مشروعية الأحزاب والأوراد
1- تمهيد:
الأوراد، والأحزاب، والصلوات على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منظومة أو منثورة بكل صورها ومؤلفاتها؛ ماهي إلا أنماط من الفتوح والابتهالات، والتوجهات إلى الله، والأدعية المحببة إلى النفوس حسب مقامات الرجال بما فيها من النفحات، والعبارات التي تصور خلجات نفوس الواقفين على باب الله، وتبرز أحاسيسهم ومواجدهم، وتستعلي بعواطفهم وأذواقهم إلى الآفاق الروحانية الرفيعة. فهي وسائل تربية، ورياضة روحية، وعلاج نفسي وأخلاقي، ومعاريج عبودية للتسامي إلى الملإ الأعلى، وكل ذلك متعين في الإسلام فضلًا عما فيها من الأساليب البيانية والبلاغية المعجزة.
2- من أدلة صحة التعبد بالأوراد والأحزاب:
قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60] ، وقال: ﴿وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء:32]، وقال: ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة:186] أي: بالوارد وغيره من أدعية الشيوخ والسلف.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»([1]).
وأفسح الأمر أكثر من هذا، فقال فيما أخرجه الترمذي: «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ الله إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»([2]).
ومنه يفهم حديث الحاكم، والبيهقي، وابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ عز وجل مِنَ الدُّعَاءِ»([3]).
وحديث الترمذي وأصحاب السنن: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»([4]). سواء ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو ألسنة من بعده من الصالحين؛ ولذلك كان الترغيب فيه مطلقًا من كل قيد، ولم يرد حرف واحد ينص على حرمة الدعاء بغير الوارد؛ وذلك أن الداعي إنما يبتغي بدعائه استباق الخير وفضل الله: ﴿وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ [الحديد:29]، ولا حرج على فضله، فليس ثمة شرط مطلقًا بالتزام وارد وغير وارد، لا في القرآن ولا في الحديث، وهو بين أيدينا متنًا وشرحًا وتعليقًا. ولا شك أن الوارد أفضل لمن قدر عليه، والفاضل لا يتنافى مع المفضول.
3- تخير أعجب الدعاء:
وقد جاء في حديث ابن مسعود: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله»...إلخ، «ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ أَحَدُكُمْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو». متفق عليه، واللفظ للبخاري([5]).
وللنسائي بلفظ: «فَلْيَدْعُ الله عَزَّ وَجَلَّ»([6]).
وزاد أبو داود: «فَيَدْعُو بِهِ»([7]).
وقيده صاحب (بلوغ المرام) بالدعاء بخير الدنيا والآخرة، ولم يشترط وارد ولا غير وارد.
وقد رد الإمام الصنعاني على القائلين بلزوم المأثور بقوله: ويرد القولين قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه».
وفي لفظ: «مَا أَحَبَّ»([8]).
وللبخاري: «مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ»([9]).
فهو إطلاق للداعي أن يدعو بما أراد.
قلت: وهذا في صلب الصلاة، فكيف بالدعاء في غيرها؟ إنما هو وباء حب المخالفة، وطلب الشهرة من باب الشذوذ، وادعاء التزام السنة، وتعطيل الدين باسم الدين.
4- حديث فضالة:
وفي حديث فضالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَزَّ- وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ».
رواه أحمد، والثلاثة، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم([10]). لاحظ قوله: «بما شاء».
قلنا: وهو مؤيد لحديث ابن مسعود السابق ذكره، وفيه قيد واحد هو: وجوب تقديم الثناء على الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل كل دعاء.
ونقول إن في اشتراط المأثور فضلًا عن الحرج غل ألسن العباد وأفكارها أن تتفنن في الثناء على الله، وفيه إيقاف القلوب والعقول والأفواه عن أداء واجب ربها عليها كما يحلو لها وكما تحس به، وما توفق بفضله تعالى إليه، فهو تعطيل فيه تحجير وتضليل، وفيه رد لما قدمناه من أحاديث.
وهو مخالف لطبيعة الواقع فمن غير الممكن أن يحفظ كل فرد من الوارد كل ما يمكن أن يرفع به طلبه إلى الله في مختلف ظروفه، ومناسباته، وطوارئه.
5- حديث الدندنة:
وقد أخرج أبو داود بسند جيد عَنْ بَعْضِ الصحابة: أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ: «كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ». قَالَ الرجل: أَتَشَهَّدُ، وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ. ثم قال الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، أي: نص أقوالك في الدعاء، وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»([11]).
قال الصنعاني: ففيه أن يدعو الإنسان بأي لفظ شاء من مأثور وغيره. قلنا: ولو كان غير الوارد منكرًا لنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله، وألزمه المأثور بالذات، وهو شيء يستحيل أو يكاد.
6- الوارد بالنص والوارد بالمعنى:
فتعرف مما قدمناه أنه لا حجة بالمرة للقائلين بعدم جواز تلاوة الأحزاب، والأوراد، والأدعية، والتوجهات المتلقاة عن الأشياخ وعن كبار السلف الصالح منذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى اليوم. وهي المؤلفة منظومة أو منثورة؛ لعدم ورودها في الحديث بلفظها كما يزعمون، بل تعرف مما أجملناه لك أنها إن لم تكن واجبة فهي مندوب إليها على الأقل، لدخولها في عموم الأمر بالدعاء، وحرية الاختيار فيه.
على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك بجوامع الكلم معنى إلا ضمه إليه، فكل دعاء خيري هو مردود إلى دعائه صلى الله عليه وسلم إن لم يكن بالنص فبالمعنى. وما ورد بالمعنى أخذ حكم الوارد باللفظ وإن لم يأخذ فضله. وفي الصحاح قال صلى الله عليه وسلم: «وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»([12]). فالأحزاب والأوراد أشبه بالشروح على متون الأدعية الواردة عنه صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الترمذي كذلك عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يدعو الله تعالى إلا استجاب له»([13]). ولم يشترط وارد ولا غيره، لا تصريحًا ولا تلويحًا، لافيما ذكرنا ولا فيما لم نذكر.
والميزان الأصولي: أنه إذا كان المأثور مأمورًا به فالدعاء غير المأثور بشروطه وحدوده غير منهي عنه، فهو عفو مباح على الأقل، وعليه جاءت الأدعية من الصحابة، والتابعين، والعلماء، والأولياء، والصالحين، وكان للدعاء بها أثر بين في المدد وفي الاستجابة مما يتوارثونه الأكابر، كابرًا عن كابر. وأفضلية المأثور لا تحرم الدعاء بغيره، ولا تمنع الثواب فيما عداه، وقد صدق المولى سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة:185].
7- ختام هذا الباب:
ونحب أن نتخم هذا الباب بحديثين مباركين:
أما الأول: ففي سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن بريدة رضى الله عنه أن رسول الله سمع رجلًا يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَأَلْتَ الله بِالاِسْمِ -أو بِاسْمِهِ الأَعْظِم- الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَىٰ وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»([14]).
وأما الثاني: ففي سنن أبي داود، والنسائي عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّى، ثُمَّ دَعَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَىُّ يَا قَيُّومُ. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ دَعَا الله بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِى إِذَا دُعِىَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»([15]).
وكذلك جاء في عدة روايات صحيحة ومن عدة طرق: أن عائشة رضي الله عنها كانت تجتهد في الدعاء بين يديه صلى الله عليه وسلم مرات، فكان يقول لها: «لقد دعوت الله باسمه الأعظم». أو ما معناه هذا. ولم ينكر عليها اجتهادها، وافتنانها في الدعاء والثناء، بل رضي عنها وأرضاها.
8- وفي هذه الأحاديث والأحاديث التي قدمنا أمور:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بأذنه من يدعو بغير المأثور عنه، فلم ينكر عليه لا تصريحًا ولا تلويحًا، لا بالعبارة ولا بالإشارة فالإنكار اليوم على ذلك بدعة مستقبحة.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا الاجتهاد في الدعاء وحبذه بالثنائه، وكافأ عليه، وبذلك ندب أو أباح على الأقل الاجتهاد في الدعاء بنحو الأحزاب والأوراد، وجعله سنة إقرارية، أخذ بها الصحابة والتابعون، وخاصة السلف .
الثالث: أنه بناء على ذلك يجوز لمن يستطيع ولمن لا يستطيع التعبد بالمأثور أن يتعبد بغير المأثور، من أوراد، وأحزاب، ومدائح، وموالد وغيرها من مؤلفات الصالحين منظومة ومنثورة وهو موقن مطمئن متأكد بإذن الله من الصواب والثواب.
ثم إنه لا بأس على العالم بالمأثور أن يضيف إليه ما شاء من غيره جمعًا بين الأفضل والفاضل، وقد التزم كثير من سادتنا البدء بالمأثور ثم التعقيب عليه بما يفتح به الله، والأعمال بالنيات، والتوفيق من الله.
أما دعوى أن التعبد بالاحزاب والأوراد صارفة عن التعبد بالقرآن فدعوى متهافتة، إذ لا ارتباط بين هذا وذاك، بل إنه ما من حزب أو ورد إلا وفيه أقباس شتى من الآيات، يدور حولها الورد أو الحزب أو الدعاء، فضلًا عما يؤكده المشايخ من لزوم مقرر دوري من القرآن مع الأوراد حتى يختم القرآن ثم يكرر، فضلا عن أوراد السور والآيات المختارة.
([1]) أخرجه البخاري: (7288) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
([2]) أخرجه الترمذي: (3573) عَنْ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ
([3]) أخرجه الترمذي: (3370) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وابن ماجه: (3829)، والحاكم: (666/1 رقم 1801). وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ. وابن حبان: (151/3 رقم 870) جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
([4]) أخرجه أبو داود: (1479)، والترمذي: (2969، 3247، 3372) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وابن ماجه: (3828) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.
([5]) أخرجه البخاري: (835)، ومسلم: (58/402)
([6]) أخرجه النسائي: (1163).
([7]) أخرجه أبو داود: (968).
([8]) أخرجه أحمد: (427/1 رقم 4064).
([9]) أخرجه البخاري: (6328).
([10]) أخرجه أبو داود: (1481)، والترمذي: (3477) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. والنسائي: (1284)، وأحمد: (18/6 رقم 23982)، والحاكم: (254/1 رقم 840) وَقَالَ: صَحْيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وابن حبان: (290/5 رقم 1960).
([11]) أخرجه أبو داود: (792)، وابن ماجه: (910،3847).
([12]) أخرجه البخاري: (7013)، ومسلم: (5/523) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
([13]) أخرجه الترمذي: (3573) بلفظ: «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ الله إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ». وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
([14]) أخرجه أبو داود: (1493)، والترمذي: (3475) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وابن ماجه: (3857).
([15]) أخرجه أبو داود: (1495)، والنسائي: (1300)، وابن ماجه: (3858).
1- تمهيد:
الأوراد، والأحزاب، والصلوات على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منظومة أو منثورة بكل صورها ومؤلفاتها؛ ماهي إلا أنماط من الفتوح والابتهالات، والتوجهات إلى الله، والأدعية المحببة إلى النفوس حسب مقامات الرجال بما فيها من النفحات، والعبارات التي تصور خلجات نفوس الواقفين على باب الله، وتبرز أحاسيسهم ومواجدهم، وتستعلي بعواطفهم وأذواقهم إلى الآفاق الروحانية الرفيعة. فهي وسائل تربية، ورياضة روحية، وعلاج نفسي وأخلاقي، ومعاريج عبودية للتسامي إلى الملإ الأعلى، وكل ذلك متعين في الإسلام فضلًا عما فيها من الأساليب البيانية والبلاغية المعجزة.
2- من أدلة صحة التعبد بالأوراد والأحزاب:
قال تعالى: ﴿ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر:60] ، وقال: ﴿وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾ [النساء:32]، وقال: ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة:186] أي: بالوارد وغيره من أدعية الشيوخ والسلف.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ»([1]).
وأفسح الأمر أكثر من هذا، فقال فيما أخرجه الترمذي: «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ الله إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ»([2]).
ومنه يفهم حديث الحاكم، والبيهقي، وابن حبان عنه صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَمَ عَلَى اللهِ عز وجل مِنَ الدُّعَاءِ»([3]).
وحديث الترمذي وأصحاب السنن: «الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ»([4]). سواء ما جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو ألسنة من بعده من الصالحين؛ ولذلك كان الترغيب فيه مطلقًا من كل قيد، ولم يرد حرف واحد ينص على حرمة الدعاء بغير الوارد؛ وذلك أن الداعي إنما يبتغي بدعائه استباق الخير وفضل الله: ﴿وَأَنَّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ﴾ [الحديد:29]، ولا حرج على فضله، فليس ثمة شرط مطلقًا بالتزام وارد وغير وارد، لا في القرآن ولا في الحديث، وهو بين أيدينا متنًا وشرحًا وتعليقًا. ولا شك أن الوارد أفضل لمن قدر عليه، والفاضل لا يتنافى مع المفضول.
3- تخير أعجب الدعاء:
وقد جاء في حديث ابن مسعود: التفت إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إذا صلى أحدكم فليقل التحيات لله»...إلخ، «ثُمَّ لْيَتَخَيَّرْ أَحَدُكُمْ مِنَ الدُّعَاءِ أَعْجَبَهُ إِلَيْهِ فَيَدْعُو». متفق عليه، واللفظ للبخاري([5]).
وللنسائي بلفظ: «فَلْيَدْعُ الله عَزَّ وَجَلَّ»([6]).
وزاد أبو داود: «فَيَدْعُو بِهِ»([7]).
وقيده صاحب (بلوغ المرام) بالدعاء بخير الدنيا والآخرة، ولم يشترط وارد ولا غير وارد.
وقد رد الإمام الصنعاني على القائلين بلزوم المأثور بقوله: ويرد القولين قوله صلى الله عليه وسلم: «ثم ليتخير أحدكم من الدعاء أعجبه».
وفي لفظ: «مَا أَحَبَّ»([8]).
وللبخاري: «مِنَ الثَّنَاءِ مَا شَاءَ»([9]).
فهو إطلاق للداعي أن يدعو بما أراد.
قلت: وهذا في صلب الصلاة، فكيف بالدعاء في غيرها؟ إنما هو وباء حب المخالفة، وطلب الشهرة من باب الشذوذ، وادعاء التزام السنة، وتعطيل الدين باسم الدين.
4- حديث فضالة:
وفي حديث فضالة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِتَحْمِيدِ رَبِّهِ -جَلَّ وَعَزَّ- وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصَلِّى عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ يَدْعُو بَعْدُ بِمَا شَاءَ».
رواه أحمد، والثلاثة، وصححه الترمذي، وابن حبان، والحاكم([10]). لاحظ قوله: «بما شاء».
قلنا: وهو مؤيد لحديث ابن مسعود السابق ذكره، وفيه قيد واحد هو: وجوب تقديم الثناء على الله، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم قبل كل دعاء.
ونقول إن في اشتراط المأثور فضلًا عن الحرج غل ألسن العباد وأفكارها أن تتفنن في الثناء على الله، وفيه إيقاف القلوب والعقول والأفواه عن أداء واجب ربها عليها كما يحلو لها وكما تحس به، وما توفق بفضله تعالى إليه، فهو تعطيل فيه تحجير وتضليل، وفيه رد لما قدمناه من أحاديث.
وهو مخالف لطبيعة الواقع فمن غير الممكن أن يحفظ كل فرد من الوارد كل ما يمكن أن يرفع به طلبه إلى الله في مختلف ظروفه، ومناسباته، وطوارئه.
5- حديث الدندنة:
وقد أخرج أبو داود بسند جيد عَنْ بَعْضِ الصحابة: أن النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قال لِرَجُلٍ: «كَيْفَ تَقُولُ فِي الصَّلاَةِ». قَالَ الرجل: أَتَشَهَّدُ، وَأَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ. ثم قال الرجل للرسول صلى الله عليه وسلم: أَمَا إِنِّي لاَ أُحْسِنُ دَنْدَنَتَكَ، أي: نص أقوالك في الدعاء، وَلاَ دَنْدَنَةَ مُعَاذٍ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «حَوْلَهَا نُدَنْدِنُ»([11]).
قال الصنعاني: ففيه أن يدعو الإنسان بأي لفظ شاء من مأثور وغيره. قلنا: ولو كان غير الوارد منكرًا لنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله، وألزمه المأثور بالذات، وهو شيء يستحيل أو يكاد.
6- الوارد بالنص والوارد بالمعنى:
فتعرف مما قدمناه أنه لا حجة بالمرة للقائلين بعدم جواز تلاوة الأحزاب، والأوراد، والأدعية، والتوجهات المتلقاة عن الأشياخ وعن كبار السلف الصالح منذ الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى اليوم. وهي المؤلفة منظومة أو منثورة؛ لعدم ورودها في الحديث بلفظها كما يزعمون، بل تعرف مما أجملناه لك أنها إن لم تكن واجبة فهي مندوب إليها على الأقل، لدخولها في عموم الأمر بالدعاء، وحرية الاختيار فيه.
على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك بجوامع الكلم معنى إلا ضمه إليه، فكل دعاء خيري هو مردود إلى دعائه صلى الله عليه وسلم إن لم يكن بالنص فبالمعنى. وما ورد بالمعنى أخذ حكم الوارد باللفظ وإن لم يأخذ فضله. وفي الصحاح قال صلى الله عليه وسلم: «وَأُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ»([12]). فالأحزاب والأوراد أشبه بالشروح على متون الأدعية الواردة عنه صلى الله عليه وسلم.
وقد روى الترمذي كذلك عنه صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يدعو الله تعالى إلا استجاب له»([13]). ولم يشترط وارد ولا غيره، لا تصريحًا ولا تلويحًا، لافيما ذكرنا ولا فيما لم نذكر.
والميزان الأصولي: أنه إذا كان المأثور مأمورًا به فالدعاء غير المأثور بشروطه وحدوده غير منهي عنه، فهو عفو مباح على الأقل، وعليه جاءت الأدعية من الصحابة، والتابعين، والعلماء، والأولياء، والصالحين، وكان للدعاء بها أثر بين في المدد وفي الاستجابة مما يتوارثونه الأكابر، كابرًا عن كابر. وأفضلية المأثور لا تحرم الدعاء بغيره، ولا تمنع الثواب فيما عداه، وقد صدق المولى سبحانه: ﴿يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ﴾ [البقرة:185].
7- ختام هذا الباب:
ونحب أن نتخم هذا الباب بحديثين مباركين:
أما الأول: ففي سنن أبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه عن بريدة رضى الله عنه أن رسول الله سمع رجلًا يَدْعُو وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِأَنِّي أَشْهَدُ أَنَّكَ أَنْتَ الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الأَحَدُ الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ. فَقَالَ النبي صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ سَأَلْتَ الله بِالاِسْمِ -أو بِاسْمِهِ الأَعْظِم- الَّذِي إِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَىٰ وَإِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ»([14]).
وأما الثاني: ففي سنن أبي داود، والنسائي عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم جَالِسًا وَرَجُلٌ يُصَلِّى، ثُمَّ دَعَا اللَّهُمَّ إِنِّى أَسْأَلُكَ بِأَنَّ لَكَ الْحَمْدَ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ الْمَنَّانُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ يَا حَىُّ يَا قَيُّومُ. فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «لَقَدْ دَعَا الله بِاسْمِهِ الْعَظِيمِ الَّذِى إِذَا دُعِىَ بِهِ أَجَابَ وَإِذَا سُئِلَ بِهِ أَعْطَى»([15]).
وكذلك جاء في عدة روايات صحيحة ومن عدة طرق: أن عائشة رضي الله عنها كانت تجتهد في الدعاء بين يديه صلى الله عليه وسلم مرات، فكان يقول لها: «لقد دعوت الله باسمه الأعظم». أو ما معناه هذا. ولم ينكر عليها اجتهادها، وافتنانها في الدعاء والثناء، بل رضي عنها وأرضاها.
8- وفي هذه الأحاديث والأحاديث التي قدمنا أمور:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بأذنه من يدعو بغير المأثور عنه، فلم ينكر عليه لا تصريحًا ولا تلويحًا، لا بالعبارة ولا بالإشارة فالإنكار اليوم على ذلك بدعة مستقبحة.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر هذا الاجتهاد في الدعاء وحبذه بالثنائه، وكافأ عليه، وبذلك ندب أو أباح على الأقل الاجتهاد في الدعاء بنحو الأحزاب والأوراد، وجعله سنة إقرارية، أخذ بها الصحابة والتابعون، وخاصة السلف .
الثالث: أنه بناء على ذلك يجوز لمن يستطيع ولمن لا يستطيع التعبد بالمأثور أن يتعبد بغير المأثور، من أوراد، وأحزاب، ومدائح، وموالد وغيرها من مؤلفات الصالحين منظومة ومنثورة وهو موقن مطمئن متأكد بإذن الله من الصواب والثواب.
ثم إنه لا بأس على العالم بالمأثور أن يضيف إليه ما شاء من غيره جمعًا بين الأفضل والفاضل، وقد التزم كثير من سادتنا البدء بالمأثور ثم التعقيب عليه بما يفتح به الله، والأعمال بالنيات، والتوفيق من الله.
أما دعوى أن التعبد بالاحزاب والأوراد صارفة عن التعبد بالقرآن فدعوى متهافتة، إذ لا ارتباط بين هذا وذاك، بل إنه ما من حزب أو ورد إلا وفيه أقباس شتى من الآيات، يدور حولها الورد أو الحزب أو الدعاء، فضلًا عما يؤكده المشايخ من لزوم مقرر دوري من القرآن مع الأوراد حتى يختم القرآن ثم يكرر، فضلا عن أوراد السور والآيات المختارة.
([1]) أخرجه البخاري: (7288) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
([2]) أخرجه الترمذي: (3573) عَنْ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ
([3]) أخرجه الترمذي: (3370) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وابن ماجه: (3829)، والحاكم: (666/1 رقم 1801). وَقَالَ: صَحِيحُ الإِسْنَادِ. وابن حبان: (151/3 رقم 870) جَمِيعًا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
([4]) أخرجه أبو داود: (1479)، والترمذي: (2969، 3247، 3372) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وابن ماجه: (3828) عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ.
([5]) أخرجه البخاري: (835)، ومسلم: (58/402)
([6]) أخرجه النسائي: (1163).
([7]) أخرجه أبو داود: (968).
([8]) أخرجه أحمد: (427/1 رقم 4064).
([9]) أخرجه البخاري: (6328).
([10]) أخرجه أبو داود: (1481)، والترمذي: (3477) وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. والنسائي: (1284)، وأحمد: (18/6 رقم 23982)، والحاكم: (254/1 رقم 840) وَقَالَ: صَحْيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وابن حبان: (290/5 رقم 1960).
([11]) أخرجه أبو داود: (792)، وابن ماجه: (910،3847).
([12]) أخرجه البخاري: (7013)، ومسلم: (5/523) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
([13]) أخرجه الترمذي: (3573) بلفظ: «مَا عَلَى الأَرْضِ مُسْلِمٌ يَدْعُو الله بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتَاهُ الله إِيَّاهَا أَوْ صَرَفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بِمَأْثَمٍ أَوْ قَطِيعَةِ رَحِمٍ». وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
([14]) أخرجه أبو داود: (1493)، والترمذي: (3475) وَقَالَ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وابن ماجه: (3857).
([15]) أخرجه أبو داود: (1495)، والنسائي: (1300)، وابن ماجه: (3858).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin