الطريقة الأحمدية لسيدى أحمد البدوى – الدكتور عامر النجار
الخميس, 01 ديسمبر 2016 كتبه شادي أحمدحجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط طباعة البريد الإلكتروني كٌن أول من يعلق!
1-السيد البدوي، صاحب الطريقة البدوية
عاش سيدي أحمد البدوي في القرن السابع الهجري، وأسس واحدة من اكبر الطرق الصوفية في مصر (الطريقة البدوية)، وحينما نتناول هذه الشخصية وهذه الطريقة بالدراسة قد نصل إلى نتائج هامة في دراسة الطرق الصوفية.
إنَّها شخصية الرجل الذي عرف بالصمت الطويل، ومع ذلك أسس هذه الطريقة الكبيرة التي انتشرت سريعًا بين قوى ومدن مصر، واتبعها ألوف عديدة من أبناء هذا الوادي، واعتقدوا في صاحبها اعتقادًا كبيرًا.
فمن ذلك؛ هو البدوي الذي دخل في طريقته جماهير كثيرة من شعب مصر في القرن السابع الهجري، وفي القرون التالية له، وإلى الآن ينضم لها الألوف من أبناء هذا الشعب، فالبدوية تعد من أكبر الطرق في مصر.
سيدي أحمد البدوي، وحياته:
من المعروف، أنَّ السيد أحمد البدوي عربي خالص، انحدر أصله من أشرف وأكرم البيوت العربية، وينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه.
وقد انتقل أجداده إلى مدينة فاس المغربية حوالي عام 73هـ - 692م، عندما اضطربت أحوال الجزيرة العربية، وولد أحمد بفاس في زقاق الحجر، ويحتمل أن يكون ذلك في عام 566هـ (1199 – 1200م) ([1]).
ويقول الشيخ أحمد حجاب في كتابه عن ابدوي: (اتفق جميع المؤرخين على أن في أجداد سيدي أحمد البدوي من الأئمة الاثنى عشرية تسعة أئمة، وهم: الإمام علي كرم اللَّه وجهه، وابنه الإمام الحسين المتوفى سنة 61 هجرية، وابنه الإمام محمد الباقر المتوفى سنة 113 وقبل سنة 117، وابنه جعفر الصادق المتوفى سنة 220، وابنه علي الهادي المتوفى سنة 254، وهم على هذا الترتيب مثبتون في النسب الذي رواه المقريزي، وأثبت المقريزي من بعدهم جعفرًا، وابنه حسنًا، وجعفر هو أخو حسن العسكري الشهيد، وحسن هو ابن أخي حسن العسكري الشهير، سمي باسم عمه([2]).
وسيدي أحمد البدوي، هو أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن عمر بن علي بن عثمان بن حسين بن محمد بن موسى بن يحيى بن عيسى بن علي بن محمد بن حسن بن جعفر بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ويذكر المقريزي، أنَّه شهد بصحة نسبته جماعة من أئمة المعاصرين، منهم: القاضي عبد الوهاب بن التلميذ، والسيد عبيد بن محمد الشريف الحسني، الحاكم بالمدينة المنورة، وأودعت نسخة من هذا النسب بدار الرصاص، بالمدينة المنورة.
ومن هنا نلاحظ أنَّ نسبه ينتهي إلى الحسين بن علي وليس الحسن، وهذا على خلاف ما نراه من صوفية المغرب الذين هم من أصل مغربي؛ إذ تعودنا أن نرى أن نسبهم ينتهي إلى الحسن.
يقول الدكتور علي صافي([3]): (وأما صوفية المشرق في العراق ومصر والشام، وفي فارس وبلاد خراسان، فإنَّهم عودونا الانتساب إلى الحسين، والسبب في انتساب
المشارقة إلى الحسين والمغاربة إلى الحسن راجع فيما أعتقد إلى أنَّ المشارقة كانوا كالشيعة في محاولة الوصول إلى الحكم والاستئثار بالسلطة. أمَّا الذين انتسبوا إلى الحسن فكانوا يدعون الخلافة الباطنية غير حافلين في شيء بخلافة أهل الظاهر، حيث زعموا أنَّ اللَّه عقد للحسن الخلافة الباطنية، بعد أن نزل لمعاوية عن الخلافة الظاهرية([4]).
وعلى ما ذكرنا، فإنَّه كان بمدينة فاس المغربية سنة 596هـ، وكان سادس إخوته، وعرف منذ صغره بصمته الطويل، ونظره الطويل إلى السماء، (وقد كانت أحوال البدوي في نشأته وحداثة سنه غريبة عجيبة، فقد ذكروا أنَّه كان يلزم الصمت، ولا يكلم الناس إلا بالإشارات، وأنَّه كان يظل أكثر أوقاته شاخصًا بعينيه إلى السماء([5]).
ويقول صاحب (الجواهر السنية): (ويقال إنَّ ميوله نحو الزهد أخذت تظهر منذ ذلك الدور المبكر؛ حتَّى لقبه قومه في طفولته بالزاهد، كما يقال إنَّه لبس خرقة التصوف في فاس على يد الشيخ عبد الجليل النيسابوري، وكان الشريف حسن شقيق السيد أحمد البدوي، قد أخذ خرقة التصوف عن ذلك الشيخ، فجمع أخاه أحمد عليه ليلبسه هو الآخر خرقة التصوف)([6]).
وفي سنة 603هـ، هاجرت أسرة السيد أحمد البدوي والده وجميع أشقائه إلى مكة، وقد استغرقت هذه الرحلة من فاس إلى مكة حوالي أربع سنوات، وقد مروا بمصر في طريقهم من فاس إلى مكة، وعاشوا فيها فترة تقدر بحوالي ثلاث سنوات.
ويقال عن قصة انتقال أسرة البدوي من فاس إلى مكة أنَّ أباه عليًّا جاءه الهاتف
//////
في المنام يا علي ارحل من هذه البلاد إلى مكة المشرفة فإن لنا في ذلك شأنا وكان ذلك حوالي عام 603هــــ على ما ذكرنا.
وقال الشريف حسن شقيق البدوي: «فما زلنا ننزل على عرب ونرحل عن عرب فيتلقونا بالترحيب والإكرام حتى وصلنا إلى مكة المشرفة في أربع سنين([7])».
ويتابع القصة الشريف حسن فيقول: «فلما وصلنا إلى مكة وعلم الناس بقدومنا إليها هرع الناس علينا وسلموا علينا واعتقدوا فينا الخير وأتى إلينا سلطان مكة وأشرافها قال: وسمع بقدومنا أهل مدينة النبي × وأشرافها فجاءوا إلينا وتعرفوا بنا، أما سلطانها فإنه لما جاء إلينا وسلم علينا قال لنا: أين الشريف أحمد الملثم.. اجمعوا بيني وبينه فإن جدي رسول الله × وصفه لي وأراني صفته وحليته في المنام وقال لي: يخرج من المغرب وهو ابن سبع سنين ويدخل مكة وهو ابن إحدى عشر سنة وأشار لي أن أسير إليكم وأجتمع بكم وأسلم عليكم وعلى الشريف أحمد الملثم وأتبرك به وقال لي: إنه سيظهر له حال وأي حال ويربي المريدين يجيء منهم رجال وأي رجال فقال له والدي: إن هذا الولد حديث السن ومن أين يقدر على هذا الحال وهو هو هذا أو غيره؟ فقال: أعد أن جدي رسول الله × أراني صفته وحليه ففي أنفه شامة سوداء من كل ناحية أصغر من العدسة وهو أقنى الأنف صبيح الوجه فلما حضر سيدي أحمد البدوي ورآه السلطان عرفه بالصفات فقام إليه واعتنقه وأجلسه إلى جانبه([8]).
وقد ذكر الشعراني وصفًا للسيد البدوي فقال: «كان غليظ الساقين طويل الذراعين، كبير الوجه، أكحل العينين، طويل القامة، قمحي اللون، وكان في وجهه ثلاث نقط من أثر جدري، في خده الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتان، أقنى الأنف، على أنفه شامتان في كل ناحية شامة سوداء أصغر من العدسة، وكان بين عينيه جرح موسى، جرحه ولد أخيه الحسين بالأبطح حين كان بمكة([9])».
ويتبين لنا مما سبق أن أسرة البدوي رحلت عن فاس ببلاد المغرب عام 603هــــ واستقرت بمكة المكرمة حوالي عام 607هــــ. وأن أسرة البدوي أثناء سفرها لمكة استقرت حوالي ثلاث سنوات بأرض مصر.
وقد يكون السيد البدوي، الذي كان في حوالي السابعة أو الثامنة من عمره حتى سن العاشرة أي في فترة طفولته وصباه المبكر قد سمع عن مدينة «طندتا» المصرية أو رآها فظلت في مخيلته صورة باهتة عنها علقت في ذهنه منذ صباه في أرض مصر.
المهم، كما اتضح لنا أن أسرة البدوي بعد رحيلها من فاس استقرت بمكة وعاشت عيشة طيبة هناك حتى فجعت بوفاة الشريف علي والد الإمام السيد البدوي سنة 627هــــ. وبعد ذلك بحوالي أربع سنوات أي حوالي سنة 631هــــ توفي محمد شقيق السيد البدوي فلم يبق من أخوته الذكور سوى شقيقه الأكبر حسن الذي تولى رعاية أحمد.
وقد لزم السيد البدوي منذ صباه العكوف على العبادة والقيام وتعود الذهاب إلى مغارة في جبل أبي وقيص قرب مكة يتعبد فيها وحده. حوالي
سنة 634-1227م وهو في حوالي الثامنة والثلاثين من عمره قرر الرحيل إلى العراق.
ويقال أن شيخ الطريقة البدوية سيدي أحمد البدوي رأى رؤيا تأمره بالرحيل إلى العراق. يقول إمامنا الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الإسلام: أولياء الله لا يتصرفون بأنفسهم، إنهم وقد أسلموا نفوسهم لله لا يتصرفون إلا بتوجيه منه سبحانه، ولا يعملون إلا بإذن الله تعالى، وقد يكون هذا التوجيه، أو هذا الإذن رؤيا يراها الولي، أو يكون إلهاما أو يكون انشراح صدر بسبب الاستخارة يمر بها الولي «ويدلل الإمام الأكبر على ذلك بقول العزيز الحكيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ =٣٠- نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ =٣١- نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ =٣٢-﴾ [فصِّلت: 30-32].» فالملائكة تتحدث مع أولياء الله بنص القرآن([10]).
أما الدكتور سعيد عاشور فيقول عن رحلة السيد البدوي للعراق: «يبدو أن السيد أحمد أدرك أن مكة مع عظيم مكانتها أضيق من أن تتسع لطموحاته وآماله، ففكر في الهجرة منها إلى بلد واسع الإمكانيات البشرية والمادية. والعراق أرض الأئمة والأقطاب. يؤيد رأينا هذا أن الرواة عللوا رحلته إلى العراق برؤية رآها قيل له فيها: لا تنم! فمن طلب المعالي لا ينام.. وحق أباؤك الكرام سيكون لك حال ومقام»([11]).
ومهما كان السبب فقد سافر السيد البدور مع أخيه حسن إلى العراق سنة 634هــــ وطاف معه شمال العراق وجنوبه وزارا أم عبيدة مركز الطريقة الرفاعية كما زارا مقام سيدي عبد القادر الجيلاني. واشتاق الشريف حسن لرؤية زوجه وأولاده فاستأذن أخاه أحمد فأذن له.
واتجه بعد ذلك سيدي أحمد البدوي إلى شمال العراق لزيارة ضريح عدي بن مسافر الهكاري صاحب الطريقة العدوية. وهناك قرب الوصول في شمال العراق حدث صراع بين السيد البدوي وبين امرأة جميلة اسمها فاطمة بنت بري.
وملخص القصة أن فاطمة بنت بري هذه كانت امرأة غنية، جميلة، مغرمة بإيقاع الرجال في شباك مالها وجمالها، تلعب بقلوبهم وعواطفهم ثم تتركهم يركعون تحت أقدامها يلهثون.. وكانت فاطمة تبحث بينهم عن الرجل الذي تركع أمامه لا الرجل الذي يركع أمامها.
وكم من أصحاب ذقون طويلة ورجال كانوا من أرباب التقوى والصلاح سقطوا في حبال هذه الأفعى وتهافتوا على القرب منها. ذلك أن صلاحهم كان شكلا وصورة. وكانت تقواهم ضعيفة خائرة. ولهذا كان من السهل على الشيطانة فاطمة بنت بري إغواءهم حتى جاء السيد البدوي فلم تستطع أن توقعه في شباكها الناعمة ولم تقدر عليه فقد وجدت نفسها أمام نوع جديد من الرجال إيمانه صلبا، عقيدته لا تخور أبدا قلبه مشغول بذكر الله لا بذكر الغواني.
وحين دانت للرجل الصالح التقي رجته للزواج بها، لكن السيد البدوي وجد نفسه أمام دعوة كبيرة تحتاج منه إلى تفرغ كامل. والزواج قد يشغله. واستطاع السيد البدوي أن يؤثر فيها ويحولها إلى امرأة متدينة وأخذ عليها العهد ألا تعود إلى ماضيها وغوايتها القديمة وتابت فاطمة توبة صادقة.
هذه هي القصة في خيوطها الحقيقية بلا تزيد أو اختلاق وتقول.
ويبدو أن الذي جعل بعض الكتاب ينكرون هذه القصة. هو ما دخل عليها من حشو وزيادات بعد أن أضاف إليها بعض أتباع السيد البدوي من عندهم كرامات أسطورية شوهت صوة السيد البدوي وأساءت إليه.
ويكفي أنها جعلت من تلك الواقعة البسيطة التي من الممكن أن تحدث في أي زمان ومكان خرافة لا يصدقها عقل العقلاء بعد أن أضافوا إليها ما أضافوا وكما ترى «ليست أكثر من امرأة لها حال عظيم وجمال بديع، وكانت تسلب الرجال أحوالهم فسلبها سيدي أحمد ت حالها وتابت على يديه: أنها لا تتعرض لأحد بعد ذلك اليوم»([12]).
وبعد سنة قضاها السيد البدوي في ربوع العراق شماله وجنوبه عاد إلى مكة سنة 635هــــ-1238م. ويقول الشيخ أحمد حجاب: «كانت رحلة العراق نقطة تحول كبيرة في حياة سيدي أحمد النفسية. فقد أعقب تلك الرحلة تغير ملحوظ في سلوكه وعبادته لم يكن معهودا عليه قبل الرحلة. فكان صيامه وصلاته وقيامه وانتصابه وكلامه إشارة. وتحول بوجهه نحو السماء وقطع النظر عمن في الأرض حتى قلقت عليه أخته الكبرى فاطمة فكانت تنبه أخاها الحسن من نومه ليلا تشكو إليه من حالته وتثبت له قلقها على أخيها أحمد وتقول: ابن والدي إن أخي أحمد قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء ونهاره صائما. وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاما ولا شرابا([13]).
واستمر السيد البدوي في حياة الزهد والعبادة آناء الليل والنهار.. وفي نفس العام أي سنة 635هــــ-1238م قرر سيدي أحمد البدوي الرحيل إلى مصر.. وإلى طندتا «طنطا» بالذات. وبالطبع فإن رواة سيرته من أتباعه قالوا: إن الهاتف جاءه في المنام وقال له: «قم يا همام إلى طندتا..».
هكذا قال عبد الصمد زين الدين والمناوي والشعراني أنه سافر لطندتا لهاتف منامي فدخلها حوالي سنة 635هــ- وبعضهم يقول: حوالي 234هـــــ. وها هو المناوي في الكواكب الدرية يسقط سقطة تاريخية حين يقول: «ثم سمع هاتفا يقول ثلاثا قم واطلب مطلع الشمس فإذا وصلته فاطلب مغربها وسر إلى طنتا فيها مقامك أيها الفتى، فسافر إلى العراق، فتلقاه العارفان الجيلاني والرفاعي فقال: يا أحمد، مفاتيح العراق والهند واليمن والشرق والغرب بيدنا فاختر أيها شئت فقال: لا آخذ المفتاح إلا من المفتاح. ثم رحل إلى مصر فتلقاه الظاهر بيبرس بعسكره وأكرمه، وعظمه، فدخلها سنة أربع وثلاثين»([14]).
أما السقطة التاريخية التي وقع فيها المناوي رحمه الله أن بيبرس لم يتول حكم مصر إلا سنة 668هـــــ.. أما سنة 634هــــ فكان يحكم مصر الملك الكامل محمد الأيوبي.
ومن كتابات عبد الصمد زين الدين والمناوي والشعراني يظهر لنا على ما يقول الدكتور علي صافي: «إن رحلة السيد البدوي إلى مصر كان يكتنفها الغموض. فهم متفقون على أنه ذهب إلى العراق قبل أن يذهب إلى مصر ثم يختلفون في المكان الذي ذهب منه إلى مصر وفي ذكر كيفية دخوله إليها. فعبد الصمد زين الدين يقول: أنه عاد إلى مكة ومنها ذهب إلى مصر، أما الشعراني والمناوي فإن كلام كل منهما يعطي أن البدوي لم يعد إلى مكة، ولكنه اتجه من العراق إلى مصر مباشرة»([15]).
ولقد نبه الأستاذ صلاح عزام في كتابه عن السيد «عبد الرحيم القنائي» إلى خطأ تاريخي آخر وقعت فيه إحدى الروايات التاريخية.. فقال: إن هناك رواية تقول: إن السيد البدوي تبادل مع الشيخ القنائي الرسائل. بل وزاره في قنا. وهي موجودة في بعض الكتب القديمة التي تؤرخ للسيد البدوي.. بل إن محبي السيد البدوي ورجال طرقه يتناولونها إلى اليوم.
ومن المعروف أن الشيخ القنائي ت توفي عام 592هــــ. بينما السيد البدوي ت ولد عام 596هـــــ. ووصل مصر عام 635هــــ.
ولكن من الجائز أن يكون السيد البدوي قد زار الشيخ القنائي كعادة من عادات الأقطاب أن يزوروا الأولياء فقبل مجيئه طنطا زار أولياء العراق وأقطابه كما ذكرنا سابقا.
وانتهى بالسيد البدوي المطاف لأرض طنطا واستقر بها حتى وافته المنية سنة 675هـــــ.
وإذا أردنا أن نعلل مجيئه إلى طنطا مباشرة نقول أنه قد يكون للسيد البدوي فكرة عن طنطا وعن موقعها الممتاز وتوسطها القاهرة والإسكندرية فاتجه إليها وإلى دار تاجر هناك اسمه ابن شحيط فسكن سطح داره «ولعل ابن شحيط هذا هو الشيخ ركن الدين الذي كان يقال له ركين الدين فقد رأيت في بعض التراجم أن الشيخ ركن كان له دكان بسوق طنتا يبيع فيه العسل والزيت والعلف وغير ذلك»([16]).
وعلل البعض تفضيل إقامة البدوي فوق سطح الدار لتفضيل البدوي العيش
وسط الطبيعة يرى بديع صنع الله في نجومه وسمائه وكواكبه وشجره وحره وبرده ورعده ومطره. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ =١٩٠- الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ=١٩١-﴾ [آل عمران: 190-191] فكان البدوي بهذا الرأي فضل الإقامة فوق سطح الدار ليتأمل صنع القادر الحكيم ويسبحه آناء الليل وأطراف النهار.
وقد يرجع هذا عندنا إلى أن الإمام البدوي كان حييًا فاستحيا أن يعيش داخل الدار فيحد من حرية صاحب الدار وأهله. وقد يكون ذلك أيضا لتأثره بالعراقيين وقد عاش بينهم عاما، فأهل العراق يفضلون النوم فوق السطح في شهور الصيف شديدة الحرارة.
وفوق السطح عاش البدوي وحوله الأتباع من السطوحيين. ويقال أن غيابه كان أكثر من حضوره وكانت تأتي عليه الأربعين يوما لا يأكل فيها ولا يشرب ولا ينام، وهو شاخص ببصره إلى السماء.. وكان إذا عرض له حال يصيح صياحا متصلا ويكثر من الصياح وهذا ما جعل الناس تتحير في أمره، لكن سرعان ما زال شكهم إلى حد ما حينما لمسوا بركاته. فدخل في طريقته قوم لا يحصون واتسعت شهرته وعمت الآفاق.
هذه صورة سريعة عن رحلات السيد الشريف الملثم([17]) السطوحي الصامت
سيدي أحمد البدوي ننتقل بعدها لنتعرف على كراماته، وطريقته، وتصوفه، وصلة البدوي بالتشيع إن كانت هناك صلة.
والحق أن شخصية البدوي شخصية ثرية خصبة شوهتها كتب المناقب والمحبين حين حاولوا أن يجعلوا من البدوي أسطورة غريبة. فغربوا الرجل وطاروا به عن عالم الواقع ليقدموه لنا صورة أقرب إلى صورة القوة والقدرة فإنه لا يتحرك إلا بأمر ورؤيا منامية كما رأينا ولا ينتقل من مكان إلى مكان إلا بهاتف منامي يأمره بأن يرحل إلى العراق أو طنطا. بل زعموا أنه «كان يخاطب الأولياء السابقين والصوفية المتقدمين، ويتصل بأهله في مكة، ويرى النبي صلوات الله وسلامه عليه ويصعد إلى السماء ويشاهد ما يقدر وراء الغيب للخلائق ويطلع على مشاهد الجنة والنار، وكل هذا عن طريق الرؤيا في المنام»([18]).
ويقول البعض: «ومثل هذا الهاتف المنامي لا يمكن للباحث أن يضعه تحت حكم قاطع جازم بالصدق أو الكذب، فإن علم النفس لا ينكره، بل يبرره ما دام العقل مشغولا به متلهفا عليه، وما يفكر الإنسان فيه يقظة يحلم به مناما.. فمرجع الصدق والكذب في هذا إلى الشخص نفسه، وقد يكون السيد رأى هذه الرؤيا أو رأى بعضها، أو لم ير شيئا منها قط، وقد يكون هذا كله من تلفيقات الدارسين والأتباع»([19]).
وليس الإمام أحمد البدوي وحده هو الذي لا يتحرك من مكان إلى مكان إلا برؤيا. فالحق أن الرؤيا تكاد تكون صفة عامة يشارك فيها البدوي كثير من الصوفية.
وبعد.. فإن الرأي الذي نقول به: أن البدوي كان رجلا تقيًا ورعًا جاء من قبل رفاعي العراق بعد أن توفي رجلهم الكبير أبو الفتح الواسطي مبشر الطريقة الرفاعية بمصر.. أرسلوه عوضا عن الواسطي لما توسموا فيه من صلاح وزهد وذكاء أيضا. ولهذا نجد أن ذكاء البدوي قد وضح بمجرد مجيئه مصر وانتشار طريقته البدوية السطوحية بها انتشارًا سريعا.
ثانيا: كرامات سيدي أحمد البدوي:
امتلأت كتب المناقب بكرامات لا تحصى ولا تعد حول هذه الشخصية الصامتة الملثمة.. والذي لا نشك فيه أن السيد البدوي شخصية واقعية حقيقية وليست شخصية أسطورية خارقة للعادة ولكن الأتباع والمنتفعين شوهوا الصورة الجميلة للرجل الكريم.. أضافوا إليه كرامات غريبة.. بل إن بعضهم جعله في مرتبة أعلى من مرتبة الأنبياء، وأضافوا إليه القدرة على إحياء الموتى وشفاء المرضى وقوله للشيء كن فيكون بإذن الله.
يقول الدكتور سعيد عاشور: «من الثابت لدينا أن الكتابات التي دونت عن السيد البدوي وحياته يرجع معظمها إلى العصر العثماني، وهو عصر يوصف في تاريخ مصر بالجمود والتأخر وانتشار الجهل، وعبرت هذه النواحي كلها عن نفسها أتم تعبير في دنيا التصوف في ذلك العصر، إذ أصبح التصوف عندئذ أداة لكسب العيش من أهون الطرق، احترفه أدعياء استغلوا الجهل المطبق المحيط بهم في التلاعب بعقول الناس ومشاعرهم»([20]).
ومن هنا كان من مصلحة هؤلاء الأدعياء نشر المعتقدات الخاطئة حول السيد البدوي «وكان من المستحيل على كتاب سيرة السيد البدوي أن يدونوا سيرته العطرة خلوا من تلك الروح التي سادت عصرهم، لأنهم كانوا يكتبون لأناس يعيشون حولهم، ويقومون الأولياء بمقدار ما يتهيأ لهم من كرامات وما يتحقق على أيديهم من معجزات في -حياتهم ومماتهم- لا على أساس مثلهم وسلوكهم، لذلك جاءت سيرة السيد البدوي كما كتبها السابقون محشوة بكثير من القصص الخرافية، وظنوا أنهم بذلك إنما يسترضون السيد البدوي لأنهم يظهرون عظمته، وينسبون إليه من خوارق الأعمال ما هو كفيل بأن يعلي من قدره في نظر العباد والمريدين([21]).
فها هو الشعراني مثلا يحكي لنا حكاية غريبة لا أعرف من أين استقاها يقول في طبقاته: «.. وأما أمر سيدي قمر الدولة.. فلم يصحب سيدي أحمد زمانا إنما جاء
من سفر في وقت حر شديد فطلع يستريح في طندتا فسمع بأن سيدي أحمد ت ضعيف، فدخل عليه يزوره.. وكان سيدي عبد العال([22]) وغيره غائبين فوجد سيدي أحمد قد شرب ماء بطيخة وتقيأه ثانيًا فيها فأخذه سيدي محمد قمر الدولة وشربه. فقال له سيدي أحمد: أنت قمر دولة أصحابي. فسمع بذلك سيدي عبد العال والجماعة فخرجوا لمعارضته وقتله بالحال. فرمح فرسه في البئر التي بالقرب من «كوم التربة النفاضة». فطلع من البئر التي بناحية «نفيا» فانتظروه عند البئر الذي نزل فيها زمانا فجاء الخبر أنه طلع من تلك البئر التي قرب «نفيا» فرجعوا عنه فأقام بنفيا إلى أن مات لم يطلع طندتا خوفا من سيدي عبد العال»([23]). وأنا أتساءل: إذا تقيأ إنسان ما مهما كانت مكانة هذا الإنسان وحيثيته.. أي نفس تستطيع أن تتجرع قيء معدة إنسان آخر؟ وهل من السهل علينا أن نتصور أن سيدي عبد العال خليفة سيدي أحمد البدوي وتلميذه الكبير الذي قال عنه الشعراني نفسه أن عبد العال «استخلفه البدوي على الفقراء بعده وسار سيرة حسنة»([24]). أظن أن مثل سيدي عبد العال لا يفكر في محاولة قتل محمد قمر الدولة الذي استغل غيابه فشرب قيء سيدي أحمد البدوي.. ما أظن أن وليا وتلميذا هو أكبر تلامذة الإمام البدوي مقاما وكفاءة يفكر في القتل حسدا وغيرة وحقدا..
ويحدثنا الشعراني مرة أخرى عن البدوي جلاب الأسرى فيقول: «شاهدت أنا بعيني سنة خمس وأربعين وتسعمائة أسيرا على منارة سيدي عبد العال ت مقيدا مغلولا وهو مخبط العقل فسألته عن ذلك فقال:.. بينما أنا في بلاد الفرنج آخر الليل توجهت إلى سيدي أحمد البدوي فإذا أنا به فأخذني وطار بي في الهواء فوضعني هنا فمكثت يومين ورأسه دائرة عليه من شدة الخطفة ت قاله الشعراني»([25]).
وهذه فكرة عاشت فترة طويلة بين عامة الشعب «والاعتقاد الشائع بين العامة أن السيد ظل ينقذ الأسرى بعد مماته إلى عصر متأخر، وأنه لم يكلف عن ذلك إلا بطلب من المرحوم محمد سعد الدين باشا الذي كان مديرًا للغربية([26]).
ويقول الأستاذ عبد اللطيف فهمي: «ويبدو لي أن مسألة الأسرى هذه ترجع إلى واقعة تاريخية مشهورة، ذلك أن وزارة الأوقاف قد أرسلت بالسيوف والدروع التي غنمها الجيش المصري من جيش لويس التاسع الذي أسر في دار ابن لقمان بالمنصورة لتخزن في مخزن المسجد الأحمدي فكان دراويش السيد وأتباعه يتقلدون هذه الدروع والسيوف في مواكب الموالد الأحمدية، ويزعمون للناس أنهم الأسرى الذين جاء بهم السيد من بلاد أوربا، فلما تقدمت الأيام انتقلوا بهذا الزعم نقلة ثانية.. فقالوا أنهم سلائل أولئك الأسرى، والعجيب في هذا كله أن تترك الحكومة المصرية هذه الدروع والسيوف التاريخية نهبا للضياع في أيدي أولئك المعتوهين»([27]).
ويبدو لنا أن الأتباع من كتاب المناقب قد وقعوا في حب شيخهم وجعلهم هذا الحب الغريب يشتطون في خيالهم فهاموا في الأسطورة ينسجونها ويحيكونها حول شيخهم متصورين أن تهويل كرامة الشيخ إجلال له.
ونحن كما ذكرنا من قبل لا ننكر الكرامة وإنما نقول أن هناك تزيدا في بعض الكرامات ومبالغات كثيرة وإضافات.. أما الكرامات في حد ذاتها فلا سبيل إلى إنكارها لأنها ليست منسوبة إلى قدرة الولي وإنما هي منسوبة إلى قدرة الله. ولا حرج على منن الله وإكرامه عباده وأولياءه الصالحين.
لكن يبدو أن هدف البعض «من المبالغة في هذه الكرامات هو إظهار السيد أحمد البدوي في صورة قطب الأقطاب وولي الأولياء وكبير الصالحين والعباد، فمن
أراد قضاء حاجة فلا داعي لإضاعة الوقت والجهد في الطواف على صغار المشايخ وإنما عليه بالتوجه إلى مقام السيد أحمد البدوي مباشرة، وبقدر المدفوع يكون الأجر والثواب([28]).
إننا لا نهتم كثيرًا بالكرامات الحسية وإنما نرى أن أكبر كارمة لولي من أولياء الله تعالى هو أن يأخذ العهد على مريده بالتوبة والرجوع إلى الله وسنة رسوله ×. «.. فإن استطاع الولي أن يأخذ العهد على أكبر عدد من الأتباع المخلصين وأن يعملوا بهذا العهد فإنه يكون حقا قد حقق أعظم كرامة في طريقه.. طريق الله تعالى».
يقول فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود: «إن كرامة السيد الكبرى هي أنه ربى رجالا، وكون أبطالا مجاهدين في سبيل الله.. إن مدرسة السيد منذ أنشأها فوق السطح لا تزال تعمل. وقد افتتحت لها فروع في جميع أنحاء العالم وفي كل جيل من الأجيال يهتدي بسبب دعوته آلاف الأشخاص في مختلف المستويات([29]).
ثالثا: البدوي والتشيع:
يرى بعض الكتاب أن البدوي كان داعية للشيعة والفاطميين في مصر.. وأنه جاء لهذه البلاد تحت ستار التصوف وتأسيس طريقة صوفية وإن كان في الحقيقة يحمل بين جنبيه أغراضا وخططا علوية لم يفصح عنها ولم يستطع أحد كشفها.. فيقول مثلا الأستاذ الكبير المرحوم أحمد أمين في ضحى الإسلام: «.. لكن الرجل كان ذكيا فطنا، فقد جاء إلى مصر وافدا غريبا وهو يعلم ما يساور نفوس الأيوبيين الذين يحكمون البلاد من الريبة في كل حركة تتراءى لهم، حتى لا تكون مؤامرة لإعادة سلطان الفاطميين، فماذا يقولون في شيخ غريب وافد من مكة وصلته معروفة بالمغرب الذي هو الوطن الأول للدعوة الفاطمية، وقد جاء إلى مصر ليرث
شيخا صوفيا([30]) في دعوته، ويزيد في جمع الأتباع والمريدين على طريقته؟ وأكثر من ذلك فقد كانت الإسكندرية يوم ذاك كما كانت جميع الثغور تحت مراقبة الحكام ومجال عيونهم وأرصادهم احتياطا لما يقع عليهم من الإغارات الصليبية. ويقظة لما يجرى في تلك الأطراف من منازعات واتجاهات ودسائس. وكان السيد البدوي يعرف هذا. وكان الرجل يؤثر السلامة في دعوته ويأخذ لها طريق الإرشاد والهداية حتى تختمر وتخالط النفوس عقيدة راسخة ثابتة، وكان من أهل التقية فيما يرى من رأى. وفيما يسعى إليه من غرض وتلك كانت وجهة العلويين وخطتهم التي آثروها فيما يرومون من شأن. ولهذا كله آثر السيد فيما يبدو لنا أن ينفرد في طنطا وأن يتخذ دار إقامة، وأن يجعلها قاعدة لدعوته وأتباعه حتى يكون بعيدا عن أنظار أهل السلطان، وحتى يكون في موضع وسط من البلاد([31]).
ومثل هؤلاء الباحثين الأفاضل يرون أنه تحت ستار التصوف أرسل العلويين دعاتهم ويرون أن أستاذهم الأكبر هو أبو الفتح الواسطي تلميذ سيدي أحمد الرفاعي.. فها هو فضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق يكتب مقالا في «السياسة الأسبوعية» عن الموالد الأحمدية يقول فيه: «كان الشيخ أبو الفتح الواسطي داعيا خطيرًا، تتلمذ على السيد أحمد الرفاعي، وكان من نجباء تلك المدرسة التي أقامها ذلك الصوفي الكبير في بطائح العراق، وقد شام فيه العلويين ودعاة أهل البيت نجابة وفطنة وصبرًا يؤهله لحمل راية الطريق، فندبوه للسفر إلى الديار المصرية، فوفد على الإسكندرية من واسط عام 620هــــ ليدعو القوم على الطريقة الرفاعية.. واستطاع الواسطي أن يؤلف حشدا من الأتباع والمريدين، ثم عاجلته المنية وهو في ريعان مجده، فأسف العلويون على الفجيعة في ذلك الداعية البارع الذي خدم دعوتهم بصدق وإخلاص ومهد لها الطريق على ما يريدون في الديار المصرية. وكان عليهم أن يدبروا فيمن ينهض بهذا الأمر من بعده. فندبوا السيد أحمد البدوي لما توسموا فيه من براعة واقتدار وخبرة بمداخل الطريق»([32]).
لكن البدوي عاش في مصر قرابة أربعين عاما. وخلال الأربعين عاما هذه لم يستطع أحد أن يكتشف أن له أغراضا علوية أو أنه كان من دعاة الشيعة في مصر.
إن أربعين عاما في حياة فرد من الممكن أن تميط اللثام عن صاحبها مهما كان ملثما وغامضا.
ويبدو لنا أن الذي دفع هؤلاء الباحثين الأفاضل إلى اعتبار البدوي من دعاة الفاطميين أو أنه كان جاسوسا للفاطميين في مصر هذه الأسباب التي يعتقدون أنها تؤكد فاطمية البدوي وتشيعه. وهي:
1- اتفاق المؤرخين على أن من أجداده تسع من الأئمة الاثنى عشرية([33]).
2- تلمس نظرية تنقل النور المحمدي عند سيدي أحمد البدوي.
فيرى البعض أن السيد البدوي([34]) «هو أول من قال بنظرية تنقل النور المحمدي وعبر عنها في شعره. كما يبدو ذلك جليا في تائيته التي مطلعها -دعني لقد ملك الغرام أعنتي»([35]). ويقول عنها أنها: «نظرية لا تختلف في شيء ذي بال عن النظرية الأساسية لحزب الشيعة وطوائف المتشيعين. وأعنى بها مسألة الإمامة. فالشيعة كلهم مجمعون على أن الإمام الشرعي بعد النبي × هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأن الإمامة تنتقل بعده في بنيه وذريته على خلاف بين فرق التشيع إذ ذهب بعضهم إلى أن الإمامة انتقلت إلى محمد ابن الحنفية وبعضهم قال إنها انتقلت إلى الحسن. ومن بعده حلت في الحسين. وظلت في أبناء هذا الأخير. وهي لا تزال كذلك في اعتقادهم تنتقل من سلف إلى خلف بالعهد والمبايعة حتى يجيء قائم أو القيامة أو يظهر المهدي المنتظر([36]).
ويقول نفس الباحث: «وهذا هو نفس ما وجدناه عند شيوخ الخرق فإنهم يأخذون الخرقة والقطبانية من شيخ عن شيخ ومن قطب عن قطب بالعهد والمبايعة، ولكن الخلاف فقط راجع إلى رأس السلسلة، فالشيعة قد انتسبوا إلى الحسين، وأما المتصوفة فإنهم نسبوا القطبانية في أول وجودها إلى الحسن»([37]).
ويبدو أنه نسي أن الحقيقة المحمدية بدأ التعبير عنها في نهاية القرن الثاني الهجري وقد تجلت بصورة واضحة لدى التستري([38]).
ولهذا فيحسن بنا أن نقف هذه الوقفة لعرض نظرية تنقل النور المحمدي للتستري وإلقاء الضوء عليها ففيها إيضاح تفصيلي للحقيقة المحمدية([39]).
يقول التستري في خلق النبي ×: «لما أراد (الله) أن يخلق محمدًا × أظهر من نوره نورًا، فلما بلغ حجاب العظمة سجد لله سجدة.. فخلق الله من سجدته عمودًا عظيما كالزجاج من النور -أي باطنة وظاهرة فيه عين محمد ×، فوقف بين يدي رب العالمين بالخدمة ألف ألف عام بطبائع الإيمان وهو معاينة الإيمان ومكاشفة اليقين ومشاهدة الرب، فأكرمه الله تعالى بالمشاهدة قبل بدء الخلق بألف ألف عام وما من أحد في الدنيا إلا غلبه إبليس لعنه الله فأسره الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقين الذين شاهدت قلوبهم إيمانهم في مقاماتهم، وعرفوا اطلاع الله عليهم في جميع أحوالهم فعلى قدر مشاهدتهم يعرفون الابتلاء، وعلى قدر معرفتهم الابتلاء يطلبون العصمة، وعلى قدر وفاقهم إليه يعرفون العز والنفع، ويزدادون علما وفهما ونظرًا... ما حمل الله على أحد من الأنبياء ما حمل على نبينا محمد × من الخدمة. وما من مقام خدمة خدم الله تعالى بها من ولد آدم عليه السلام إلى بعث
نبينا محمد × إلا وقد خدم الله بها نبينا محمد ×».
وتسجل بعض المراجع أن التستري تلقى فيما تلقى عن الخضر عليه السلام أن النبي محمد × قد خلق من نور الله وبيده صوره، وقد ظل هذا النور في حضرة الله مائة ألف من السنين وفي كل يوم يضفي عليه من ضياء وبها. نظر به المزيد والشرف. وأن من هذا النور خلقت جميع الأشياء، ويؤكد التستري في مقام آخر أن نور النبي × شامل وكلي وأن أنوار جميع الأنبياء مشتق منه، كذلك أنوار الملكوت في الدنيا والآخرة. إن الله سبحانه خلق محمدًا لأجله، وخلق آدم لأجل آدم ذاته، وخلق المؤمنين لعبادته وخلق الأشياء لأجل ابن آدم. هكذا يحدثنا التستري ذاكرًا حديثًا نبويًا لا يخلو من التساؤل حول ما أوحي لداود بهذا الشأن. ويضيف التستري إلى ذلك قوله. فإذا اشتغل (الإنسان) بما خلقته من أجله حجبته عما من خلقته من أجلي. أي حجبته عن حقيقة النبي ×. إن هذه الحقيقة هي التي بدأ الله بها الأشياء وهي التي يختم بها.
ومن أجل ذلك كان الرسول خاتم الأنبياء. فحقيقة النبي هي ألف وباء الخلق والوجود. وأن اسم النبي محمد × مكتوب -كما يذكر التستري- على كل ورقة شجر في الجنة، ولم تغرس شجرة إلا باسمه أو على شرفه.
ويستند كثير من الصوفية في تأييد فكرة أسبقية الوجود المحمدي لوجود الكائنات على بعض الأحاديث التي لم تسلم من الشك والتجريح مثل حديث: «كنت نبيًا ولا آدم ولا طين ولا ماء». وقد أنكر بعض الدارسين مثل هذه الأحاديث لما تؤدي إليه من فكرة قدم الرسول ولا قديم إلا الله سبحانه، أي أنها تؤدي إلى فكرة تعدد القدماء، تلك الفكرة التي وقع فيها بعض الفلاسفة المسلمين أنفسهم، وأخذهم عليهم الغزالي في التهافت. ويشرح الغزالي الحديث السابق على أنه يعني أنه كان مقدرا أن يكون النبي نبيا قبل الخلق، فالذي سبق الخلق هنا إذن هو التقدير والإيجاد، ولكن هذا التأويل لا يسلم من الاعتراض على أساس أن وجهة
النظر الإسلامية تقضي بأن يكون كل شيء قد سبق العلم به والتقدير له، وإذن فلا معنى لاستثناء الرسول وخصه بهذا السبق وذلك التقدير.
وفكرة التستري في أسبقية الوجود المحمدي على الخليقة لا تعني بالضرورة قدمه، لأن التستري قد أشار إلى فترة العبادة بحد وقدر معين، مما يتعارض تماما مع فكرة القدم، ثم إنه بالإضافة إلى ذلك أشعرنا بأنه لما تعلقت الإرادة بالإيجاد أوجد هذا النور، وكل ذلك يوحي بلا شك بوجود مرحلة تسبق هذا الوجود مما يتعارض أيضا مع فكرة القدم، لأنه حينما وجدت صفة القدم انتفت فكرة الماضي والمستقبل.
والنظرة المنصفة -كما يقول الدكتور جعفر- لا تستبعد استيحاء التستري لبعض الآيات القرآنية التي تصف الرسول × بأنه نور وبأنه سراج منير، خاصة وأن التستري نفسه يعلق على الآية القرآنية: ﴿..قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة:15]. بقوله: «أن النور هو محمد ×، والكتاب هو القرآن». وهذا تفسير لا تكلف فيه ولا شطط. كما أنه لا يستبعد أن يكون التستري استوحى الآية القرآنية: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ﴾ [الزُّخرف:81]. سواء كان المعنى فأنا أحق بأن أكون أول العابدين لهذا الولد على فرض وجوده. تنزه الله عن ذلك، أو فالأولى أن أكون هذا الولد لأنني أول العابدين. فالآية على أية حال مهما كانت في مجال الفرض تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى رتبة النبي وأولويته سواء كان ذلك على سبيل التكريم الإلهي، أو الاعتراف المحمدي بالمسئولية العظمى بناء على مقامه الجليل.
الخميس, 01 ديسمبر 2016 كتبه شادي أحمدحجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط طباعة البريد الإلكتروني كٌن أول من يعلق!
1-السيد البدوي، صاحب الطريقة البدوية
عاش سيدي أحمد البدوي في القرن السابع الهجري، وأسس واحدة من اكبر الطرق الصوفية في مصر (الطريقة البدوية)، وحينما نتناول هذه الشخصية وهذه الطريقة بالدراسة قد نصل إلى نتائج هامة في دراسة الطرق الصوفية.
إنَّها شخصية الرجل الذي عرف بالصمت الطويل، ومع ذلك أسس هذه الطريقة الكبيرة التي انتشرت سريعًا بين قوى ومدن مصر، واتبعها ألوف عديدة من أبناء هذا الوادي، واعتقدوا في صاحبها اعتقادًا كبيرًا.
فمن ذلك؛ هو البدوي الذي دخل في طريقته جماهير كثيرة من شعب مصر في القرن السابع الهجري، وفي القرون التالية له، وإلى الآن ينضم لها الألوف من أبناء هذا الشعب، فالبدوية تعد من أكبر الطرق في مصر.
سيدي أحمد البدوي، وحياته:
من المعروف، أنَّ السيد أحمد البدوي عربي خالص، انحدر أصله من أشرف وأكرم البيوت العربية، وينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم اللَّه وجهه.
وقد انتقل أجداده إلى مدينة فاس المغربية حوالي عام 73هـ - 692م، عندما اضطربت أحوال الجزيرة العربية، وولد أحمد بفاس في زقاق الحجر، ويحتمل أن يكون ذلك في عام 566هـ (1199 – 1200م) ([1]).
ويقول الشيخ أحمد حجاب في كتابه عن ابدوي: (اتفق جميع المؤرخين على أن في أجداد سيدي أحمد البدوي من الأئمة الاثنى عشرية تسعة أئمة، وهم: الإمام علي كرم اللَّه وجهه، وابنه الإمام الحسين المتوفى سنة 61 هجرية، وابنه الإمام محمد الباقر المتوفى سنة 113 وقبل سنة 117، وابنه جعفر الصادق المتوفى سنة 220، وابنه علي الهادي المتوفى سنة 254، وهم على هذا الترتيب مثبتون في النسب الذي رواه المقريزي، وأثبت المقريزي من بعدهم جعفرًا، وابنه حسنًا، وجعفر هو أخو حسن العسكري الشهيد، وحسن هو ابن أخي حسن العسكري الشهير، سمي باسم عمه([2]).
وسيدي أحمد البدوي، هو أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن إسماعيل بن عمر بن علي بن عثمان بن حسين بن محمد بن موسى بن يحيى بن عيسى بن علي بن محمد بن حسن بن جعفر بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
ويذكر المقريزي، أنَّه شهد بصحة نسبته جماعة من أئمة المعاصرين، منهم: القاضي عبد الوهاب بن التلميذ، والسيد عبيد بن محمد الشريف الحسني، الحاكم بالمدينة المنورة، وأودعت نسخة من هذا النسب بدار الرصاص، بالمدينة المنورة.
ومن هنا نلاحظ أنَّ نسبه ينتهي إلى الحسين بن علي وليس الحسن، وهذا على خلاف ما نراه من صوفية المغرب الذين هم من أصل مغربي؛ إذ تعودنا أن نرى أن نسبهم ينتهي إلى الحسن.
يقول الدكتور علي صافي([3]): (وأما صوفية المشرق في العراق ومصر والشام، وفي فارس وبلاد خراسان، فإنَّهم عودونا الانتساب إلى الحسين، والسبب في انتساب
المشارقة إلى الحسين والمغاربة إلى الحسن راجع فيما أعتقد إلى أنَّ المشارقة كانوا كالشيعة في محاولة الوصول إلى الحكم والاستئثار بالسلطة. أمَّا الذين انتسبوا إلى الحسن فكانوا يدعون الخلافة الباطنية غير حافلين في شيء بخلافة أهل الظاهر، حيث زعموا أنَّ اللَّه عقد للحسن الخلافة الباطنية، بعد أن نزل لمعاوية عن الخلافة الظاهرية([4]).
وعلى ما ذكرنا، فإنَّه كان بمدينة فاس المغربية سنة 596هـ، وكان سادس إخوته، وعرف منذ صغره بصمته الطويل، ونظره الطويل إلى السماء، (وقد كانت أحوال البدوي في نشأته وحداثة سنه غريبة عجيبة، فقد ذكروا أنَّه كان يلزم الصمت، ولا يكلم الناس إلا بالإشارات، وأنَّه كان يظل أكثر أوقاته شاخصًا بعينيه إلى السماء([5]).
ويقول صاحب (الجواهر السنية): (ويقال إنَّ ميوله نحو الزهد أخذت تظهر منذ ذلك الدور المبكر؛ حتَّى لقبه قومه في طفولته بالزاهد، كما يقال إنَّه لبس خرقة التصوف في فاس على يد الشيخ عبد الجليل النيسابوري، وكان الشريف حسن شقيق السيد أحمد البدوي، قد أخذ خرقة التصوف عن ذلك الشيخ، فجمع أخاه أحمد عليه ليلبسه هو الآخر خرقة التصوف)([6]).
وفي سنة 603هـ، هاجرت أسرة السيد أحمد البدوي والده وجميع أشقائه إلى مكة، وقد استغرقت هذه الرحلة من فاس إلى مكة حوالي أربع سنوات، وقد مروا بمصر في طريقهم من فاس إلى مكة، وعاشوا فيها فترة تقدر بحوالي ثلاث سنوات.
ويقال عن قصة انتقال أسرة البدوي من فاس إلى مكة أنَّ أباه عليًّا جاءه الهاتف
//////
في المنام يا علي ارحل من هذه البلاد إلى مكة المشرفة فإن لنا في ذلك شأنا وكان ذلك حوالي عام 603هــــ على ما ذكرنا.
وقال الشريف حسن شقيق البدوي: «فما زلنا ننزل على عرب ونرحل عن عرب فيتلقونا بالترحيب والإكرام حتى وصلنا إلى مكة المشرفة في أربع سنين([7])».
ويتابع القصة الشريف حسن فيقول: «فلما وصلنا إلى مكة وعلم الناس بقدومنا إليها هرع الناس علينا وسلموا علينا واعتقدوا فينا الخير وأتى إلينا سلطان مكة وأشرافها قال: وسمع بقدومنا أهل مدينة النبي × وأشرافها فجاءوا إلينا وتعرفوا بنا، أما سلطانها فإنه لما جاء إلينا وسلم علينا قال لنا: أين الشريف أحمد الملثم.. اجمعوا بيني وبينه فإن جدي رسول الله × وصفه لي وأراني صفته وحليته في المنام وقال لي: يخرج من المغرب وهو ابن سبع سنين ويدخل مكة وهو ابن إحدى عشر سنة وأشار لي أن أسير إليكم وأجتمع بكم وأسلم عليكم وعلى الشريف أحمد الملثم وأتبرك به وقال لي: إنه سيظهر له حال وأي حال ويربي المريدين يجيء منهم رجال وأي رجال فقال له والدي: إن هذا الولد حديث السن ومن أين يقدر على هذا الحال وهو هو هذا أو غيره؟ فقال: أعد أن جدي رسول الله × أراني صفته وحليه ففي أنفه شامة سوداء من كل ناحية أصغر من العدسة وهو أقنى الأنف صبيح الوجه فلما حضر سيدي أحمد البدوي ورآه السلطان عرفه بالصفات فقام إليه واعتنقه وأجلسه إلى جانبه([8]).
وقد ذكر الشعراني وصفًا للسيد البدوي فقال: «كان غليظ الساقين طويل الذراعين، كبير الوجه، أكحل العينين، طويل القامة، قمحي اللون، وكان في وجهه ثلاث نقط من أثر جدري، في خده الأيمن واحدة وفي الأيسر اثنتان، أقنى الأنف، على أنفه شامتان في كل ناحية شامة سوداء أصغر من العدسة، وكان بين عينيه جرح موسى، جرحه ولد أخيه الحسين بالأبطح حين كان بمكة([9])».
ويتبين لنا مما سبق أن أسرة البدوي رحلت عن فاس ببلاد المغرب عام 603هــــ واستقرت بمكة المكرمة حوالي عام 607هــــ. وأن أسرة البدوي أثناء سفرها لمكة استقرت حوالي ثلاث سنوات بأرض مصر.
وقد يكون السيد البدوي، الذي كان في حوالي السابعة أو الثامنة من عمره حتى سن العاشرة أي في فترة طفولته وصباه المبكر قد سمع عن مدينة «طندتا» المصرية أو رآها فظلت في مخيلته صورة باهتة عنها علقت في ذهنه منذ صباه في أرض مصر.
المهم، كما اتضح لنا أن أسرة البدوي بعد رحيلها من فاس استقرت بمكة وعاشت عيشة طيبة هناك حتى فجعت بوفاة الشريف علي والد الإمام السيد البدوي سنة 627هــــ. وبعد ذلك بحوالي أربع سنوات أي حوالي سنة 631هــــ توفي محمد شقيق السيد البدوي فلم يبق من أخوته الذكور سوى شقيقه الأكبر حسن الذي تولى رعاية أحمد.
وقد لزم السيد البدوي منذ صباه العكوف على العبادة والقيام وتعود الذهاب إلى مغارة في جبل أبي وقيص قرب مكة يتعبد فيها وحده. حوالي
سنة 634-1227م وهو في حوالي الثامنة والثلاثين من عمره قرر الرحيل إلى العراق.
ويقال أن شيخ الطريقة البدوية سيدي أحمد البدوي رأى رؤيا تأمره بالرحيل إلى العراق. يقول إمامنا الأكبر فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الإسلام: أولياء الله لا يتصرفون بأنفسهم، إنهم وقد أسلموا نفوسهم لله لا يتصرفون إلا بتوجيه منه سبحانه، ولا يعملون إلا بإذن الله تعالى، وقد يكون هذا التوجيه، أو هذا الإذن رؤيا يراها الولي، أو يكون إلهاما أو يكون انشراح صدر بسبب الاستخارة يمر بها الولي «ويدلل الإمام الأكبر على ذلك بقول العزيز الحكيم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ المَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ =٣٠- نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ =٣١- نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ =٣٢-﴾ [فصِّلت: 30-32].» فالملائكة تتحدث مع أولياء الله بنص القرآن([10]).
أما الدكتور سعيد عاشور فيقول عن رحلة السيد البدوي للعراق: «يبدو أن السيد أحمد أدرك أن مكة مع عظيم مكانتها أضيق من أن تتسع لطموحاته وآماله، ففكر في الهجرة منها إلى بلد واسع الإمكانيات البشرية والمادية. والعراق أرض الأئمة والأقطاب. يؤيد رأينا هذا أن الرواة عللوا رحلته إلى العراق برؤية رآها قيل له فيها: لا تنم! فمن طلب المعالي لا ينام.. وحق أباؤك الكرام سيكون لك حال ومقام»([11]).
ومهما كان السبب فقد سافر السيد البدور مع أخيه حسن إلى العراق سنة 634هــــ وطاف معه شمال العراق وجنوبه وزارا أم عبيدة مركز الطريقة الرفاعية كما زارا مقام سيدي عبد القادر الجيلاني. واشتاق الشريف حسن لرؤية زوجه وأولاده فاستأذن أخاه أحمد فأذن له.
واتجه بعد ذلك سيدي أحمد البدوي إلى شمال العراق لزيارة ضريح عدي بن مسافر الهكاري صاحب الطريقة العدوية. وهناك قرب الوصول في شمال العراق حدث صراع بين السيد البدوي وبين امرأة جميلة اسمها فاطمة بنت بري.
وملخص القصة أن فاطمة بنت بري هذه كانت امرأة غنية، جميلة، مغرمة بإيقاع الرجال في شباك مالها وجمالها، تلعب بقلوبهم وعواطفهم ثم تتركهم يركعون تحت أقدامها يلهثون.. وكانت فاطمة تبحث بينهم عن الرجل الذي تركع أمامه لا الرجل الذي يركع أمامها.
وكم من أصحاب ذقون طويلة ورجال كانوا من أرباب التقوى والصلاح سقطوا في حبال هذه الأفعى وتهافتوا على القرب منها. ذلك أن صلاحهم كان شكلا وصورة. وكانت تقواهم ضعيفة خائرة. ولهذا كان من السهل على الشيطانة فاطمة بنت بري إغواءهم حتى جاء السيد البدوي فلم تستطع أن توقعه في شباكها الناعمة ولم تقدر عليه فقد وجدت نفسها أمام نوع جديد من الرجال إيمانه صلبا، عقيدته لا تخور أبدا قلبه مشغول بذكر الله لا بذكر الغواني.
وحين دانت للرجل الصالح التقي رجته للزواج بها، لكن السيد البدوي وجد نفسه أمام دعوة كبيرة تحتاج منه إلى تفرغ كامل. والزواج قد يشغله. واستطاع السيد البدوي أن يؤثر فيها ويحولها إلى امرأة متدينة وأخذ عليها العهد ألا تعود إلى ماضيها وغوايتها القديمة وتابت فاطمة توبة صادقة.
هذه هي القصة في خيوطها الحقيقية بلا تزيد أو اختلاق وتقول.
ويبدو أن الذي جعل بعض الكتاب ينكرون هذه القصة. هو ما دخل عليها من حشو وزيادات بعد أن أضاف إليها بعض أتباع السيد البدوي من عندهم كرامات أسطورية شوهت صوة السيد البدوي وأساءت إليه.
ويكفي أنها جعلت من تلك الواقعة البسيطة التي من الممكن أن تحدث في أي زمان ومكان خرافة لا يصدقها عقل العقلاء بعد أن أضافوا إليها ما أضافوا وكما ترى «ليست أكثر من امرأة لها حال عظيم وجمال بديع، وكانت تسلب الرجال أحوالهم فسلبها سيدي أحمد ت حالها وتابت على يديه: أنها لا تتعرض لأحد بعد ذلك اليوم»([12]).
وبعد سنة قضاها السيد البدوي في ربوع العراق شماله وجنوبه عاد إلى مكة سنة 635هــــ-1238م. ويقول الشيخ أحمد حجاب: «كانت رحلة العراق نقطة تحول كبيرة في حياة سيدي أحمد النفسية. فقد أعقب تلك الرحلة تغير ملحوظ في سلوكه وعبادته لم يكن معهودا عليه قبل الرحلة. فكان صيامه وصلاته وقيامه وانتصابه وكلامه إشارة. وتحول بوجهه نحو السماء وقطع النظر عمن في الأرض حتى قلقت عليه أخته الكبرى فاطمة فكانت تنبه أخاها الحسن من نومه ليلا تشكو إليه من حالته وتثبت له قلقها على أخيها أحمد وتقول: ابن والدي إن أخي أحمد قائم طول الليل وهو شاخص ببصره إلى السماء ونهاره صائما. وانقلب سواد عينيه بحمرة تتوقد كالجمر وله مدة أربعين يوما ما أكل طعاما ولا شرابا([13]).
واستمر السيد البدوي في حياة الزهد والعبادة آناء الليل والنهار.. وفي نفس العام أي سنة 635هــــ-1238م قرر سيدي أحمد البدوي الرحيل إلى مصر.. وإلى طندتا «طنطا» بالذات. وبالطبع فإن رواة سيرته من أتباعه قالوا: إن الهاتف جاءه في المنام وقال له: «قم يا همام إلى طندتا..».
هكذا قال عبد الصمد زين الدين والمناوي والشعراني أنه سافر لطندتا لهاتف منامي فدخلها حوالي سنة 635هــ- وبعضهم يقول: حوالي 234هـــــ. وها هو المناوي في الكواكب الدرية يسقط سقطة تاريخية حين يقول: «ثم سمع هاتفا يقول ثلاثا قم واطلب مطلع الشمس فإذا وصلته فاطلب مغربها وسر إلى طنتا فيها مقامك أيها الفتى، فسافر إلى العراق، فتلقاه العارفان الجيلاني والرفاعي فقال: يا أحمد، مفاتيح العراق والهند واليمن والشرق والغرب بيدنا فاختر أيها شئت فقال: لا آخذ المفتاح إلا من المفتاح. ثم رحل إلى مصر فتلقاه الظاهر بيبرس بعسكره وأكرمه، وعظمه، فدخلها سنة أربع وثلاثين»([14]).
أما السقطة التاريخية التي وقع فيها المناوي رحمه الله أن بيبرس لم يتول حكم مصر إلا سنة 668هـــــ.. أما سنة 634هــــ فكان يحكم مصر الملك الكامل محمد الأيوبي.
ومن كتابات عبد الصمد زين الدين والمناوي والشعراني يظهر لنا على ما يقول الدكتور علي صافي: «إن رحلة السيد البدوي إلى مصر كان يكتنفها الغموض. فهم متفقون على أنه ذهب إلى العراق قبل أن يذهب إلى مصر ثم يختلفون في المكان الذي ذهب منه إلى مصر وفي ذكر كيفية دخوله إليها. فعبد الصمد زين الدين يقول: أنه عاد إلى مكة ومنها ذهب إلى مصر، أما الشعراني والمناوي فإن كلام كل منهما يعطي أن البدوي لم يعد إلى مكة، ولكنه اتجه من العراق إلى مصر مباشرة»([15]).
ولقد نبه الأستاذ صلاح عزام في كتابه عن السيد «عبد الرحيم القنائي» إلى خطأ تاريخي آخر وقعت فيه إحدى الروايات التاريخية.. فقال: إن هناك رواية تقول: إن السيد البدوي تبادل مع الشيخ القنائي الرسائل. بل وزاره في قنا. وهي موجودة في بعض الكتب القديمة التي تؤرخ للسيد البدوي.. بل إن محبي السيد البدوي ورجال طرقه يتناولونها إلى اليوم.
ومن المعروف أن الشيخ القنائي ت توفي عام 592هــــ. بينما السيد البدوي ت ولد عام 596هـــــ. ووصل مصر عام 635هــــ.
ولكن من الجائز أن يكون السيد البدوي قد زار الشيخ القنائي كعادة من عادات الأقطاب أن يزوروا الأولياء فقبل مجيئه طنطا زار أولياء العراق وأقطابه كما ذكرنا سابقا.
وانتهى بالسيد البدوي المطاف لأرض طنطا واستقر بها حتى وافته المنية سنة 675هـــــ.
وإذا أردنا أن نعلل مجيئه إلى طنطا مباشرة نقول أنه قد يكون للسيد البدوي فكرة عن طنطا وعن موقعها الممتاز وتوسطها القاهرة والإسكندرية فاتجه إليها وإلى دار تاجر هناك اسمه ابن شحيط فسكن سطح داره «ولعل ابن شحيط هذا هو الشيخ ركن الدين الذي كان يقال له ركين الدين فقد رأيت في بعض التراجم أن الشيخ ركن كان له دكان بسوق طنتا يبيع فيه العسل والزيت والعلف وغير ذلك»([16]).
وعلل البعض تفضيل إقامة البدوي فوق سطح الدار لتفضيل البدوي العيش
وسط الطبيعة يرى بديع صنع الله في نجومه وسمائه وكواكبه وشجره وحره وبرده ورعده ومطره. ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ =١٩٠- الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ=١٩١-﴾ [آل عمران: 190-191] فكان البدوي بهذا الرأي فضل الإقامة فوق سطح الدار ليتأمل صنع القادر الحكيم ويسبحه آناء الليل وأطراف النهار.
وقد يرجع هذا عندنا إلى أن الإمام البدوي كان حييًا فاستحيا أن يعيش داخل الدار فيحد من حرية صاحب الدار وأهله. وقد يكون ذلك أيضا لتأثره بالعراقيين وقد عاش بينهم عاما، فأهل العراق يفضلون النوم فوق السطح في شهور الصيف شديدة الحرارة.
وفوق السطح عاش البدوي وحوله الأتباع من السطوحيين. ويقال أن غيابه كان أكثر من حضوره وكانت تأتي عليه الأربعين يوما لا يأكل فيها ولا يشرب ولا ينام، وهو شاخص ببصره إلى السماء.. وكان إذا عرض له حال يصيح صياحا متصلا ويكثر من الصياح وهذا ما جعل الناس تتحير في أمره، لكن سرعان ما زال شكهم إلى حد ما حينما لمسوا بركاته. فدخل في طريقته قوم لا يحصون واتسعت شهرته وعمت الآفاق.
هذه صورة سريعة عن رحلات السيد الشريف الملثم([17]) السطوحي الصامت
سيدي أحمد البدوي ننتقل بعدها لنتعرف على كراماته، وطريقته، وتصوفه، وصلة البدوي بالتشيع إن كانت هناك صلة.
والحق أن شخصية البدوي شخصية ثرية خصبة شوهتها كتب المناقب والمحبين حين حاولوا أن يجعلوا من البدوي أسطورة غريبة. فغربوا الرجل وطاروا به عن عالم الواقع ليقدموه لنا صورة أقرب إلى صورة القوة والقدرة فإنه لا يتحرك إلا بأمر ورؤيا منامية كما رأينا ولا ينتقل من مكان إلى مكان إلا بهاتف منامي يأمره بأن يرحل إلى العراق أو طنطا. بل زعموا أنه «كان يخاطب الأولياء السابقين والصوفية المتقدمين، ويتصل بأهله في مكة، ويرى النبي صلوات الله وسلامه عليه ويصعد إلى السماء ويشاهد ما يقدر وراء الغيب للخلائق ويطلع على مشاهد الجنة والنار، وكل هذا عن طريق الرؤيا في المنام»([18]).
ويقول البعض: «ومثل هذا الهاتف المنامي لا يمكن للباحث أن يضعه تحت حكم قاطع جازم بالصدق أو الكذب، فإن علم النفس لا ينكره، بل يبرره ما دام العقل مشغولا به متلهفا عليه، وما يفكر الإنسان فيه يقظة يحلم به مناما.. فمرجع الصدق والكذب في هذا إلى الشخص نفسه، وقد يكون السيد رأى هذه الرؤيا أو رأى بعضها، أو لم ير شيئا منها قط، وقد يكون هذا كله من تلفيقات الدارسين والأتباع»([19]).
وليس الإمام أحمد البدوي وحده هو الذي لا يتحرك من مكان إلى مكان إلا برؤيا. فالحق أن الرؤيا تكاد تكون صفة عامة يشارك فيها البدوي كثير من الصوفية.
وبعد.. فإن الرأي الذي نقول به: أن البدوي كان رجلا تقيًا ورعًا جاء من قبل رفاعي العراق بعد أن توفي رجلهم الكبير أبو الفتح الواسطي مبشر الطريقة الرفاعية بمصر.. أرسلوه عوضا عن الواسطي لما توسموا فيه من صلاح وزهد وذكاء أيضا. ولهذا نجد أن ذكاء البدوي قد وضح بمجرد مجيئه مصر وانتشار طريقته البدوية السطوحية بها انتشارًا سريعا.
ثانيا: كرامات سيدي أحمد البدوي:
امتلأت كتب المناقب بكرامات لا تحصى ولا تعد حول هذه الشخصية الصامتة الملثمة.. والذي لا نشك فيه أن السيد البدوي شخصية واقعية حقيقية وليست شخصية أسطورية خارقة للعادة ولكن الأتباع والمنتفعين شوهوا الصورة الجميلة للرجل الكريم.. أضافوا إليه كرامات غريبة.. بل إن بعضهم جعله في مرتبة أعلى من مرتبة الأنبياء، وأضافوا إليه القدرة على إحياء الموتى وشفاء المرضى وقوله للشيء كن فيكون بإذن الله.
يقول الدكتور سعيد عاشور: «من الثابت لدينا أن الكتابات التي دونت عن السيد البدوي وحياته يرجع معظمها إلى العصر العثماني، وهو عصر يوصف في تاريخ مصر بالجمود والتأخر وانتشار الجهل، وعبرت هذه النواحي كلها عن نفسها أتم تعبير في دنيا التصوف في ذلك العصر، إذ أصبح التصوف عندئذ أداة لكسب العيش من أهون الطرق، احترفه أدعياء استغلوا الجهل المطبق المحيط بهم في التلاعب بعقول الناس ومشاعرهم»([20]).
ومن هنا كان من مصلحة هؤلاء الأدعياء نشر المعتقدات الخاطئة حول السيد البدوي «وكان من المستحيل على كتاب سيرة السيد البدوي أن يدونوا سيرته العطرة خلوا من تلك الروح التي سادت عصرهم، لأنهم كانوا يكتبون لأناس يعيشون حولهم، ويقومون الأولياء بمقدار ما يتهيأ لهم من كرامات وما يتحقق على أيديهم من معجزات في -حياتهم ومماتهم- لا على أساس مثلهم وسلوكهم، لذلك جاءت سيرة السيد البدوي كما كتبها السابقون محشوة بكثير من القصص الخرافية، وظنوا أنهم بذلك إنما يسترضون السيد البدوي لأنهم يظهرون عظمته، وينسبون إليه من خوارق الأعمال ما هو كفيل بأن يعلي من قدره في نظر العباد والمريدين([21]).
فها هو الشعراني مثلا يحكي لنا حكاية غريبة لا أعرف من أين استقاها يقول في طبقاته: «.. وأما أمر سيدي قمر الدولة.. فلم يصحب سيدي أحمد زمانا إنما جاء
من سفر في وقت حر شديد فطلع يستريح في طندتا فسمع بأن سيدي أحمد ت ضعيف، فدخل عليه يزوره.. وكان سيدي عبد العال([22]) وغيره غائبين فوجد سيدي أحمد قد شرب ماء بطيخة وتقيأه ثانيًا فيها فأخذه سيدي محمد قمر الدولة وشربه. فقال له سيدي أحمد: أنت قمر دولة أصحابي. فسمع بذلك سيدي عبد العال والجماعة فخرجوا لمعارضته وقتله بالحال. فرمح فرسه في البئر التي بالقرب من «كوم التربة النفاضة». فطلع من البئر التي بناحية «نفيا» فانتظروه عند البئر الذي نزل فيها زمانا فجاء الخبر أنه طلع من تلك البئر التي قرب «نفيا» فرجعوا عنه فأقام بنفيا إلى أن مات لم يطلع طندتا خوفا من سيدي عبد العال»([23]). وأنا أتساءل: إذا تقيأ إنسان ما مهما كانت مكانة هذا الإنسان وحيثيته.. أي نفس تستطيع أن تتجرع قيء معدة إنسان آخر؟ وهل من السهل علينا أن نتصور أن سيدي عبد العال خليفة سيدي أحمد البدوي وتلميذه الكبير الذي قال عنه الشعراني نفسه أن عبد العال «استخلفه البدوي على الفقراء بعده وسار سيرة حسنة»([24]). أظن أن مثل سيدي عبد العال لا يفكر في محاولة قتل محمد قمر الدولة الذي استغل غيابه فشرب قيء سيدي أحمد البدوي.. ما أظن أن وليا وتلميذا هو أكبر تلامذة الإمام البدوي مقاما وكفاءة يفكر في القتل حسدا وغيرة وحقدا..
ويحدثنا الشعراني مرة أخرى عن البدوي جلاب الأسرى فيقول: «شاهدت أنا بعيني سنة خمس وأربعين وتسعمائة أسيرا على منارة سيدي عبد العال ت مقيدا مغلولا وهو مخبط العقل فسألته عن ذلك فقال:.. بينما أنا في بلاد الفرنج آخر الليل توجهت إلى سيدي أحمد البدوي فإذا أنا به فأخذني وطار بي في الهواء فوضعني هنا فمكثت يومين ورأسه دائرة عليه من شدة الخطفة ت قاله الشعراني»([25]).
وهذه فكرة عاشت فترة طويلة بين عامة الشعب «والاعتقاد الشائع بين العامة أن السيد ظل ينقذ الأسرى بعد مماته إلى عصر متأخر، وأنه لم يكلف عن ذلك إلا بطلب من المرحوم محمد سعد الدين باشا الذي كان مديرًا للغربية([26]).
ويقول الأستاذ عبد اللطيف فهمي: «ويبدو لي أن مسألة الأسرى هذه ترجع إلى واقعة تاريخية مشهورة، ذلك أن وزارة الأوقاف قد أرسلت بالسيوف والدروع التي غنمها الجيش المصري من جيش لويس التاسع الذي أسر في دار ابن لقمان بالمنصورة لتخزن في مخزن المسجد الأحمدي فكان دراويش السيد وأتباعه يتقلدون هذه الدروع والسيوف في مواكب الموالد الأحمدية، ويزعمون للناس أنهم الأسرى الذين جاء بهم السيد من بلاد أوربا، فلما تقدمت الأيام انتقلوا بهذا الزعم نقلة ثانية.. فقالوا أنهم سلائل أولئك الأسرى، والعجيب في هذا كله أن تترك الحكومة المصرية هذه الدروع والسيوف التاريخية نهبا للضياع في أيدي أولئك المعتوهين»([27]).
ويبدو لنا أن الأتباع من كتاب المناقب قد وقعوا في حب شيخهم وجعلهم هذا الحب الغريب يشتطون في خيالهم فهاموا في الأسطورة ينسجونها ويحيكونها حول شيخهم متصورين أن تهويل كرامة الشيخ إجلال له.
ونحن كما ذكرنا من قبل لا ننكر الكرامة وإنما نقول أن هناك تزيدا في بعض الكرامات ومبالغات كثيرة وإضافات.. أما الكرامات في حد ذاتها فلا سبيل إلى إنكارها لأنها ليست منسوبة إلى قدرة الولي وإنما هي منسوبة إلى قدرة الله. ولا حرج على منن الله وإكرامه عباده وأولياءه الصالحين.
لكن يبدو أن هدف البعض «من المبالغة في هذه الكرامات هو إظهار السيد أحمد البدوي في صورة قطب الأقطاب وولي الأولياء وكبير الصالحين والعباد، فمن
أراد قضاء حاجة فلا داعي لإضاعة الوقت والجهد في الطواف على صغار المشايخ وإنما عليه بالتوجه إلى مقام السيد أحمد البدوي مباشرة، وبقدر المدفوع يكون الأجر والثواب([28]).
إننا لا نهتم كثيرًا بالكرامات الحسية وإنما نرى أن أكبر كارمة لولي من أولياء الله تعالى هو أن يأخذ العهد على مريده بالتوبة والرجوع إلى الله وسنة رسوله ×. «.. فإن استطاع الولي أن يأخذ العهد على أكبر عدد من الأتباع المخلصين وأن يعملوا بهذا العهد فإنه يكون حقا قد حقق أعظم كرامة في طريقه.. طريق الله تعالى».
يقول فضيلة الدكتور عبد الحليم محمود: «إن كرامة السيد الكبرى هي أنه ربى رجالا، وكون أبطالا مجاهدين في سبيل الله.. إن مدرسة السيد منذ أنشأها فوق السطح لا تزال تعمل. وقد افتتحت لها فروع في جميع أنحاء العالم وفي كل جيل من الأجيال يهتدي بسبب دعوته آلاف الأشخاص في مختلف المستويات([29]).
ثالثا: البدوي والتشيع:
يرى بعض الكتاب أن البدوي كان داعية للشيعة والفاطميين في مصر.. وأنه جاء لهذه البلاد تحت ستار التصوف وتأسيس طريقة صوفية وإن كان في الحقيقة يحمل بين جنبيه أغراضا وخططا علوية لم يفصح عنها ولم يستطع أحد كشفها.. فيقول مثلا الأستاذ الكبير المرحوم أحمد أمين في ضحى الإسلام: «.. لكن الرجل كان ذكيا فطنا، فقد جاء إلى مصر وافدا غريبا وهو يعلم ما يساور نفوس الأيوبيين الذين يحكمون البلاد من الريبة في كل حركة تتراءى لهم، حتى لا تكون مؤامرة لإعادة سلطان الفاطميين، فماذا يقولون في شيخ غريب وافد من مكة وصلته معروفة بالمغرب الذي هو الوطن الأول للدعوة الفاطمية، وقد جاء إلى مصر ليرث
شيخا صوفيا([30]) في دعوته، ويزيد في جمع الأتباع والمريدين على طريقته؟ وأكثر من ذلك فقد كانت الإسكندرية يوم ذاك كما كانت جميع الثغور تحت مراقبة الحكام ومجال عيونهم وأرصادهم احتياطا لما يقع عليهم من الإغارات الصليبية. ويقظة لما يجرى في تلك الأطراف من منازعات واتجاهات ودسائس. وكان السيد البدوي يعرف هذا. وكان الرجل يؤثر السلامة في دعوته ويأخذ لها طريق الإرشاد والهداية حتى تختمر وتخالط النفوس عقيدة راسخة ثابتة، وكان من أهل التقية فيما يرى من رأى. وفيما يسعى إليه من غرض وتلك كانت وجهة العلويين وخطتهم التي آثروها فيما يرومون من شأن. ولهذا كله آثر السيد فيما يبدو لنا أن ينفرد في طنطا وأن يتخذ دار إقامة، وأن يجعلها قاعدة لدعوته وأتباعه حتى يكون بعيدا عن أنظار أهل السلطان، وحتى يكون في موضع وسط من البلاد([31]).
ومثل هؤلاء الباحثين الأفاضل يرون أنه تحت ستار التصوف أرسل العلويين دعاتهم ويرون أن أستاذهم الأكبر هو أبو الفتح الواسطي تلميذ سيدي أحمد الرفاعي.. فها هو فضيلة الشيخ مصطفى عبد الرازق يكتب مقالا في «السياسة الأسبوعية» عن الموالد الأحمدية يقول فيه: «كان الشيخ أبو الفتح الواسطي داعيا خطيرًا، تتلمذ على السيد أحمد الرفاعي، وكان من نجباء تلك المدرسة التي أقامها ذلك الصوفي الكبير في بطائح العراق، وقد شام فيه العلويين ودعاة أهل البيت نجابة وفطنة وصبرًا يؤهله لحمل راية الطريق، فندبوه للسفر إلى الديار المصرية، فوفد على الإسكندرية من واسط عام 620هــــ ليدعو القوم على الطريقة الرفاعية.. واستطاع الواسطي أن يؤلف حشدا من الأتباع والمريدين، ثم عاجلته المنية وهو في ريعان مجده، فأسف العلويون على الفجيعة في ذلك الداعية البارع الذي خدم دعوتهم بصدق وإخلاص ومهد لها الطريق على ما يريدون في الديار المصرية. وكان عليهم أن يدبروا فيمن ينهض بهذا الأمر من بعده. فندبوا السيد أحمد البدوي لما توسموا فيه من براعة واقتدار وخبرة بمداخل الطريق»([32]).
لكن البدوي عاش في مصر قرابة أربعين عاما. وخلال الأربعين عاما هذه لم يستطع أحد أن يكتشف أن له أغراضا علوية أو أنه كان من دعاة الشيعة في مصر.
إن أربعين عاما في حياة فرد من الممكن أن تميط اللثام عن صاحبها مهما كان ملثما وغامضا.
ويبدو لنا أن الذي دفع هؤلاء الباحثين الأفاضل إلى اعتبار البدوي من دعاة الفاطميين أو أنه كان جاسوسا للفاطميين في مصر هذه الأسباب التي يعتقدون أنها تؤكد فاطمية البدوي وتشيعه. وهي:
1- اتفاق المؤرخين على أن من أجداده تسع من الأئمة الاثنى عشرية([33]).
2- تلمس نظرية تنقل النور المحمدي عند سيدي أحمد البدوي.
فيرى البعض أن السيد البدوي([34]) «هو أول من قال بنظرية تنقل النور المحمدي وعبر عنها في شعره. كما يبدو ذلك جليا في تائيته التي مطلعها -دعني لقد ملك الغرام أعنتي»([35]). ويقول عنها أنها: «نظرية لا تختلف في شيء ذي بال عن النظرية الأساسية لحزب الشيعة وطوائف المتشيعين. وأعنى بها مسألة الإمامة. فالشيعة كلهم مجمعون على أن الإمام الشرعي بعد النبي × هو علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأن الإمامة تنتقل بعده في بنيه وذريته على خلاف بين فرق التشيع إذ ذهب بعضهم إلى أن الإمامة انتقلت إلى محمد ابن الحنفية وبعضهم قال إنها انتقلت إلى الحسن. ومن بعده حلت في الحسين. وظلت في أبناء هذا الأخير. وهي لا تزال كذلك في اعتقادهم تنتقل من سلف إلى خلف بالعهد والمبايعة حتى يجيء قائم أو القيامة أو يظهر المهدي المنتظر([36]).
ويقول نفس الباحث: «وهذا هو نفس ما وجدناه عند شيوخ الخرق فإنهم يأخذون الخرقة والقطبانية من شيخ عن شيخ ومن قطب عن قطب بالعهد والمبايعة، ولكن الخلاف فقط راجع إلى رأس السلسلة، فالشيعة قد انتسبوا إلى الحسين، وأما المتصوفة فإنهم نسبوا القطبانية في أول وجودها إلى الحسن»([37]).
ويبدو أنه نسي أن الحقيقة المحمدية بدأ التعبير عنها في نهاية القرن الثاني الهجري وقد تجلت بصورة واضحة لدى التستري([38]).
ولهذا فيحسن بنا أن نقف هذه الوقفة لعرض نظرية تنقل النور المحمدي للتستري وإلقاء الضوء عليها ففيها إيضاح تفصيلي للحقيقة المحمدية([39]).
يقول التستري في خلق النبي ×: «لما أراد (الله) أن يخلق محمدًا × أظهر من نوره نورًا، فلما بلغ حجاب العظمة سجد لله سجدة.. فخلق الله من سجدته عمودًا عظيما كالزجاج من النور -أي باطنة وظاهرة فيه عين محمد ×، فوقف بين يدي رب العالمين بالخدمة ألف ألف عام بطبائع الإيمان وهو معاينة الإيمان ومكاشفة اليقين ومشاهدة الرب، فأكرمه الله تعالى بالمشاهدة قبل بدء الخلق بألف ألف عام وما من أحد في الدنيا إلا غلبه إبليس لعنه الله فأسره الأنبياء صلوات الله عليهم والصديقين الذين شاهدت قلوبهم إيمانهم في مقاماتهم، وعرفوا اطلاع الله عليهم في جميع أحوالهم فعلى قدر مشاهدتهم يعرفون الابتلاء، وعلى قدر معرفتهم الابتلاء يطلبون العصمة، وعلى قدر وفاقهم إليه يعرفون العز والنفع، ويزدادون علما وفهما ونظرًا... ما حمل الله على أحد من الأنبياء ما حمل على نبينا محمد × من الخدمة. وما من مقام خدمة خدم الله تعالى بها من ولد آدم عليه السلام إلى بعث
نبينا محمد × إلا وقد خدم الله بها نبينا محمد ×».
وتسجل بعض المراجع أن التستري تلقى فيما تلقى عن الخضر عليه السلام أن النبي محمد × قد خلق من نور الله وبيده صوره، وقد ظل هذا النور في حضرة الله مائة ألف من السنين وفي كل يوم يضفي عليه من ضياء وبها. نظر به المزيد والشرف. وأن من هذا النور خلقت جميع الأشياء، ويؤكد التستري في مقام آخر أن نور النبي × شامل وكلي وأن أنوار جميع الأنبياء مشتق منه، كذلك أنوار الملكوت في الدنيا والآخرة. إن الله سبحانه خلق محمدًا لأجله، وخلق آدم لأجل آدم ذاته، وخلق المؤمنين لعبادته وخلق الأشياء لأجل ابن آدم. هكذا يحدثنا التستري ذاكرًا حديثًا نبويًا لا يخلو من التساؤل حول ما أوحي لداود بهذا الشأن. ويضيف التستري إلى ذلك قوله. فإذا اشتغل (الإنسان) بما خلقته من أجله حجبته عما من خلقته من أجلي. أي حجبته عن حقيقة النبي ×. إن هذه الحقيقة هي التي بدأ الله بها الأشياء وهي التي يختم بها.
ومن أجل ذلك كان الرسول خاتم الأنبياء. فحقيقة النبي هي ألف وباء الخلق والوجود. وأن اسم النبي محمد × مكتوب -كما يذكر التستري- على كل ورقة شجر في الجنة، ولم تغرس شجرة إلا باسمه أو على شرفه.
ويستند كثير من الصوفية في تأييد فكرة أسبقية الوجود المحمدي لوجود الكائنات على بعض الأحاديث التي لم تسلم من الشك والتجريح مثل حديث: «كنت نبيًا ولا آدم ولا طين ولا ماء». وقد أنكر بعض الدارسين مثل هذه الأحاديث لما تؤدي إليه من فكرة قدم الرسول ولا قديم إلا الله سبحانه، أي أنها تؤدي إلى فكرة تعدد القدماء، تلك الفكرة التي وقع فيها بعض الفلاسفة المسلمين أنفسهم، وأخذهم عليهم الغزالي في التهافت. ويشرح الغزالي الحديث السابق على أنه يعني أنه كان مقدرا أن يكون النبي نبيا قبل الخلق، فالذي سبق الخلق هنا إذن هو التقدير والإيجاد، ولكن هذا التأويل لا يسلم من الاعتراض على أساس أن وجهة
النظر الإسلامية تقضي بأن يكون كل شيء قد سبق العلم به والتقدير له، وإذن فلا معنى لاستثناء الرسول وخصه بهذا السبق وذلك التقدير.
وفكرة التستري في أسبقية الوجود المحمدي على الخليقة لا تعني بالضرورة قدمه، لأن التستري قد أشار إلى فترة العبادة بحد وقدر معين، مما يتعارض تماما مع فكرة القدم، ثم إنه بالإضافة إلى ذلك أشعرنا بأنه لما تعلقت الإرادة بالإيجاد أوجد هذا النور، وكل ذلك يوحي بلا شك بوجود مرحلة تسبق هذا الوجود مما يتعارض أيضا مع فكرة القدم، لأنه حينما وجدت صفة القدم انتفت فكرة الماضي والمستقبل.
والنظرة المنصفة -كما يقول الدكتور جعفر- لا تستبعد استيحاء التستري لبعض الآيات القرآنية التي تصف الرسول × بأنه نور وبأنه سراج منير، خاصة وأن التستري نفسه يعلق على الآية القرآنية: ﴿..قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ﴾ [المائدة:15]. بقوله: «أن النور هو محمد ×، والكتاب هو القرآن». وهذا تفسير لا تكلف فيه ولا شطط. كما أنه لا يستبعد أن يكون التستري استوحى الآية القرآنية: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ العَابِدِينَ﴾ [الزُّخرف:81]. سواء كان المعنى فأنا أحق بأن أكون أول العابدين لهذا الولد على فرض وجوده. تنزه الله عن ذلك، أو فالأولى أن أكون هذا الولد لأنني أول العابدين. فالآية على أية حال مهما كانت في مجال الفرض تشير بما لا يدع مجالا للشك إلى رتبة النبي وأولويته سواء كان ذلك على سبيل التكريم الإلهي، أو الاعتراف المحمدي بالمسئولية العظمى بناء على مقامه الجليل.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin