كتاب: الفكر الصوفي عند الشيخ ماء العينين ـ ياسين بن روان

إنجاز الأستاذ : ياسين بن روان باحث في التراث الصحراوي المخطوط

إن التربية الصوفية في الإسلام تتميز بالأصالة العلمية و العملية ، فهي تجسيد منهجي لحديث الإحسان وفق محددات شرعية مطردة تتناغم مع السنن الكونية ، وفي هذا السياق يعرض لنا حجة الإسلام أبو حامد الغزالي تجليات الفكر الصوفي الحق فيقول :

-ثم إني لما فرغت من هذه العلوم أقبلت بهمتي على طريق الصوفية وعلمت أن طريقهم إنما تتم بعلم وعمل وكان حاصل عملهم قطع عقبات النفس والتنزه عن أخلاقهم المذمومة وصفاتها الخبيثة حتى يتوصل بها إلى تخلية القلب عن غير الله تعالى وتحليته بذكر الله .-[1]“

وعندما نرجع إلى الشيخ العلامة العارف بالله ماء العينين بن مامين القلقمي نجده ينطلق في فكره الصوفي والتربوي من مرجعية الوحي ، وما انبثق عنها من تراث علمي في العلوم العقلية والنقلية عكس العقلية الإجتهادية للحضارة الإسلامية ، فأصول الفكر الصوفي عند الشيخ ماء العينين تستمد مشروعيتها من مبادئ الشريعة الإسلامية أصولا وفروعا ، تنظيرا وتنزيلا مع مراعاة مقاصد الدين الإسلامي السمحاء السامية المبنية على الوسطية و الإعتدال .[2]

ومن منطلقات الفكر الصوفي عند الشيخ ماء العينين أخذه من مبادئ الطريقة القادرية التي تنتسب إلى الشيخ مولاي عبد القادر الجيلاني المتوفى ببغداد سنة 561 هجرية ، هذه الطريقة تعتبر من أقدم الطرق الصوفية وأهمها في العالم الإسلامي وأكثرها انتشارا ، فالقادرية عبر التاريخ تعتبر مرجعا و منبعا لجميع الصوفية السنية القائمة على الوسطية وتنمية المجتمعات الإسلامية في كافة المجالات الحياتية سواء من حيث الأفراد أو المجتمعات . [3]

وتعد الطريقة القادرية -يقول الدكتور حسن إبراهيم حسن فيما كتبه بعنوان: “انتشار الإسلام في القارة الإفريقية”، (مجلة البيئة – السنة الأولى)- أوسع الفرق الدينية انتشارا، وقد دخلت إفريقيا الغربية في القرن الخامس عشر على يد المهاجرين من توات واتخذوا ولاته أول مركز لطريقتهم ثم لجأوا إلى تمبكتو .[4]

يقول الشيخ الأستاذ ماء العينين مربيه ربه في سياق الحديث عن منطلقات الفكر الصوفي عند الشيخ ماء العينين مايلي : – وألحت على إعادة طبع هذا الكتاب القيم[5] ، الذي يشرح ويبسط مبادئ ومنهاج الطريقة الفاضلية[6] التي هي فرع من الطريقة القادرية وتتميز عن سواها من بقية الطرق الصوفية بالانفتاح على مختلف الطوائف و المجموعات التي تعتمد الكتاب والسنة مرجعا ومنهاجا دون تحجير أو تضييق أو تعنت مع الحرص على مؤاخاة جميع طرق أهل الله ووحدتهم . [7]

ويعد الواقع الإجتماعي و الثقافي الذي كان فيه الشيخ ماء العينين والذي تميز بالإضطربات السياسية و دخول المستعمر الفرنسي والإسباني للبلاد المغربية[8] وكثرة الإختلافات بين أبناء القبائل والتشتت من أبرز المنطلقات التي اعتمد عليها الشيخ ماء العينين سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة في نشر الفكر الصوفي الفاضلي القائم بين العلم والعمل و بين التربية الروحية و البدنية

2- معالم التربية الروحية عند الشيخ ماء العينين

لقد استطاع الشيخ ماء العينين بناء معالم جديدة للتربية الروحية حيث أرسى تعاليم التصوف السني الوسطي بين مريديه ، اعتمادا على تجربته الصوفية الطويلة تنظيرا وتطبيقا وفق نسق القادرية الفاضلية ، وحنكته في ميدان التصوف ، و معرفته الكاملة للواقع الإجتماعي والسياسي في الصحراء ، هذا الواقع الذي يتسم بالتفرقة و كثرة الفرق و التبديع و التفسيق و انتشار التشدد و قطيعة الأرحام وتوغل المستعمر الأجنبي في البلاد المغربية .

أمام هذه التحديات والعوائق خلال القرن العشرين ، و التي اتسمت بها الطبيعة السيسيلوجية و التاريخية في الصحراء المغربية في جميع المجالات والمكونات ، كان لازما على الشيخ ماء العينين رحمه الله تحديد خارطة الطريق لتربية الفرد والمجتمع على الصلاح و الإصلاح ، ويمكن إجمال معالم التربية الروحية عند الشيخ ماء العينين في مايلي :

أولا : الجمع بين الطرق الصوفية السنية وعدم التفريق بينها

لقد سعى الشيخ ماء العينين في جميع الأماكن التي تواجد فيها إلى نشر فقه التسامح[9] بين جميع الطوائف الصوفية والطرق الروحية ، بل بين أفراد الطريقة القادرية الفاضلية نفسهم ، فقد كان الشيخ رحمه الله يحث أتباعه إلى عدم التعصب المذهبي والطرقي ، وعدم الدخول في أي صراع يقود المرونة الصوفية ، فكل الطرق لها غاية واحدة هي التخلية حتى تصل إلى التحلية لكي يصعد العارف بالله إلى درجات التجلية ، لا أن ينزل إلى دراكات العلو إلى النزول . [10]

وقد أكد الشيخ ماء العينين في منظوته[11] الشعرية على ضرورة المؤاخاة بين جميع الطرق ونبذ التفرقات لأنها تؤدي إلى المهلكات ، ولا سبيل للمنجيات إلا بالمؤاخاة ، يقول رحمه الله :[12]

إني مخاوي لجميع الطرق[13] أخوة الإيمان عند المتقي
ولا أفرق للأولياء
كمن يفرق للأنبياء
قال تعالى المومنون إخوة
[14] وعدم التفريق فيه أسوة
لأفضل الخلق بعكس التفريق
ففيه أسوة لكل زنديق
من اليهود والنصارى لعنوا
عند الذي بربه قد يؤمن
وانظر لمبدا طرق والمنتهى
تعلم لما قلت بما قد يشتهى
وذاك أن كلهم لك يقول عليك باتباع فعل ذا الرسول
عليه أفضل الصلاة والسلام وهكذا تتبع منه للكلام
ومستحيل أن يقول اتبعا منه لذا وذا له لا تتبعا
وذا الذي يقول ذا أشد من تفرقة الرسل فافهم يا فطن
لأن ذاك بين قوم فرقا ورام ذا تفريق شخص حققا
وهو عليه الله صلى أمرا بالذكر والتقى وإخلاص جرى
ولم يقل لك بذا الذكر اذكرا وذلك الذكر به لا تذكرا
ولو إليه كلهم قد رفعا طريقه نورها قد سطعا
لكنه لم يرو أنه نهى عن غيرها، فخذ لحق قد بها
وانظر لما قد قاله الشعراني في ظاهر وهكذا يا فاني
بل باطن أشد إذ هو شهود تفرد الله بكل ما وجود
وذاك يستحيل بالتفرقة لذى الشريعة وفي الحقيقة
لذا تحققن أن الطرقا طريقة النبي وحده ثقا
وغيرها ليس طريقا وثق إني مخاو لجميع الطرق
ثانيا : الوسطية و الإعتدال في الأوراد و الأذكار

إن أبرز شيء تميز به الشيخ ماء العينين في نشر مبادئ تربيته الصوفية بين الناس التوسط والإعتدال في الأوراد اليومية و الأذكار الصباحية والمسائية حيث أنه لم يلزم المريدين على ورد معين بذاته عكس باقي الطرق وإنما كان يقول أي ذكر فيه اسم الله ويستمد شريعته من الكتاب والسنة فهو ورد وذكر يصلح للمريد . [15]

فالشيخ العلامة ماء العينين نشر ثقافة الوسطية و الإعتدال انطلاقا من البرنامج الوردي للمريدين الذين تتلمذوا على يديه في جميع الأبقاع والبلدان ، وقد نشروا هذه المبادئ التي زرعها فيهم الشيخ ماء العينين

إلى تلاميذهم عبر الزمان والمكان .

يقول الدكتور محمد ظريف في حديثه عن وسطية الشيخ ماء العينين في الأذكار : – وكان الشيخ ماء العينين لا يفرض على أتباعه لزوم نوع واحد من الطاعات أو العبادات أو الأذكار وترك ما عداه ، أو بالذكر على كيفية معلومة وصيغة معروفة يمتاز بها أتباعه عن غيرهم ، بل يأمرهم بما أمرهم الله ورسوله به من أنواع الطاعة جميعا ، ويحثهم عليها بحسب استطاعتهم و إدامة ذكر الله تعالى كيفما لاق لهم ، والإكثار منه بالقلب واللسان بإخلاص .- [16]

ولازال هذا نهج الطريقة القادرية الفاضلية مع مريديها حيث تركت لهم حرية الإختيار الأوراد وأذكار ، إلى يومنا هذا تتميز به عن باقي الطرق الصوفية ، لأن شيوخها يرون أن الشارع لم يأمر بلزم ذكر واحد وترك ما سواه ، ولا الالتزام بنوع من الطاعات ، غير الفرائض لزوما يكون تاركه اثما ، أو في حرج من تركه ، إلا ما فصلت السنة من ذلك و أوضحت في أبوابه الخاصة .[17]

ثالثا : الجمع بين المجاهدة والجهاد

لقد رسخ الشيخ ماء العينين في تربيته الصوفية على منظومة قائمة على الزاد الروحي واليقين العملي الذي يقتضي التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب وعدم الهروب من التحديات الواقعية و الموضوعية بحجة الزهد في الدنيا .

فالسياق العام لنشر الشيخ ماء العينين طريقته القادرية الفاضلية كان يعرف توسع الأطماع الفرنسية و الإسبانية على المملكة المغربية شمالها وجنوبها ، وبالتالي كان يعرف أنه لابد من توحيد الجهود وتنقية النفوس عن طريق المجاهدة و الرياضة الصادقة ، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الجهاد وتحرير المناطق المستعمرة من طرف الفرنسين و الإسبان .[18]

وقد بين الشيخ ماء العينين كتابه أجوبة من حارا في شأن النصارى[19] ، بين من خلاله على ضرورة مقاومة المستعمر الأجنبي وكبح أطماعه الإستعمارية الإمبريالية التوسعية ، وقد تفاعل تلاميذ الشيخ ماء العينين مع هذه الدعوة بعد أن تزودوا بالزاد الروحي ، فكان الهجوم على حصن ماكنزي بمدينة طرفاية و الهجوم على مدينة الداخلة . [20]

يقول الدكتور محمد ظريف : – لم تكن زاوية الشيخ ماء العينين مؤسسة طرقية انعزالية ، تقام فيها الطقوس وتوزع فيها الأوراد و الأذكار على الفقراء و المريدين ، وتجتمع فيها القبائل حول المائد لدفن همومها وتناسي خلافاتها ، ولكنها كانت مؤسسة سياسية ذات مشروع متكامل ، يلتحم فيها الجانب السياسي و الاجتماعي و الديني والثقافي ، فما كاد الشيخ ماء العينين ينتهي من توحيد القبائل الصحراوية وتمتين أواصر المحبة و الأخوة بين أبنائها حتى انطلق لتنفيذ المرحلة الثانية من مشروعه الصوفي ، فقاد مجموعة من العمليات الجهادية للقضاء على الوجود الأجنبي في الجنوب المغربي . –

والناظر إلى هذه الخاصية التي امتازت بها طريقة الشيخ ماء العينين في تدبير شؤون الناس و الواقع الاجتماعي وتربية المريدين على النقاء النفسي و التزكية الروحية التي تؤكد على ضوابط محاسن الأخلاق و المعاملة الجيدة ، مع الإنتاج وعدم الإنزواء سيرا على فلسفة و أصول التصوف المغربي الأصيل منذ القرون الأولى من ظهوره .

[1] المنقذ من الضلال ، أبو حامد الغزالي ، ص :19

[2] الحركة الصوفية و أثرها في أدب الصحراء المغربية ، محمد ظريف ، ص : 83

[3] الزاوية القادرية عبر التاريخ و العصور ، عبد الحي القادري ، ص 27

[4] مجلة دعوة الحق ، مقال الزاوية القادرية ودورها الديني و الإجتماعي ، عدد 202 ، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية ، المملكة المغربية

[5] يقصد كتاب مفيد الرواي على أني مخاوي ومعه المداوي للمعترض للفظة مخاوي للشيخ ماء العينين

[6] نسبة الشيخ ماء العينين

[7] مفيد الراوي على اني مخاوي

[8]قاد الشيخ ماء العينين مشروع تحريري في الجنوب المغربي حيث قام بمواجهة المستعمر الفرنسي و الإسباني و الإنجليزي بالإعتماد على مريديه الذين قدموا التضحيات الجسام ، وفي هذا الأمر ألف كتابه هداية من حارا في أمر النصارى ، توجد نسخة منه مخطوطة في المكتبة الوطنية بالرباط تحت رقم : 14770

[9] ألقيت مداخلة في ملتقى عيون الأدب العربي في العيون ، دورة الشيخ ماء العينين أيام 24 إلى 28 أبريل 2019 بقصر المؤتمرات بعنوان : فقه التسامح عند الشيخ ماء العينين الخصائص والتجليات ، وقد بينت أن التسامح في منظور الشيخ ماء العينين ينطلق من التربية الصوفية الروحية، القائمة على التحلية والتخلية للوصول إلى التجلية، فيتجاوز الدلالات الظاهرة للمفهوم في العرف المعجمي إلى ما هو باطني، شامل وأعمق وأكثر إنسانية، ليقصد به الأخوة البشرية، والمحبة الكونية، والعشق الرباني، والعفو الأخلاقي، والصفح الحضاري، والإحالة على وحدة المذاهب، سواء الكلامية أو الصوفية أو الفقهية”.

[10] أنظر نعت البدايات وتوصيف النهايات ، الشيخ ماء العينين ، ص : 11

[11] نظم سماه إني مخاوي في عشرين بيتا

[12]مفيد الراوي على أني مخاوي ، الشيخ ماء العينين ، ص : 89

[13]يقصد جميع الطرق الصوفية

[14] سورة الحجرات ، الأية : 10

[15]الحركة الصوفية و أثرها في أدب الصحراء المغربية ، محمد ظريف ، ص : 128

[16] نفسه

[17] نفسه

[18] مخطوط سحر البيان في شمائل شيخنا ماء العينين الحسان ، ابن العتيق ، اللوحة : 81

[19] مخطوط بالمكتبة الوطنية بالرباط تحت رقم : 14770

[20] حفريات صحراوية ، عبد الوهاب بنمنصور ، ص :81