إنهاض المريد بشرح قصيدة يا من تريد
يا من تريد تدري فني فاسأل عني الألوهيا
هذه القصيدة - كغيرها من قصائد سيدي ابن عليوة - مكتوبة بلغة عامية قريبة من الفصحى، لذلك لا يتقيد الشيخ فيها بقواعد اللغة كما هي معروفة؛ ونحن هنا يهمنا المعنى. يخاطب الشيخ في أول بيت المقبلَ على الطريق، إذا كان يريد أن يأخذ عنه علمه الخاص المعبر عنه بالفن. والفن في اللغة هو الصنف من الأشياء، وهو هنا صنف العلم كما مر. ينبهه حتى يسأل عنه الله ليطلعه على خصوصيته؛ وذلك ليتمكن المريد من تقديمه على نفسه واتخاذه إماماً؛ وإلا فإنه من غير معرفة خصوصية الشيخ، لن يتمكن من ذلك أبدا.
أما البشر لا يعرفني أحوالي عنه غيبيا
ويوصي المريد أن لا يسأل عنه الناس، لأن الناس يجهلون أحوال أهل الله، من كونها فوق مرتبتهم وإن كانوا من صالحي المؤمنين أو من فقهاء الشريعة؛ فهي غيبية بالنسبة إليهم، وكيف يخبر المرء عن الغيب؟! أما إذا سألهم الطالب عن الشيخ، فسيجد أغلبهم متهمين له في الدين ناعتين إياه بالفسق والبدعة. وإذا هو صدقهم في أقوالهم، فسيحرم من الاستمداد من الشيخ بلا ريب. وهذا وقع لكثيرين دون أن يتنبهوا إلى موضع الزلل.
اطلبني عند التداني من وراء العبوديا
ينصح الشيخ الطالب بالبحث عن حقيقته الحقية ( حقيقة الشيخ ) التي هي خلف الصورة العدمية المنوط بها أحكام العبودية. أما إذا بقي مع عبودية الشيخ فلن يفتح له باب التخصيص أبدا ما دام على هذه الحال. وإذا أراد الله بالمريد خيرا فإنه يغيبه عن عبودية الشيخ حتى لا يرى فيه إلا وجه الحق المقابل له. وبهذا وحده يمكن له السير في الطريق، ومنافسة السالكين في تحصيل ما يعمر به باطنه من أنوار المواجهة لا من أنوار التحقيق. نقول هذا لأن المريدين يخلطون بين السلوك الأول والسلوك الثاني في الأحكام، ويظنونه – إذا سمعوا به – سلوكاً واحداً؛ والأمر غير ما يظنون.
أما الظروف والأكوان ليس لي فيها بقيا
يعرّف الشيخ بمرتبته هنا، حتى لا يُخلط بينها وبين غيرها من المراتب. فينبه إلى كونه قد خرج عن حكم الظروف التي هي الزمان والمكان والمقام. فالزمان يقيد الناس من حيث ترتيب صورهم المتعينة في العلم الإلهي، والمكان مقيد لهم من حيث الصورة التي هي مجموع الصفات والأحوال، ومن حيث كونهم بين سماء وأرض، والمقام حاصر لهم من حيث المكانة الإدراكية. هذه الظروف مقيدة لكل من عدا المتحقق، ولا يتمكن الناس حتى من فهم معنى إمكان الخروج عن تحكمها. فكيف سيعرفون حقيقة من تحقق له ذلك الخروج ذوقاً؟! هذا لا يكون أبداً!. والشيخ يريد أن يخبر عن إطلاقه الذي لا يمكن للمريد أو لغيره من الناس أن يدركه بنفسه؛ وإنما السبيل إليه ما سيدل عليه من تعرض وآداب.
إني مظهر رباني والحال يشهد عليا
يقصد الشيخ بقوله: "إني مظهر رباني"، أنه متحقق بكونه وجهاً إلهياً ذوقاً؛ لذلك يجب أن يُفرقَ بينه في المعاملة وبين من ليس من هذه المرتبة. وما يساعد الناظر إليه في هذا التفريق هو حال الشيخ؛ لأن حال الربانيين لا يكون أبداً مثل حال الغافل، وذلك لأن الرباني يكون بالله ولله ومع الله في جميع أحواله، وراثةً نبويةً. أما الأحوال العادية التي يشبه فيها الرباني غيره من حيث الظاهر، فليعلم المريد أنها من حيث الباطن على غير ما يفهم؛ لذلك فلا يجب أن يقيس أحوال الشيخ العادية على نفسه، كأن يقيس انبساطه في القول أو الممازحة أو الغضب أو العطاء والمنع ... على ما يجد من ذلك في نفسه؛ فإن للشيخ أسرارا في كل أحواله وأقواله، لا يمكن أن يحيط بها المريد أبداً.
أنا فياض الرحمان ظهرت في البشريا
يقصد بـ"فيّاض": الفيض، ويعني به التجلي. فالشيخ هنا تجلّ من تجليات الرحمن. والرحمن اسم جامع لمعاني الأسماء كلها كالاسم الله. فهو خليفة ٌ للاسم المفرد؛ لذلك جاء في القرآن الكريم، قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } الإسراء [110]. فجاء بـ " أو " التي تفيد التسوية. والشيخ من كونه وجهاً رحمانياً فهو وجهٌ إلهي عام، تستدعي هذه المرتبة من المريد أن يعامله بباطنه معاملة الله. أما قوله " ظهرت في البشرية "، فلا يمكن أن يُفهم منه الحلول كما يتبادر إلى العقول المقلدة، لأن الوجود الحقي والخلقي واحدٌ، وإنما وقع التفريق في الحكم الذي أصله النِّسب. والنِّسب أحكامٌ عدمية معقولة؛ لذلك لا يمكن أن يقال بالحلول هنا. ودلالته على البشرية بعد ذكر خصوصيته رضي الله عنه، حتى لا يعاملها الناظر معاملة البشرية من غيره؛ لأنها قد اكتسبت الخصوصية من باطنه. فلا سبيل إلى مجاوزة بشرية الشيخ من هذا الوجه، وإن كان قد حذّر من الوقوف مع عبوديتها فيما قبل. ولا يخفى الفرق بين العبودية التي هي مجموعة أحكامٌ، وبين البشرية التي هي صورة ظاهرة وصفات.
والأصل مني روحاني كنت قبل العبوديا
يقصد بالأصل الروحاني هنا، الروحَ الإلهي المنفوخ، الذي قال عنه الله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } الحجر[29]. الروح هنا مطلقٌ قديم، ومن هذه المرتبة يحصل التحقق للشيخ. فالتحقق ليس إلا عودةً إلى الأصل الذي هو الحق. يقول الشيخ هذا حتى لا يُنظر إلى قوله بعين الريبة والشك، كما يحدث ممن يرميه بالبدعة. فكيف يكون المرء مبتدعاً وهو ما رجع إلا إلى أصله. ويذكر أن هذه المرتبة كانت في بطون الذات قبل أن يظهر ببشريته الموصوفة بالعبودية. يريد أن ينبه إلى كون العبودية فرعاً عن الربوبية، والفرع لا ينبغي أن يحجب أصله.
ثم عدت لأوطاني كما كنت في حريا
يقصد الشيخ أنه عاد إلى حكم الإطلاق وإن كان يظهر في صورة التقييد بالصورة وأحكام العبودية، فهذا لا يتعارض مع ذاك. والمسألة تعود إلى الأحكام لا إلى الذات، هذا حتى يسهل الفهم عمن يأخذ الألفاظ بمدلولاتها العادية. وله إشارة رضي الله عنه في كلمة " أوطاني "، يريد منها أن ينبه إلى أن الصور الكونية ظهرت في الحق. فيكون الحق من هذا الوجه للمخلوقات كالوطن للشخص. وكل من كان محجوباً عن الحق بنفسه أو بغيره فهو متغربٌ عن وطنه.
لا تحسب أنك تراني بأوصاف البشريا
ينبه الشيخ هنا إلى الانحجاب بالبشرية من جهتين: الجهة الأولى هي بشرية الشيخ، والجهة الثانية هي بشرية المريد. فهو يقصد أن المريد لا يمكن أن يعرف الشيخ حقيقةً بمجرد الإحاطة به من حيث الحس؛ لأن العين منه لن ترى إلا صورة الشيخ والأذن لن تسمع إلا صوت الشيخ واليد لن تلمس إلا جسم الشيخ وهكذا .... وإذا اعتد بهذه المعرفة فهي بالنظر إلى حقيقة الشيخ جهلٌ محض؛ وذلك لأن كل ما ذُكر من الصفات الحسية أصله عدمي. فإذا اعتد الناظر بهذه المعرفة فإنما هو يعتد بمعرفة العدم وما حصّل من الوجود شيئاً. أما انحجاب المريد ببشرية نفسه، فهو لأن عدمه لا يمكن أن يعرف وجود الشيخ؛ بل سيتعرف عليه في أثناء الطريق كلما حصل من صفات الروحانية شيئاً، لأن الحق لا يُعرف إلا بالحق. فالحق من المريد هو الذي يعرف الحق من الشيخ، وإلا فلا يمكن أن تحدث المعرفة بتاتاً.
فمن خلفها معاني لوازم الروحانيا
يقصد من خلف البشرية، معان هي الصفات الروحانية. والمقصود عنده من الصفات الروحانية، الصفات الإلهية التي تجلى الله بها على عباده فنال كل واحد منهم حظه منها. فالغنى مثلاً الذي يظهر على العباد هو بعض الغنى الذي يتصف به الله، والقدرة هكذا، والعلم، وجميع الصفات. يريد أن ينبه المريد إلى كون صفات الشيخ هي صفات الله، وبها يربي المريدين. فالشيخ من غير علم ومن غير قدرة ومن غير إرادة، وما سوى ذلك من الصفات كيف يمكن أن يُحيط بأحوال مريديه على اختلافها، أو يُمدهم بما يقوّم اعوجاجهم، أو أن يعدّل استعداداهم بهمته التي هي الإرادة نفسها؟
فلو رأيت مكاني في الحضرة الأقدسيا
يقصد الشيخ بالمكان هنا المكانة، وإلا فإن العارف لا يتقيد بمكان. ويدل على هذا المعنى إضافته للمكان إلى الحضرة الأقدسية. والمقصود بالحضرة الأقدسية، مرتبة الأحدية التي هي منزهةٌ عن ذكر الخلق فيها. والقداسة لغةً: هي الطهارة، فيكون المعنى أن هذه المرتبة مطهرةٌ من شائبة الغيرية. يريد بذكره للأحدية هنا أن يؤصل لما سيذكره فيما بعدُ من مقتضيات الواحدية، التي يعود الخلق بموجبها إلى الحق.
تراني ثَم تراني واحدا بلا غيريا
يقصد بــ " ثمَّ " حضرة الحق. فالمريد إذا سار في الطريق، ودخل دائرة التوحيد الخاص فإنه سيعرف الحق في المراتب المعلومة بحسب ما يعيطه استعداده. والمراتب التوحيدية ثلاثٌ: أفعال وصفات وذات. والمريد يرى الشيخ إذا دخل دائرة من دوائر التوحيد عين الحق؛ فإن كان نظره من مرتبة الأفعال، فإنه يرى الأفعال كلها من الشيخ؛ وإن كان نظره من مرتبة الصفات، فإنه يراها كلها راجعةً إليه. وأما مرتبة الذات فلا يصح أن يعلمها المريد إلا إذا رأى وجوده عين وجود الشيخ، فيكون علمه بالذات من علم الشيخ بها، لا من علم نفسه.
لكن الحق كساني لا يصل بصرك إليا
يشير الشيخ في هذا البيت إلى تحققه بالحق، والحق لا يتعدد. لكن الحق لم يرد أن يظهر للعموم في الحياة الدنيا، فحجب أغلب المكلفين عنه بحجب وهمية تراها أبصارهم من غير أن يكون لها وجود. لذلك خاطب المريد فقال: "لا يصلْ بصْرَكْ" . يعني أن المريد لا يمكن أن يرى حقيقة الشيخ المكسوة بالحجب الوهمية وبصره منسوب إلى نفسه. وإنما يعرف المريد الشيخ إذا صار بصره بصر الحق.
تراني ولا تراني لأنك غافل عليا
يعني بقوله: "تراني ولا تراني"، أنك تراني من حيث حسك وظاهري، لا من حيث معناك وباطني؛ لأن الإثبات والنفي إذا اجتمعا في الكلام فهما يدلان على اختلاف الوجه في المتكلَم فيه. وسبب عدم رؤية المريد لحقيقة الشيخ التي بها امتاز عن غيره هي غفلة المريد؛ لأن المريد لا ينتفع من الشيخ حتى يخرج في نظره عن مشترك الصفات التي تجمع بينه وبين سواه من الناس. والغفلة هي شهود الصفات المشتركة دون شهود ما يمتاز به الشيخ عن غيره. فوجب طلب معرفة الامتياز حتى يتحقق النفع.
حدد بصر الإيمان وانظر نظرة صافيا
يأمر المريد بأن ينظر إليه من إيمانه بعد أن يشتغل على تحديد بصره، حتى تكون الرؤية واضحة. ولقد اختص الإيمان بالذكر لأنه تصديقٌ بالغيب، والشيخ بالنسبة إلى المريد من الغيب. من هنا وجب عليه أن يكون منفتحاً على المجهول ولا يقيد الشيخ بما يعلم من المعقول والمنقول. ويقصد بقوله " وانظر نظرة صفيا " يعني صافية؛ وهي أن يكون مقصوده من النظر إلى الشيخ معرفة الحق. ولا يتحقق هذا الصفاء في النظرة حتى يتخلى المريد عن جميع أغراض نفسه العاجلة والآجلة، الدنيوية والأخروية. وما دام المريد متعلقاً بشيء من هذه الأغراض والحظوظ، فلا يطمع في معرفة حقيقة الشيخ أبدا.
فإن كنت ذا إيقان عساك تعثر عليا
المعنى، أنك أيها المريد إن بلغ إيمانك درجة اليقين، بحيث لا يتحرك باختلاف الأحوال عليه ولا يزيد ولا ينقص بحسب تحقق الأغراض لديه؛ وصار راسخاً ثابتاً لا يتزعزع، فعساك بعد هذا أن تعرفني. وجاء بعسى هنا التي تفيد الترجي ليُعلم المريد أن المعرفة لا تحصل هجوماً، وإنما بعد إذن من الله بها. وذلك بسبب العزة التي يتصف بها الحق.
تجد أسرارا تغشاني وأنوارا نبويا
يقصد رضي الله عنه بالأسرار تجليات باطن الذات، التي هي في الأصل كانت قد ظهرت في صورة الحقيقة المحمدية. ولكل وارث حظٌ من هذه الأسرار على قدره. والمراد بتجليات باطن الذات، هو ما ظهر على صورة الحقيقة المحمدية، فباطن الذات هو ظاهر الصورة. وعلى هذا فإن الشيخ يكون بالنسبة إلى مريديه تجليات حقية، يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها.
تجد عيونا ترعاني وأملاكا سماويا
الظاهر من كلام الشيخ رضي الله عنه من الأبيات السابقة ومن هذه البيت أنه كان خليفة زمانه؛ بمعنى أنه كان وجهاً محمدياً في زمانه. والمقصود بالعيون هنا الأعيان الثبوتية التي هي صور الأكوان، والمقصود برعايتها إياه نظرها إليه بحقائقها، لأنها جميعها مستمدة منه. وأما رعاية الأملاك السماوية له، والتي هي الأرواح العلوية، فيقصد منها الوقوف على خدمته، لأن خليفة الزمان أو صاحب الوقت كما يقال، تكون جميع الأملاك تحت سلطانه وهيمنته.
تجد الحق حباني مني ظهر بما فيا
يعني أن الحق اصطفاه واختاره ليكون خليفة له ويبين أن كل ما يظهر منه هو ظهورات للحق لا له. وأغلب الناس لا يعرفون هذه المرتبة ولا يتصورن ما يمكن أن يتصل بها من أحكام؛ لأن المرء الذي يكون مقيداً بمقامه لا ينظر إلى الأمور إلا من خلاله، ولا يتمكن من تصور ما فوق طوره. وأما الحقيقة التي يدل عليها الشيخ فتفيد أنه لم يبق منه شيء من عدمه الأصلي، وكل ما يظهر منه بصرف النظر عن كونه مقبولاً في الأعراف أو مرفوضاً، أو موافقاً أو مخالفاً، فهو تجليات حقية تدل على أسرار ذاتية هي المسماة آياتٍ في الشرع. وكل معترض على من هذه مرتبته، فإنما هو معترض على الحق سواء أعلم ذلك أم لم يعلمه. وحديث: « من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب » [ أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ] يؤكد هذا المعنى ويدل عليه؛ لأنه لو لم يكن الحق هو الظاهر من الولي فكيف يكون محارباً عنه. وما يحارب الحقُ معادي الولي إلا عن نفسه سبحانه.
تراه لما تراني ولم تشعر بالقضيا
يعني بقوله: "تراه لمَّا تراني"، انتفاء ظلمته على التمام رضي الله عنه. وبانتفاء ظلمته الأصلية تتغير عليه الأحكام؛ فبعد أن كانت تصدق عليه الأحكام العدمية، صار مناطاً لأحكام الوجود. وهذا هو ما يجعل الرائي للشيخ رائياً للحق، وقد تكلمنا فيما سبق بإيجاز عن كون هذا المعنى مخالفاً لما تذهب إليه العقول القاصرة من قول بالاتحاد أو الحلول. هذا، مع علمنا أن القارئ الذي لا خبرة له بمعاني الحقائق، لا يمكن أن يتصور ما يدل عليه كلام الشيخ وشرحنا له؛ لكننا بإثبات هذا نريد أن نحفز الهمم الضعيفة على طلب المعالي، كما نريد أن يكف القاصرون عن الإنكار على أهل الله من غير سند علمي معتبر. وقوله " ولم تشعر بالقضية "، يخاطب به المحجوب عن مشاهدة الحق فيه. هذا يعني أن العباد كلهم مشاهدون للحق، وإنما الاختلاف في علم وجهل ذلك؛ لذلك قال الله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } الزمر [9] ومناط العلم في الآية هو الحق تعالى، إذ لا معلوم سواه سبحانه على التحقيق. وكل ما يتوهمه المحجوبون من علوم كونية أو شرعية من وراء حجاب، فهي عائدة إلى الحق ولكنهم لا يعلمون وجه عودتها إليه سبحانه. أما من جهتهم، ونعني بذلك صورهم العدمية، فكل ما يعلمون مما سوى الحق فهو عدم محض. وأما إذا تساءلت كيف يتعلق العلم بالمعدوم، فاعلم أن العلم يتعلق بالمعدوم والموجود معاً. والكلام في هذا يخرج بنا عن هذا السياق.
هدى لي ربي هداني أعطاني نظرة صافيا
قوله: "هدى لي"، يعني هدى إلي. والمقصود أن الشيخ لا يُعرف إلا بإذن من الله. فمن شاء الله له المعرفة فإنه سيُهدى إلى سبيلها بما يُعلم من الأسباب أو بما لا يُعلم من الغيب. وأما قوله: "هداني"، فلا يعني به هداية المريدين السالكين الطالبين للحق لأن مرتبته مرتبة واصل. والذي يليق بالواصل من الهداية هو إعطاء المراتب حقها من وجوده، وإبقاؤه لأحكام ظاهره، وموافقته للحكمة. هذه هي الهداية التي تليق بمرتبة الشيخ، وكل من لم يحافظ على ما ذكرناه من العارفين، فإنه يكون ضالاً في الحق. ومعنى قوله رضي الله عنه: " أعطاني نظرة صفية " أي صافية، يعني به أنه فاز من الحق بمعرفة جميع المراتب، وإلحاقها بالحق وإن كانت مما يُنسب في العادة إلى الخلق. وهذا لا يكون إلا لمن كان له نصيبٌ من علم باطن الذات وراثة نبوية. وعلوم هذه المرتبة مجهولةٌ إلا لكبار الأولياء رضي الله عن جميعهم ونفعنا بهم.
عرفني نفسي مني وما هي الروحانيا
معرفة النفس لها مرتبتان: مرتبةٌ تليق بالمريدين السالكين ومرتبةٌ تليق بالشيخ. فأما معرفة النفس من المريد فهي تتحقق بالخروج من ظلمة العدم الملاصقة لها إلى نور الوجود. وأما معرفة الشيخ بنفسه فهي معرفة الحق بنفسه عينها. والمعرفة التي نريدها هنا، هي معرفة تقيده في إطلاقه، لا معرفة الإطلاق الأصلية اللائقة بالحق سبحانه. وإلى هذا المعنى الإشارة بقول سيدنا عيسى عليه السلام: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } المائدة [116]. ومعنى تعلم ما في نفسي هنا، هو نفسه ما عنيناه بمعرفة الشيخ نفسَه. ونعني به معرفة تقييده في إطلاقه. وأما معنى ولا أعلم ما في نفسك، فهو ما أشرنا إليه بمعرفة الحق الأصلية بنفسه سبحانه. وأما قول الشيخ " وما هي الروحانية "، فإنه يقصد التجلي الذاتي الذي ظهرت به الأكوان قائمة بالحق؛ لأن هذا التجلي نفسه هو أصل صورة قيام الأبدان بأرواحها. فهو يتكلم عن تجلي القيومية. ولا يتصور أن يقوم الحق بسواه سبحانه، كما تذهب إلى ذلك العقول المحجوبة؛ لأن الصور القائمة بالحق هي صور عدمية لا وجود لها معه سبحانه. ومَثَل ذلك، أن تأخذ حجراً وتصنع منه صورة إنسان؛ فإن الناظر إلى الحجر المنحوت إن سألته عما يرى، فإنه يجيبك بأحد جوابين: فإما أن يقول لك أرى إنساناً، خصوصاً إن كان التمثال لشخص معلوم؛ أو يقول لك أرى حجراً. وكلا الجوابين صحيح فهل الصورة غير الحجرية في التمثال؟! فكذلك الخلق مع الحق هم صورٌ عدمية تُدرك ولا وجود لها، وإنما الوجود لله وحده.
فإن رمت تدري فني فاصحبني واصغ إليا
يخص الشيخ بالخطاب المريد الطالبَ لنيل هذا العلم الخاص، الذي هو علم التصوف، ويشترط عليه حتى يتحقق له ذلك، أن يصحبه ويصغي إليه. ويقصد بالصحبة الملازمةَ. والملازمةُ لا تتحقق للمريد إلا أذا كان شيخه من أهل الدنيا معاصراً له في زمنه. نقول هذا حتى نُخرج الأشياخ الموجودين في البرزخ بهذا الشرط. والملازمة لا يُقصد منها أن يعاشر كل مريد شيخه ليله ونهاره، وإنما تتحقق بلقاء واحدٍ فما فوق. يشبه الأمر هنا مسألة الصحبةَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مِن قِبَل مَن عاصره من الناس؛ فإنها تتحقق بلقاء مرة فأكثر. ولا شك أنه كلما كثرت اللقاءات بالبدن يكون الأمر أفضلَ بالنسبة إلى الصاحب. أما حقيقة الملازمة فلا تتحقق إلا باتصال القلب بالمصحوب على سبيل الديمومة. فبهذه وحدِها تُعتبر الصحبة ويتحقق الاستمداد للمريد. وهنا يختلف الناس: فقد يكون المرء مكثراً من اللقاءات الحسية مقلاً من صحبة القلب، وقد يكون مقلا من اللقاءات الحسية مديماً لصلة القلب؛ فتختلف بذلك مراتب المريدين وأحوالهم. والصحبة المذكورة هنا يُقصد منها الصحبة التي ينتج عنها سلوك المريد لطريق الحق وترقيه فيها؛ أما اللقاء الذي يحصل بين الأرواح، فيلتقي فيه الشخص من أهل الدنيا شخصا من أهل البرزخ في المنام أو في المشاهدة ويحصل به علماً ينتفع به في سلوكه، فلا نعتبره صحبةً في الاصطلاح. أما الشرط الثاني الذي اشترطه الشيخ فهو الاصغاء إليه، ويقصد به أن يحصر المريد تلقيه فيه، فلا يتلفت يمنة ولا يسرة، ولا يقلد إماماً من المتقدمين أو من المعاصرين لشيخه، إلا إن أَذِنَ له في بعض ذلك. وقد يستشكل هذا على كثير من الناس، فيظنون أن الشيخ يظلم مريده بكفه عن التعلم من غيره. والحقيقة أن تحصيل العلم في الطريق تخالف تحصيل العلم عند العموم، وقياس طريق الخصوص على طريق العموم لا يصح. والعلم في الطريق يُؤخذ عن الله وحده لا عن كونٍ من الأكوان، هذا هو الفرق. ومقصودنا بالأخذ عن الله يشمل الأخذ عن الشيخ الرباني، لأنه وجه الحضرة بالنسبة إلى مريديه كما نبهنا إلى ذلك سابقاً.
واسمع مني واحك عني لا ترفع نفسك عليا
يقصد الشيخ بقوله: "واسمع مني" الفهم، لا مجرد السمع لأن روح السمع هو الفهم، فمن لا فهم له فلا سمع له في الحقيقة. وقد دل على هذا المعنى وصفُ الله تعالى لأهل الكفر في غير ما موضع من القرآن بالصُمِّ مع تحقق سلامة سمعهم الحسي. والفهم في كلام الشيخ لا يأخذه المريد من نفسه، كما يفعل ذلك مع سائر الناس؛ وإنما يرجع إلى الحق بالافتقار عند سماعه لكلام الشيخ حتى يُفهمه مراده فيه. وقد زل كثير من المنتسبين إلى الطريق بعد حفظ هذا الأصل، ودخل عليهم التأويل الفاسد والهوى المحرِّف، فكان ممن ضل عن علم. أما قوله " واحك عني "، فالمراد أن يكون الشيخ مرجع المريد في كل شؤونه، ليتحقق له الصدور عنه. ويتفرعُ عن هذا المعنى أن يصير المريد متكلماً بحاله ومقاله عن الشيخ ومخبراً عن خصوصيته؛ فإن الشيخ أكثر ما يُعرف بمريديه إذا ظهرت عليهم بوادر الفلاح وطلائع الإشراق. ونهيه رضي الله عنه مريده عن رفع نفسه عليه يقصد منه توافر أصلِ شروط الاستمداد، والذي هو التواضع للشيخ. وهذا المعنى يدل عليه الحس، فأنت إن أردت أن تُفرغ سائلاً من إناء في إناء آخر، فلا بد لك أن ترفع الإناء المليء على الفارغ، حتى يكون الفارغ في أسفل مرتبة؛ وإلا فلا يتمكن لك نقل السائل من الإناء الأول أبداً. فإذا كان هذا في الحس ظاهراً، فإنه في جانب المعنى أشد تأكيداً؛ لذلك إن لم يتواضع المريد للشيخ فإنه لن يستمد منه شيئاً. ومحل التواضع القلبُ، ونعني بهذا الإقرارَ من المريد في نفسه بنـزول مرتبته عن مرتبة الشيخ، وإن كان في الظاهر هو أعلى مكانة منه. كأن يكون أعلم من حيث الظاهر، أو أغنى، أو أكثر وجاهةً ... ومن هنا قيل: خطأ الشيخ إن أخطأ أفضل من صواب المريد إن أصاب. وقد غاب المعنى عن بعض العقول لحصر نظرهم في الخطأ والصواب؛ والحقيقةُ أن الفرق هو بين مرتبتين لا بين لفظين؛ فمرتبة الشيخ أعلى من مرتبة المريد وإن كان يظهر أنه على خطإ؛ هذا هو المقصود. وإذا غاب معنى التواضع عن المريد ولـم يستصحبه على الدوام، فإنه لن يتمكن من السلوك على الوجه الأكمل.
لا تر في الكون دوني لا تعد بصرك عليا
قوله: " لا ترى في الكون دوني"، يقصد به أن يجمع المريد قلبه على شيخه، حتى يكون كأنه ليس في الوجود إلا هو وشيخه. وبهذا يحصر معاملته في شيخه، ويرى ردَّ المعاملة منه. وقد يرى بعض العامة في هذا نوعاً من الشرك كما تُصرح بذلك في كل زمن طائفةٌ من الفقهاء وأتباعهم. والحق أن ما يتكلم فيه الفقهاء من توحيد هو توحيد عامٌ ليس من لوازم طريق الخصوص في شيء. أما التوحيد الذي يدرب الشيخ مريده عليه فإنه توحيدٌ خاص يتعلق بالمراتب الثلاث المعلومة، والتي هي: مرتبة الأفعال، ومرتبة الصفات، ومرتبة الذات. ولا يكون التوحيد هنا معتبراً حتى يكون عن شهود إما علمي وإما عيني، يشاهد به العبد الأفعال كلها لله، والصفات كلها راجعةً إليه سبحانه، والوجودَ لذاته من غير مشاركة. فإن خطر في ذهن القارئ: فلمَ يُلزم الشيخ مريديه بشهوده دون شهود الله؟ فالجواب يكون بما سبقت الإشارة إليه في الأبيات السابقة أن الحق هو حقيقة الشيخ، فلا فرق بين النسبتين إلا في نظر العقل فحسب، وأما في الحقيقة فإن التوحيد راجعٌ إلى الحق. والسبب في كون الشيخ يقصر نظر مريده عليه دون أن يوجهه إلى الحق مباشرة منطلقه تربوي لا تحقيقي؛ وذلك لأن التربية تقتضي التدرج بالمربى من طور إلى طور حتى يبلغ الكمال. أما لو دل الشيخ مريده على الحق دفعة واحدة فإنه لن يحصل شيئاً بسبب قصور استعداده عن معاملة الحق في إطلاقه؛ لأن هذا من مرتبة الواصلين وحدهم. كل هذا يتعلق بالتوحيد الخاص. والناس عندما يقيسون مقتضيات تربية الخواص على شؤون العوام بما يعطيه التوحيد العام فإنهم يخلطون في الأحكام والمراتب، فتفسد النتائج تبعاً لذلك. ولو أن الناظرين في أحوال أهل الله تفطنوا إلى اختلاف المراتب ومقتضيات التربية في كل منها لكُفيت الأمة بلاءً شديداً؛ لأن أغلب إنكار المنكرين على الخواص إنما يأتي بتحكيم معايير العامة عليهم. وهذا لا يصح عند سليم النظر.
يا من تريد تدري فني فاسأل عني الألوهيا
هذه القصيدة - كغيرها من قصائد سيدي ابن عليوة - مكتوبة بلغة عامية قريبة من الفصحى، لذلك لا يتقيد الشيخ فيها بقواعد اللغة كما هي معروفة؛ ونحن هنا يهمنا المعنى. يخاطب الشيخ في أول بيت المقبلَ على الطريق، إذا كان يريد أن يأخذ عنه علمه الخاص المعبر عنه بالفن. والفن في اللغة هو الصنف من الأشياء، وهو هنا صنف العلم كما مر. ينبهه حتى يسأل عنه الله ليطلعه على خصوصيته؛ وذلك ليتمكن المريد من تقديمه على نفسه واتخاذه إماماً؛ وإلا فإنه من غير معرفة خصوصية الشيخ، لن يتمكن من ذلك أبدا.
أما البشر لا يعرفني أحوالي عنه غيبيا
ويوصي المريد أن لا يسأل عنه الناس، لأن الناس يجهلون أحوال أهل الله، من كونها فوق مرتبتهم وإن كانوا من صالحي المؤمنين أو من فقهاء الشريعة؛ فهي غيبية بالنسبة إليهم، وكيف يخبر المرء عن الغيب؟! أما إذا سألهم الطالب عن الشيخ، فسيجد أغلبهم متهمين له في الدين ناعتين إياه بالفسق والبدعة. وإذا هو صدقهم في أقوالهم، فسيحرم من الاستمداد من الشيخ بلا ريب. وهذا وقع لكثيرين دون أن يتنبهوا إلى موضع الزلل.
اطلبني عند التداني من وراء العبوديا
ينصح الشيخ الطالب بالبحث عن حقيقته الحقية ( حقيقة الشيخ ) التي هي خلف الصورة العدمية المنوط بها أحكام العبودية. أما إذا بقي مع عبودية الشيخ فلن يفتح له باب التخصيص أبدا ما دام على هذه الحال. وإذا أراد الله بالمريد خيرا فإنه يغيبه عن عبودية الشيخ حتى لا يرى فيه إلا وجه الحق المقابل له. وبهذا وحده يمكن له السير في الطريق، ومنافسة السالكين في تحصيل ما يعمر به باطنه من أنوار المواجهة لا من أنوار التحقيق. نقول هذا لأن المريدين يخلطون بين السلوك الأول والسلوك الثاني في الأحكام، ويظنونه – إذا سمعوا به – سلوكاً واحداً؛ والأمر غير ما يظنون.
أما الظروف والأكوان ليس لي فيها بقيا
يعرّف الشيخ بمرتبته هنا، حتى لا يُخلط بينها وبين غيرها من المراتب. فينبه إلى كونه قد خرج عن حكم الظروف التي هي الزمان والمكان والمقام. فالزمان يقيد الناس من حيث ترتيب صورهم المتعينة في العلم الإلهي، والمكان مقيد لهم من حيث الصورة التي هي مجموع الصفات والأحوال، ومن حيث كونهم بين سماء وأرض، والمقام حاصر لهم من حيث المكانة الإدراكية. هذه الظروف مقيدة لكل من عدا المتحقق، ولا يتمكن الناس حتى من فهم معنى إمكان الخروج عن تحكمها. فكيف سيعرفون حقيقة من تحقق له ذلك الخروج ذوقاً؟! هذا لا يكون أبداً!. والشيخ يريد أن يخبر عن إطلاقه الذي لا يمكن للمريد أو لغيره من الناس أن يدركه بنفسه؛ وإنما السبيل إليه ما سيدل عليه من تعرض وآداب.
إني مظهر رباني والحال يشهد عليا
يقصد الشيخ بقوله: "إني مظهر رباني"، أنه متحقق بكونه وجهاً إلهياً ذوقاً؛ لذلك يجب أن يُفرقَ بينه في المعاملة وبين من ليس من هذه المرتبة. وما يساعد الناظر إليه في هذا التفريق هو حال الشيخ؛ لأن حال الربانيين لا يكون أبداً مثل حال الغافل، وذلك لأن الرباني يكون بالله ولله ومع الله في جميع أحواله، وراثةً نبويةً. أما الأحوال العادية التي يشبه فيها الرباني غيره من حيث الظاهر، فليعلم المريد أنها من حيث الباطن على غير ما يفهم؛ لذلك فلا يجب أن يقيس أحوال الشيخ العادية على نفسه، كأن يقيس انبساطه في القول أو الممازحة أو الغضب أو العطاء والمنع ... على ما يجد من ذلك في نفسه؛ فإن للشيخ أسرارا في كل أحواله وأقواله، لا يمكن أن يحيط بها المريد أبداً.
أنا فياض الرحمان ظهرت في البشريا
يقصد بـ"فيّاض": الفيض، ويعني به التجلي. فالشيخ هنا تجلّ من تجليات الرحمن. والرحمن اسم جامع لمعاني الأسماء كلها كالاسم الله. فهو خليفة ٌ للاسم المفرد؛ لذلك جاء في القرآن الكريم، قوله تعالى: { قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى } الإسراء [110]. فجاء بـ " أو " التي تفيد التسوية. والشيخ من كونه وجهاً رحمانياً فهو وجهٌ إلهي عام، تستدعي هذه المرتبة من المريد أن يعامله بباطنه معاملة الله. أما قوله " ظهرت في البشرية "، فلا يمكن أن يُفهم منه الحلول كما يتبادر إلى العقول المقلدة، لأن الوجود الحقي والخلقي واحدٌ، وإنما وقع التفريق في الحكم الذي أصله النِّسب. والنِّسب أحكامٌ عدمية معقولة؛ لذلك لا يمكن أن يقال بالحلول هنا. ودلالته على البشرية بعد ذكر خصوصيته رضي الله عنه، حتى لا يعاملها الناظر معاملة البشرية من غيره؛ لأنها قد اكتسبت الخصوصية من باطنه. فلا سبيل إلى مجاوزة بشرية الشيخ من هذا الوجه، وإن كان قد حذّر من الوقوف مع عبوديتها فيما قبل. ولا يخفى الفرق بين العبودية التي هي مجموعة أحكامٌ، وبين البشرية التي هي صورة ظاهرة وصفات.
والأصل مني روحاني كنت قبل العبوديا
يقصد بالأصل الروحاني هنا، الروحَ الإلهي المنفوخ، الذي قال عنه الله تعالى: { فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي } الحجر[29]. الروح هنا مطلقٌ قديم، ومن هذه المرتبة يحصل التحقق للشيخ. فالتحقق ليس إلا عودةً إلى الأصل الذي هو الحق. يقول الشيخ هذا حتى لا يُنظر إلى قوله بعين الريبة والشك، كما يحدث ممن يرميه بالبدعة. فكيف يكون المرء مبتدعاً وهو ما رجع إلا إلى أصله. ويذكر أن هذه المرتبة كانت في بطون الذات قبل أن يظهر ببشريته الموصوفة بالعبودية. يريد أن ينبه إلى كون العبودية فرعاً عن الربوبية، والفرع لا ينبغي أن يحجب أصله.
ثم عدت لأوطاني كما كنت في حريا
يقصد الشيخ أنه عاد إلى حكم الإطلاق وإن كان يظهر في صورة التقييد بالصورة وأحكام العبودية، فهذا لا يتعارض مع ذاك. والمسألة تعود إلى الأحكام لا إلى الذات، هذا حتى يسهل الفهم عمن يأخذ الألفاظ بمدلولاتها العادية. وله إشارة رضي الله عنه في كلمة " أوطاني "، يريد منها أن ينبه إلى أن الصور الكونية ظهرت في الحق. فيكون الحق من هذا الوجه للمخلوقات كالوطن للشخص. وكل من كان محجوباً عن الحق بنفسه أو بغيره فهو متغربٌ عن وطنه.
لا تحسب أنك تراني بأوصاف البشريا
ينبه الشيخ هنا إلى الانحجاب بالبشرية من جهتين: الجهة الأولى هي بشرية الشيخ، والجهة الثانية هي بشرية المريد. فهو يقصد أن المريد لا يمكن أن يعرف الشيخ حقيقةً بمجرد الإحاطة به من حيث الحس؛ لأن العين منه لن ترى إلا صورة الشيخ والأذن لن تسمع إلا صوت الشيخ واليد لن تلمس إلا جسم الشيخ وهكذا .... وإذا اعتد بهذه المعرفة فهي بالنظر إلى حقيقة الشيخ جهلٌ محض؛ وذلك لأن كل ما ذُكر من الصفات الحسية أصله عدمي. فإذا اعتد الناظر بهذه المعرفة فإنما هو يعتد بمعرفة العدم وما حصّل من الوجود شيئاً. أما انحجاب المريد ببشرية نفسه، فهو لأن عدمه لا يمكن أن يعرف وجود الشيخ؛ بل سيتعرف عليه في أثناء الطريق كلما حصل من صفات الروحانية شيئاً، لأن الحق لا يُعرف إلا بالحق. فالحق من المريد هو الذي يعرف الحق من الشيخ، وإلا فلا يمكن أن تحدث المعرفة بتاتاً.
فمن خلفها معاني لوازم الروحانيا
يقصد من خلف البشرية، معان هي الصفات الروحانية. والمقصود عنده من الصفات الروحانية، الصفات الإلهية التي تجلى الله بها على عباده فنال كل واحد منهم حظه منها. فالغنى مثلاً الذي يظهر على العباد هو بعض الغنى الذي يتصف به الله، والقدرة هكذا، والعلم، وجميع الصفات. يريد أن ينبه المريد إلى كون صفات الشيخ هي صفات الله، وبها يربي المريدين. فالشيخ من غير علم ومن غير قدرة ومن غير إرادة، وما سوى ذلك من الصفات كيف يمكن أن يُحيط بأحوال مريديه على اختلافها، أو يُمدهم بما يقوّم اعوجاجهم، أو أن يعدّل استعداداهم بهمته التي هي الإرادة نفسها؟
فلو رأيت مكاني في الحضرة الأقدسيا
يقصد الشيخ بالمكان هنا المكانة، وإلا فإن العارف لا يتقيد بمكان. ويدل على هذا المعنى إضافته للمكان إلى الحضرة الأقدسية. والمقصود بالحضرة الأقدسية، مرتبة الأحدية التي هي منزهةٌ عن ذكر الخلق فيها. والقداسة لغةً: هي الطهارة، فيكون المعنى أن هذه المرتبة مطهرةٌ من شائبة الغيرية. يريد بذكره للأحدية هنا أن يؤصل لما سيذكره فيما بعدُ من مقتضيات الواحدية، التي يعود الخلق بموجبها إلى الحق.
تراني ثَم تراني واحدا بلا غيريا
يقصد بــ " ثمَّ " حضرة الحق. فالمريد إذا سار في الطريق، ودخل دائرة التوحيد الخاص فإنه سيعرف الحق في المراتب المعلومة بحسب ما يعيطه استعداده. والمراتب التوحيدية ثلاثٌ: أفعال وصفات وذات. والمريد يرى الشيخ إذا دخل دائرة من دوائر التوحيد عين الحق؛ فإن كان نظره من مرتبة الأفعال، فإنه يرى الأفعال كلها من الشيخ؛ وإن كان نظره من مرتبة الصفات، فإنه يراها كلها راجعةً إليه. وأما مرتبة الذات فلا يصح أن يعلمها المريد إلا إذا رأى وجوده عين وجود الشيخ، فيكون علمه بالذات من علم الشيخ بها، لا من علم نفسه.
لكن الحق كساني لا يصل بصرك إليا
يشير الشيخ في هذا البيت إلى تحققه بالحق، والحق لا يتعدد. لكن الحق لم يرد أن يظهر للعموم في الحياة الدنيا، فحجب أغلب المكلفين عنه بحجب وهمية تراها أبصارهم من غير أن يكون لها وجود. لذلك خاطب المريد فقال: "لا يصلْ بصْرَكْ" . يعني أن المريد لا يمكن أن يرى حقيقة الشيخ المكسوة بالحجب الوهمية وبصره منسوب إلى نفسه. وإنما يعرف المريد الشيخ إذا صار بصره بصر الحق.
تراني ولا تراني لأنك غافل عليا
يعني بقوله: "تراني ولا تراني"، أنك تراني من حيث حسك وظاهري، لا من حيث معناك وباطني؛ لأن الإثبات والنفي إذا اجتمعا في الكلام فهما يدلان على اختلاف الوجه في المتكلَم فيه. وسبب عدم رؤية المريد لحقيقة الشيخ التي بها امتاز عن غيره هي غفلة المريد؛ لأن المريد لا ينتفع من الشيخ حتى يخرج في نظره عن مشترك الصفات التي تجمع بينه وبين سواه من الناس. والغفلة هي شهود الصفات المشتركة دون شهود ما يمتاز به الشيخ عن غيره. فوجب طلب معرفة الامتياز حتى يتحقق النفع.
حدد بصر الإيمان وانظر نظرة صافيا
يأمر المريد بأن ينظر إليه من إيمانه بعد أن يشتغل على تحديد بصره، حتى تكون الرؤية واضحة. ولقد اختص الإيمان بالذكر لأنه تصديقٌ بالغيب، والشيخ بالنسبة إلى المريد من الغيب. من هنا وجب عليه أن يكون منفتحاً على المجهول ولا يقيد الشيخ بما يعلم من المعقول والمنقول. ويقصد بقوله " وانظر نظرة صفيا " يعني صافية؛ وهي أن يكون مقصوده من النظر إلى الشيخ معرفة الحق. ولا يتحقق هذا الصفاء في النظرة حتى يتخلى المريد عن جميع أغراض نفسه العاجلة والآجلة، الدنيوية والأخروية. وما دام المريد متعلقاً بشيء من هذه الأغراض والحظوظ، فلا يطمع في معرفة حقيقة الشيخ أبدا.
فإن كنت ذا إيقان عساك تعثر عليا
المعنى، أنك أيها المريد إن بلغ إيمانك درجة اليقين، بحيث لا يتحرك باختلاف الأحوال عليه ولا يزيد ولا ينقص بحسب تحقق الأغراض لديه؛ وصار راسخاً ثابتاً لا يتزعزع، فعساك بعد هذا أن تعرفني. وجاء بعسى هنا التي تفيد الترجي ليُعلم المريد أن المعرفة لا تحصل هجوماً، وإنما بعد إذن من الله بها. وذلك بسبب العزة التي يتصف بها الحق.
تجد أسرارا تغشاني وأنوارا نبويا
يقصد رضي الله عنه بالأسرار تجليات باطن الذات، التي هي في الأصل كانت قد ظهرت في صورة الحقيقة المحمدية. ولكل وارث حظٌ من هذه الأسرار على قدره. والمراد بتجليات باطن الذات، هو ما ظهر على صورة الحقيقة المحمدية، فباطن الذات هو ظاهر الصورة. وعلى هذا فإن الشيخ يكون بالنسبة إلى مريديه تجليات حقية، يعلمها من يعلمها ويجهلها من يجهلها.
تجد عيونا ترعاني وأملاكا سماويا
الظاهر من كلام الشيخ رضي الله عنه من الأبيات السابقة ومن هذه البيت أنه كان خليفة زمانه؛ بمعنى أنه كان وجهاً محمدياً في زمانه. والمقصود بالعيون هنا الأعيان الثبوتية التي هي صور الأكوان، والمقصود برعايتها إياه نظرها إليه بحقائقها، لأنها جميعها مستمدة منه. وأما رعاية الأملاك السماوية له، والتي هي الأرواح العلوية، فيقصد منها الوقوف على خدمته، لأن خليفة الزمان أو صاحب الوقت كما يقال، تكون جميع الأملاك تحت سلطانه وهيمنته.
تجد الحق حباني مني ظهر بما فيا
يعني أن الحق اصطفاه واختاره ليكون خليفة له ويبين أن كل ما يظهر منه هو ظهورات للحق لا له. وأغلب الناس لا يعرفون هذه المرتبة ولا يتصورن ما يمكن أن يتصل بها من أحكام؛ لأن المرء الذي يكون مقيداً بمقامه لا ينظر إلى الأمور إلا من خلاله، ولا يتمكن من تصور ما فوق طوره. وأما الحقيقة التي يدل عليها الشيخ فتفيد أنه لم يبق منه شيء من عدمه الأصلي، وكل ما يظهر منه بصرف النظر عن كونه مقبولاً في الأعراف أو مرفوضاً، أو موافقاً أو مخالفاً، فهو تجليات حقية تدل على أسرار ذاتية هي المسماة آياتٍ في الشرع. وكل معترض على من هذه مرتبته، فإنما هو معترض على الحق سواء أعلم ذلك أم لم يعلمه. وحديث: « من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب » [ أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه ] يؤكد هذا المعنى ويدل عليه؛ لأنه لو لم يكن الحق هو الظاهر من الولي فكيف يكون محارباً عنه. وما يحارب الحقُ معادي الولي إلا عن نفسه سبحانه.
تراه لما تراني ولم تشعر بالقضيا
يعني بقوله: "تراه لمَّا تراني"، انتفاء ظلمته على التمام رضي الله عنه. وبانتفاء ظلمته الأصلية تتغير عليه الأحكام؛ فبعد أن كانت تصدق عليه الأحكام العدمية، صار مناطاً لأحكام الوجود. وهذا هو ما يجعل الرائي للشيخ رائياً للحق، وقد تكلمنا فيما سبق بإيجاز عن كون هذا المعنى مخالفاً لما تذهب إليه العقول القاصرة من قول بالاتحاد أو الحلول. هذا، مع علمنا أن القارئ الذي لا خبرة له بمعاني الحقائق، لا يمكن أن يتصور ما يدل عليه كلام الشيخ وشرحنا له؛ لكننا بإثبات هذا نريد أن نحفز الهمم الضعيفة على طلب المعالي، كما نريد أن يكف القاصرون عن الإنكار على أهل الله من غير سند علمي معتبر. وقوله " ولم تشعر بالقضية "، يخاطب به المحجوب عن مشاهدة الحق فيه. هذا يعني أن العباد كلهم مشاهدون للحق، وإنما الاختلاف في علم وجهل ذلك؛ لذلك قال الله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } الزمر [9] ومناط العلم في الآية هو الحق تعالى، إذ لا معلوم سواه سبحانه على التحقيق. وكل ما يتوهمه المحجوبون من علوم كونية أو شرعية من وراء حجاب، فهي عائدة إلى الحق ولكنهم لا يعلمون وجه عودتها إليه سبحانه. أما من جهتهم، ونعني بذلك صورهم العدمية، فكل ما يعلمون مما سوى الحق فهو عدم محض. وأما إذا تساءلت كيف يتعلق العلم بالمعدوم، فاعلم أن العلم يتعلق بالمعدوم والموجود معاً. والكلام في هذا يخرج بنا عن هذا السياق.
هدى لي ربي هداني أعطاني نظرة صافيا
قوله: "هدى لي"، يعني هدى إلي. والمقصود أن الشيخ لا يُعرف إلا بإذن من الله. فمن شاء الله له المعرفة فإنه سيُهدى إلى سبيلها بما يُعلم من الأسباب أو بما لا يُعلم من الغيب. وأما قوله: "هداني"، فلا يعني به هداية المريدين السالكين الطالبين للحق لأن مرتبته مرتبة واصل. والذي يليق بالواصل من الهداية هو إعطاء المراتب حقها من وجوده، وإبقاؤه لأحكام ظاهره، وموافقته للحكمة. هذه هي الهداية التي تليق بمرتبة الشيخ، وكل من لم يحافظ على ما ذكرناه من العارفين، فإنه يكون ضالاً في الحق. ومعنى قوله رضي الله عنه: " أعطاني نظرة صفية " أي صافية، يعني به أنه فاز من الحق بمعرفة جميع المراتب، وإلحاقها بالحق وإن كانت مما يُنسب في العادة إلى الخلق. وهذا لا يكون إلا لمن كان له نصيبٌ من علم باطن الذات وراثة نبوية. وعلوم هذه المرتبة مجهولةٌ إلا لكبار الأولياء رضي الله عن جميعهم ونفعنا بهم.
عرفني نفسي مني وما هي الروحانيا
معرفة النفس لها مرتبتان: مرتبةٌ تليق بالمريدين السالكين ومرتبةٌ تليق بالشيخ. فأما معرفة النفس من المريد فهي تتحقق بالخروج من ظلمة العدم الملاصقة لها إلى نور الوجود. وأما معرفة الشيخ بنفسه فهي معرفة الحق بنفسه عينها. والمعرفة التي نريدها هنا، هي معرفة تقيده في إطلاقه، لا معرفة الإطلاق الأصلية اللائقة بالحق سبحانه. وإلى هذا المعنى الإشارة بقول سيدنا عيسى عليه السلام: { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ } المائدة [116]. ومعنى تعلم ما في نفسي هنا، هو نفسه ما عنيناه بمعرفة الشيخ نفسَه. ونعني به معرفة تقييده في إطلاقه. وأما معنى ولا أعلم ما في نفسك، فهو ما أشرنا إليه بمعرفة الحق الأصلية بنفسه سبحانه. وأما قول الشيخ " وما هي الروحانية "، فإنه يقصد التجلي الذاتي الذي ظهرت به الأكوان قائمة بالحق؛ لأن هذا التجلي نفسه هو أصل صورة قيام الأبدان بأرواحها. فهو يتكلم عن تجلي القيومية. ولا يتصور أن يقوم الحق بسواه سبحانه، كما تذهب إلى ذلك العقول المحجوبة؛ لأن الصور القائمة بالحق هي صور عدمية لا وجود لها معه سبحانه. ومَثَل ذلك، أن تأخذ حجراً وتصنع منه صورة إنسان؛ فإن الناظر إلى الحجر المنحوت إن سألته عما يرى، فإنه يجيبك بأحد جوابين: فإما أن يقول لك أرى إنساناً، خصوصاً إن كان التمثال لشخص معلوم؛ أو يقول لك أرى حجراً. وكلا الجوابين صحيح فهل الصورة غير الحجرية في التمثال؟! فكذلك الخلق مع الحق هم صورٌ عدمية تُدرك ولا وجود لها، وإنما الوجود لله وحده.
فإن رمت تدري فني فاصحبني واصغ إليا
يخص الشيخ بالخطاب المريد الطالبَ لنيل هذا العلم الخاص، الذي هو علم التصوف، ويشترط عليه حتى يتحقق له ذلك، أن يصحبه ويصغي إليه. ويقصد بالصحبة الملازمةَ. والملازمةُ لا تتحقق للمريد إلا أذا كان شيخه من أهل الدنيا معاصراً له في زمنه. نقول هذا حتى نُخرج الأشياخ الموجودين في البرزخ بهذا الشرط. والملازمة لا يُقصد منها أن يعاشر كل مريد شيخه ليله ونهاره، وإنما تتحقق بلقاء واحدٍ فما فوق. يشبه الأمر هنا مسألة الصحبةَ لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مِن قِبَل مَن عاصره من الناس؛ فإنها تتحقق بلقاء مرة فأكثر. ولا شك أنه كلما كثرت اللقاءات بالبدن يكون الأمر أفضلَ بالنسبة إلى الصاحب. أما حقيقة الملازمة فلا تتحقق إلا باتصال القلب بالمصحوب على سبيل الديمومة. فبهذه وحدِها تُعتبر الصحبة ويتحقق الاستمداد للمريد. وهنا يختلف الناس: فقد يكون المرء مكثراً من اللقاءات الحسية مقلاً من صحبة القلب، وقد يكون مقلا من اللقاءات الحسية مديماً لصلة القلب؛ فتختلف بذلك مراتب المريدين وأحوالهم. والصحبة المذكورة هنا يُقصد منها الصحبة التي ينتج عنها سلوك المريد لطريق الحق وترقيه فيها؛ أما اللقاء الذي يحصل بين الأرواح، فيلتقي فيه الشخص من أهل الدنيا شخصا من أهل البرزخ في المنام أو في المشاهدة ويحصل به علماً ينتفع به في سلوكه، فلا نعتبره صحبةً في الاصطلاح. أما الشرط الثاني الذي اشترطه الشيخ فهو الاصغاء إليه، ويقصد به أن يحصر المريد تلقيه فيه، فلا يتلفت يمنة ولا يسرة، ولا يقلد إماماً من المتقدمين أو من المعاصرين لشيخه، إلا إن أَذِنَ له في بعض ذلك. وقد يستشكل هذا على كثير من الناس، فيظنون أن الشيخ يظلم مريده بكفه عن التعلم من غيره. والحقيقة أن تحصيل العلم في الطريق تخالف تحصيل العلم عند العموم، وقياس طريق الخصوص على طريق العموم لا يصح. والعلم في الطريق يُؤخذ عن الله وحده لا عن كونٍ من الأكوان، هذا هو الفرق. ومقصودنا بالأخذ عن الله يشمل الأخذ عن الشيخ الرباني، لأنه وجه الحضرة بالنسبة إلى مريديه كما نبهنا إلى ذلك سابقاً.
واسمع مني واحك عني لا ترفع نفسك عليا
يقصد الشيخ بقوله: "واسمع مني" الفهم، لا مجرد السمع لأن روح السمع هو الفهم، فمن لا فهم له فلا سمع له في الحقيقة. وقد دل على هذا المعنى وصفُ الله تعالى لأهل الكفر في غير ما موضع من القرآن بالصُمِّ مع تحقق سلامة سمعهم الحسي. والفهم في كلام الشيخ لا يأخذه المريد من نفسه، كما يفعل ذلك مع سائر الناس؛ وإنما يرجع إلى الحق بالافتقار عند سماعه لكلام الشيخ حتى يُفهمه مراده فيه. وقد زل كثير من المنتسبين إلى الطريق بعد حفظ هذا الأصل، ودخل عليهم التأويل الفاسد والهوى المحرِّف، فكان ممن ضل عن علم. أما قوله " واحك عني "، فالمراد أن يكون الشيخ مرجع المريد في كل شؤونه، ليتحقق له الصدور عنه. ويتفرعُ عن هذا المعنى أن يصير المريد متكلماً بحاله ومقاله عن الشيخ ومخبراً عن خصوصيته؛ فإن الشيخ أكثر ما يُعرف بمريديه إذا ظهرت عليهم بوادر الفلاح وطلائع الإشراق. ونهيه رضي الله عنه مريده عن رفع نفسه عليه يقصد منه توافر أصلِ شروط الاستمداد، والذي هو التواضع للشيخ. وهذا المعنى يدل عليه الحس، فأنت إن أردت أن تُفرغ سائلاً من إناء في إناء آخر، فلا بد لك أن ترفع الإناء المليء على الفارغ، حتى يكون الفارغ في أسفل مرتبة؛ وإلا فلا يتمكن لك نقل السائل من الإناء الأول أبداً. فإذا كان هذا في الحس ظاهراً، فإنه في جانب المعنى أشد تأكيداً؛ لذلك إن لم يتواضع المريد للشيخ فإنه لن يستمد منه شيئاً. ومحل التواضع القلبُ، ونعني بهذا الإقرارَ من المريد في نفسه بنـزول مرتبته عن مرتبة الشيخ، وإن كان في الظاهر هو أعلى مكانة منه. كأن يكون أعلم من حيث الظاهر، أو أغنى، أو أكثر وجاهةً ... ومن هنا قيل: خطأ الشيخ إن أخطأ أفضل من صواب المريد إن أصاب. وقد غاب المعنى عن بعض العقول لحصر نظرهم في الخطأ والصواب؛ والحقيقةُ أن الفرق هو بين مرتبتين لا بين لفظين؛ فمرتبة الشيخ أعلى من مرتبة المريد وإن كان يظهر أنه على خطإ؛ هذا هو المقصود. وإذا غاب معنى التواضع عن المريد ولـم يستصحبه على الدوام، فإنه لن يتمكن من السلوك على الوجه الأكمل.
لا تر في الكون دوني لا تعد بصرك عليا
قوله: " لا ترى في الكون دوني"، يقصد به أن يجمع المريد قلبه على شيخه، حتى يكون كأنه ليس في الوجود إلا هو وشيخه. وبهذا يحصر معاملته في شيخه، ويرى ردَّ المعاملة منه. وقد يرى بعض العامة في هذا نوعاً من الشرك كما تُصرح بذلك في كل زمن طائفةٌ من الفقهاء وأتباعهم. والحق أن ما يتكلم فيه الفقهاء من توحيد هو توحيد عامٌ ليس من لوازم طريق الخصوص في شيء. أما التوحيد الذي يدرب الشيخ مريده عليه فإنه توحيدٌ خاص يتعلق بالمراتب الثلاث المعلومة، والتي هي: مرتبة الأفعال، ومرتبة الصفات، ومرتبة الذات. ولا يكون التوحيد هنا معتبراً حتى يكون عن شهود إما علمي وإما عيني، يشاهد به العبد الأفعال كلها لله، والصفات كلها راجعةً إليه سبحانه، والوجودَ لذاته من غير مشاركة. فإن خطر في ذهن القارئ: فلمَ يُلزم الشيخ مريديه بشهوده دون شهود الله؟ فالجواب يكون بما سبقت الإشارة إليه في الأبيات السابقة أن الحق هو حقيقة الشيخ، فلا فرق بين النسبتين إلا في نظر العقل فحسب، وأما في الحقيقة فإن التوحيد راجعٌ إلى الحق. والسبب في كون الشيخ يقصر نظر مريده عليه دون أن يوجهه إلى الحق مباشرة منطلقه تربوي لا تحقيقي؛ وذلك لأن التربية تقتضي التدرج بالمربى من طور إلى طور حتى يبلغ الكمال. أما لو دل الشيخ مريده على الحق دفعة واحدة فإنه لن يحصل شيئاً بسبب قصور استعداده عن معاملة الحق في إطلاقه؛ لأن هذا من مرتبة الواصلين وحدهم. كل هذا يتعلق بالتوحيد الخاص. والناس عندما يقيسون مقتضيات تربية الخواص على شؤون العوام بما يعطيه التوحيد العام فإنهم يخلطون في الأحكام والمراتب، فتفسد النتائج تبعاً لذلك. ولو أن الناظرين في أحوال أهل الله تفطنوا إلى اختلاف المراتب ومقتضيات التربية في كل منها لكُفيت الأمة بلاءً شديداً؛ لأن أغلب إنكار المنكرين على الخواص إنما يأتي بتحكيم معايير العامة عليهم. وهذا لا يصح عند سليم النظر.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin