الصفحة 2 من 12
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قطع بسيف الحق دابر من استحقَّ، وأذل كلام الجاهل بساطع نور البيان، وخذل من تَعَرَّضَ لفقراء الطريق فأورده موارد الحرمان.
هل تطمسون من السماء نجومها
*
بأكفكم أو تسترون هلالها
فدعوا الأسود خوادر في غيلها
*
لا توغلن دماءكم أشبالها
كتب سيدي العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراوي رحمه الله تعالى لبعض القضاة بمصر حين حبس رجلًا من أولاد الشيخ الغمري الذي نعلم به قاضي مصر: إنَّ من أعظم بيوت الأولياء بمصر أربعة بيوت:
بيت السادات بنو الوفا ومن كلامهم: إنَّ أولاد الفقراء كشجرة الزيتون؛ الكبيرة فيها الزيت والصغيرة فيها الزيت وهي لا تخلو من زيت طيب. ومنهم الشيخ محمد الحنفي، ومن كلامه: إذا كان أولاد الفقراء رمادًا فلا تطأْه بقدمك تحترق، ويوشك أن تقع في سوء الخاتمة.
ومنهم بيت سيدي مدين ومن كلامه: لا تقطع رحم أولاد الفقراء يقطع الله رحمك.
ومنهم بيت سيدي أبي العباس الغمري ومن كلامه: لحوم أولاد الفقراء مسمومة، فمن تعرض لهم عجَّل هلاك نفسه بسم ساعة.
فالرأي عندي التدارك، وقد نصحتك فاختر لنفسك ما يحلو.
فأطلقه القاضي في وقته واعتذر مع ذلك له، والحمد لله وحده.
وهكذا عندنا الآن في دمشق الشام بيوت الفقراء معروفة من سابق الأيام، كل من تعرض لمن انتسب إليها بسوءٍ؛ فإن الله تعالى يحل به الانتقام خصوصًا طريق السادة المولوية وفقرائها وأولاد فقرائها الصلحاء الكرام، السالكين على مسالك آبائهم وأجدادهم في خدمة المثنوي الشريف بالسماع الطاهر النظيف والتواجد المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلـم: «ابكُوا فإن لم تبكوا فتباكوا»؛ فإنَّه مقام منيف، نظيره ما رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» بسنده عن عبد الله بن سعد بن كثير عن عفر قال قدم إبراهيم الزهري العراق سنة سبع أو أربع وثمانين ومئة، فأكرمه الرشيد وأظهر بره، وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله، فأتاه بعض أصحاب الحديث يسمع منه الأحاديث، فسمعه يغني فقال: لقد كنت حريصًا على أن أسمع منك، وأما الآن فلا أسمع منك حديثًا أبدًا. فقال الزهري: وعليَّ لا أحدث ببغداد ما أقمت حتى أغني قبله. فشاعت عنه ببغداد، فبلغت الرشيد فدعا به، فسأله عن أحاديث المخزومية التي قطعها النبي صلى الله عليه وسلـم في سرقة الحلي، فدعا بعود فقال الرشيد: أعود المجمر؟ فقال: لا، ولكن عود الطرب. فتبسم الرشيد ففهمها إبراهيم، فقال له: بلغك يا أمير المؤمنين حديث السفيه الذي آذاني بالأمس وألجأني إلى أن حلفت؟ قال: نعم. فدعا له الرشيد بعود فغنى:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا
*
قل الفرار لأن كان الرحيل غدا
فقال: من كان من فقهائكم يكره السماع؟ فقال: من ربطه الله تعالى.
وحكى المُزني والخطيب عنه أنه كان يحفظ سبعة عشر ألف حديث في الأحكام خاصة، وقال البخاري: إنه كان يحفظها عن ابن إسحاق خاصة دون غيره، واتفقوا على ثقته وعدالته، حدث عنه الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما، وأخرج له أهل الصحيح، انتهى.
ولا شك أن غناءه بالعود قبل روايته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم كان منه على وجه التعظيم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم، ونظيره السماع والتواجد على الآلات المطربة بعد إيراد عبارات المثنوي المولوي في المجلس المعروف؛ تعظيمًا لكلام أهل الكمال، وفرحًا وسرورًا بسماع ما يذكر من المعاني الإلهية وشريف الأحوال، خصوصًا إذا قام الفقراء بالطرب في حُبِّ الله تعالى وحب طاعته على حسب طاقة هاتيك الرجال، كما ذكر المُناوي في «طبقات الأولياء» عن الطرسوسي عن الطبراني عن عبد الله ابن الإمام أحمد ابن حنبل، قال: سمعت أبي يقول، وقد قيل له: إن هؤلاء الصوفية قعدوا في المساجد على التوكُّل بغير علم. قال: العلم أقعدهم. قيل له: فإن همتهم كسرة وخرقة. قال: لا أعلم أعظم عذرًا ممن هذه صفته. قيل: فإنهم إذا سمعوا السماع يقومون فيرقصون. قال: دعهم يفرحون بربهم. انتهى.
وذكر أبو الوفا بن عقيل في كتابه المسمى بــ «الفصول» أنه صحت الرواية عن أحمد بن حنبل أنه سمع الغناء عند ابنه صالح، وقال شارح «المقنع»: روي عن الإمام أحمد أنَّه سمع قوَّالًا فلم ينكره، فقال له ابنه: يا أبتي كنت تكرهه! فقال: قيل إنهم كانوا يستعملون المنكر معه.
وذكر السبكي في «طبقاته» في ترجمة الإمام إسماعيل المزني رحمه الله تعالى، قال المزني: مررت مع الشافعي وإبراهيم بن إسماعيل بن عليه على دار قوم وجارية تغنيهم:
خليلي ما بال المطايا كأننا
*
نراها على الأعقاب بالقوم تنكص
فقال الشافعي: ميلوا بنا نسمع. فلما فرغت قال الشافعي لإبراهيم: أيطربك هذا؟ قال: لا. قال: فما لك حس.
وحكى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» أن الإمام مالك بن أنس سمع من يغني شيئًا على غير الصواب، فأخرج رأسه من كوة، وَرَدَّه إلى الصواب، فسأله ذلك الشخص ليعيده فقال: حتى تقول أخذته عن مالك بن أنس.
وحكى ابن قتيبة وغيرُه عن أبي حَنِيفَةَ أنَّه كان له جارٌ وكان في كل ليلة يغني ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
*
ليوم كريهة وسداد ثغر
وكان يستمع إليه، وأنه فقد صوتَه فسأل عنه فقيل له إنه وجد بالليل وسجن في سجن عيسى الأمير. فلبس أبو حنيفة } عمامته وتوجه إلى الأمير وتحدث معه عنه، فقال: لا أعرف اسمه. فقال أبو حنيفة }: اسمه عمرو. فقال الأمير: أطلق كل من اسمه عمرو. فأُطلق الرجل فلما خرج قال له أبو حنيفة }: أضعناك يا فتى. قال: بل حفظت. فتضمنت هذه الحكاية أن أبا حنيفة } كان يستمع إليه ولم ينهه عن الغناء؛ فدل على إباحته عنده؛ فإن استماعه كل ليلة مع ورعه وزهده لا ينبغي أن يحمل إلا على الإباحة، وما ورد عنه بخلافه يحمل على الغناء المقترن بشيء من الفحش كالزنا وشرب الخمر جمعًا بين القول والفعل، وهو الذي ينبغي أن يُحمل عليه كلام الفقهاء في تحريمهم الملاهي وكل لهو، أنَّ مرادهم بذلك ما كان مقترنًا بنوع من أنواع الكبائر المحرمة كمجَالِسِ الفسقة، وليس المراد بذلك ما هو على العموم في اللهو؛ لأنَّ من اللهو ما هو مباح، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «خير لهو الرجل المؤمن السباحة وخير لهو المرأة الغزل».
وعن المطلب بن عبد الله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: «الهوا والعبوا؛ فإني أكره أن أرى في دينكم غلظة» [رواه البيهقي].
وقد فصَّلْنَا هذا وبَسَطْنَا الكلامَ عليه في كتابنا «إيضاح الدلالات في سماع الآلات»، وذكرْنَا فيه من سمع من الصحابة والتابعين والعُلَمَاء العاملين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وبعد هَذَا فالصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وأصحابه الكاملين المكملين، وعلى العلماء العاملين والمقلِّدة لهم المنصفين في هذا الدين.
أما بعد، فيقول العبد الفقير إلى معونَةِ ربِّه القدير عبد الغني بن النابلسي الحنفي سدَّدَه الله تعالى في القول والعمل، وبلغه منه غاية الأمل: هذه رسالة شرحت فيها أحوال الطريقة المولوية، وذكرت ما تشرفت به من فهم معاني إشاراتهم المرضية ليعتبر بها كل جاهل، ويتنعم المؤمن بالشرب من أعذب المناهل وقد كنت في بُرهة من الزمان الماضي صنَّفْتُ رسالةً في شيء من ذلك كالحسام الماضي ولكن لمَّا رآها القاصر المحروم تقصم الظهر بحججها في تحقيق العلوم، أخفى لوامع أنوارها يظن أنه يطمس بيده طلعة شموسها وأقمارها، فأنبتها الله تعالى ثانيًا نباتًا حسنًا، وكسا صورة معانيها منه سناءً وسنا، فصنَّفْنَاها إن شاء الله تعالى تصنيفًا غير الأول، وجعلنا عليه في تحقيق الحق المعول، وسميناها باسمها ذلك ليتضح السلوكُ في هاتيك المسالك، وكان اسمها «العقود اللؤلؤية في طريق السادة المولوية»، واللهَ تعالى أسأل أن يكشف الحقَّ ويسعف لكل مؤمن منصف؛ فإن ذلك كائن لا محالة، وأنه تعالى يكف أكف الباغين ويقطع دابر أهل العناد من الجاهلين حيث لا يمكن إنقاذهم من مهالك الضلالة، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اعلم أولًا أن مجلس هؤلاء السادة المولوية -حفظ الله تعالى أسرارهم وأظهر أنوارهم وسددهم على الشريعة المحمدية- مشتمل ذلك المجلس على صلاة وقراءة قرآن وحديث ووعظٍ ونصيحة للإخوان، وذكر كلام المثنوي الشريف، وسماعٍ طاهرٍ من كل فسقٍ نظيف، وتواجُد بدوران، وإظهار بِرٍّ وطاعة وإذعان لمشايخ هذا الشان، وأدعية شريفة وأثْنِيَة بذكر الصالحين المتقدِّمِين أولي المقامات المنيفة، وحضور جماعة من المسلمين وطائفة من الناس مختلفين، وكل مجلس من مجالس أهل الإسلام لا بد فيه من وجود الدَّاءِ والدَّوَاء، «إنَّمَا الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
فانظر يا أيها المنصف إلى جمعية الناس في المساجد للجمعة والصلوات الخمس وحضور مجالس العلم والوعظ؛ فإنَّ ذلك كله لا يخلو فيما بينهم من خير وشر ونفع وضر ومخالفات تصدر منهم، وموافقات تنقل عنهم، فلا يجوز الطعن بالجمعيات في مواضع الطاعات؛ فإن هذا أمر عام في كل جماعة من جماعات أهل الإسلام، وهذا الذي ذكرناه هو حال مجلس هؤلاء الطائفة المولوية في دمشق المحميَّة وبقية البلاد الإسلامية بمعرفة الخاص والعامِّ من أنواع البرية، وقد تعرَّض لطريقهم بعض المتفقهة القاصرون في العلم بمعونة بعض أهل الظلم، حتى خذل الله تعالى ذلك المتعرض بمن استعان به في زخرفته وسِحْرِهِ، وألقى الله تعالى كيدَه في نحره؛ إذ كان سببًا لإهانة الفقراء وهضم جانب أهل الله تعالى بين المنقادين إليه من الأمراء، والله تعالى ناصر حزبه ومؤيد أوليائه بعنايته وقربه.
وأنا الآنَ أشرحُ لك أيها المؤمنُ المنصِفُ ما اشتمَلَ عليه مجلسُهم من الأحوال، وأبيِّن الحكم في ذلك والحكمة لِمَا هنالك بأفصح مقال.
فأقول ومن الله تعالى القَبول: هَذِهِ الأحوال المذكورة لتلك الحضرة المعمورة عشرة أحوال، بعضها ظاهر واضح وبعضها عند الجهال فيه بعض إشكال، وأنا أكشفها لك إن شاء الله تعالى وإن كانت لوضوحها غير محتاجة للإيضاح؛ فإن الجاهل المغرور لا يفهم إلا بكمال الإفصاح، فأذكرها في عشر فصول هي للمنكر صوارِم ونصول، والله ولي الهداية ومنه العناية، وهو حسبي ونعم الوكيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قطع بسيف الحق دابر من استحقَّ، وأذل كلام الجاهل بساطع نور البيان، وخذل من تَعَرَّضَ لفقراء الطريق فأورده موارد الحرمان.
ل تطمسون من السماء نجومها
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قطع بسيف الحق دابر من استحقَّ، وأذل كلام الجاهل بساطع نور البيان، وخذل من تَعَرَّضَ لفقراء الطريق فأورده موارد الحرمان.
هل تطمسون من السماء نجومها
*
بأكفكم أو تسترون هلالها
فدعوا الأسود خوادر في غيلها
*
لا توغلن دماءكم أشبالها
كتب سيدي العارف بالله تعالى الشيخ عبد الوهاب الشعراوي رحمه الله تعالى لبعض القضاة بمصر حين حبس رجلًا من أولاد الشيخ الغمري الذي نعلم به قاضي مصر: إنَّ من أعظم بيوت الأولياء بمصر أربعة بيوت:
بيت السادات بنو الوفا ومن كلامهم: إنَّ أولاد الفقراء كشجرة الزيتون؛ الكبيرة فيها الزيت والصغيرة فيها الزيت وهي لا تخلو من زيت طيب. ومنهم الشيخ محمد الحنفي، ومن كلامه: إذا كان أولاد الفقراء رمادًا فلا تطأْه بقدمك تحترق، ويوشك أن تقع في سوء الخاتمة.
ومنهم بيت سيدي مدين ومن كلامه: لا تقطع رحم أولاد الفقراء يقطع الله رحمك.
ومنهم بيت سيدي أبي العباس الغمري ومن كلامه: لحوم أولاد الفقراء مسمومة، فمن تعرض لهم عجَّل هلاك نفسه بسم ساعة.
فالرأي عندي التدارك، وقد نصحتك فاختر لنفسك ما يحلو.
فأطلقه القاضي في وقته واعتذر مع ذلك له، والحمد لله وحده.
وهكذا عندنا الآن في دمشق الشام بيوت الفقراء معروفة من سابق الأيام، كل من تعرض لمن انتسب إليها بسوءٍ؛ فإن الله تعالى يحل به الانتقام خصوصًا طريق السادة المولوية وفقرائها وأولاد فقرائها الصلحاء الكرام، السالكين على مسالك آبائهم وأجدادهم في خدمة المثنوي الشريف بالسماع الطاهر النظيف والتواجد المشار إليه بقوله صلى الله عليه وسلـم: «ابكُوا فإن لم تبكوا فتباكوا»؛ فإنَّه مقام منيف، نظيره ما رواه الخطيب في «تاريخ بغداد» بسنده عن عبد الله بن سعد بن كثير عن عفر قال قدم إبراهيم الزهري العراق سنة سبع أو أربع وثمانين ومئة، فأكرمه الرشيد وأظهر بره، وسئل عن الغناء فأفتى بتحليله، فأتاه بعض أصحاب الحديث يسمع منه الأحاديث، فسمعه يغني فقال: لقد كنت حريصًا على أن أسمع منك، وأما الآن فلا أسمع منك حديثًا أبدًا. فقال الزهري: وعليَّ لا أحدث ببغداد ما أقمت حتى أغني قبله. فشاعت عنه ببغداد، فبلغت الرشيد فدعا به، فسأله عن أحاديث المخزومية التي قطعها النبي صلى الله عليه وسلـم في سرقة الحلي، فدعا بعود فقال الرشيد: أعود المجمر؟ فقال: لا، ولكن عود الطرب. فتبسم الرشيد ففهمها إبراهيم، فقال له: بلغك يا أمير المؤمنين حديث السفيه الذي آذاني بالأمس وألجأني إلى أن حلفت؟ قال: نعم. فدعا له الرشيد بعود فغنى:
يا أم طلحة إن البين قد أفدا
*
قل الفرار لأن كان الرحيل غدا
فقال: من كان من فقهائكم يكره السماع؟ فقال: من ربطه الله تعالى.
وحكى المُزني والخطيب عنه أنه كان يحفظ سبعة عشر ألف حديث في الأحكام خاصة، وقال البخاري: إنه كان يحفظها عن ابن إسحاق خاصة دون غيره، واتفقوا على ثقته وعدالته، حدث عنه الشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهما، وأخرج له أهل الصحيح، انتهى.
ولا شك أن غناءه بالعود قبل روايته حديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم كان منه على وجه التعظيم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلـم، ونظيره السماع والتواجد على الآلات المطربة بعد إيراد عبارات المثنوي المولوي في المجلس المعروف؛ تعظيمًا لكلام أهل الكمال، وفرحًا وسرورًا بسماع ما يذكر من المعاني الإلهية وشريف الأحوال، خصوصًا إذا قام الفقراء بالطرب في حُبِّ الله تعالى وحب طاعته على حسب طاقة هاتيك الرجال، كما ذكر المُناوي في «طبقات الأولياء» عن الطرسوسي عن الطبراني عن عبد الله ابن الإمام أحمد ابن حنبل، قال: سمعت أبي يقول، وقد قيل له: إن هؤلاء الصوفية قعدوا في المساجد على التوكُّل بغير علم. قال: العلم أقعدهم. قيل له: فإن همتهم كسرة وخرقة. قال: لا أعلم أعظم عذرًا ممن هذه صفته. قيل: فإنهم إذا سمعوا السماع يقومون فيرقصون. قال: دعهم يفرحون بربهم. انتهى.
وذكر أبو الوفا بن عقيل في كتابه المسمى بــ «الفصول» أنه صحت الرواية عن أحمد بن حنبل أنه سمع الغناء عند ابنه صالح، وقال شارح «المقنع»: روي عن الإمام أحمد أنَّه سمع قوَّالًا فلم ينكره، فقال له ابنه: يا أبتي كنت تكرهه! فقال: قيل إنهم كانوا يستعملون المنكر معه.
وذكر السبكي في «طبقاته» في ترجمة الإمام إسماعيل المزني رحمه الله تعالى، قال المزني: مررت مع الشافعي وإبراهيم بن إسماعيل بن عليه على دار قوم وجارية تغنيهم:
خليلي ما بال المطايا كأننا
*
نراها على الأعقاب بالقوم تنكص
فقال الشافعي: ميلوا بنا نسمع. فلما فرغت قال الشافعي لإبراهيم: أيطربك هذا؟ قال: لا. قال: فما لك حس.
وحكى أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني» أن الإمام مالك بن أنس سمع من يغني شيئًا على غير الصواب، فأخرج رأسه من كوة، وَرَدَّه إلى الصواب، فسأله ذلك الشخص ليعيده فقال: حتى تقول أخذته عن مالك بن أنس.
وحكى ابن قتيبة وغيرُه عن أبي حَنِيفَةَ أنَّه كان له جارٌ وكان في كل ليلة يغني ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
*
ليوم كريهة وسداد ثغر
وكان يستمع إليه، وأنه فقد صوتَه فسأل عنه فقيل له إنه وجد بالليل وسجن في سجن عيسى الأمير. فلبس أبو حنيفة } عمامته وتوجه إلى الأمير وتحدث معه عنه، فقال: لا أعرف اسمه. فقال أبو حنيفة }: اسمه عمرو. فقال الأمير: أطلق كل من اسمه عمرو. فأُطلق الرجل فلما خرج قال له أبو حنيفة }: أضعناك يا فتى. قال: بل حفظت. فتضمنت هذه الحكاية أن أبا حنيفة } كان يستمع إليه ولم ينهه عن الغناء؛ فدل على إباحته عنده؛ فإن استماعه كل ليلة مع ورعه وزهده لا ينبغي أن يحمل إلا على الإباحة، وما ورد عنه بخلافه يحمل على الغناء المقترن بشيء من الفحش كالزنا وشرب الخمر جمعًا بين القول والفعل، وهو الذي ينبغي أن يُحمل عليه كلام الفقهاء في تحريمهم الملاهي وكل لهو، أنَّ مرادهم بذلك ما كان مقترنًا بنوع من أنواع الكبائر المحرمة كمجَالِسِ الفسقة، وليس المراد بذلك ما هو على العموم في اللهو؛ لأنَّ من اللهو ما هو مباح، كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلـم قال: «خير لهو الرجل المؤمن السباحة وخير لهو المرأة الغزل».
وعن المطلب بن عبد الله أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلـم قال: «الهوا والعبوا؛ فإني أكره أن أرى في دينكم غلظة» [رواه البيهقي].
وقد فصَّلْنَا هذا وبَسَطْنَا الكلامَ عليه في كتابنا «إيضاح الدلالات في سماع الآلات»، وذكرْنَا فيه من سمع من الصحابة والتابعين والعُلَمَاء العاملين رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
وبعد هَذَا فالصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد وعلى آله وأصحابه الكاملين المكملين، وعلى العلماء العاملين والمقلِّدة لهم المنصفين في هذا الدين.
أما بعد، فيقول العبد الفقير إلى معونَةِ ربِّه القدير عبد الغني بن النابلسي الحنفي سدَّدَه الله تعالى في القول والعمل، وبلغه منه غاية الأمل: هذه رسالة شرحت فيها أحوال الطريقة المولوية، وذكرت ما تشرفت به من فهم معاني إشاراتهم المرضية ليعتبر بها كل جاهل، ويتنعم المؤمن بالشرب من أعذب المناهل وقد كنت في بُرهة من الزمان الماضي صنَّفْتُ رسالةً في شيء من ذلك كالحسام الماضي ولكن لمَّا رآها القاصر المحروم تقصم الظهر بحججها في تحقيق العلوم، أخفى لوامع أنوارها يظن أنه يطمس بيده طلعة شموسها وأقمارها، فأنبتها الله تعالى ثانيًا نباتًا حسنًا، وكسا صورة معانيها منه سناءً وسنا، فصنَّفْنَاها إن شاء الله تعالى تصنيفًا غير الأول، وجعلنا عليه في تحقيق الحق المعول، وسميناها باسمها ذلك ليتضح السلوكُ في هاتيك المسالك، وكان اسمها «العقود اللؤلؤية في طريق السادة المولوية»، واللهَ تعالى أسأل أن يكشف الحقَّ ويسعف لكل مؤمن منصف؛ فإن ذلك كائن لا محالة، وأنه تعالى يكف أكف الباغين ويقطع دابر أهل العناد من الجاهلين حيث لا يمكن إنقاذهم من مهالك الضلالة، وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اعلم أولًا أن مجلس هؤلاء السادة المولوية -حفظ الله تعالى أسرارهم وأظهر أنوارهم وسددهم على الشريعة المحمدية- مشتمل ذلك المجلس على صلاة وقراءة قرآن وحديث ووعظٍ ونصيحة للإخوان، وذكر كلام المثنوي الشريف، وسماعٍ طاهرٍ من كل فسقٍ نظيف، وتواجُد بدوران، وإظهار بِرٍّ وطاعة وإذعان لمشايخ هذا الشان، وأدعية شريفة وأثْنِيَة بذكر الصالحين المتقدِّمِين أولي المقامات المنيفة، وحضور جماعة من المسلمين وطائفة من الناس مختلفين، وكل مجلس من مجالس أهل الإسلام لا بد فيه من وجود الدَّاءِ والدَّوَاء، «إنَّمَا الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».
فانظر يا أيها المنصف إلى جمعية الناس في المساجد للجمعة والصلوات الخمس وحضور مجالس العلم والوعظ؛ فإنَّ ذلك كله لا يخلو فيما بينهم من خير وشر ونفع وضر ومخالفات تصدر منهم، وموافقات تنقل عنهم، فلا يجوز الطعن بالجمعيات في مواضع الطاعات؛ فإن هذا أمر عام في كل جماعة من جماعات أهل الإسلام، وهذا الذي ذكرناه هو حال مجلس هؤلاء الطائفة المولوية في دمشق المحميَّة وبقية البلاد الإسلامية بمعرفة الخاص والعامِّ من أنواع البرية، وقد تعرَّض لطريقهم بعض المتفقهة القاصرون في العلم بمعونة بعض أهل الظلم، حتى خذل الله تعالى ذلك المتعرض بمن استعان به في زخرفته وسِحْرِهِ، وألقى الله تعالى كيدَه في نحره؛ إذ كان سببًا لإهانة الفقراء وهضم جانب أهل الله تعالى بين المنقادين إليه من الأمراء، والله تعالى ناصر حزبه ومؤيد أوليائه بعنايته وقربه.
وأنا الآنَ أشرحُ لك أيها المؤمنُ المنصِفُ ما اشتمَلَ عليه مجلسُهم من الأحوال، وأبيِّن الحكم في ذلك والحكمة لِمَا هنالك بأفصح مقال.
فأقول ومن الله تعالى القَبول: هَذِهِ الأحوال المذكورة لتلك الحضرة المعمورة عشرة أحوال، بعضها ظاهر واضح وبعضها عند الجهال فيه بعض إشكال، وأنا أكشفها لك إن شاء الله تعالى وإن كانت لوضوحها غير محتاجة للإيضاح؛ فإن الجاهل المغرور لا يفهم إلا بكمال الإفصاح، فأذكرها في عشر فصول هي للمنكر صوارِم ونصول، والله ولي الهداية ومنه العناية، وهو حسبي ونعم الوكيل، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي قطع بسيف الحق دابر من استحقَّ، وأذل كلام الجاهل بساطع نور البيان، وخذل من تَعَرَّضَ لفقراء الطريق فأورده موارد الحرمان.
ل تطمسون من السماء نجومها
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin