من أهم خصال السيد النبهان مايلي :
أولاً : التفتح في الأفكار :
التفتح صفة تجسد القدرة على التواصل مع الآخر الذي يخالفك في الرأي ، والتواصل دليل على احترام الآخر ، ولولا ذلك الاحترام للآخر لما تحقق التواصل .
قد يظن بعضهم أن التفتح على الآخرين دليل على عدم التزام الإنسان بفكره الذاتي الذي يؤمن به ، وهذا خطأ كبير ، فالتفتح ليس نقيض الالتزام ، وإنما هو نقيض التزمت والجهل ، فالتزمت هو رفض للآخر وعدم القدرة على التواصل معه وهو دليل على ضيق الأفق ، فالمتزمت يرفض الآخر لأنه يخالفه في الرأي ولا يمكن أن يوصف التزمت بالفضيلة والتزمت لا يعني الورع والالتزام وإنما يعني ضيق الأفق .
ولا يمكن أن يوصف التفتح على الآخر بالضعف وقلة الالتزام ، فلا علاقة بين الالتزام والتزمت ، فالمتزمت رجل تنقصه المرونة في المواقف ، فلا يحتمل الآخر وبالتالي فإنه قد يرفض الحق إذا ظهر له على يد الآخر .
كان الشيخ معروفاً بقدرته على التواصل مع الآخرين ، على مستوى الصلات الشخصية أو على مستوى المواقف ، فلا يضيق بالآخر إلا إذا ظهر منه ما يدل على قلة الأدب في لهجته أو في عبارته أو في مجلسه ، فلم يكن يحتمل قلة الأدب ، لأن ذلك لا يليق بالإنسان ويعتبر قلة الأدب من ضعف التهذيب وقلة العقل وسيطرة الجهل .
ولم يكن الشيخ يوجه النصح للآخرين بطريقة مباشرة ، احتراماً لخصوصيات الآخرين فيما اختاروه لأنفسهم .
فإذا حضر مجلس من كان غير ملتزم بأداء الواجبات الدينية أو كان معروفاً بالفسق تجاهل ذلك ، ووجه كلامه إليه بكل عناية وأدب ، وشرح له حقائق الدين وما يدعو إليه من التحقق بصفات الكمال والابتعاد عن كل الأوصاف المذمومة ، ولم يشعر ذلك الرجل بالتقصير والذنب ، لأن مهمة المرشد هي أن يرتفع به من حيث هو إلى ما يجب أن يكون عليه من استقامة وهداية ، ولو أشعره بالذنب والتقصير لتوقف التواصل وأخفقت مهمة المرشد في الأخذ بيد المقصرين .
ثانياً : الترفع عن الصغائر :
اشتهر الشيخ رحمه الله بترفعه عن صغائر الأمور ، فلا يلتفت إلى ما لا يليق من المواقف ، ولا يرضى لنفسه أن تصدر منه كلمة نابية بحق ولو كان عدواً له ، ولا ينتقم ولا يحقد لأنه يرى ذلك لا يليق بالرجال .
كان يقول في مجالسه بأن الانسان عليه ألا يرضى أن تصدر عنه الأفعال المذمومة ، لا لأنها تدخل ضمن الحرام ولكن لأن الإنسان يجب ألا تصدر عنه الأفعال الناقصة والمذمومة ، ومن أحب الكمال تعلق به ولا يرضى ما دونه من أنواع السلوك .
لم ينتقم الشيخ قط ممن أساء إليه وكان يحسن لمن أساء إليه ، ويكرر الإحسان ، ويقابل الإساءة بالإحسان إلى أن يغلب إحسانه على الاساءة ، فينقلب العدو صديقاً ويصبح البعيد قريباً ، ولم يكن في ذلك الخلق متكلفاً بل كان يصدر هذا الخلق عنه بعفة راسخة ودائمة وتلقائية ومن غير بذل جهد وتكلف ، ويقول بأن النفس يجب أن يصدر عليها ما يليق بها من فعل الكمال ، فإذا قابل الإنسان الاساءة بمثلها انتفى التميز ، ولا فضل لأحد على آخر لأن كلاً منهما صدر عنه من الأفعال ما ينافى الكمال فلا يحق للسيء أن يدعي الكمال وقد رضي أن يصدر عنه الفعل الناقص
وقد كان من عادة الشيخ أنه لا يتلفت لما يقال عنه من مدح أو ذم ، ويعلل ذلك بأنه أعرف الناس بذاته ، فالمادح يقول ما يرى من الأفعال المحمودة ، والذام يذم ما يعتقده نقصاً وهو معذور في ذمه ، ولو عرف الحقيقة وكان منصفاً لتغير رأيه ، فالمادح معذور والذام معذور ، وكل منهما يصف ما يرى ، وعليهما أن يبحثا عن الحق ، والجاهل يفرح بالمدح ولو كان المادح كاذباً ، وكأنه يكذب على نفسه بصفة ليست فيه .
كان يلتمس العذر لخصومه وأعدائه ، لأنهم يذمّون ما يعتقدون أنه خطأ ، ولو عرفوا الحقيقة لما كانوا ذامّين ، ويمكن التغلب على الخصومات الناتجة عن الجهل بمعرفة الحقيقة ولكن لا يمكن التغلب على الخصومات الناتجة عن الحسد والحقد ، فهذه أمراض نفسية تجعل صاحبها أسير غشاوة مظلمة تمنعه من رؤية الألوان على حقيقتها ، ولابد من إزالة هذه الغشاوة بتزكية النفس وطهارة القلب ، لكي يبتعد الإنسان عن الصفات المذمومة التي تبعده عن الحق والنور والهداية .
ثالثاً : علو همته :
كان الشيخ عالي الهمة في اهتماماته وفي سلوكه وفي انشغالاته ، كان يشغل نفسه بهموم الآخرين من الضعفاء والمرضى والمسنين ، ولكنه لم يشغل نفسه بقضاياهم الما دية ولا باهتماماتهم الدنيوية ، فذلك أمر خاص بهم ، ولا يليق الانشغال بالدنيا في مجالس المذاكرة والتربية ، فهذه مجالس غايتها التعليق في فضاءات روحية سامية ، لكي تتحرر النفوس من تعلقاتها الدنيوية التي تكدر صفاء القلوب بمرغوبات مادية .
كانت يده هي العليا التي تعطي ولاتأخذ ، فكان الأكثر سخاء وعطاء ، ولاحدود لسخائه ، لاعلى نفسه ولكن على الآخرين المحتاجين ، فلم يكن يضيق بحاجاتهم أبداً ولو استدان من غيره ، ويكتفي لنفسه بالقليل الذي تدعو إليه الحاجة .
وقد أرهق نفسه بهذه الصفة ، وتحمل الأعباء الثقيلة ، ولم ينسب لنفسه شيئأ مما كان يفعل ، ويعتقد أن الله تعالى أكرمه لكي يكون أداة للعطاء ، وما هي إلا أموالهم ردت إليهم .
كل ذلك كان يفعله بغير تكلف ولا منة ولا يهمه إن علم الخلق بذلك أم لم يعلموا ، إذ كان عمله لله تعالى خالصاً لا رياء فيه ، ولا استجلاباً لمحبة الاخرين وانما هي صفات راسخة في النفس تصدر عنها أفعال الفضائل من غير تكلف ولا روية .
وأكثر ما كان يؤلمه أن يجد فقيراً محتاجاً ولا يستطيع إعطاءه أو مريضاً متألماً ولا يستطيع إسعافه أو طفلاً باكياً ولا يستطيع إيقاف دموعه ، كان هؤلاء هم الأحب إليه والذين تشغله همومهم وتؤلمه أحزانهم ، فقد كان قلبه يتسع لهم ويحنو عليهم ، بالمساعدة والكلمة والا بتسامة .
كان كبيراً في مواقفه واسع الصدر صادق اللهجة لم يخاصم عدواً وإن خوصم ، ولم يرد بإساءة ولو أسيء إليه ، ويلتمس العذر لكل من خاصمه ، ويمد يده لكل من عاداه ويحسن لكل الناس ولو لم يعرفهم ، ولم يشعر أحداً بأنه الأفضل والأتقى والأورع والأعبد ، ويحذر من خطورة التعالي على مرتكبي الخطايا الغارقين في مستنقعات الانحراف ، ويدعو لهم ويطلب الأخذ بيدهم ومساعدتهم على التخلص مما هم فيه بالتشجيع والأمل والنصيحة الصادقة المخلصة التي لا غرور فيها ولا استعلاء .
كانت همته عالية في مرحلتي المجاهدة والإرشاد كما كانت همته عالية في مرحلتي الطفولة والشيخوخة ، ويحض على أن تكون الهمة عالية بالنسبة لكل إخوانه ، لأن علو العمة من الإيمان ، ولا يبلغ القمة المرجوة إلا من كان عالي الهمة ويعجبه أصحاب الهمم العالية ، ولو انصرفت همتهم إلى الأمور الدنيوية ، فصاحب الهمة العالية يريد أن يكون الأفضل بين زملائه في طفولته وبين رفاقه في المدرسة وفي دراسته وتجارته وعمله ، وكان يضيق بضعاف الهمة.
ولا حدود للآثار الإيجابية لعلو الهمة في تكوين الإنسان ، فهي مفتاح الشخصية القوية المؤثرة المتطلعة إلى الأفضل ، وعلو الهمة يتمثل في التطلع إلى الكمال في كل شيء ، ولا يرضى ما دون الكمال ويؤلمه أن تنسب إليه صفات تتنافى مع علو الهمة .
وأصحاب الهمم العالية لا يحنون رؤوسهم طمعاً في المكاسب الدنيوية ولا يتملقون الأقوياء لكسب مادي أو معنوي ، وهم سادة حيثما كانوا ، في بيوتهم منعزلين أو في مجتمعاتهم ومناصبهم مقيمين ، والعلماء هم رموز الهمة العالية ، لأنه حملة رسالة فإن انحدرت همتهم كانوا عبيداً لمطامعهم ، يستذلهم الكبار ويحتقرهم الصغار ، وليس بهذا ينهض العلم ، وليس بهذا ترتفع مكانة العلماء في المجتمع .
كان الشيخ يحض طلاب العلم من إخوانه على أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية لكي يكونوا سادة في مجتمعهم ، كما كان ينصح التجار أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية ، فلا تذلهم أموالهم طمعاً في الاستزادة منها ، وكان يعجبه في الأطفال أصحاب الهمم العالية الذين يرفعون رؤوسهم فلا يخافون ويتطلعون إلى الأفضل في حياتهم .
ليس غريباً على متعلِّق بشخصية الحبيب السيِّد الــــنَّبهان رضي الله عنه أن تنجذب إليه روحه، وتضطرم به أحاسيسه ومواجيده، وتتطلع إلى المزيد والجديد لما تخفيه تلك الشخصية وراءها من مُثل عليا وكمالات لم تنشر بعد، وان المرحلة الأولى قد أبانت بالعبارة والإشارة، مواهب ومعالم تلك المنارة، وأباحت النظر إلى ما أخفته الستارة، وأظهرت به تاريخاً ومنهجاً وحضارة، إذ أنَّ سيرته رضي الله عنه الفذَّة المجيدة بسلوكه وفتوحاته وطريقته الرشيدة، مطرزة بأخلاقه وأحواله وأعماله ومواقفه الحميدة متوّجة بأذواقه وتحقيقاته الفريدة، هي بحق مستحقة للسيادة والصدارة، بل هي اكبر من مشيخة أو جامعة أو إمارة وأشمل لكل ما آنطوت عليه المحسنات البديعية من كناية أو استعارة، فجراً لاشراقات البداية، وبدراً لاضاءات الولاية، وكهفاً لأهل المحبة والعناية، ومرآةً للعارفين ذوي الدراية، ليس لنضارته وسراية علمه نهاية، في دعوة محمدية ديدنها العبدية لله تعالى واتباع خير البرية، وخدمة الإنسانية.
لقد أزاح رضي الله عنه البون الشاسع بين داعية الحق الذي هو مبناه ومعناه ومحتواه [والمدّعي الذي يتسكع في الوديان ثمَّ يتطاول في البنيان، الذي لم يصل إليه بخلق نبيل ولا بوصف أصيل، وإنما بسبب انتمائه إلى رمز ليس له في ضمير الأمة أو صلبها نسبٌ أو كيان، يستهوي الجهلة والمساكين والتائهين بعناوين مفتريات ونياشين مختلفات ليغرر بهم أو يترأس عليهم، يقذف بالحمم من بركان أو سفح جبل بحجارة الوهم والاستعلاء ويرمي بسهام الإغراء والإقصاء كل من خالف ذلك الرمز والعنوان الذي اعتقد به أنه وحده وحي من السماء ليقطع بدعاويه الطريق ويضع الفواصل الكثيرة في جملة التحقيق].
وسيّدنا محمّد النبهان رضي الله عنه لم يكن من هؤلاء، بل هو عَالم أو أُمّة وحده أخذ بجميع الأسباب حتى تجاوز السحاب واخترق الحجاب، ونال ما نال باتباعه لسيدِّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه منه يقظة ما أوصله إلى العجب العجاب وإن كل ما كتبنا وما نكتب لم يبلغ رشفة من ينابيع بحوره، أو رشحة من بصيرته ونوره، فترك الناس به حيرى وأورث محبيه والمتأثرين به خيرا، حبلُهم به واحدٌ وجمعهم له شاهدٌ، يفسر سبب كونهم حالةً لا تتجزأ في فكرهم وطريقتهم ومحبتهم لبعضهم مع تعلق المحبين لأهل الله تعالى به وبهم.
أولاً : التفتح في الأفكار :
التفتح صفة تجسد القدرة على التواصل مع الآخر الذي يخالفك في الرأي ، والتواصل دليل على احترام الآخر ، ولولا ذلك الاحترام للآخر لما تحقق التواصل .
قد يظن بعضهم أن التفتح على الآخرين دليل على عدم التزام الإنسان بفكره الذاتي الذي يؤمن به ، وهذا خطأ كبير ، فالتفتح ليس نقيض الالتزام ، وإنما هو نقيض التزمت والجهل ، فالتزمت هو رفض للآخر وعدم القدرة على التواصل معه وهو دليل على ضيق الأفق ، فالمتزمت يرفض الآخر لأنه يخالفه في الرأي ولا يمكن أن يوصف التزمت بالفضيلة والتزمت لا يعني الورع والالتزام وإنما يعني ضيق الأفق .
ولا يمكن أن يوصف التفتح على الآخر بالضعف وقلة الالتزام ، فلا علاقة بين الالتزام والتزمت ، فالمتزمت رجل تنقصه المرونة في المواقف ، فلا يحتمل الآخر وبالتالي فإنه قد يرفض الحق إذا ظهر له على يد الآخر .
كان الشيخ معروفاً بقدرته على التواصل مع الآخرين ، على مستوى الصلات الشخصية أو على مستوى المواقف ، فلا يضيق بالآخر إلا إذا ظهر منه ما يدل على قلة الأدب في لهجته أو في عبارته أو في مجلسه ، فلم يكن يحتمل قلة الأدب ، لأن ذلك لا يليق بالإنسان ويعتبر قلة الأدب من ضعف التهذيب وقلة العقل وسيطرة الجهل .
ولم يكن الشيخ يوجه النصح للآخرين بطريقة مباشرة ، احتراماً لخصوصيات الآخرين فيما اختاروه لأنفسهم .
فإذا حضر مجلس من كان غير ملتزم بأداء الواجبات الدينية أو كان معروفاً بالفسق تجاهل ذلك ، ووجه كلامه إليه بكل عناية وأدب ، وشرح له حقائق الدين وما يدعو إليه من التحقق بصفات الكمال والابتعاد عن كل الأوصاف المذمومة ، ولم يشعر ذلك الرجل بالتقصير والذنب ، لأن مهمة المرشد هي أن يرتفع به من حيث هو إلى ما يجب أن يكون عليه من استقامة وهداية ، ولو أشعره بالذنب والتقصير لتوقف التواصل وأخفقت مهمة المرشد في الأخذ بيد المقصرين .
ثانياً : الترفع عن الصغائر :
اشتهر الشيخ رحمه الله بترفعه عن صغائر الأمور ، فلا يلتفت إلى ما لا يليق من المواقف ، ولا يرضى لنفسه أن تصدر منه كلمة نابية بحق ولو كان عدواً له ، ولا ينتقم ولا يحقد لأنه يرى ذلك لا يليق بالرجال .
كان يقول في مجالسه بأن الانسان عليه ألا يرضى أن تصدر عنه الأفعال المذمومة ، لا لأنها تدخل ضمن الحرام ولكن لأن الإنسان يجب ألا تصدر عنه الأفعال الناقصة والمذمومة ، ومن أحب الكمال تعلق به ولا يرضى ما دونه من أنواع السلوك .
لم ينتقم الشيخ قط ممن أساء إليه وكان يحسن لمن أساء إليه ، ويكرر الإحسان ، ويقابل الإساءة بالإحسان إلى أن يغلب إحسانه على الاساءة ، فينقلب العدو صديقاً ويصبح البعيد قريباً ، ولم يكن في ذلك الخلق متكلفاً بل كان يصدر هذا الخلق عنه بعفة راسخة ودائمة وتلقائية ومن غير بذل جهد وتكلف ، ويقول بأن النفس يجب أن يصدر عليها ما يليق بها من فعل الكمال ، فإذا قابل الإنسان الاساءة بمثلها انتفى التميز ، ولا فضل لأحد على آخر لأن كلاً منهما صدر عنه من الأفعال ما ينافى الكمال فلا يحق للسيء أن يدعي الكمال وقد رضي أن يصدر عنه الفعل الناقص
وقد كان من عادة الشيخ أنه لا يتلفت لما يقال عنه من مدح أو ذم ، ويعلل ذلك بأنه أعرف الناس بذاته ، فالمادح يقول ما يرى من الأفعال المحمودة ، والذام يذم ما يعتقده نقصاً وهو معذور في ذمه ، ولو عرف الحقيقة وكان منصفاً لتغير رأيه ، فالمادح معذور والذام معذور ، وكل منهما يصف ما يرى ، وعليهما أن يبحثا عن الحق ، والجاهل يفرح بالمدح ولو كان المادح كاذباً ، وكأنه يكذب على نفسه بصفة ليست فيه .
كان يلتمس العذر لخصومه وأعدائه ، لأنهم يذمّون ما يعتقدون أنه خطأ ، ولو عرفوا الحقيقة لما كانوا ذامّين ، ويمكن التغلب على الخصومات الناتجة عن الجهل بمعرفة الحقيقة ولكن لا يمكن التغلب على الخصومات الناتجة عن الحسد والحقد ، فهذه أمراض نفسية تجعل صاحبها أسير غشاوة مظلمة تمنعه من رؤية الألوان على حقيقتها ، ولابد من إزالة هذه الغشاوة بتزكية النفس وطهارة القلب ، لكي يبتعد الإنسان عن الصفات المذمومة التي تبعده عن الحق والنور والهداية .
ثالثاً : علو همته :
كان الشيخ عالي الهمة في اهتماماته وفي سلوكه وفي انشغالاته ، كان يشغل نفسه بهموم الآخرين من الضعفاء والمرضى والمسنين ، ولكنه لم يشغل نفسه بقضاياهم الما دية ولا باهتماماتهم الدنيوية ، فذلك أمر خاص بهم ، ولا يليق الانشغال بالدنيا في مجالس المذاكرة والتربية ، فهذه مجالس غايتها التعليق في فضاءات روحية سامية ، لكي تتحرر النفوس من تعلقاتها الدنيوية التي تكدر صفاء القلوب بمرغوبات مادية .
كانت يده هي العليا التي تعطي ولاتأخذ ، فكان الأكثر سخاء وعطاء ، ولاحدود لسخائه ، لاعلى نفسه ولكن على الآخرين المحتاجين ، فلم يكن يضيق بحاجاتهم أبداً ولو استدان من غيره ، ويكتفي لنفسه بالقليل الذي تدعو إليه الحاجة .
وقد أرهق نفسه بهذه الصفة ، وتحمل الأعباء الثقيلة ، ولم ينسب لنفسه شيئأ مما كان يفعل ، ويعتقد أن الله تعالى أكرمه لكي يكون أداة للعطاء ، وما هي إلا أموالهم ردت إليهم .
كل ذلك كان يفعله بغير تكلف ولا منة ولا يهمه إن علم الخلق بذلك أم لم يعلموا ، إذ كان عمله لله تعالى خالصاً لا رياء فيه ، ولا استجلاباً لمحبة الاخرين وانما هي صفات راسخة في النفس تصدر عنها أفعال الفضائل من غير تكلف ولا روية .
وأكثر ما كان يؤلمه أن يجد فقيراً محتاجاً ولا يستطيع إعطاءه أو مريضاً متألماً ولا يستطيع إسعافه أو طفلاً باكياً ولا يستطيع إيقاف دموعه ، كان هؤلاء هم الأحب إليه والذين تشغله همومهم وتؤلمه أحزانهم ، فقد كان قلبه يتسع لهم ويحنو عليهم ، بالمساعدة والكلمة والا بتسامة .
كان كبيراً في مواقفه واسع الصدر صادق اللهجة لم يخاصم عدواً وإن خوصم ، ولم يرد بإساءة ولو أسيء إليه ، ويلتمس العذر لكل من خاصمه ، ويمد يده لكل من عاداه ويحسن لكل الناس ولو لم يعرفهم ، ولم يشعر أحداً بأنه الأفضل والأتقى والأورع والأعبد ، ويحذر من خطورة التعالي على مرتكبي الخطايا الغارقين في مستنقعات الانحراف ، ويدعو لهم ويطلب الأخذ بيدهم ومساعدتهم على التخلص مما هم فيه بالتشجيع والأمل والنصيحة الصادقة المخلصة التي لا غرور فيها ولا استعلاء .
كانت همته عالية في مرحلتي المجاهدة والإرشاد كما كانت همته عالية في مرحلتي الطفولة والشيخوخة ، ويحض على أن تكون الهمة عالية بالنسبة لكل إخوانه ، لأن علو العمة من الإيمان ، ولا يبلغ القمة المرجوة إلا من كان عالي الهمة ويعجبه أصحاب الهمم العالية ، ولو انصرفت همتهم إلى الأمور الدنيوية ، فصاحب الهمة العالية يريد أن يكون الأفضل بين زملائه في طفولته وبين رفاقه في المدرسة وفي دراسته وتجارته وعمله ، وكان يضيق بضعاف الهمة.
ولا حدود للآثار الإيجابية لعلو الهمة في تكوين الإنسان ، فهي مفتاح الشخصية القوية المؤثرة المتطلعة إلى الأفضل ، وعلو الهمة يتمثل في التطلع إلى الكمال في كل شيء ، ولا يرضى ما دون الكمال ويؤلمه أن تنسب إليه صفات تتنافى مع علو الهمة .
وأصحاب الهمم العالية لا يحنون رؤوسهم طمعاً في المكاسب الدنيوية ولا يتملقون الأقوياء لكسب مادي أو معنوي ، وهم سادة حيثما كانوا ، في بيوتهم منعزلين أو في مجتمعاتهم ومناصبهم مقيمين ، والعلماء هم رموز الهمة العالية ، لأنه حملة رسالة فإن انحدرت همتهم كانوا عبيداً لمطامعهم ، يستذلهم الكبار ويحتقرهم الصغار ، وليس بهذا ينهض العلم ، وليس بهذا ترتفع مكانة العلماء في المجتمع .
كان الشيخ يحض طلاب العلم من إخوانه على أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية لكي يكونوا سادة في مجتمعهم ، كما كان ينصح التجار أن يكونوا من أصحاب الهمم العالية ، فلا تذلهم أموالهم طمعاً في الاستزادة منها ، وكان يعجبه في الأطفال أصحاب الهمم العالية الذين يرفعون رؤوسهم فلا يخافون ويتطلعون إلى الأفضل في حياتهم .
ليس غريباً على متعلِّق بشخصية الحبيب السيِّد الــــنَّبهان رضي الله عنه أن تنجذب إليه روحه، وتضطرم به أحاسيسه ومواجيده، وتتطلع إلى المزيد والجديد لما تخفيه تلك الشخصية وراءها من مُثل عليا وكمالات لم تنشر بعد، وان المرحلة الأولى قد أبانت بالعبارة والإشارة، مواهب ومعالم تلك المنارة، وأباحت النظر إلى ما أخفته الستارة، وأظهرت به تاريخاً ومنهجاً وحضارة، إذ أنَّ سيرته رضي الله عنه الفذَّة المجيدة بسلوكه وفتوحاته وطريقته الرشيدة، مطرزة بأخلاقه وأحواله وأعماله ومواقفه الحميدة متوّجة بأذواقه وتحقيقاته الفريدة، هي بحق مستحقة للسيادة والصدارة، بل هي اكبر من مشيخة أو جامعة أو إمارة وأشمل لكل ما آنطوت عليه المحسنات البديعية من كناية أو استعارة، فجراً لاشراقات البداية، وبدراً لاضاءات الولاية، وكهفاً لأهل المحبة والعناية، ومرآةً للعارفين ذوي الدراية، ليس لنضارته وسراية علمه نهاية، في دعوة محمدية ديدنها العبدية لله تعالى واتباع خير البرية، وخدمة الإنسانية.
لقد أزاح رضي الله عنه البون الشاسع بين داعية الحق الذي هو مبناه ومعناه ومحتواه [والمدّعي الذي يتسكع في الوديان ثمَّ يتطاول في البنيان، الذي لم يصل إليه بخلق نبيل ولا بوصف أصيل، وإنما بسبب انتمائه إلى رمز ليس له في ضمير الأمة أو صلبها نسبٌ أو كيان، يستهوي الجهلة والمساكين والتائهين بعناوين مفتريات ونياشين مختلفات ليغرر بهم أو يترأس عليهم، يقذف بالحمم من بركان أو سفح جبل بحجارة الوهم والاستعلاء ويرمي بسهام الإغراء والإقصاء كل من خالف ذلك الرمز والعنوان الذي اعتقد به أنه وحده وحي من السماء ليقطع بدعاويه الطريق ويضع الفواصل الكثيرة في جملة التحقيق].
وسيّدنا محمّد النبهان رضي الله عنه لم يكن من هؤلاء، بل هو عَالم أو أُمّة وحده أخذ بجميع الأسباب حتى تجاوز السحاب واخترق الحجاب، ونال ما نال باتباعه لسيدِّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه منه يقظة ما أوصله إلى العجب العجاب وإن كل ما كتبنا وما نكتب لم يبلغ رشفة من ينابيع بحوره، أو رشحة من بصيرته ونوره، فترك الناس به حيرى وأورث محبيه والمتأثرين به خيرا، حبلُهم به واحدٌ وجمعهم له شاهدٌ، يفسر سبب كونهم حالةً لا تتجزأ في فكرهم وطريقتهم ومحبتهم لبعضهم مع تعلق المحبين لأهل الله تعالى به وبهم.
أمس في 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
أمس في 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
أمس في 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
أمس في 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
أمس في 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
أمس في 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin