ب) السهولة والرخصة والانبساط.
من الفريق الأول: التستري والسري السقطي.
ومن الفريق الثاني: الجنيد والجيلي عبد القادر والشاذلي.
وقد وردت مثل هذه القصة مع خلاف في الحكم في الرسالة القشيرية واللمع.
ويقول فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود: (أن النظرية الشاذلية في الغنى والفقر تفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، وتعلل ذلك بأن الصبر فضيلة في الدنيا فقط. أما الشكر فإنه فضيلة في الدنيا والآخرة([23])).
ويؤكد هذا المعنى أبو الحسن الشاذلي حين يقول: ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة. ولا بقبقة الصناعة وإنما هو بالصبر على الأوامر، واليقين في الهداية([24]).
ويقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [الأعراف:32].
وكان مما يميز شخصية الشاذلي أيضا سعيه للخير ولقضاء مصالح الناس. يقول ابن عطاء الله السكندري: «أخبرني بعض أصحابنا قال: استشفع طالب الشيخ أبا الحسن إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز أن يزاد على مرتبه فذهب الشيخ إليه فأكبر القاضي تاج الدين مجيئه إليه وسأله فيم مجيئه، فقال الشيخ: من أجل فلان الطالب كي تزيده في مرتبه عشرة دراهم. فقال القاضي: يا سيدي هذا له في المكان الفلاني كذا، وفي المكان الفلاني كذا وكذا.. فقال له الشيخ: يا تاج الدين: لا تستكثر على مؤمن عشرة دراهم تزيده إياها، فإن الله تعالى لم يقنع المؤمن بالجنة جزاء حتى زاده النظر إلى وجهه الكريم([25]).
وكان ت لا يرد من يقصده بل يسعى لقضاء مصالحه، وإلى جانب هذا كله، فقد كان الشاذلي مكافحًا بمعنى الكلمة وبنضاله المجيد الذي يذكره له التاريخ هدم الشيخ فكرة عن الصوفية بأنهم سلبيون في الحياة، وأن تصوفهم ضعف فها هو أبو الحسن الشاذلي وهو في أخريات حياته يذهب بنفسه لميدان الوغى في معركة المنصورة يلهم جند الله ويبث فيهم من روحه وقلبه إيمانًا بالنصر.
..وكان الشيخ في أخريات حياته قد كف بصره ووهن عظمه، ولكن عزيمته لم تهن، فذهب إلى ميدان المعركة مع جند مصر في مواجهة جيوش الغرب الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا «ذهب هناك للمنصورة مع قافلة النور تضم رجالات من أعظم الرجال في العلم والدين: العز بن عبد السلام، مجد الدين القشيري، محيي الدين بن سراقة، ومجد الدين الأخميمي، والفقيه الكمال ابن القاضي صدر الدين، والفقيه عبد الحكيم بن أبي الحوافر.
وكان وجود هؤلاء العلماء الأجلاء في المنصورة من عوامل رفع الروح المعنوية للمقاتلين وتقوية إيمانهم وعزمهم.
وكما كان الشاذلي مكافحا وداعيا لنصرة الإسلام والمسلمين، فقد كان يدعو أتباعه إلى السعي للزرق وإلى العمل.
وكان يكره المريد المتعطل الذي يسأل الناس.. وكثيرًا ما حث أتباعه على العمل ويقول لهم: عليكم بالسبب.
يقول أبو العباس المرسي: «دخلت يوما على الشيخ أبي الحسن ت، فقال لي: إن أردت أن تكون من أصحابي، فلا تسأل أحدًا شيئا، وإن أتاك شيء من غير مسألة فلا تقبله. فقلت في نفسي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه». فقال الشيخ: إن كنت مقتديًا به في الأخذ، فكن مقتديا به كيف يأخذ. كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ شيئا إلا ليثيب من يعطيه ويعوضه عليه، فإن تطهرت نفسك وتقدمت هكذا فاقبل وإلا فلا([26])».
ثانيا: الشاذلي العالم
كان الشاذلي رحمه الله على قدر كبير من العلم والمعرفة وكان يحضر مجلسه بعض علماء ونجباء مصر مثل: «العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والحافظ المنذري، وابن الحاجب، وابن الصلاح، وابن عصفور([27])».
ومما يدلنا على علم الشاذلي آراؤه المختلفة في النفس والذات والصفات وإرشاداته القرآنية لبعض الآيات الحكيمة.
فمثلا يقول الشاذلي عن النفس: «مراكز النفس أربع: مركز للشهوة في المخالفات، ومركز للشهوة في الطاعات، ومركز في الميل إلى الراحات، ومركز في العجز عن أداء المفروضات لله، ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة:5] ([28])».
ويقول: «رأس النفس: إرادتها، ويداها وعلمها وعقلها، وجلاها: تدبيرها واختيارها، فإذا أردت جهاد النس فاحكم عليها بالعلم في كل حركة وأضربها بالخوف عن كل حظوظ، وأسجنها في قبضة الله فيما كنت، وأشك عجزك إلى الله كلما غفلت([29])».
وفي الذات والصفات يقول الشاذلي: أركز الأشياء في الصفات، ركزها قبل وجودها، ثم انظر هل للعين أين، أو ترى للكون كان، أو ترى للأمر شأن، وكذلك بعد وجودها([30]).
وقد كان الإمام الشاذلي بنفسه يختار الكتب التي يقرأها أو يدرسها ويشرحها لتلاميذه ومريديه.. ومن أهم هذه الكتب: إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، المواقف والمخاطبات للشيخ محمد بن عبد الجبار النفري، قوت القلوب لأبي طالب المكي، الرسالة القشيرية للإمام القشيري، والشفاء للقاضي عياض.
وداخل جدران مدرسة الشاذلي استطاع هذا الرجل أن يربي الرجال ويعلمهم منهجه وطريقته.. ولكنه لم يضع كتبا.. وعندما سئل لِمَ لَمْ تضع الكتب قال: كتبي أصحابي.
وللشاذلي إشارات لطيفة لبعض آي القرآن الكريم تعد بمثابة تفسير صوفي لهذه الآيات الشريفة.
وقبل أن نستعرض هذه الإشارات الصوفية يجدر بنا أن نشير إلى قضية تأويل القرآن لدى الصوفية.
يعتمد الصوفية في تأويلهم القرآن -أي في مذهبهم الصوفي في تفسير القرآن-
على حديث ذكر بروايات متعددة وبألفاظ مختلفة ينسب إلى رسول الله ×: «ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع».
يقول الدكتور كمال جعفر: «ونرى أن اللفظين: «ظاهر» و «باطن» قرآنيان ولا يمكننا أن نعترض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق والتاريخ، كما أن به ناحية أخرى ربما كانت أخفى وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص، وأن التعبيرات الحديثة، مثل قولنا قراءة «ما بين السطور» لشاهد على أن لكل نص ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى تعمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك([31])».
ثم يذكر الدكتور جعفر ما نصه: «ويرى بعض النقاد أنه بالنسبة للتفسير الصوفي للقرآن يجب التفريق بين نوعين هامين، هما: التفسير النظري الذي يتخذ أسسا فلسفية عمادًا له، والثاني ذلك التفسير الإشاري الذي لا يستند إلى نظريات أو مبادئ فلسفية. على أن بعض المتطرفين لا يقبلون أي تفسير صوفي للقرآن مهما دعا إلى سمو روحي أو أخلاقي. وفي ذلك ما لا يخفى من تضيق وتزمت لا مبرر له. والفريق الأول من النقاد يرون أن في القرآن ذاته ما يشهد لهذا اللون من التفسير الإشاري أو الفيض. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] ([32])».
والدكتور جعفر ممن يرون فائدة في هذا اللون من التفسير الإشاري أو فهم القرآن «على أن يراعى فيه اتفاقه مع الروح العامة للقرآن ومع الاستعمال اللغوي وما أثر من تعاليمه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن يكون لهذا الفهم دوره الفعال في التأثير والتنشيط الروحي الذي يبعث على تنمية المشاعر النبيلة وتحصيل مكارم الأخلاق وبعد فهو فهم يضيف ثروة لا يستهان بها إلى تراثنا الروحي الإسلامي([33])».
أولا: الإمام الشاذلي والطريقة الشاذلية - حياته... رحلاته... ملامح شخصيته
أبو الحسن الشاذلي: (593-656هــــ) – (1197م-1258م)
هو علي بن عبد الله بن عبد الجبار بن تميم بن هرمز بن يوسف بن يوشع بن ورد بن بطال بن أحمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب.
هكذا أجمعت كتب الطبقات والسيرة على هذا النسب وعلى صحة نسبه إلى الإمام الحسن بن علي ت... وقد أجمعت جميع المصادر التي أرخت للشاذلي أن مولده كان سنة 593هــــ بقرية «غمارة» المغربية من مدينة سبتة. ولم يخالف هذا الإجماع غير السيد أبي الحسن القاوقجي في «البدر المنير»،
و «خلاصة الزهر» حيث قال: أن مولده كان سنة 571هــــ. ولم يذكر المصدر الذي استقى منه هذا الخبر، وليس لنا أن نخالف الإجماع لرأي فردي([1]).
ولقد عاش أبو الحسن الشاذلي سنوات عمره مثالا للشيخ العالم الصوفي الحق.
..يقول الشيخ مكين الدين الأسمر: «مكثت أربعين سنة يشكل علي في طريق القوم، فلا أجد من يتكلم عليه ويزيل إشكاله حتى ورد الشيخ أبو الحسن ت فأزال كل شيء أشكل علي([2])».
ومن مكاتبات تلميذه الكبير أبو العباس المرسي لبعض أصحابه بتونس يصف الشيخ أبو الحسن: «...وإني صحبت رأسا من رءوس الصديقين، وأخذت منه سرا، لا يكون إلا لواحد بعد واحد، والشرح يطول، وبه أفتخر، وإليه أنسب ت، وهو أبو الحسن الشاذلي([3])».
رحلاته:
في نفس القرية الصغيرة «غمارة» القربية من مدينة سبتة التي ولد فيها الشاذلي وبها نشأ ونما.. وبها أيضا تعلم القرآن والحديث على يد شيوخها. واشتاق الصبي وهو صغير إلى علوم القوم فاتجه إلى شيخ من شيوخ الصوفية الكبار، فرحل إلى مدينة «فاس» وكان ذلك الشيخ هو الصوفي الكبير عبد الله بن أبي الحسن بن حرازم([4]) ولبس منه خرقة التصوف وسلك الطريق على يديه. ومن المعروف أن الشيخ عبد الله بن حرازم كان من أكبر تلامذة سيدي أبي مدين التلمساني. وهنا نرى بصمات مدرسة أبي مدين ودورها الكبير في تأسيس الطرق الصوفية والعمل بوعي وتخطيط كاملين لإقامة هذه الطرق. فاختاروا تلاميذهم بذكاء وبعثوهم بعد أن زودوهم بتعاليمهم حتى أصبحوا فيما بعد شيوخ الطرق الصوفية وروادها.. فقد التقى أبو مدين هذا كما قلنا سابقا –بالجيلاني بمكة.. وأتم بإرشاده علومه الصوفية وتأثر بطريقته، ويلاحظ أن أم سيدي أحمد البدوي حفيدة لأبي مدين.. وأبو مدين هذا هو أستاذ ابن مشيش. وابن مشيش هو أستاذ أبي الحسن الشاذلي. وأبو الحسين الشاذلي تلميذ أبي الفتح الواسطي وأبو الفتح الواسطي تلميذ الرفاعي كما أن الواسطي جد سيدي إبراهيم الدسوقي.
ومن هنا أستطيع أن أكرر ما سبق تأكيده من أن أبا مدين وابن مشيش والواسطي هم الرواد الحقيقيون وهم الرجال الذين عملوا على نشر أفكارهم على أوسع نطاق بنظام دقيق للغاية في العالم الإسلامي وخصوصا في مصر التي كانت تعد في ذلك الوقت بمثابة مركز الخلافة.
وإذا أردنا تتبع رحلات الشيخ أبو الحسن الشاذلي وجدنا أنه بعد لبس خرقة
التصوف من أستاذه عبد الله بن حرازم تلميذ أبي مدين رحل إلى «زويلة» ثم إلى مدينة تونس وتلقى على علمائها علوم الشريعة وتفقه على مذهب مالك ودرس علوم الفقه والأدب.
ويقول المرحوم الدكتور جمال الشيال: «إنه يبدو أن الجو في تونس كان أصلح منه في المغرب الأقصى، وحرية الفكر والدراسة مكفولة هناك إلى حد ما وفيها آنذاك كان يقيم عدد كبير من أعلام المتصوفة من أمثال الشيخ أبي محمد المهدوي([5])، والشيخ أبي سعيد الباجي([6]).. وقد عاصر الشاذلي أثناء تلقيه العلم في تونس هؤلاء الأعلام، ولا شك أنه اتصل بهم وتتلمذ عليهم وأخذ عنهم([7])».
«وكان الجو في تونس كلها يضوع منه شذى تعاليم أبي مدين وروحانيته، والكل هناك من تلاميذه الذين يسلكون طريقته، وقد تأثر الشاذلي بهذا الجو تأثرا شديدا وعشق التصوف وحياة المتصوفة منذ ذلك الحين ومنذ تلقى الطريقة من قبل في مدينة فاس على يد أبي عبد الله بن حرازم([8])».
وقد تجول الشاذلي في معظم بلدان المغرب وسافر إلى العراق واجتمع هناك بالولي أبي الفتح الواسطي عام 618هــــ تلميذ الإمام الرفاعي الكبير الذي أرسل الواسطي للإسكندرية لينشر بها الطريقة الرفاعية.. وكان الشاذلي أكثر اتصاله بالعباد والمتصوفة، وكان أكثر تأثره في رحلته هذه بالشيخ أبي الفتح الواسطي وهو من أكبر تلاميذ سيدي أحمد الرفاعي وكانت له منزلة عظيمة عند الرفاعية
مما دعاهم إلى إرساله إلى مصر ليعمل على نشر طريقتهم فيها، ووصل أبي الفتح إلى الإسكندرية في سنة 630هــــ وأقام بها مدة يعظ الناس ويدعوهم إلى طريقته وكان يلقي دروسه في مسجد العطارين، وقد قامت بينه وبين علماء الإسكندرية وفقهائها مساجلات وخصومات علمية كثيرة وتوفي بالإسكندرية في سنة 632هــــ وما زال ضريحه موجودا بالقرب من ضريح أبي الدرداء([9])».
يقول الشاذلي: «دخلت العراق ولقيت جملة من المشايخ فلم أر أحسن من الشيخ أبي الفتح الواسطي([10])» ومن هنا نؤكد مرة أخرى أثر الواسطي الكبير في حركة الطرق الصوفية فهو التلميذ النجيب لشيخ الطريقة الرفاعية وهو كما ذكرنا أستاذ الشاذلي صاحب الطريقة الشاذلية الكبيرة، ثم هو جد الإمام إبراهيم الدسوقي شيخ الطريقة البرهامية..
ومن هذا كله نرى أن الواسطي لم يسهم في إرساء وتأسيس حركة الطرق الصوفية في مصر فقط بل كان وراء نجاحها الكبير في القرن السابع الهجري أيضا. ولعله في مقدورنا الآن أن ندلل على هذا بأن الطرق الصوفية في مصر معظمها إن لم يكن كلها ذو أصل مغربي أو عراقي وليس هناك تصوف محلي ذو قيمة تذكر حتى الدسوقي الذي ولد وعاش في مصر كان حفيدا لأبي الفتح الواسطي العراقي([11]).
وكان للقاء الواسطي بأبي الحسن الشاذلي أثر كبير في مجرى حياة الشيخ الشاذلي فحين ذهب للعراق واجتمع به عام 618هــــ أبلغه أنه جاء للعراق يطلب القطب فقال له أبو الفتح الواسطي: أتطلب القطب بالعراق والقطب ببلادك فرجع للمغرب
واجتمع بالقطب الجليل أستاذه الروحي الكبير أبي محمد عبد السلام بن مشيش. وكانت مقابلته الأولى لأستاذه ابن مشيش في رأس جبل حيث كان يرابط متعبدا زاهدا خاشعا.. قال الشاذلي: «لما قدمت عليه وهو ساكن برباطه برأس جبل اغتسلت وخرجت من علمي وطلعت إليه فقير وإذا به هابط علي، فلما رآني قال: مرحبا بعلي بن عبد الله بن عبد الجبار،.. وذكر نسبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: يا علي طلعت إلينا فقيرا من علمك؟ أخذت منا علمي الدنيا والآخرة، فأخذني الدهش، وأقمت عنده أياما إلى أن فتح الله على بصيرتي، ورأيت له خوارق عادات وكرامات([12])».
وبعد أن صحبه مدة قال ابن مشيش للشاذلي: «يا علي: ارتحل إلى أفريقيا وأسكن بها بلدا تسمى شاذلة فإن الله تعالى يسميك الشاذلي. وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد تونس، ويؤتى عليك من قبل السلطنة، وبعد ذلك تنتقل إلى بلاد المشرق وترث فيها القطبانية قال: فقلت له يا سيدي أوصني فقال لي: الله الله والناس. تنزه لسانك عن ذكرهم وقلبك عن التماثيل من قبلهم وعليك بحفظ الجوارح وأداء الفرائض وقد تمت ولاية الله عليك ولا تذكرهم إلا بواجب حق الله عليك وقد تم ورعك([13])».
وصدع الشاذلي لأمر أستاذه وارتحل إلى «شاذلة» وهي قرية قريبة من تونس وهناك قابل الشيخ التقي الصالح سيدي أبو محمد عبد الله بن سلامة الحبيبي الذي كان يرتقب لقاء الشاذلي من مدة، ويقول الشيخ الحبيبي كنت أحضر مجلس سيدنا الشيخ العارف أبي حفص الجاسوس، فأخذت بيده يوما أطلب منه أن يقبلني تلميذا له وقلت له: يا سيدي إني اتخذتك شيخي، فقال لي: يا بني ارتقب أستاذك حتى يصل من المغرب وهو شريف حسني من كبار الأولياء، وهو أستاذك وإليه تنتسب،
فكنت أرتقب كل من يأتي من الفقراء المغاربة وأصحبه، إلى أن من الله علي بلقاء الشيخ أبي الحسن فاتخذته شيخي وصحبته([14]). وعلى نهج أستاذه ابن مشيش لجأ الشاذ لي إلى الجبل.
وفي غار بجبل «زغوان» المطل على شاذلة سكن أبو الحسن الجبل وصحبه في معظم الأوقات تلميذه الحبيبي.
وظل الشاذلي في مغارته متعبدا واصلا الليل بالنهار في عبادة ربه والتقرب إليه بالنوافل والصيام.
وطالت إقامة الشاذلي «بشاذلة» وعرف هناك وذاع صيته وبدأت نبوءة أستاذه ابن مشيش تتحقق. فعرف منذ ذلك الحين بالشاذلي. وبدأ الناس يقصدونه، ثم أنه خرج عن رباطه فاتخذ له دارا (بمسجد البلاد) بمدينة تونس وأصبح ينتقل بينها وبين زاوية بجبل زغوان.
وأصبحت دروس الشيخ الشاذلي ومواعظه وتعاليمه بالمسجد من الأمور التي يحرص على الذهاب إليها مئات المريدين.. فبدأت حلقة الشيخ تتسع يوما بعد يوم ويزداد صيته في طول البلاد وعرضها. فكان إذا جلس للدرس التف حوله الأتباع المتكاثرون وإذا سار مشى في ركبه عشرات وعشرات.
وهذا الإقبال المتزايد من أهل تونس حول الشيخ الشاذلي عرضه لأحقاد ودسائس قاضي الجماعة بمدينة تونس (أبو القاسم بن البراء) فبدأ يكيد للشاذلي لدى سلطان تونس (أبي زكريا الحفصي) واتهمه بأنه جاسوس فاطمي جاء يتآمر عليه فهو حسني علوي.
والحق أن أبا القاسم بن البراء قاضي الجماعة بتونس كان ذكيا في ادعائه.. فقد
كانت تونس قبل ذلك فاطمية، وابن البراء لا يرى خلافا في كلمة القطب إلا أنها ستار يخفي وراءه معنى الإمام الفاطمي أو المهدي. لكن ابن البراء لم يكن على حق. فالشاذلي كان يقدر ويحترم الخلفاء الراشدين الأربعة ويعتبر أنه لا فرق بين أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي. فقد كان الشاذلي يجيب من يسأله عن شيخه بقوله: أما فيما مضى فعبد السلام بن مشيش، وأما الآن فأنا استقي من عشرة أبحر: خمسة آدمية وخمسة سماوية، فالخمسة الآدمية: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والنبي ×.
ويحدثنا صاحب (درة الأسرار) وصاحب (المفاخر العالية([15])) عن حسد ابن البراء ومحاولاته الوقيعة بين الشاذلي وبين سلطان تونس فيقول: أن ابن البراء أبلغ السلطان أن ها هنا رجلا من أهل شاذلة سراق الحمير يدعي الشرف ويدعي أنه الفاطمي ويشوش عليك في بلادك، واتهمه بالزندقة.. فأمر السلطان بأن يعقد مجلس يحضره الشاذلي والعلماء والفقهاء ويناقشون أبا الحسن.. وعقد المجلس وسألوه عن نسبه مرارا والشيخ يجيبهم.. وتحدثوا معه في علوم الدين والفقه فوجدوه عالما فقيها أذهل الجميع بحسن إجاباته. فقال لهم السلطان: دعوه عنكم هذا رجل من أكابر الأولياء. فقال له ابن البراء: والله إن تركته ليدخلن عليك أهل تونس ويخرجنك من أظهرهم، فإنهم مجتمعون على بابك، ولكن السلطان الذي تأكد من علم وتقى الشيخ الشاذلي لم يهتم بقول قاضي الجماعة وأمر الفقراء أن ينصرفوا ولبث مع الشيخ وقتا طيبا إلى أن حضر أخو السلطان أبو عبد الله اللحياني وكان كثير الاعتقاد في الشيخ فخرج مع الشاذلي إلى داره وصحبه وأكرمه.
وأحس أبو الحسن الشاذلي بغيرة وحقد قاضي القضاة نحوه فعزم على أن يترك تونس فلما علم السلطان قال: أي شيء يسمع به عن إقليمنا؟ إنه أتاه ولي من أولياء الله فضاق عليه حتى خرج فارا بنفسه.. فقال الشيخ الشاذلي: ما خرجت إلا بنية
الحج، وإذا قضى الله حاجتي أعود إلى تونس إن شاء الله تعالى فسمح له السلطان بالخروج.
ولكن ابن البراء الذي لا يزال قلبه مملوءًا بالغيرة كاد للشاذلي مكيدة أخرى خارج تونس فأعد رسالة سريعة إلى سلطان مصر الملك الكامل محمد الأيوبي. ووصل رسول ابن البراء للملك قبل وصول الشاذلي لمصر في طريقه إلى الحج.. وفي هذه الرسالة يقول قاضي الجماعة بتونس: «أن هذا الواصل إليكم –يقصد الشاذلي- شوش علينا بلادنا وكذلك يفعل ببلادكم».
ولم يكد الشاذلي يصل الإسكندرية حتى قبض عليه، وأرسل في حراسة مشددة للقلعة. وهناك عقد له مجلس من القضاة والعلماء وفقهاء الدين. واكتشفوا علمه وورعه وصدق إيمانه.. وأحس السلطان بأنها مكيدة من ابن البراء فاعتذر للشاذلي وأكرم وفادته.. وذهب أبو الحسن لحج بيت الله تعالى الحرام ثم عاد إلى تونس وفاء لوعده لدى السلطان التونسي. وهناك في هذه المرة التقى بتلميذه الكبير (أبو العباس المرسي) ومكث هناك حوالي عامين عمل خلالهما على تصفية أموره بتونس وأعد رحليه إلى الشرق في سنة 642هـــ حيث سافر إلى الإسكندرية ليقيم بها. وصحب معه أخلص تلاميذه أبو العباس المرسي([16]) الذي تعرف عليه حوالي عام 640هــــ بتونس. وكذا صحب معه إلى الإسكندرية خادمه الأمين أبا العزايم ماضي بن سلطان، والحاج محمد القرطبي، وأبو عبد الله البجائي، وأبا الحسن البجائي، والحزاز، وعددًا كبيرًا من أتباعه الذين أخذوا في التزايد كلما مر بمدينة من المدن في طريقهم إلى الإسكندرية.. ولما وصل الشيخ وأتباعه الإسكندرية اتخذ له دارا بالقرب من (كوم الدكة) ببرج من أبراج السور حبسه السلطان عليه وعلى ذريته، في أسفله مرابط للبهائم، وفي الوسطى منه مساكن للفقراء وجامع كبير، وفي أعلاه مسكنه
وبدأ الشاذلي يلقي دروسه ويدعو الناس إلى طريقته في مسجد العطارين كما
كان يعقد كل ليلة في داره مجلسا يأتي الناس إليه من البلد يسمعون كلامه.
ويقول أبو الحسن الشاذلي ت: إنه انتقل إلى الإسكندرية بناء على رؤيا رآها.. وفيها يأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن ينتقل إلى الديار المصرية.
وهنا نجد تشابها واضحًا بين رؤيا الشاذلي وسيدي أحمد البدوي. ونلاحظ أن مشايخ الطرق الصوفية يقولون: إنهم لا يتحركون من مكان إلى مكان إلا بإلهام أو رؤيا تأمرهم بالرحيل إلى هذا المكان أو غيره من الأمكنة.
المهم.. أن الإمام الشاذلي انتقل للديار المصرية وأسس بها طريقته الكبيرة التي انتشرت بها انتشارا سريعا.
يقول الأستاذ السندوبي: وما مثل مجيء الشاذلي إلى الديار المصرية من المغرب إلا كمثل مجيء السيد جمال الدين الأفغاني لها من المشرق كلاهما أحيا نفوسا بمعارفه وبعث همما بمواقفه، وأنار عقولا وملأ صدورا، وحرك قلوبا، ذلك باللطائف العلية والمعارف اللدنية، وهذا بالشرائع القدسية والعلوم الكونية، وكلاهما ترك تلاميذا ومريدين حملوا لواءه، وأذاعوا فضله. وأعلنوا نداءه، وترسموا منهج إصلاحه، وساروا في ضوء مصباحه، وكلاهما تركزت معارفه في واحد من أصحابه بذ أقرانه، وفاق إخوانه، فكان أبو العباس المرسي للشاذلي كمحمد عبده للأفغاني، كما كان ابن عطاء الله السكندري([17]) في إذاعة فضلهما ومبادئهما (بالنسبة للمرسي والشاذلي) كالسيد رشيد رضا بالنسبة لمحمد عبده والأفغاني([18]).
وظل الشاذلي بمصر قرابة أربعة عشر عاما من عام 642هــــ إلى أن توفي سنة 656هــــ «بحميزا» في صعيد مصر في صحراء «عيذاب» وهو في طريقه إلى الحج.
وبهذا المكان «حميزا([19])» قبره.
وبموت الشاذلي خلفه في طريقته تلميذه الكبير وأقرب الناس إلى قلبه أبو العباس المرسي (616هــــ-685هــــ) تلميذه وصاحبه وزوج ابنة الشاذلي. وقد أوصى أبو الحسن أتباعه به قبل أن يموت.. فقال لهم: إذا أنا مت فعليكم بأبي العباس المرسي، فإنه الخليفة من بعدي.
هذا هو الشاذلي: رحلة في طريق الله من المغرب إلى العراق إلى تونس إلى مصر.
ونستطيع أن نلمح من خلال ما كتب عنه الخطوط العريضة لهذه الشخصية الكبيرة، التي كان لها تأثير واضح في حركة الطرق الصوفية في مصر. والتي لا تزال أثرها حتى الآن أوضح ما يكون في انضمام كثير من عامة الشعب وخاصته إلى هذه الطريقة الكبيرة من الطرق الصوفية.
ولعل أوضح ما في شخصية الشاذلي معرفتها الحقة بالله.
يقول الشاذلي في روعة وجلال: «اعرف الله وكن كيف شئت([20])».
ولهذا فقد رأينا أبا الحسن يختلف عن بعض أصحاب الطريق حيث كان يرتدي
أحسن الثياب وأجملها. (دخل عليه مرة فقير وعليه لباس من شعر فلما فرغ الشيخ من كلامه، دنا من الشيخ، وأمسك بملبسه وقال: يا سيدي، ما عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، فأمسك الشيخ ملبسه فوجده فيه خشونة فقال: ولا عبد الله بمثل هذا اللباس الذي عليك، لباسي يقول: أنا غني عنكم فلا تعطوني، ولباسك يقول: أنا فقير فاعطوني([21])).
ودخل أبو العباس المرسي يوما على الشاذلي، وفي نفسه أن يأكل الخشن، وأن يلبس الخشن، فقال له الشيخ: يا أبا العباس (اعرف الله وكن كيف شئت).
ويقول أبو الحسن: (يا بني: برد الماء، فإنك إذا شربت الماء الساخن فقلت: الحمد لله تقولها بكزازة. وإذا شربت الماء البارد، فقلت: الحمد لله استجاب كل عضو فيك بالحمد لله([22])). الحق أن مثل هذه الأمثلة تعكس مزاجين مختلفين في التصوف:
(أ) العزيمة والتضييق والتشدد.
(ب) السهولة والرخصة والانبساط.
من الفريق الأول: التستري والسري السقطي.
ومن الفريق الثاني: الجنيد والجيلي عبد القادر والشاذلي.
وقد وردت مثل هذه القصة مع خلاف في الحكم في الرسالة القشيرية واللمع.
ويقول فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود: (أن النظرية الشاذلية في الغنى والفقر تفضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، وتعلل ذلك بأن الصبر فضيلة في الدنيا فقط. أما الشكر فإنه فضيلة في الدنيا والآخرة([23])).
ويؤكد هذا المعنى أبو الحسن الشاذلي حين يقول: ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة. ولا بقبقة الصناعة وإنما هو بالصبر على الأوامر، واليقين في الهداية([24]).
ويقول تعالى في كتابه العزيز: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ القِيَامَةِ﴾ [الأعراف:32].
وكان مما يميز شخصية الشاذلي أيضا سعيه للخير ولقضاء مصالح الناس. يقول ابن عطاء الله السكندري: «أخبرني بعض أصحابنا قال: استشفع طالب الشيخ أبا الحسن إلى القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز أن يزاد على مرتبه فذهب الشيخ إليه فأكبر القاضي تاج الدين مجيئه إليه وسأله فيم مجيئه، فقال الشيخ: من أجل فلان الطالب كي تزيده في مرتبه عشرة دراهم. فقال القاضي: يا سيدي هذا له في المكان الفلاني كذا، وفي المكان الفلاني كذا وكذا.. فقال له الشيخ: يا تاج الدين: لا تستكثر على مؤمن عشرة دراهم تزيده إياها، فإن الله تعالى لم يقنع المؤمن بالجنة جزاء حتى زاده النظر إلى وجهه الكريم([25]).
وكان ت لا يرد من يقصده بل يسعى لقضاء مصالحه، وإلى جانب هذا كله، فقد كان الشاذلي مكافحًا بمعنى الكلمة وبنضاله المجيد الذي يذكره له التاريخ هدم الشيخ فكرة عن الصوفية بأنهم سلبيون في الحياة، وأن تصوفهم ضعف فها هو أبو الحسن الشاذلي وهو في أخريات حياته يذهب بنفسه لميدان الوغى في معركة المنصورة يلهم جند الله ويبث فيهم من روحه وقلبه إيمانًا بالنصر.
..وكان الشيخ في أخريات حياته قد كف بصره ووهن عظمه، ولكن عزيمته لم تهن، فذهب إلى ميدان المعركة مع جند مصر في مواجهة جيوش الغرب الصليبية بقيادة لويس التاسع ملك فرنسا «ذهب هناك للمنصورة مع قافلة النور تضم رجالات من أعظم الرجال في العلم والدين: العز بن عبد السلام، مجد الدين القشيري، محيي الدين بن سراقة، ومجد الدين الأخميمي، والفقيه الكمال ابن القاضي صدر الدين، والفقيه عبد الحكيم بن أبي الحوافر.
وكان وجود هؤلاء العلماء الأجلاء في المنصورة من عوامل رفع الروح المعنوية للمقاتلين وتقوية إيمانهم وعزمهم.
وكما كان الشاذلي مكافحا وداعيا لنصرة الإسلام والمسلمين، فقد كان يدعو أتباعه إلى السعي للزرق وإلى العمل.
وكان يكره المريد المتعطل الذي يسأل الناس.. وكثيرًا ما حث أتباعه على العمل ويقول لهم: عليكم بالسبب.
يقول أبو العباس المرسي: «دخلت يوما على الشيخ أبي الحسن ت، فقال لي: إن أردت أن تكون من أصحابي، فلا تسأل أحدًا شيئا، وإن أتاك شيء من غير مسألة فلا تقبله. فقلت في نفسي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهدية وقال: «ما أتاك من غير مسألة فخذه». فقال الشيخ: إن كنت مقتديًا به في الأخذ، فكن مقتديا به كيف يأخذ. كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ شيئا إلا ليثيب من يعطيه ويعوضه عليه، فإن تطهرت نفسك وتقدمت هكذا فاقبل وإلا فلا([26])».
ثانيا: الشاذلي العالم
كان الشاذلي رحمه الله على قدر كبير من العلم والمعرفة وكان يحضر مجلسه بعض علماء ونجباء مصر مثل: «العز بن عبد السلام، وابن دقيق العيد، والحافظ المنذري، وابن الحاجب، وابن الصلاح، وابن عصفور([27])».
ومما يدلنا على علم الشاذلي آراؤه المختلفة في النفس والذات والصفات وإرشاداته القرآنية لبعض الآيات الحكيمة.
فمثلا يقول الشاذلي عن النفس: «مراكز النفس أربع: مركز للشهوة في المخالفات، ومركز للشهوة في الطاعات، ومركز في الميل إلى الراحات، ومركز في العجز عن أداء المفروضات لله، ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ [التوبة:5] ([28])».
ويقول: «رأس النفس: إرادتها، ويداها وعلمها وعقلها، وجلاها: تدبيرها واختيارها، فإذا أردت جهاد النس فاحكم عليها بالعلم في كل حركة وأضربها بالخوف عن كل حظوظ، وأسجنها في قبضة الله فيما كنت، وأشك عجزك إلى الله كلما غفلت([29])».
وفي الذات والصفات يقول الشاذلي: أركز الأشياء في الصفات، ركزها قبل وجودها، ثم انظر هل للعين أين، أو ترى للكون كان، أو ترى للأمر شأن، وكذلك بعد وجودها([30]).
وقد كان الإمام الشاذلي بنفسه يختار الكتب التي يقرأها أو يدرسها ويشرحها لتلاميذه ومريديه.. ومن أهم هذه الكتب: إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، المواقف والمخاطبات للشيخ محمد بن عبد الجبار النفري، قوت القلوب لأبي طالب المكي، الرسالة القشيرية للإمام القشيري، والشفاء للقاضي عياض.
وداخل جدران مدرسة الشاذلي استطاع هذا الرجل أن يربي الرجال ويعلمهم منهجه وطريقته.. ولكنه لم يضع كتبا.. وعندما سئل لِمَ لَمْ تضع الكتب قال: كتبي أصحابي.
وللشاذلي إشارات لطيفة لبعض آي القرآن الكريم تعد بمثابة تفسير صوفي لهذه الآيات الشريفة.
وقبل أن نستعرض هذه الإشارات الصوفية يجدر بنا أن نشير إلى قضية تأويل القرآن لدى الصوفية.
يعتمد الصوفية في تأويلهم القرآن -أي في مذهبهم الصوفي في تفسير القرآن-
على حديث ذكر بروايات متعددة وبألفاظ مختلفة ينسب إلى رسول الله ×: «ما من آية في القرآن إلا ولها ظاهر وباطن وحد ومطلع».
يقول الدكتور كمال جعفر: «ونرى أن اللفظين: «ظاهر» و «باطن» قرآنيان ولا يمكننا أن نعترض على الفكرة القائلة بأن في القرآن ناحية واضحة تدرك في ضوء الاشتقاق والتاريخ، كما أن به ناحية أخرى ربما كانت أخفى وأعمق بالنسبة للأولى، لأن هذه الفكرة يمكن أن تطبق في الواقع على أي نص، وأن التعبيرات الحديثة، مثل قولنا قراءة «ما بين السطور» لشاهد على أن لكل نص ناحية قريبة مباشرة تدرك بلا عناء، وناحية أخرى تحتاج إلى تعمل وجهد في استيعابها وفهمها، كما لا يمكننا أن ننكر أن الحقيقة الإنسانية الثابتة تشير إلى عدم تساوي الناس في الفهم والإدراك([31])».
ثم يذكر الدكتور جعفر ما نصه: «ويرى بعض النقاد أنه بالنسبة للتفسير الصوفي للقرآن يجب التفريق بين نوعين هامين، هما: التفسير النظري الذي يتخذ أسسا فلسفية عمادًا له، والثاني ذلك التفسير الإشاري الذي لا يستند إلى نظريات أو مبادئ فلسفية. على أن بعض المتطرفين لا يقبلون أي تفسير صوفي للقرآن مهما دعا إلى سمو روحي أو أخلاقي. وفي ذلك ما لا يخفى من تضيق وتزمت لا مبرر له. والفريق الأول من النقاد يرون أن في القرآن ذاته ما يشهد لهذا اللون من التفسير الإشاري أو الفيض. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ القُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد:24] ([32])».
والدكتور جعفر ممن يرون فائدة في هذا اللون من التفسير الإشاري أو فهم القرآن «على أن يراعى فيه اتفاقه مع الروح العامة للقرآن ومع الاستعمال اللغوي وما أثر من تعاليمه صلى الله عليه وسلم، وعلى أن يكون لهذا الفهم دوره الفعال في التأثير والتنشيط الروحي الذي يبعث على تنمية المشاعر النبيلة وتحصيل مكارم الأخلاق وبعد فهو فهم يضيف ثروة لا يستهان بها إلى تراثنا الروحي الإسلامي([33])».
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin