كتاب التجليات الإلهية الشيخ الأكبر والنور الأبهر سيدى الإمام محيي الدين ابن العربي الحاتمي الطائي الأندلسي
83 - شرح تجلي نعت الولي
83 - متن تجلي نعت الولي
حبيبي ! ولي الله .
مثل الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلّت . وأذنت لربها وحُقت .
انشقت سماء العارفين . فذهب أمرها . فبقوا بلا أمر . فعاشوا عيش الأبد . لم تتعلق به همم الأكوان فتشوش عليهم حالهم .
نُسُوا في جنب الله فلا يُعرفون .
طوبى لهم وحسن مآب . وما أحسنه من مآب .
لم يعرف لم غنى . فيقال لهم : اعطونا ؟؟.
ولا يعلم لهم جاهٌ ، فيقال لهم : ادعوا لنا؟؟ .
أخفاهم الحق في خلقه بأن أقامهم في صورة الوقت .
فاندرجوا حتى دَرَجوا سالمين .
ما رُزئوا ( ما أُصيبوا ) في أوقاتهم .
هم المجهولون في الدنيا والآخرة .
هم المسودة وجوههم عند العالمين لشدة القرب واسقاط التكلف .
لا في الدنيا يحكمون ولا في الآخرة يشفعون .
صمٌ بكمٌ عميٌ ! فهم لا يعقلون .
صمٌ بكمٌ عميٌ ! فهم لا يرجعون .
83 - إملاء ابن سودكين :
« ومن تجلي نعت المولى؛ وهذا نصه : «حبيبي ولي الله ... فهم لا يرجعون » قال جامعه : سمعت شيخي وإمامي ، مظهر الكمال ومحل الجمال والجلال لاستوائه على خط الاعتدال ، ولذلك لم يلقه في محجته إلا القليل من السایرین لانحراف الأكثر من التايهين ، كما لقيه بمكة بعض الصدور من علماء الرسوم ، فقال له : يا شيخ احمل الناس على الجادة ،
فقال له رضي الله عنه : يا هذا كن عليها لنعلم هل حملت الناس عليها أم لا ؟
فمن علا علا ، ومن أشرف عز أن يشرف عليه أو يوصل إليه ؛ وأكثر الناس إنما يطلبون من العارف علامات وهيئات تقرر في مبلغ علمهم أنها شرط في صحة الولاية فأين هم من قوله تعالى : "وفوق كل ذي علم عليم " [يوسف:79] .
وإنما تظهر الأوصاف التي يشتهر الموصوف بها عند غيره على الضعفاء الذين غلبتهم أحوالهم، فظهر عليهم منها ما وسمهم عند الناظرين .
وأما من علت أحواله وتمكن مقامه ورسخت قدمه ، فإنه إنما يظهر عليه ما يقتضيه حكم الموطن ، فيما الناس عليه من المباحات فلا تظهر عليهم زيادة ولا شهرة تمتد بسببها الأصابع إليهم أو ترمقهم الأعين.
تلك أصباغ وحلى وقشور غير ذاتية للمتوسم بها. وأما المعتمد على الحقائق والمتحلى بمكارم الأخلاق إذ الأخلاق حلل القلوب التي نسجها الوهاب في الغيوب حققنا الله بلباس التقوى الذي هو خير لباس ، وجعلنا ممن أسس بنيانه على خير أساس ، بمنه وفضله .
ولقد قال لي إمامي وقدوتي إلى الله تعالی ذات يوم: يا ولدي رأيت البارحة كأني أعطيك هذه العمامة التي على رأسي ، أصبحت على أني أعطيكها ثم أحببت أن يكون تأويل ذلك ما يقتضيه باطن الرؤيا وحقيقتها، فتركت إيصالها لك ظاهرا، یا ولدي ، لهذا السر.
فانظر رحمك الله تعالى إلى هذه التربية وإلى هذا المنع الذي هو عطاء .
فانظر إلى مقاصد الأكابر في اللباس ، كيف يطلبون اللباس الذاتي الذي يكون حلية النفس دائما أبدا .
فارق من هذا المثل الذي ضربه لك الحق بسلوك شيخي معي إلى ما فعله سبحانه بعباده الذين حماهم عن الدنيا ليحققهم بروح النعم الحقية الخالصة من المزج الطيبة في أصل نشأتها المعدة للطيبين.
لا جرم أنه اقتضت الحقائق أن تؤجل روح النعم إلى النشأة الأخيرة التي يقال فيها: طبتم فادخلوها خالدين . وعند ذلك تكون الطيبات للطيبين . جعلنا الله من الطيبين الطاهرين المقتدين بنوره المبين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرة.
وصل : سمعته رضي الله عنه ، يقول في أثناء شرحه لهذا التجلي ما هذا معناه : قال : هذا التجلي هو اختبار خاصة الله تعالى ، فلو ترك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بغیر تکلیف الرسالة لاختاروا أن يكونوا هكذا .
فولي الله مثل الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت . أي بقي مع الله منفردة، وقد سلم إليه جميع الأشياء.
ومتی مدت الأرض ألقت ما فيها بالضرورة، لكونها تبقی سطحا واحدة وإنما تمسك الأرض الأشياء إذا كانت متراكمة .
قوله : «وانشقت سماء العارفين»، أي عقولهم وقلوبهم، أي ذهب أمرهم، لأن الله تعالى أوحى في كل سماء أمرها. فما دام العبد في سمائه فهو ينظر بعقله .
فإذا انشقت سماؤه ذهب ذلك الأمر المخصوص الذي له من كونه سماء لا من كونه شيئا آخر.
فإذا صار العارفون كذلك عاشوا عيش الأبد، لأنه لم يبق عندهم أمانة ليتحملوا أثقالها ويتكلفوا توصيلها .
بل بقوا مع الله بالله لله ، قد سلبوا عن أمور التكليف التي حد طورها العقل .
فهم في صورة الوقت ، ظاهرهم ظاهر الناس لكيلا يمتازوا عليهم بأمر تمتد به الأعين إليهم فلا يعرفون أبدا.
عاشوا مع الله ونسيهم الخلق في جنب الله ، فلا يعرفوهم في مقامهم، جميع العالمين لا الناس ولا الملائكة .
إذ الملايكة إنما تطلع على ظاهر العبد وما يبرزه من سره إلى جهره ، سواء أكان ذلك الأمر ظاهرة أو باطنا فحينئذ يكشفه الملايكة .
وهؤلاء أسرارهم مصونة وخلاتهم فيما استودعته مأمونة .
فهم رجال الصون، وهم وراء طور العقل. كتبنا الله تعالی بمنه منهم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم».
83 - شرح تجلي نعت الولي
428 - قد ينزل الولي ، بما فيه من الجمعية المستوعبة عموم أحكام الجمع والوجود ، منزلة كل شيء : فيعطي حكمه ، ويوصف بصفته ، وينعت بنعته .
كما قال قدس سره : (حبيبي ولي الله) المتحقق بوسطية كمالية ، إليها حكم الوجود على السواء (مثل في الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت) [الانشقاق:3-4] إذ الأرض من حيث إنها منتهی تنزل الوجود، هي محط الأمانة الإلهية وهي عين أحدية الجمع الظاهرة في مسافة تنزلها، استجلاء وفي الحقيقة الأرضية جمعة، وفي الإنسان الذي هو من بني ثراها ، بحكم كمال محاذاته إياها، جلاء، و«مدها»: استواؤها عن التشعيرات الجبالية ونتوءات الفجاج العميقة والأودية عند انقلاب باطنها ظاهرة وعند إخراجها أثقال الأمانة وردها إلى مالكها .
فإن الجبال من الأرض مظاهر تجلیات ظاهر الوجود ومخبأ أماناته .
وهو قاضي بترفع مظاهرها واعتلائها . والفجاج العميقة والأودية منها : مظاهر تجليات باطن الوجود ومخبأ ودائعه .
وهو قاض بتغيب مظاهرها وخفائها ، فإذا مدت الأرض وألقت ما فيها وتخلت ، ظهرت صورة وحدانية لا عوج فيها ولا أمتا .
429 - فالولي المشبه بها أيضا : حالة إخراج أثقال الأمانة من بطائن حقيقته وردها من طريق : «کنت له سمع وبصرا ويدا» إلى شمس الحقيقة الطالعة من مغرب صورة عليها تدور أفلاك الجمع والتفصيل .
إنما يظهر بسر وحداني تتشمر إليه رقائق القوى المدركة الباطنة والظاهرة ، تشمر الظلال إلى النور حالة استوائه ، فيعطي حكم الجمع والوجود في مقامه المطلق. ويقوم بداية مقام كل شيء ، ومع ذلك يظهر للحق بالذلة الظاهرة ، عبودة كالأرض الذلول المقول عليها : "فأمشوا في مناكبها " [الملك:10] .
ولذلك قال : "وأذنت لربها وحقت" [الانشقاق:5] ، أي انقادت بكمال الطواعية في إلقاء ما فيها إلى ربها . و«حقت» أي صارت حقيقة بالانقياد والطاعة .
هذا حال الولي حيث نزل منزلة الأرض ، وحيث نزل منزلة السماء .
يقال :
430 - (انشقت سماء العارفين) أي : عقولهم وقلوبهم الحاملة ثقل الأمانة ، انشقاق السماء ( فذهب أمرها) بغشيان البارقات الذاتية . وأمر كل سماء، ما أوحي إليه من أسرار الجمع والوجود وكلف بحمله وذهابه عند انشقاقها ، انطواؤه في الحق الظاهر عليها بالتجلي الصادع .
فكان العارف قبل انشقاق سماء عقله ناظرة إليها ، مكلفة بحمل أثقال ما أوحي إليها، وبعد انشقاقها باقية بلا أمر مع الله بالله لله ؛ مسلوبة عما كلف بحمله في طور العقل. ولذلك قال : (فبقوا بلا أمر فعاشوا عيش الأبد) فإنهم إذ ذاك . على ما يعطيه إياهم شأن الحق الظاهر بالتجلي عليهم.
431 - فهم مع الله على حال ( لم تتعلق بمم همم الأكوان فتشوش عليهم حالهم ) فإن هممهم إنما تتعلق بما حملت عقولهم من أثقال الأمانة . وقد ذهب ذلك عن العارفين بالانشقاق وذهاب الأمر. فليس بهم ما يدخل تحت تكييف همم الأكوان وتعيينها، وحيث خفيت المناسبة بينهم وبين الأكوان (نسوا في جنب الله فلا يعرفون) بما لهم من المكانة الزلفي .
وذلك لظهورهم في كل حال بالأحوال المختلفة . فالمقول بلسان مقامه في كل حالة راهنة : أنا أبو قلمون في كل لون أكون . فهم مع الحق .
والحق في كل يوم هو في شأن . وأصغرهذه الأيام الزمن الفرد . (طوبى لهم وحسن مآب). فمابهم في كل آن ، الحق في كل شأن . (ما أحسنه من مآب).
432 - ومن هذا المهيع قوله : ( لم يعرف لهم غني ، فيقال لهم : أعطونا . ولا يعلم لهم جاه ، فيقال لهم ادعوا لنا. أخفاهم الحق في خلقه بأن أقامهم في صورة الوقت) الحاكم على الخلق حتى تلبسوا على حكمه بلبوس العادات : فكانوا كأحد من الناس .
(فاندرجوا) فيهم (حتی در جوا سالمين) عما يعطيهم النباهة والتعلية على أمثالهم. (ما رزئوا في أوقاتهم ) الرزء بضم الراء وسكون الزاي : المصيبة .
فإنهم أحيوها «الأوقات» في صحبة الحق ولم يميتوها في شغلها بصحبة السوی.
433 - (هم المجهولون في الدنيا والآخرة) إذ لا تظهر النفوس في الآخرة إلا بما تحققوا به من الأخلاق والأوصاف في الدنيا .
وكان تحققهم فيها بالتستر والخفاء. وهم (المسودة وجوههم عند العالمين لشدة القرب وإسقاط التكليف). إذ وجوه قابلياتهم المستفيدة ، بحكم كمال المحاذاة. الأنوار الإلهية المبيضة إياها حالة القرب المفرط كحکم القمر المستفيد نور الشمس ليلة السرار. فهم في هذا القرب دائمون. عاجلا وآجلا . فقربهم المفرط يعطي سواد الوجه في الدارين .
وهم المقول بلسان مقامهم حالتئذ:
تسترت عن دهري بظل جناحه …. فعيني تری دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام اسمي ما درت …. وأين مكاني ما درین مکاني
وهم أيضا في سقوط تكلفهم مبتذلون بين أرباب العادات ، لا يعبأ بهم بينهم . ومن هذا المهيع : (لا في الدنيا يحكمون ، ولا في الآخرة يشفعون) سلبهم غشيان الحق عن شعورهم، فيقال فيهم: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون).
83 - شرح تجلي نعت الولي
83 - متن تجلي نعت الولي
حبيبي ! ولي الله .
مثل الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلّت . وأذنت لربها وحُقت .
انشقت سماء العارفين . فذهب أمرها . فبقوا بلا أمر . فعاشوا عيش الأبد . لم تتعلق به همم الأكوان فتشوش عليهم حالهم .
نُسُوا في جنب الله فلا يُعرفون .
طوبى لهم وحسن مآب . وما أحسنه من مآب .
لم يعرف لم غنى . فيقال لهم : اعطونا ؟؟.
ولا يعلم لهم جاهٌ ، فيقال لهم : ادعوا لنا؟؟ .
أخفاهم الحق في خلقه بأن أقامهم في صورة الوقت .
فاندرجوا حتى دَرَجوا سالمين .
ما رُزئوا ( ما أُصيبوا ) في أوقاتهم .
هم المجهولون في الدنيا والآخرة .
هم المسودة وجوههم عند العالمين لشدة القرب واسقاط التكلف .
لا في الدنيا يحكمون ولا في الآخرة يشفعون .
صمٌ بكمٌ عميٌ ! فهم لا يعقلون .
صمٌ بكمٌ عميٌ ! فهم لا يرجعون .
83 - إملاء ابن سودكين :
« ومن تجلي نعت المولى؛ وهذا نصه : «حبيبي ولي الله ... فهم لا يرجعون » قال جامعه : سمعت شيخي وإمامي ، مظهر الكمال ومحل الجمال والجلال لاستوائه على خط الاعتدال ، ولذلك لم يلقه في محجته إلا القليل من السایرین لانحراف الأكثر من التايهين ، كما لقيه بمكة بعض الصدور من علماء الرسوم ، فقال له : يا شيخ احمل الناس على الجادة ،
فقال له رضي الله عنه : يا هذا كن عليها لنعلم هل حملت الناس عليها أم لا ؟
فمن علا علا ، ومن أشرف عز أن يشرف عليه أو يوصل إليه ؛ وأكثر الناس إنما يطلبون من العارف علامات وهيئات تقرر في مبلغ علمهم أنها شرط في صحة الولاية فأين هم من قوله تعالى : "وفوق كل ذي علم عليم " [يوسف:79] .
وإنما تظهر الأوصاف التي يشتهر الموصوف بها عند غيره على الضعفاء الذين غلبتهم أحوالهم، فظهر عليهم منها ما وسمهم عند الناظرين .
وأما من علت أحواله وتمكن مقامه ورسخت قدمه ، فإنه إنما يظهر عليه ما يقتضيه حكم الموطن ، فيما الناس عليه من المباحات فلا تظهر عليهم زيادة ولا شهرة تمتد بسببها الأصابع إليهم أو ترمقهم الأعين.
تلك أصباغ وحلى وقشور غير ذاتية للمتوسم بها. وأما المعتمد على الحقائق والمتحلى بمكارم الأخلاق إذ الأخلاق حلل القلوب التي نسجها الوهاب في الغيوب حققنا الله بلباس التقوى الذي هو خير لباس ، وجعلنا ممن أسس بنيانه على خير أساس ، بمنه وفضله .
ولقد قال لي إمامي وقدوتي إلى الله تعالی ذات يوم: يا ولدي رأيت البارحة كأني أعطيك هذه العمامة التي على رأسي ، أصبحت على أني أعطيكها ثم أحببت أن يكون تأويل ذلك ما يقتضيه باطن الرؤيا وحقيقتها، فتركت إيصالها لك ظاهرا، یا ولدي ، لهذا السر.
فانظر رحمك الله تعالى إلى هذه التربية وإلى هذا المنع الذي هو عطاء .
فانظر إلى مقاصد الأكابر في اللباس ، كيف يطلبون اللباس الذاتي الذي يكون حلية النفس دائما أبدا .
فارق من هذا المثل الذي ضربه لك الحق بسلوك شيخي معي إلى ما فعله سبحانه بعباده الذين حماهم عن الدنيا ليحققهم بروح النعم الحقية الخالصة من المزج الطيبة في أصل نشأتها المعدة للطيبين.
لا جرم أنه اقتضت الحقائق أن تؤجل روح النعم إلى النشأة الأخيرة التي يقال فيها: طبتم فادخلوها خالدين . وعند ذلك تكون الطيبات للطيبين . جعلنا الله من الطيبين الطاهرين المقتدين بنوره المبين . وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرة.
وصل : سمعته رضي الله عنه ، يقول في أثناء شرحه لهذا التجلي ما هذا معناه : قال : هذا التجلي هو اختبار خاصة الله تعالى ، فلو ترك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بغیر تکلیف الرسالة لاختاروا أن يكونوا هكذا .
فولي الله مثل الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت . أي بقي مع الله منفردة، وقد سلم إليه جميع الأشياء.
ومتی مدت الأرض ألقت ما فيها بالضرورة، لكونها تبقی سطحا واحدة وإنما تمسك الأرض الأشياء إذا كانت متراكمة .
قوله : «وانشقت سماء العارفين»، أي عقولهم وقلوبهم، أي ذهب أمرهم، لأن الله تعالى أوحى في كل سماء أمرها. فما دام العبد في سمائه فهو ينظر بعقله .
فإذا انشقت سماؤه ذهب ذلك الأمر المخصوص الذي له من كونه سماء لا من كونه شيئا آخر.
فإذا صار العارفون كذلك عاشوا عيش الأبد، لأنه لم يبق عندهم أمانة ليتحملوا أثقالها ويتكلفوا توصيلها .
بل بقوا مع الله بالله لله ، قد سلبوا عن أمور التكليف التي حد طورها العقل .
فهم في صورة الوقت ، ظاهرهم ظاهر الناس لكيلا يمتازوا عليهم بأمر تمتد به الأعين إليهم فلا يعرفون أبدا.
عاشوا مع الله ونسيهم الخلق في جنب الله ، فلا يعرفوهم في مقامهم، جميع العالمين لا الناس ولا الملائكة .
إذ الملايكة إنما تطلع على ظاهر العبد وما يبرزه من سره إلى جهره ، سواء أكان ذلك الأمر ظاهرة أو باطنا فحينئذ يكشفه الملايكة .
وهؤلاء أسرارهم مصونة وخلاتهم فيما استودعته مأمونة .
فهم رجال الصون، وهم وراء طور العقل. كتبنا الله تعالی بمنه منهم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم».
83 - شرح تجلي نعت الولي
428 - قد ينزل الولي ، بما فيه من الجمعية المستوعبة عموم أحكام الجمع والوجود ، منزلة كل شيء : فيعطي حكمه ، ويوصف بصفته ، وينعت بنعته .
كما قال قدس سره : (حبيبي ولي الله) المتحقق بوسطية كمالية ، إليها حكم الوجود على السواء (مثل في الأرض مدت وألقت ما فيها وتخلت) [الانشقاق:3-4] إذ الأرض من حيث إنها منتهی تنزل الوجود، هي محط الأمانة الإلهية وهي عين أحدية الجمع الظاهرة في مسافة تنزلها، استجلاء وفي الحقيقة الأرضية جمعة، وفي الإنسان الذي هو من بني ثراها ، بحكم كمال محاذاته إياها، جلاء، و«مدها»: استواؤها عن التشعيرات الجبالية ونتوءات الفجاج العميقة والأودية عند انقلاب باطنها ظاهرة وعند إخراجها أثقال الأمانة وردها إلى مالكها .
فإن الجبال من الأرض مظاهر تجلیات ظاهر الوجود ومخبأ أماناته .
وهو قاضي بترفع مظاهرها واعتلائها . والفجاج العميقة والأودية منها : مظاهر تجليات باطن الوجود ومخبأ ودائعه .
وهو قاض بتغيب مظاهرها وخفائها ، فإذا مدت الأرض وألقت ما فيها وتخلت ، ظهرت صورة وحدانية لا عوج فيها ولا أمتا .
429 - فالولي المشبه بها أيضا : حالة إخراج أثقال الأمانة من بطائن حقيقته وردها من طريق : «کنت له سمع وبصرا ويدا» إلى شمس الحقيقة الطالعة من مغرب صورة عليها تدور أفلاك الجمع والتفصيل .
إنما يظهر بسر وحداني تتشمر إليه رقائق القوى المدركة الباطنة والظاهرة ، تشمر الظلال إلى النور حالة استوائه ، فيعطي حكم الجمع والوجود في مقامه المطلق. ويقوم بداية مقام كل شيء ، ومع ذلك يظهر للحق بالذلة الظاهرة ، عبودة كالأرض الذلول المقول عليها : "فأمشوا في مناكبها " [الملك:10] .
ولذلك قال : "وأذنت لربها وحقت" [الانشقاق:5] ، أي انقادت بكمال الطواعية في إلقاء ما فيها إلى ربها . و«حقت» أي صارت حقيقة بالانقياد والطاعة .
هذا حال الولي حيث نزل منزلة الأرض ، وحيث نزل منزلة السماء .
يقال :
430 - (انشقت سماء العارفين) أي : عقولهم وقلوبهم الحاملة ثقل الأمانة ، انشقاق السماء ( فذهب أمرها) بغشيان البارقات الذاتية . وأمر كل سماء، ما أوحي إليه من أسرار الجمع والوجود وكلف بحمله وذهابه عند انشقاقها ، انطواؤه في الحق الظاهر عليها بالتجلي الصادع .
فكان العارف قبل انشقاق سماء عقله ناظرة إليها ، مكلفة بحمل أثقال ما أوحي إليها، وبعد انشقاقها باقية بلا أمر مع الله بالله لله ؛ مسلوبة عما كلف بحمله في طور العقل. ولذلك قال : (فبقوا بلا أمر فعاشوا عيش الأبد) فإنهم إذ ذاك . على ما يعطيه إياهم شأن الحق الظاهر بالتجلي عليهم.
431 - فهم مع الله على حال ( لم تتعلق بمم همم الأكوان فتشوش عليهم حالهم ) فإن هممهم إنما تتعلق بما حملت عقولهم من أثقال الأمانة . وقد ذهب ذلك عن العارفين بالانشقاق وذهاب الأمر. فليس بهم ما يدخل تحت تكييف همم الأكوان وتعيينها، وحيث خفيت المناسبة بينهم وبين الأكوان (نسوا في جنب الله فلا يعرفون) بما لهم من المكانة الزلفي .
وذلك لظهورهم في كل حال بالأحوال المختلفة . فالمقول بلسان مقامه في كل حالة راهنة : أنا أبو قلمون في كل لون أكون . فهم مع الحق .
والحق في كل يوم هو في شأن . وأصغرهذه الأيام الزمن الفرد . (طوبى لهم وحسن مآب). فمابهم في كل آن ، الحق في كل شأن . (ما أحسنه من مآب).
432 - ومن هذا المهيع قوله : ( لم يعرف لهم غني ، فيقال لهم : أعطونا . ولا يعلم لهم جاه ، فيقال لهم ادعوا لنا. أخفاهم الحق في خلقه بأن أقامهم في صورة الوقت) الحاكم على الخلق حتى تلبسوا على حكمه بلبوس العادات : فكانوا كأحد من الناس .
(فاندرجوا) فيهم (حتی در جوا سالمين) عما يعطيهم النباهة والتعلية على أمثالهم. (ما رزئوا في أوقاتهم ) الرزء بضم الراء وسكون الزاي : المصيبة .
فإنهم أحيوها «الأوقات» في صحبة الحق ولم يميتوها في شغلها بصحبة السوی.
433 - (هم المجهولون في الدنيا والآخرة) إذ لا تظهر النفوس في الآخرة إلا بما تحققوا به من الأخلاق والأوصاف في الدنيا .
وكان تحققهم فيها بالتستر والخفاء. وهم (المسودة وجوههم عند العالمين لشدة القرب وإسقاط التكليف). إذ وجوه قابلياتهم المستفيدة ، بحكم كمال المحاذاة. الأنوار الإلهية المبيضة إياها حالة القرب المفرط كحکم القمر المستفيد نور الشمس ليلة السرار. فهم في هذا القرب دائمون. عاجلا وآجلا . فقربهم المفرط يعطي سواد الوجه في الدارين .
وهم المقول بلسان مقامهم حالتئذ:
تسترت عن دهري بظل جناحه …. فعيني تری دهري وليس يراني
فلو تسأل الأيام اسمي ما درت …. وأين مكاني ما درین مکاني
وهم أيضا في سقوط تكلفهم مبتذلون بين أرباب العادات ، لا يعبأ بهم بينهم . ومن هذا المهيع : (لا في الدنيا يحكمون ، ولا في الآخرة يشفعون) سلبهم غشيان الحق عن شعورهم، فيقال فيهم: (صم بكم عمي فهم لا يعقلون، صم بكم عمي فهم لا يرجعون).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin