من صفات الدين الحقّ
إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
حاجة البشر إلى الدين أعظم من حاجاتهم إلى ما سواه من ضرورات الحياة. ولا يستطيع الإنسان بحال أن يعيش بلا دين؛ لأن حاجة الإنسان إلى الدين تتصل بجوهر الحياة، وسر الوجود، وأعمق أعماق الإنسان. ومهما اسْتَعْلَت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت، ومهما تعددت الأفكار والنظريات وتنوعت، فلن تغني الأفراد والمجتمعات عن الدين الحق.
ولا نجاة للإنسان في حياته وبعد مماته إلا بدين، وهذا الدّين هو دين الحقّ، يعرِّفه كيف يتعامل مع خالقه، وكيف يتعامل مع الخلق، ويجد فيه غايته المنشودة التي يبحث عنها اليوم كثير من الحيارى، وقد ظهرت جماعات كثيرة، تعتنق أديانًا مختلفة وطرائق شتّى، تدّعي كل جماعة أن دينها هو دين الحق وأن طريقتها هي المُثلى. وحينما تسأل أتباع الأديان المحرّفة، أو أتباع الملل البشرية الوضعية عن الدليل على اعتقادهم، يحتجّون بأنهم وجدوا آباءهم على طريقة، فهم على آثارهم مقتدون، ثم يذكرون حكايات وأخبارًا لا يصح سندها، ولا يسلم مَتْنُها من العلل الواضحة، ويعتمدون على كتب متوارَثة وضعها بشر أمثالهم، فعظّموها وتوارثوها جيل بعد جيل.
وفي العالم اليوم ما يزيد على أربعة آلاف ديانة وعقيدة مختلفة! وكل ديانة من هذه الديانات يعتنقها بعض البشر رغبة في الوصول لرضا الخالق سبحانه. فهل كل هذه الأديان والعقائد صحيحة؟ يستحيل أن يكون الجميع على حق، لأن الحق واحد لا يتعدّد، ويستحيل أن تكون هذه الأديان والعقائد المحرّفة والمِلل البشرية جميعها أو بعضها من عند الخالق عزّ وجلّ وأنها حق. إذًا لا بد من ضوابط صارمة نعرِف بها الدين الحق من الدين الباطل، فإذا وجدنا هذه الضوابط منطبقة على دين علمنا أنه الحق، وإذا اختلّت هذه الضوابط في دين علمنا أنه باطل .
ونحن هنا في موقع طريق القرآن نتناول، بعون الله تعالى، الضوابط التي نميز بها بين الدين الحق والدين الباطل، وصفات دين الحق، التي على كل إنسان أن يتأمّلها، وأن يفكّر فيها بعقله وبتجرّد بعيدًا عن التعصّب، فإن كان من المسلمين ازداد إيمانه، وإن كان من غيرهم تأمّل وتدبّر وعرف الفرق بين دين الحق والدّين الذي يعتنقه.
أوّلًا: الدين الحق من عند الخالق ويدعو إلى عبادته وحده
الذي خلقنا هو وحده الذي يستحق منا أن ندين له ونعبده. فليس من العدل ولا من العقل أن يعبد الإنسان من لم يخلقه، ويترك عبادة من خلقه؟! ولذلك، فإن أوّل صفات الدين الحق أن يكون منزّلًا من عند الخالق عزّ وجل على رسول من رسله ليبلغه إلى الناس، وأن يدعو هذا الدين إلى إفراد الخالق بالعبادة، ويحرّم الشرك به، لأن الدين الحق هو دين اللَّه الخالق الأوحد سبحانه لا شريك له، وهو وحده الذي يدين ويحاسب الخلائق يوم القيامة على الدين الذي أنزله عليهم. وبناء على ذلك، فأي دين يأتي به شخص ما وينسبه إلى نفسه، فهو دين باطل لا محالة؛ وأي دين يدعو إلى عبادة غير الخالق سبحانه، فهو دين باطل، ولو انتسب أصحابه إلى نبي من الأنبياء .
ولو تأمّلت هذه الصفة بصدق وتجرّد فلن تجدها تنطبق على دين من الأديان سوى دين الإسلام وحده، والإسلام هو الدين الوحيد الذي يدعو أتباعه إلى عبادة الخالق وحده دون شريك، وإلى الإيمان بكماله المطلق سبحانه وتعالى، حيث يقول الخالق سبحانه في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ (21) البقرة. فهذا نداء مباشر من الخالق للبشر جميعًا: أن اعبدوا الذي خلقكم، وخلق أسلافكم، وأوجدكم جميعًا من العدم، وهو الحي بنفسه، وهو الذي يهب الحياة لغيره، فكيف تتركون عبادة الحي الذي لا يموت وتعبدون أمواتًا لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا؟! وهذا استفهام استنكاري من الخالق سبحانه وتعالى في القرآن: كَيْفَ تَكْفُرُوْنَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ (28) البقرة. كيف تكفرون باللَّه وهو الذي خلقكم، وهو الذي سوف يميتكم، وهو الذي سوف يحييكم مرّة أخرى ليحاسبكم على أفعالكم؟! وكيف تتركون عبادته وتعبدون من دونه بشرًا أمثالكم كانوا أمواتًا فأحياهم اللَّه سبحانه وتعالى في بطون أمهاتهم ثم أخرجهم لهذه الدنيا من مجرى البول، ثم يموتون بعد ذلك ويُقبَرون في داخل الأرض؟!
ثانيًا: الدين الحق هو الدين الداعي إلى توحيد الخالق
إن أي دين يدعو إلى عبادة غير الخالق سبحانه، أو يشرك في عبادته غيره، فهو دين باطل ولو انتسب أصحابه إلى نبي من الأنبياء، فالذي خلقك هو وحده الذي يستحق منك أن تدين له وتعبده ولا تشرك في عبادته أحدًا غيره. والدين الحق هو الذي يدعو إلى إفراد الخالق سبحانه بالعبادة وبما يختص به من صفات الكمال والجلال. وهذا هو ملخص دعوة جميع الرسل الذين أرسلهم اللّه إلى عباده من لدن آدم –عليه السلام- إلى خاتمهم مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- فجميعهم دعوا إلى توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ في القرآن: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ إِلَّا نُوْحِيْ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُوْنِ (25) الأنبياء. وكما ترى، فقد جاءت هذه الآية في سورة الأنبياء، واتخذت الرقم 25 لأن الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن عددهم 25 نبيًّا. وبما أن هذه الآية تدعو إلى توحيد اللَّه وإفراده بالعبادة، فقد جاء عدد حروفها 53 حرفًا لأن أحرف اسم اللَّه الثلاثة (الألف واللام والهاء) تكرّرت في أولى سور القرآن وهي الفاتحة 53 مرّة، أما عدد كلمات هذه الآية فهو 15 كلمة، بما يعادل عدد كلمات سورة الإخلاص، وهي السورة التي تصف الواحد الأحد سبحانه، وهي على قصرها تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة: الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، فتأمّل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) الإخلاص.
وإذا تأمّلت في الديانات التي يدين بها العالم اليوم، على كثرتها وتنوعها، فلن تجد دينًا يدعو إلى إفراد الخالق سبحانه بالعبادة، ويَنْهى عن الشرك به، إلا دين الإسلام وحده. فجميع الديانات من دون استثناء منغمسه في الشرك، بما في ذلك الديانات المحرّفة التي ينتمي أصحابها إلى نبي من الأنبياء، فهم يعبدون المخلوق ويعظّمونه، أو يصرفون له نوعًا من خصائص الربوبية، أو يجعلون للَّه شريكًا في ملكه أو في أسمائه وصفاته. وإذا تأمّل أصحاب هذه الديانات والعقائد، فإن الشرك بكل صوره ومظاهره ليس إلا امتهانًا للإنسان وإذلالًا له، حيث يلزمه العبودية لمخلوقات وأناس مثله لا يخلقون شيئا وهم يُخلَقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، وفي الإيمان باللَّه وتوحيده عزٌّ للإنسان وصونٌ لكرامته.
وعلى سبيل المثال، فإنك إذا تأمّلت جوهر العقيدة المسيحية تجد أن ألوهية المسيح والثالوث الأقدس هو الركن الأهم في عقائد المسيحيين، وفي اعتقادهم أن المسيح هو اللَّه وهو ابن اللَّه، وأنهم ثلاثة شركاء (الآب – الابن - الروح القدس). ولعلكم تسمعون هذه العبارة من المسيحيين كثيرًا: باسم الأب والابن والروح القدس الإله الواحد. فهذه هي كلمة الافتتاح والبسملة عند المسيحيين، وهم يقولون إن الأب إله والابن إله والروح القدس إله ولكنهم ليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد! الأب هو العظيم والابن هو العظيم، والروح القدس هو العظيم، ولكنهم ليسوا ثلاثة عظماء بل العظيم الواحد! الأب شخص، والابن شخص، والروح القدس شخص، ولكنهم ليسوا ثلاثة أشخاص، بل هو شخص واحد! إله وإله وإله، ولكنهم ليسوا ثلاثة، وإنما إله واحد! عظيم وعظيم وعظيم، ولكنهم ليسوا ثلاثة، وإنما عظيم واحد! شخص وشخص وشخص، ولكنهم ليسوا ثلاثة، وإنما شخص واحد! وهكذا فإن مفهوم عقيدة التثليث غير واضح بالنسبة إلى المسيحيين أنفسهم!
فهناك إله واحد في ثالوث، وثالوث في إله واحد! ولدى كل شخص يؤمن بالديانة المسيحية ثلاث صور ذهنية مختلفة عن الإله! وعندما تحاورهم يقولون: إن هذه الصور الثلاث متطابقة وإنهم لا يرون إلا صورة واحدة! وعلى منوال هذا المنطق، دعوني أقل لكم إن: 1 + 1 + 1 = 1، فهل تقبلون ذلك مني؟ بكل تأكيد لن يقبل ذلك أحد! ولكن مع الأسف هذا هو المنطق الذي يحاول المسيحيون إقناع الناس به!
إذا كان النصارى يعتقدون في ألوهية المسيح عيسى ابن مريم -عليه وعلى أمه السلام- لأنه وُلد من غير أب، فما هو اعتقادهم في آدم – عليه السلام-، وهو الذي وُلد من غير أب ومن غير أم؟! وما هو اعتقادهم في حواء التي ولدت من غير أم؟! كيف يعتقدون ألوهية المسيح وفي الوقت نفسه يعتقدون أنه أُهين وعُذّب ولُطم على وجهه وقُتل وصُلِب! لأن هذا الاعتقاد يعني ضمنيًّا أن الذي أهانه وعذّبه وقتله وصلبه أقوى منه! كيف يعتقدون في إله لا يستطيع أن يحمي نفسه من شرور أعدائه؟! لا أحد من النصارى يستطيع أن يجيبك عن ذلك، لأن الذين كتبوا الأناجيل تعمّدوا استعمال الاستعارات! فهم يَتكلّمونَ ويَكْتبونَ بلغة مجازية غامضة، تحتمل العديد من الوجوه، ولذلك لا يجد عامة الناس من أتباعهم سبيلًا غير التقليد الأعمى والاستسلام للواقع، من دون أن يجدوا إجابات شافية عن العديد من التساؤلات التي تدور في خلجات نفوسهم.
إن عقيدة التثليث أو الثالوث من أكثر العقائد خلطًا وتعقيدًا عند النصارى، فتأمّل الآية الآتية من القرآن والتي تفنِّد عقيدتهم، وتزجرهم بأن ينتهوا عن الاعتقاد والقول بالثالوث: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوْا فِيْ دِيْنِكُمْ وَلَا تَقُوْلُوْا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيْحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُوْلُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ فَآمِنُوْا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُوْلُوْا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوْا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِيْ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيْ الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيْلًا (171) النساء.
إن النصرانية، كغيرها من الديانات الشركية الأخرى، اشتملت على أنواع من الشرك، كما أن كتابهم المقدس ومصنّفاتهم ومواقعهم قد حفلت بالشرك وأقرته وذكرت أدلته، واعتبرته من صميم العقيدة النصرانية، لكنها لا تعده شركًا وإنما تسميه توحيدًا، فالتثليث وادعاء بنوة المسيح للَّه رب العالمين، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون اللَّه، يعدون كل ذلك توحيدًا، وليس شركًا، وهذا ما لا يقبله المنطق القويم ولا العقل السليم.
ثالثًا: الدين الحق هو الذي أمر به وسماه الخالق
إن الخالق سبحانه وتعالى هو وحده دون سواه المستحق للعبادة، وإن الدين الذي يرضاه ويسميه باسمه هذا الخالق العظيم هو الدين الحق، وكل ما عداه باطل. وفي ذلك يقول الخالق سبحانه وتعالى في القرآن: إِنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ.. (19) آل عمران. وبهذه الكمات الخمس، التي تعادل عدد أركان الإسلام، يتقرّر أنَّ الإسلام هو دين الله الحق، وهو الدين الذي يجب على كل إنسان أن يدين به تحقيقًا للغَرَض الذي خلقه الله من أجله، حيث يقول سبحانه وتعالى في ذلك: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ (56) الذاريات.
والإسلام، بمعناه العام الذي هو الاستسلام للَّه تعالى وإفراده بالعبادة، هو دين جميع الرسل والأنبياء، ومنهم موسى وعيسى –عليهما السلام-، وأتباعهم الصادقون هم من يعملون بما أُخذ على النبيين من الميثاق، في وجوب الإيمان بمُحَمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- ونُصرته واتّباعه والإيمان بما جاء به وعدم العدول عنه إلى غيره. وفي ذلك يقول الخالق سبحانه وتعالى في القرآن: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيْثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِيْ قَالُوْا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوْا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِيْنَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُوْنَ (82) أَفَغَيْرَ دِيْنِ اللَّهِ يَبْغُوْنَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِيْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُوْنَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوْبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوْتِيَ مُوْسَى وَعِيْسَى وَالنَّبِيُّوْنَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُوْنَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيْنًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِيْ الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ (85) آل عمران. وفي هذا البيان الواضح الصريح أن الإسلام هو الدين الحق والمعتبر والمقبول عند الخالق سبحانه وتعالى، وكل من دان بغير دين الإسلام فدينه باطل.
فهذا الإسلام هو الذي اجتمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، فدَعَوا إلى توحيد الله وإلى الاستسلام له بالتوحيد بعبادته وحده دونما سواه. وإن من بين كل الشرائع التي يتعبّد بها البشر في عالمنا اليوم، شريعةَ مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- هي وحدها شريعة الإسلام الذي ارتضاه الخالق سبحانه. وبعد رسالة مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- لم يعد هناك دين يرضاه الله عز وجل ويقبله من أحد إلا هذا "الإسلام" في صورته التي جاء بها مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم-، وما كان يُقبل قبل بعثته من النصارى لم يعد الآن يُقبل، كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى –عليه السلام- لم يعد يقبل منهم بعد بعثته. ووجود يهود ونصارى بعد بعثة مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه، أو أنهم على دين الحق. لقد كان ذلك قبل بعثة خاتم الرسل، أما بعد بعثته فلا دين –في التصور الإسلامي وفي حس المسلم- إلا الإسلام.. وهذا ما ينص عليه القرآن نصًّا صريحًا واضحًا غير قابل للتأويل.
ومن هنا فليس هناك دين يقف معه الإسلام في وجه الإلحاد! هناك "دين" واحد هو الإسلام، وهناك "لا دين" هو غير الإسلام، ثم يكون هذا اللادين عقيدةً أصلُها سماوي ولكنها "محرّفة"، أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها، أو إلحادًا يُنكر الأديان، تختلف فيما بينها كلها، ولكنها تختلف كلها مع الإسلام، ولا حِلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء. والإسلام جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب، كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين على السواء، ودعاهم إلى الإسلام جميعًا؛ لأن هذا هو الدين الحق الذي لا يقبل الله غيره من الناس.
رابعًا: الدين الحق يحوي ما يليق بالمعبود من صفات
بما أن الدين الحق هو دين الخالق المعبود، فلابد أن يكون كل ما يحتويه هذا الدين يليق به سبحانه وتعالى من صفات، ولا يوجد به صفات تنتقص قدره؛ لأن ناقص الكمال لا يستطيع أن يَهَب الكمال لغيره، فالخالق العظيم سبحانه كامل في صفاته، وكل دين يصفه بالنقص فهو دين باطل. فكيف يتعبّد الإنسان بدين لا يعظّم المعبود، وكيف يتعبّد بدين لا يقدّر المعبود حقّ قدره؟!
وعلى سبيل المثال، فإن الديانة اليهودية تذمُّ وتعيب الإله الربّ سبحانه وتعالى، وتنسب إليه من الصفات ما تكون سببًا في الانتقاص منه، بحيث لا يمكن للفطر السويّة والنفوس الزكية والعقول الرشيدة قبولها في حق المعبود، ومن مثل تلك الصفات: صفة سوء الاختيار، والجهل وعدم العلم، والضعف، وانتفاء الحكمة، والعنصرية والظلم والفظاظة، إلى غير ذلك من الصفات التي يستحيل لعاقل أن يتقبلها في حق نفسه ناهيك في حق الإله الربّ (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا). ويرجع ذلك إلى ما قد نال كتاب اليهودية من التغيير والتبديل والتحريف، تبعًا للأهواء.
أما النصرانية، فقد خرجت في ديانتها بالإله الخالق سبحانه وتعالى عن حدّ المعقول ونسبت إليه من الصفات الناقصة والمعيبة والمذمومة، ما لا تقبله النفوس الزكية والفطر النقية والعقول الرشيدة، وتكلّمت عنه وفقًا لما تُمليه الأهواء المريضة، دون أدنى حياء منه سبحانه وتعالى، ووصفته بصفات لا يمكن أن تليق بذاته العلية جلّ وعلا، كالندم والتأسف والحزن، والاستراحة من التعب، والنوم والاستيقاظ، والصفير والتصفيق، والهتاف والصراخ، إلى غير ذلك من الصفات التي لا يمكن أن تليق بالذات العلية لله سبحانه وتعالى.
كما تزعم النصرانية أن الإله عبارة عن مركّب من 3 أقانيم (الأب، الابن ، الروح القدس)، ومع نكارة ذلك الزعم الكاذب، إلا أن النصرانية تقول بأن الابن، الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة لإلهها المزعوم، إنما هو من نسل بشري، وهو بذلك خرج إلى الوجود من مجرى البول، وكان قد اختُتِن بعد ولادته، وكان يرضع من ثدي أمه، وكان يأكل ويشرب الخمر (وفقًا لما تزعمه النصرانية)، وكان يبول ويتغوّط، إلى غير ذلك من الصفات المُحال قبولها في الذات العليّة للإله الخالق جلّ وعلا. ولم تكتف النصرانية في توهّماتها وادّعاءاتها على ذلك، بل إنها تقول بأن ذلك الابن الذي قد نسبت إليه الألوهية، قد مات على الصليب بعدما أُهين وعُذِّب، وبُصِق في وجهه، ولُطِم عليه، وتجعل من ذلك عقيدة لها. ولا شك، أن ذلك الذي تزعمه النصرانية، لا يمكن أن تقبله فطرة سويّة أو عقل رشيد، منسوبًا إلى الإله الخالق (تعالى عن مثل تلك الافتراءات علوًا كبيرًا).
المسيحيون الأوائل لم يكونوا بعيدين عن المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يكن المسيح إلهًا في معتقد المسيحيين إلا في مُجمّع (نيقية) الذي قد انعقد سنة 325 للميلاد، أي بعد مرور أكثر من ثلاثمائة سنة من مولده، وفيه تقرّر بزيادة صوت واحد فقط بين المقترعين أن المسيح إله، أي أنه إذا نقص ذلك الصوت لبقي المسيح في النصرانية بشرًا رسولاً، كما يقول الدين الإسلامي الحنيف، وبعد ذلك انحرف معتقدهم انحرافًا واضحًا عن الحق، وصار أُلعوبة بين قساوستهم.
الإسلام هو الدين الوحيد الذي يُعظّم الله تعالى أشدّ ما يكون التعظيم، ويرفعه فوق تخيّل كل إنسان، وهذا هو اللائق به سبحانه وتعالى، فهو الإله الخالق العظيم. والقرآن الكريم الذي بين أيدي المسلمين، هو الكتاب الوحيد الذي يُنزّه الله تعالى عن كل ما قد افترته عليه اليهودية والنصرانية وغيرهما، وينزهه سبحانه وتعالى عن كل عَيْب ونقص، وذمٍ وسوء، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد تعهّد بحفظه (القرآن الكريم) بعدما حُرِّفت وضُيِّعت التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السابقة، عندما وُكِّل البشر بحفظها.
خامسًا: الدين الحق فيه الجواب الشافي عما أراده الخالق من الإنسان
بما أن الدين الحق هو دين الخالق المعبود، فلابد أن يحوي الجواب الشافي عما أراده هذا الخالق العظيم من الإنسان، وأن يبين له الغاية التي خلقه من أجلها، ومن أين أتى وإلى أين مصيره. ولا يليق بجلال الخالق العظيم أن يخلقنا عبثًا، ويتركنا من دون هدف من وجودنا. فلابد من هدف يتناسب مع كمال الخالق العظيم، ولابد من هدف يتناسب مع جلاله، ولابد من هدف يتناسب مع قوته هو القوي، فما هو هذا الهدف؟ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحوي الجواب الشافي عن هذا السؤال بكل شفافية ووضوح، حيث يقول الخالق سبحانه وتعالى في كتابه القرآن: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ (56) الذاريات. وكما تبيّن هذه الآية، فإن الغاية من وجود الإنسان في هذه الحياة –باختصار- هي عبادة الخالق وحده لا شريك له، وهذا هو الهدف الذي خُلق من أجله كل إنسان على وجه هذه الأرض، أن تعرف الخالق فتطيعه، فتسعد بقربه. فكل صاحب صنعة يصنع شيئًا لغاية محددة، فالذي يصنع ساعة يريد بها ضبط الوقت، والذي يصنع سيارة يريد أن يتنقّل بها، والذي يصنع قلمًا يريد أن يكتب به، وهكذا لكل صاحب صنعة هدف من صنعته، ولله المثل الأعلى، فقد خلق الإنسان لعبادته وحده سبحانه وتعالى. وعبادة الخالق جلّ وعلا تشمل كل ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ومن ذلك عمارة الأرض، وتحقيق الاستخلاف فيها بالعدل، وفق المنهج الذي أمر به هو سبحانه وتعالى، وباتباع تعاليم دينه الحق.
الإسلام هو الدين الوحيد الذي يجيب بوضوح تام عن أهم سؤال في حياة كل إنسان: لماذا خلقني الله عز وجل؟ فهذا هو أكبر سؤال يخطر ببال أي أحد من الناس، لأنه ما من إنسان عاقل على وجه الأرض يعمل عملًا من دون هدف، فما هو إذًا هذا الهدف الكبير الذي خلقنا الله من أجله؟ فكل طفل يرسله والداه إلى المدرسة من أجل أن يدرس ويتعلّم، فإذا عرف هذا الطفل الهدف من إرساله إلى المدرسة والتفت إلى الدراسة حقّق هذا الهدف فرضي وأرضى والديه، أمّا إذا ظنّ هذا الطفل أنه أُرسل من أجل اللهو فقد شقي وأشقى والديه، ولذلك فإن معرفة الهدف الكبير من خلق الإنسان شيء مهم جدًا، لأن الناس، ومنذ أن خلقهم اللَّه عزّ وجلّ، يسعَوْن في متاهات، ويمشون في طرق مسدودة، تنتهي جميعها بالموت والفناء، فطريق المال والشهرة والشهوة كلها تنتهي بالمصير المحتوم وهو الموت.
وهذه هي الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، فكل إنسان يعلم علم اليقين أنه مهما طال أجله فهو ميت لا محالة. ولكن السؤال: ثم ماذا بعد الموت؟! أيُعقل أن يُخلق الإنسان ولا يُسأل عن أعماله؟ فالمسيء مُسيء، والمحسن مُحسن، والظالم ظالم، والعادل عادل، والضعيف ضعيف، والقوي قوي، والفقير فقير، والغني غني، والصحيح صحيح، والمريض مريض وهكذا، هذا عمّر إحدى وتسعين سنة، وثانٍ عاش تسع عشرة سنة، وثالث بقي أربعين سنة، وآخر مات مبكرًا، ولم يهنأ بحياته، فلماذا هذا يولد ابن غني وكل شيء متوفر لديه؟ وهذا لا يحصل قوت يومه؟ وهنا يأتي الاستفهام الاستنكاري من الخالق جلّ وعلا في القرآن: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) القيامة. ومن دقّة نظم القرآن العظيم أن هذه الآية جاءت في سورة القيامة ولم تأت في أي سورة أخرى، ويوم القيامة هو يوم الحساب وهو يوم الفصل، وهو اليوم الذى يبعث اللَّه فيه الناس، ليثيب المحسنين على إحسانهم والصابرين على صبرهم، ويعاقب الكافرين على كفرهم، وهذا من مقتضى عدل الخالق سبحانه وتعالى، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان، والآخرة دار قرار.
في بداية النهضة اليابانية، أرسل ملك اليابان مجموعة من الطلاب إلى أوروبا وأمريكا للدراسة، فلما وجدوا أنفسهم في بلاد ومدن كبرى فيها مفاتن كثيرة وملذات رخيصة لا توجد في بلدهم اليابان، انغمسوا فيها، وقصّروا في تحصيل العلم ونقل المعرفة، ولم ينجحوا في تحقيق الهدف الذي أرسلوا من أجله، وعادوا إلى اليابان فأعدمهم الملك، لأنه أرسلهم لمهمة محددة فنسوها وانغمسوا في شيء آخر. وهكذا الإنسان خلقه اللَّه عزّ وجل وأرسله إلى الدنيا لأداء مهمّة محددة، وبيّن له هذه المهمّة بدقّة يوم أهبطه إلى الأرض لأوّل مرّة، حيث يقول اللَّه عز وجلّ في كتابه العزيز: قُلْنَا اهْبِطُوْا مِنْهَا جَمِيْعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّيْ هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُوْنَ (38) وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْا وَكَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ (39) البقرة. وتحقيقًا لهذا الوعد، فقد توالت رسالات اللَّه عزّ وجلّ إلى الناس، وجاءت رسله تترى على فترات من الزمن لتبيّن للناس هدى اللَّه ودينه الحق، والمهمّة التي خُلق الإنسان من أجلها، وهي عبادة الخالق وحده لا شريك له. فإذا عرف الإنسان هذه المهمّة، ونفّذها على الوجه المطلوب سعد في الدنيا والآخرة، وإذا تغافل عنها أو جهلها أو عمل عملًا يتناقض معها فسوف يُعاقب على ذلك، وسوف يندم أشد ما يكون الندم حين لا ينفعه الندم، حيث يصف القرآن حاله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُوْلُ يَا لَيْتَنِيْ اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُوْلِ سَبِيْلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِيْ لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيْلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِيْ عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِيْ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُوْلًا (29) الفرقان.
وبذلك فإن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يضع كل إنسان أمام مسؤولياته مباشرة، ويقول له إنك مخلوق في هذه الدنيا من أجل مهمّة خطيرة جدًا، وحياتك كلها متعلقة بهذه المهمّة، وإنك حينما تعرف مهمّتك في الدنيا، وتسعى لتحقيقها تسعد سعادة الدنيا كلها، فلا ترضيك إذا أقبلت، ولا تسخطك إذا أدبرت، وأن الموت ليس النهاية، بل هو بداية الحياة الأبدية التي تكون سعادة أو شقاء الإنسان فيها بقدر ما أخلص واجتهد وعمل في تحقيق المهمّة التي خُلق من أجلها.
إعداد: الدكتور/ أحمد محمد زين المنّاوي
حاجة البشر إلى الدين أعظم من حاجاتهم إلى ما سواه من ضرورات الحياة. ولا يستطيع الإنسان بحال أن يعيش بلا دين؛ لأن حاجة الإنسان إلى الدين تتصل بجوهر الحياة، وسر الوجود، وأعمق أعماق الإنسان. ومهما اسْتَعْلَت المذاهب المادية الإلحادية وتزخرفت، ومهما تعددت الأفكار والنظريات وتنوعت، فلن تغني الأفراد والمجتمعات عن الدين الحق.
ولا نجاة للإنسان في حياته وبعد مماته إلا بدين، وهذا الدّين هو دين الحقّ، يعرِّفه كيف يتعامل مع خالقه، وكيف يتعامل مع الخلق، ويجد فيه غايته المنشودة التي يبحث عنها اليوم كثير من الحيارى، وقد ظهرت جماعات كثيرة، تعتنق أديانًا مختلفة وطرائق شتّى، تدّعي كل جماعة أن دينها هو دين الحق وأن طريقتها هي المُثلى. وحينما تسأل أتباع الأديان المحرّفة، أو أتباع الملل البشرية الوضعية عن الدليل على اعتقادهم، يحتجّون بأنهم وجدوا آباءهم على طريقة، فهم على آثارهم مقتدون، ثم يذكرون حكايات وأخبارًا لا يصح سندها، ولا يسلم مَتْنُها من العلل الواضحة، ويعتمدون على كتب متوارَثة وضعها بشر أمثالهم، فعظّموها وتوارثوها جيل بعد جيل.
وفي العالم اليوم ما يزيد على أربعة آلاف ديانة وعقيدة مختلفة! وكل ديانة من هذه الديانات يعتنقها بعض البشر رغبة في الوصول لرضا الخالق سبحانه. فهل كل هذه الأديان والعقائد صحيحة؟ يستحيل أن يكون الجميع على حق، لأن الحق واحد لا يتعدّد، ويستحيل أن تكون هذه الأديان والعقائد المحرّفة والمِلل البشرية جميعها أو بعضها من عند الخالق عزّ وجلّ وأنها حق. إذًا لا بد من ضوابط صارمة نعرِف بها الدين الحق من الدين الباطل، فإذا وجدنا هذه الضوابط منطبقة على دين علمنا أنه الحق، وإذا اختلّت هذه الضوابط في دين علمنا أنه باطل .
ونحن هنا في موقع طريق القرآن نتناول، بعون الله تعالى، الضوابط التي نميز بها بين الدين الحق والدين الباطل، وصفات دين الحق، التي على كل إنسان أن يتأمّلها، وأن يفكّر فيها بعقله وبتجرّد بعيدًا عن التعصّب، فإن كان من المسلمين ازداد إيمانه، وإن كان من غيرهم تأمّل وتدبّر وعرف الفرق بين دين الحق والدّين الذي يعتنقه.
أوّلًا: الدين الحق من عند الخالق ويدعو إلى عبادته وحده
الذي خلقنا هو وحده الذي يستحق منا أن ندين له ونعبده. فليس من العدل ولا من العقل أن يعبد الإنسان من لم يخلقه، ويترك عبادة من خلقه؟! ولذلك، فإن أوّل صفات الدين الحق أن يكون منزّلًا من عند الخالق عزّ وجل على رسول من رسله ليبلغه إلى الناس، وأن يدعو هذا الدين إلى إفراد الخالق بالعبادة، ويحرّم الشرك به، لأن الدين الحق هو دين اللَّه الخالق الأوحد سبحانه لا شريك له، وهو وحده الذي يدين ويحاسب الخلائق يوم القيامة على الدين الذي أنزله عليهم. وبناء على ذلك، فأي دين يأتي به شخص ما وينسبه إلى نفسه، فهو دين باطل لا محالة؛ وأي دين يدعو إلى عبادة غير الخالق سبحانه، فهو دين باطل، ولو انتسب أصحابه إلى نبي من الأنبياء .
ولو تأمّلت هذه الصفة بصدق وتجرّد فلن تجدها تنطبق على دين من الأديان سوى دين الإسلام وحده، والإسلام هو الدين الوحيد الذي يدعو أتباعه إلى عبادة الخالق وحده دون شريك، وإلى الإيمان بكماله المطلق سبحانه وتعالى، حيث يقول الخالق سبحانه في القرآن: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِيْ خَلَقَكُمْ وَالَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُوْنَ (21) البقرة. فهذا نداء مباشر من الخالق للبشر جميعًا: أن اعبدوا الذي خلقكم، وخلق أسلافكم، وأوجدكم جميعًا من العدم، وهو الحي بنفسه، وهو الذي يهب الحياة لغيره، فكيف تتركون عبادة الحي الذي لا يموت وتعبدون أمواتًا لا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا؟! وهذا استفهام استنكاري من الخالق سبحانه وتعالى في القرآن: كَيْفَ تَكْفُرُوْنَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيْتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيْكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُوْنَ (28) البقرة. كيف تكفرون باللَّه وهو الذي خلقكم، وهو الذي سوف يميتكم، وهو الذي سوف يحييكم مرّة أخرى ليحاسبكم على أفعالكم؟! وكيف تتركون عبادته وتعبدون من دونه بشرًا أمثالكم كانوا أمواتًا فأحياهم اللَّه سبحانه وتعالى في بطون أمهاتهم ثم أخرجهم لهذه الدنيا من مجرى البول، ثم يموتون بعد ذلك ويُقبَرون في داخل الأرض؟!
ثانيًا: الدين الحق هو الدين الداعي إلى توحيد الخالق
إن أي دين يدعو إلى عبادة غير الخالق سبحانه، أو يشرك في عبادته غيره، فهو دين باطل ولو انتسب أصحابه إلى نبي من الأنبياء، فالذي خلقك هو وحده الذي يستحق منك أن تدين له وتعبده ولا تشرك في عبادته أحدًا غيره. والدين الحق هو الذي يدعو إلى إفراد الخالق سبحانه بالعبادة وبما يختص به من صفات الكمال والجلال. وهذا هو ملخص دعوة جميع الرسل الذين أرسلهم اللّه إلى عباده من لدن آدم –عليه السلام- إلى خاتمهم مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- فجميعهم دعوا إلى توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية، وتوحيد الأسماء والصفات، وقد قال اللَّه عزّ وجلّ في القرآن: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُوْلٍ إِلَّا نُوْحِيْ إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُوْنِ (25) الأنبياء. وكما ترى، فقد جاءت هذه الآية في سورة الأنبياء، واتخذت الرقم 25 لأن الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن عددهم 25 نبيًّا. وبما أن هذه الآية تدعو إلى توحيد اللَّه وإفراده بالعبادة، فقد جاء عدد حروفها 53 حرفًا لأن أحرف اسم اللَّه الثلاثة (الألف واللام والهاء) تكرّرت في أولى سور القرآن وهي الفاتحة 53 مرّة، أما عدد كلمات هذه الآية فهو 15 كلمة، بما يعادل عدد كلمات سورة الإخلاص، وهي السورة التي تصف الواحد الأحد سبحانه، وهي على قصرها تشتمل على أنواع التوحيد الثلاثة: الألوهية والربوبية والأسماء والصفات، فتأمّل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُوْلَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) الإخلاص.
وإذا تأمّلت في الديانات التي يدين بها العالم اليوم، على كثرتها وتنوعها، فلن تجد دينًا يدعو إلى إفراد الخالق سبحانه بالعبادة، ويَنْهى عن الشرك به، إلا دين الإسلام وحده. فجميع الديانات من دون استثناء منغمسه في الشرك، بما في ذلك الديانات المحرّفة التي ينتمي أصحابها إلى نبي من الأنبياء، فهم يعبدون المخلوق ويعظّمونه، أو يصرفون له نوعًا من خصائص الربوبية، أو يجعلون للَّه شريكًا في ملكه أو في أسمائه وصفاته. وإذا تأمّل أصحاب هذه الديانات والعقائد، فإن الشرك بكل صوره ومظاهره ليس إلا امتهانًا للإنسان وإذلالًا له، حيث يلزمه العبودية لمخلوقات وأناس مثله لا يخلقون شيئا وهم يُخلَقون، ولا يملكون لأنفسهم ضرًّا ولا نفعًا، ولا يملكون موتًا ولا حياةً ولا نشورًا، وفي الإيمان باللَّه وتوحيده عزٌّ للإنسان وصونٌ لكرامته.
وعلى سبيل المثال، فإنك إذا تأمّلت جوهر العقيدة المسيحية تجد أن ألوهية المسيح والثالوث الأقدس هو الركن الأهم في عقائد المسيحيين، وفي اعتقادهم أن المسيح هو اللَّه وهو ابن اللَّه، وأنهم ثلاثة شركاء (الآب – الابن - الروح القدس). ولعلكم تسمعون هذه العبارة من المسيحيين كثيرًا: باسم الأب والابن والروح القدس الإله الواحد. فهذه هي كلمة الافتتاح والبسملة عند المسيحيين، وهم يقولون إن الأب إله والابن إله والروح القدس إله ولكنهم ليسوا ثلاثة آلهة، بل إله واحد! الأب هو العظيم والابن هو العظيم، والروح القدس هو العظيم، ولكنهم ليسوا ثلاثة عظماء بل العظيم الواحد! الأب شخص، والابن شخص، والروح القدس شخص، ولكنهم ليسوا ثلاثة أشخاص، بل هو شخص واحد! إله وإله وإله، ولكنهم ليسوا ثلاثة، وإنما إله واحد! عظيم وعظيم وعظيم، ولكنهم ليسوا ثلاثة، وإنما عظيم واحد! شخص وشخص وشخص، ولكنهم ليسوا ثلاثة، وإنما شخص واحد! وهكذا فإن مفهوم عقيدة التثليث غير واضح بالنسبة إلى المسيحيين أنفسهم!
فهناك إله واحد في ثالوث، وثالوث في إله واحد! ولدى كل شخص يؤمن بالديانة المسيحية ثلاث صور ذهنية مختلفة عن الإله! وعندما تحاورهم يقولون: إن هذه الصور الثلاث متطابقة وإنهم لا يرون إلا صورة واحدة! وعلى منوال هذا المنطق، دعوني أقل لكم إن: 1 + 1 + 1 = 1، فهل تقبلون ذلك مني؟ بكل تأكيد لن يقبل ذلك أحد! ولكن مع الأسف هذا هو المنطق الذي يحاول المسيحيون إقناع الناس به!
إذا كان النصارى يعتقدون في ألوهية المسيح عيسى ابن مريم -عليه وعلى أمه السلام- لأنه وُلد من غير أب، فما هو اعتقادهم في آدم – عليه السلام-، وهو الذي وُلد من غير أب ومن غير أم؟! وما هو اعتقادهم في حواء التي ولدت من غير أم؟! كيف يعتقدون ألوهية المسيح وفي الوقت نفسه يعتقدون أنه أُهين وعُذّب ولُطم على وجهه وقُتل وصُلِب! لأن هذا الاعتقاد يعني ضمنيًّا أن الذي أهانه وعذّبه وقتله وصلبه أقوى منه! كيف يعتقدون في إله لا يستطيع أن يحمي نفسه من شرور أعدائه؟! لا أحد من النصارى يستطيع أن يجيبك عن ذلك، لأن الذين كتبوا الأناجيل تعمّدوا استعمال الاستعارات! فهم يَتكلّمونَ ويَكْتبونَ بلغة مجازية غامضة، تحتمل العديد من الوجوه، ولذلك لا يجد عامة الناس من أتباعهم سبيلًا غير التقليد الأعمى والاستسلام للواقع، من دون أن يجدوا إجابات شافية عن العديد من التساؤلات التي تدور في خلجات نفوسهم.
إن عقيدة التثليث أو الثالوث من أكثر العقائد خلطًا وتعقيدًا عند النصارى، فتأمّل الآية الآتية من القرآن والتي تفنِّد عقيدتهم، وتزجرهم بأن ينتهوا عن الاعتقاد والقول بالثالوث: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوْا فِيْ دِيْنِكُمْ وَلَا تَقُوْلُوْا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيْحُ عِيْسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُوْلُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ فَآمِنُوْا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُوْلُوْا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوْا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُوْنَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِيْ السَّمَاوَاتِ وَمَا فِيْ الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيْلًا (171) النساء.
إن النصرانية، كغيرها من الديانات الشركية الأخرى، اشتملت على أنواع من الشرك، كما أن كتابهم المقدس ومصنّفاتهم ومواقعهم قد حفلت بالشرك وأقرته وذكرت أدلته، واعتبرته من صميم العقيدة النصرانية، لكنها لا تعده شركًا وإنما تسميه توحيدًا، فالتثليث وادعاء بنوة المسيح للَّه رب العالمين، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دون اللَّه، يعدون كل ذلك توحيدًا، وليس شركًا، وهذا ما لا يقبله المنطق القويم ولا العقل السليم.
ثالثًا: الدين الحق هو الذي أمر به وسماه الخالق
إن الخالق سبحانه وتعالى هو وحده دون سواه المستحق للعبادة، وإن الدين الذي يرضاه ويسميه باسمه هذا الخالق العظيم هو الدين الحق، وكل ما عداه باطل. وفي ذلك يقول الخالق سبحانه وتعالى في القرآن: إِنَّ الدِّيْنَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ.. (19) آل عمران. وبهذه الكمات الخمس، التي تعادل عدد أركان الإسلام، يتقرّر أنَّ الإسلام هو دين الله الحق، وهو الدين الذي يجب على كل إنسان أن يدين به تحقيقًا للغَرَض الذي خلقه الله من أجله، حيث يقول سبحانه وتعالى في ذلك: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ (56) الذاريات.
والإسلام، بمعناه العام الذي هو الاستسلام للَّه تعالى وإفراده بالعبادة، هو دين جميع الرسل والأنبياء، ومنهم موسى وعيسى –عليهما السلام-، وأتباعهم الصادقون هم من يعملون بما أُخذ على النبيين من الميثاق، في وجوب الإيمان بمُحَمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- ونُصرته واتّباعه والإيمان بما جاء به وعدم العدول عنه إلى غيره. وفي ذلك يقول الخالق سبحانه وتعالى في القرآن: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيْثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِيْ قَالُوْا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوْا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِيْنَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُوْنَ (82) أَفَغَيْرَ دِيْنِ اللَّهِ يَبْغُوْنَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِيْ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُوْنَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيْمَ وَإِسْمَاعِيْلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوْبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوْتِيَ مُوْسَى وَعِيْسَى وَالنَّبِيُّوْنَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُوْنَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيْنًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِيْ الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِيْنَ (85) آل عمران. وفي هذا البيان الواضح الصريح أن الإسلام هو الدين الحق والمعتبر والمقبول عند الخالق سبحانه وتعالى، وكل من دان بغير دين الإسلام فدينه باطل.
فهذا الإسلام هو الذي اجتمعت عليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، فدَعَوا إلى توحيد الله وإلى الاستسلام له بالتوحيد بعبادته وحده دونما سواه. وإن من بين كل الشرائع التي يتعبّد بها البشر في عالمنا اليوم، شريعةَ مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- هي وحدها شريعة الإسلام الذي ارتضاه الخالق سبحانه. وبعد رسالة مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- لم يعد هناك دين يرضاه الله عز وجل ويقبله من أحد إلا هذا "الإسلام" في صورته التي جاء بها مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم-، وما كان يُقبل قبل بعثته من النصارى لم يعد الآن يُقبل، كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى –عليه السلام- لم يعد يقبل منهم بعد بعثته. ووجود يهود ونصارى بعد بعثة مُحمَّد –صلّى اللَّه عليه وسلّم- ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه، أو أنهم على دين الحق. لقد كان ذلك قبل بعثة خاتم الرسل، أما بعد بعثته فلا دين –في التصور الإسلامي وفي حس المسلم- إلا الإسلام.. وهذا ما ينص عليه القرآن نصًّا صريحًا واضحًا غير قابل للتأويل.
ومن هنا فليس هناك دين يقف معه الإسلام في وجه الإلحاد! هناك "دين" واحد هو الإسلام، وهناك "لا دين" هو غير الإسلام، ثم يكون هذا اللادين عقيدةً أصلُها سماوي ولكنها "محرّفة"، أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها، أو إلحادًا يُنكر الأديان، تختلف فيما بينها كلها، ولكنها تختلف كلها مع الإسلام، ولا حِلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء. والإسلام جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب، كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين على السواء، ودعاهم إلى الإسلام جميعًا؛ لأن هذا هو الدين الحق الذي لا يقبل الله غيره من الناس.
رابعًا: الدين الحق يحوي ما يليق بالمعبود من صفات
بما أن الدين الحق هو دين الخالق المعبود، فلابد أن يكون كل ما يحتويه هذا الدين يليق به سبحانه وتعالى من صفات، ولا يوجد به صفات تنتقص قدره؛ لأن ناقص الكمال لا يستطيع أن يَهَب الكمال لغيره، فالخالق العظيم سبحانه كامل في صفاته، وكل دين يصفه بالنقص فهو دين باطل. فكيف يتعبّد الإنسان بدين لا يعظّم المعبود، وكيف يتعبّد بدين لا يقدّر المعبود حقّ قدره؟!
وعلى سبيل المثال، فإن الديانة اليهودية تذمُّ وتعيب الإله الربّ سبحانه وتعالى، وتنسب إليه من الصفات ما تكون سببًا في الانتقاص منه، بحيث لا يمكن للفطر السويّة والنفوس الزكية والعقول الرشيدة قبولها في حق المعبود، ومن مثل تلك الصفات: صفة سوء الاختيار، والجهل وعدم العلم، والضعف، وانتفاء الحكمة، والعنصرية والظلم والفظاظة، إلى غير ذلك من الصفات التي يستحيل لعاقل أن يتقبلها في حق نفسه ناهيك في حق الإله الربّ (تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا). ويرجع ذلك إلى ما قد نال كتاب اليهودية من التغيير والتبديل والتحريف، تبعًا للأهواء.
أما النصرانية، فقد خرجت في ديانتها بالإله الخالق سبحانه وتعالى عن حدّ المعقول ونسبت إليه من الصفات الناقصة والمعيبة والمذمومة، ما لا تقبله النفوس الزكية والفطر النقية والعقول الرشيدة، وتكلّمت عنه وفقًا لما تُمليه الأهواء المريضة، دون أدنى حياء منه سبحانه وتعالى، ووصفته بصفات لا يمكن أن تليق بذاته العلية جلّ وعلا، كالندم والتأسف والحزن، والاستراحة من التعب، والنوم والاستيقاظ، والصفير والتصفيق، والهتاف والصراخ، إلى غير ذلك من الصفات التي لا يمكن أن تليق بالذات العلية لله سبحانه وتعالى.
كما تزعم النصرانية أن الإله عبارة عن مركّب من 3 أقانيم (الأب، الابن ، الروح القدس)، ومع نكارة ذلك الزعم الكاذب، إلا أن النصرانية تقول بأن الابن، الذي هو أحد الأقانيم الثلاثة لإلهها المزعوم، إنما هو من نسل بشري، وهو بذلك خرج إلى الوجود من مجرى البول، وكان قد اختُتِن بعد ولادته، وكان يرضع من ثدي أمه، وكان يأكل ويشرب الخمر (وفقًا لما تزعمه النصرانية)، وكان يبول ويتغوّط، إلى غير ذلك من الصفات المُحال قبولها في الذات العليّة للإله الخالق جلّ وعلا. ولم تكتف النصرانية في توهّماتها وادّعاءاتها على ذلك، بل إنها تقول بأن ذلك الابن الذي قد نسبت إليه الألوهية، قد مات على الصليب بعدما أُهين وعُذِّب، وبُصِق في وجهه، ولُطِم عليه، وتجعل من ذلك عقيدة لها. ولا شك، أن ذلك الذي تزعمه النصرانية، لا يمكن أن تقبله فطرة سويّة أو عقل رشيد، منسوبًا إلى الإله الخالق (تعالى عن مثل تلك الافتراءات علوًا كبيرًا).
المسيحيون الأوائل لم يكونوا بعيدين عن المفهوم الإسلامي الصحيح، حيث لم يكن المسيح إلهًا في معتقد المسيحيين إلا في مُجمّع (نيقية) الذي قد انعقد سنة 325 للميلاد، أي بعد مرور أكثر من ثلاثمائة سنة من مولده، وفيه تقرّر بزيادة صوت واحد فقط بين المقترعين أن المسيح إله، أي أنه إذا نقص ذلك الصوت لبقي المسيح في النصرانية بشرًا رسولاً، كما يقول الدين الإسلامي الحنيف، وبعد ذلك انحرف معتقدهم انحرافًا واضحًا عن الحق، وصار أُلعوبة بين قساوستهم.
الإسلام هو الدين الوحيد الذي يُعظّم الله تعالى أشدّ ما يكون التعظيم، ويرفعه فوق تخيّل كل إنسان، وهذا هو اللائق به سبحانه وتعالى، فهو الإله الخالق العظيم. والقرآن الكريم الذي بين أيدي المسلمين، هو الكتاب الوحيد الذي يُنزّه الله تعالى عن كل ما قد افترته عليه اليهودية والنصرانية وغيرهما، وينزهه سبحانه وتعالى عن كل عَيْب ونقص، وذمٍ وسوء، وذلك لأن الله سبحانه وتعالى قد تعهّد بحفظه (القرآن الكريم) بعدما حُرِّفت وضُيِّعت التوراة والإنجيل وغيرهما من الكتب السابقة، عندما وُكِّل البشر بحفظها.
خامسًا: الدين الحق فيه الجواب الشافي عما أراده الخالق من الإنسان
بما أن الدين الحق هو دين الخالق المعبود، فلابد أن يحوي الجواب الشافي عما أراده هذا الخالق العظيم من الإنسان، وأن يبين له الغاية التي خلقه من أجلها، ومن أين أتى وإلى أين مصيره. ولا يليق بجلال الخالق العظيم أن يخلقنا عبثًا، ويتركنا من دون هدف من وجودنا. فلابد من هدف يتناسب مع كمال الخالق العظيم، ولابد من هدف يتناسب مع جلاله، ولابد من هدف يتناسب مع قوته هو القوي، فما هو هذا الهدف؟ الإسلام هو الدين الوحيد الذي يحوي الجواب الشافي عن هذا السؤال بكل شفافية ووضوح، حيث يقول الخالق سبحانه وتعالى في كتابه القرآن: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُوْنِ (56) الذاريات. وكما تبيّن هذه الآية، فإن الغاية من وجود الإنسان في هذه الحياة –باختصار- هي عبادة الخالق وحده لا شريك له، وهذا هو الهدف الذي خُلق من أجله كل إنسان على وجه هذه الأرض، أن تعرف الخالق فتطيعه، فتسعد بقربه. فكل صاحب صنعة يصنع شيئًا لغاية محددة، فالذي يصنع ساعة يريد بها ضبط الوقت، والذي يصنع سيارة يريد أن يتنقّل بها، والذي يصنع قلمًا يريد أن يكتب به، وهكذا لكل صاحب صنعة هدف من صنعته، ولله المثل الأعلى، فقد خلق الإنسان لعبادته وحده سبحانه وتعالى. وعبادة الخالق جلّ وعلا تشمل كل ما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، ومن ذلك عمارة الأرض، وتحقيق الاستخلاف فيها بالعدل، وفق المنهج الذي أمر به هو سبحانه وتعالى، وباتباع تعاليم دينه الحق.
الإسلام هو الدين الوحيد الذي يجيب بوضوح تام عن أهم سؤال في حياة كل إنسان: لماذا خلقني الله عز وجل؟ فهذا هو أكبر سؤال يخطر ببال أي أحد من الناس، لأنه ما من إنسان عاقل على وجه الأرض يعمل عملًا من دون هدف، فما هو إذًا هذا الهدف الكبير الذي خلقنا الله من أجله؟ فكل طفل يرسله والداه إلى المدرسة من أجل أن يدرس ويتعلّم، فإذا عرف هذا الطفل الهدف من إرساله إلى المدرسة والتفت إلى الدراسة حقّق هذا الهدف فرضي وأرضى والديه، أمّا إذا ظنّ هذا الطفل أنه أُرسل من أجل اللهو فقد شقي وأشقى والديه، ولذلك فإن معرفة الهدف الكبير من خلق الإنسان شيء مهم جدًا، لأن الناس، ومنذ أن خلقهم اللَّه عزّ وجلّ، يسعَوْن في متاهات، ويمشون في طرق مسدودة، تنتهي جميعها بالموت والفناء، فطريق المال والشهرة والشهوة كلها تنتهي بالمصير المحتوم وهو الموت.
وهذه هي الحقيقة التي لا يستطيع أن ينكرها أحد، فكل إنسان يعلم علم اليقين أنه مهما طال أجله فهو ميت لا محالة. ولكن السؤال: ثم ماذا بعد الموت؟! أيُعقل أن يُخلق الإنسان ولا يُسأل عن أعماله؟ فالمسيء مُسيء، والمحسن مُحسن، والظالم ظالم، والعادل عادل، والضعيف ضعيف، والقوي قوي، والفقير فقير، والغني غني، والصحيح صحيح، والمريض مريض وهكذا، هذا عمّر إحدى وتسعين سنة، وثانٍ عاش تسع عشرة سنة، وثالث بقي أربعين سنة، وآخر مات مبكرًا، ولم يهنأ بحياته، فلماذا هذا يولد ابن غني وكل شيء متوفر لديه؟ وهذا لا يحصل قوت يومه؟ وهنا يأتي الاستفهام الاستنكاري من الخالق جلّ وعلا في القرآن: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) القيامة. ومن دقّة نظم القرآن العظيم أن هذه الآية جاءت في سورة القيامة ولم تأت في أي سورة أخرى، ويوم القيامة هو يوم الحساب وهو يوم الفصل، وهو اليوم الذى يبعث اللَّه فيه الناس، ليثيب المحسنين على إحسانهم والصابرين على صبرهم، ويعاقب الكافرين على كفرهم، وهذا من مقتضى عدل الخالق سبحانه وتعالى، فالدنيا دار ابتلاء وامتحان، والآخرة دار قرار.
في بداية النهضة اليابانية، أرسل ملك اليابان مجموعة من الطلاب إلى أوروبا وأمريكا للدراسة، فلما وجدوا أنفسهم في بلاد ومدن كبرى فيها مفاتن كثيرة وملذات رخيصة لا توجد في بلدهم اليابان، انغمسوا فيها، وقصّروا في تحصيل العلم ونقل المعرفة، ولم ينجحوا في تحقيق الهدف الذي أرسلوا من أجله، وعادوا إلى اليابان فأعدمهم الملك، لأنه أرسلهم لمهمة محددة فنسوها وانغمسوا في شيء آخر. وهكذا الإنسان خلقه اللَّه عزّ وجل وأرسله إلى الدنيا لأداء مهمّة محددة، وبيّن له هذه المهمّة بدقّة يوم أهبطه إلى الأرض لأوّل مرّة، حيث يقول اللَّه عز وجلّ في كتابه العزيز: قُلْنَا اهْبِطُوْا مِنْهَا جَمِيْعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّيْ هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُوْنَ (38) وَالَّذِيْنَ كَفَرُوْا وَكَذَّبُوْا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيْهَا خَالِدُوْنَ (39) البقرة. وتحقيقًا لهذا الوعد، فقد توالت رسالات اللَّه عزّ وجلّ إلى الناس، وجاءت رسله تترى على فترات من الزمن لتبيّن للناس هدى اللَّه ودينه الحق، والمهمّة التي خُلق الإنسان من أجلها، وهي عبادة الخالق وحده لا شريك له. فإذا عرف الإنسان هذه المهمّة، ونفّذها على الوجه المطلوب سعد في الدنيا والآخرة، وإذا تغافل عنها أو جهلها أو عمل عملًا يتناقض معها فسوف يُعاقب على ذلك، وسوف يندم أشد ما يكون الندم حين لا ينفعه الندم، حيث يصف القرآن حاله: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُوْلُ يَا لَيْتَنِيْ اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُوْلِ سَبِيْلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِيْ لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيْلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِيْ عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِيْ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُوْلًا (29) الفرقان.
وبذلك فإن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يضع كل إنسان أمام مسؤولياته مباشرة، ويقول له إنك مخلوق في هذه الدنيا من أجل مهمّة خطيرة جدًا، وحياتك كلها متعلقة بهذه المهمّة، وإنك حينما تعرف مهمّتك في الدنيا، وتسعى لتحقيقها تسعد سعادة الدنيا كلها، فلا ترضيك إذا أقبلت، ولا تسخطك إذا أدبرت، وأن الموت ليس النهاية، بل هو بداية الحياة الأبدية التي تكون سعادة أو شقاء الإنسان فيها بقدر ما أخلص واجتهد وعمل في تحقيق المهمّة التي خُلق من أجلها.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin