أقوال العلماء في أهمية الخلوة وفوائدها:
إن للخلوة فوائد جليلة وآثاراً هامة، وإنما يدركها من ذاق حلاوتها وجنى ثمارها. فمن فوائدها:
تهذيب النفس وتزكيتها، ورياضتها على طاعة الله تعالى، والاستئناس بمجالسته؛ لأن من طبائع النفس الأمارة حب مجالسة الناس، والميلَ إلى اللهو والعبث والبطالة، وكراهيةَ الخلوة مع الله، والنفورَ من الانفراد للمحاسبة على الهفوات واللوم على الأخطاء. فإذا جاهدناها على ذلك، فإنها تشعر بالضيق والضجر في بادىء أمرها، ولكن سرعان ما تُذعِنُ وتخضع، ثم تذوق حلاوة الأنس بالله ولذة مناجاته، وخصوصاً عندما تنطلق، وتتحرر من قيود المادة، وتسبح في عوالم الملكوت؛ إذ الخلوة تروض النفسَ على الإذعان لبارئها والأنس بربها.
ألا ترى الطير البازي كيف كان نفاره من الآدميين في الجبال الشامخات، ثم حين يُصاد ويلقى في البيت، وتخاط عيناه حتى ينقطع عن الطيران، ويربى باللحم، ويرفق به، حتى يأنس بصاحبه، ويألفه إلفاً؛ إذا دعاه فسمع صوته أجابه، حتى إذا أرسله وحثَّه على الطيران طار، فصاد وأمسك صيده، تحرياً لموافقة مولاه، ثم إن دعاه من الطيران رجع، وآثر هوى صاحبه على هوى نفسه.
أفلا يحق على مؤمن أبصر هذا أن يموت كمداً وعبرة وأسفاً على فوت هذا من نفسه، أن يكون طيره أسمع له وأطوع، وأشد تحرياً لموافقته وألزم لنصيحته من العبد المؤمن لربه.
والخلوة تريح القلب والفكر والعقل من الشواغل الدنيوية المتعاقبة، وهمومها المتلاحقة، وعند ذلك يذوق العبد طعم الإيمان، ويستنشق نسيم السعادة والطمأنينة. وإليك بعض أقوال السادة العلماء في ذلك:
الفيروزأبادي صاحب القاموس:
قال العلامة الكبير الفيروز أبادي رحمه الله تعالى صاحب القاموس في ذكر حال حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي: (ولما قربت أيام الوحي أحب الخلوة والانفراد، فكان يتخلى في جبل حراء، وهو على ثلاثة أميال من الكعبة، وبه غار صغير طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلث في بعض المواضع، وفي بعضها أقل، واختار محل الخلوة هناك.
وللعلماء في عبادته في خلوته قولان: قال بعضهم: كانت عبادته بالفكر. وقال بعضهم: بالذكر. وهذا القول هو الصحيح، ولا تعريج على الأول ولا التفات إليه؛ لأن خلوة طلاب طريق الحق على أنواع:
الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد علم الحق من الحق لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق، لأن من خاطب في خلوته كوناً من الأكوان، أو فكَّر فيه فليس هو في خلوة. قال شخص من طلاب الطريق لبعض الأكابر: اذكرني عند ربك في خلوتك. قال: إذا ذكرتك فلستُ معه في خلوة. ومن ثَمَّ يُعلم سر “أنا جليس مَنْ ذكرني”. وشرط هذه الخلوة أن يذكر بنفسه وروحه، لا بنفسه ولسانه.
الثاني: أن تكون خلوتهم لصفاء الفكر لكي يصح نظرهم في طلب المعلومات، وهذه الخلوة لقوم يطلبون العلم من ميزان العقل، وذلك الميزان في غاية اللطافة، وهو بأدنى هوى يخرج عن الاستقامة، وطلاب طريق الحق لا يدخلون في مثل هذه الخلوة، بل تكون خلوتهم للذكر، وليس للفكر عليهم قدرة ولا سلطان، ومهما وُجِدَ الفكر إلى صاحب الخلوة فينبغي أن يعلم أنه ليس من أهل الخلوة، ويخرج من الخلوة ويعلم أنه ليس من أهل العلم الصحيح الإلهي، إذ لو كان من أهل ذلك لحالت العناية الإلهية بينه وبين دوران رأسه بالفكر.
الثالث: خلوة يفعلها جماعة لدفع الوحشة من مخالطة غير الجنس، والاشتغال بما لا يعني، فإنهم إذا رأوا الخلق انقبضوا، فلذلك اختاروا الخلوة.
الرابع: خلوة لطلب زيادة لذة توجد في الخلوة.
وخلوة حضرة صاحب الرسالة من القسم الأول، وكان بعيداً جداً من جميع المخالطات حتى الأهل والمال وذات اليد، واستغرق في بحر الأذكار القلبية، وانقطع عن الأضداد بالكلية، وظهر له الأنس والجلوة بتذكر مَنْ لأجله الخلوة، ولم يزل في ذلك الأنس، ومرآة الوحي تزداد من الصفاء والصقال حتى بلغ أقصى درجات الكمال) [“كتاب سفر السعادة” للفيروز أبادي المتوفى سنة 826هـ ص3 - 4].
الإمام الشافعي:
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ومن أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذي ليس معهم إنصاف ولا أدب) [“بستان العارفين” للإمام الفقيه الحافظ أبي زكريا محي الدين النووي المتوفى 676هـ ص47].
الإمام الغزالي:
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة) [“الإحياء” للغزالي ج3/ص66].
وعندما يسلم من علله وأمراضه وتعلقاته ومشاغله، وخواطر الشيطان ووساوسه، يستحق نعيم قربه ويستعد لتلقي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والنفحات النورانية.
وقال الغزالي أيضاً: (وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أُمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره ليُنتفعَ به، أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصْوَبُ الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جُمِع عقل العقلاء، وحكمة العلماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سَيْرِهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به) [“المنقذ من الضلال” لحجة الإسلام الغزالي ص131 - 132].
الشيخ الأكبر:
وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (رحمه الله تعالى): (فإن المتأهب الطالب للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرَّغ المحل من الفكر، وقعد فقيراً لا شيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى، ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال: {عبْداً مِنْ عِبادِنا آتيناهُ رحمَةً مِنْ عندِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا علماً} [الكهف: 65]. وقال تعالى: {واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282]. قال تعالى: {إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ لكُمْ فُرقاناً} [الأنفال: 29]. وقال: {ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به} [الحديد: 28].
وقيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة.
وقال أبو يزيد: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلَّت هيبته وعظمت منته، من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان، ليست له هذه الحالة) [“الفتوحات المكية” ج1/ص31].
محمد السفاريني:
وقال العلامة محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى شارحاً قصيدة “منظومة الآداب”: (وقد أكثر الناس من مدح الخلوة، وكفِّ رِجْلِ الرجل عن الاختلاط بالناس:
أنستُ بوحدتي ولزمتُ بيتي فدام الأُنسُ لي ونما السرورُ
[“غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” للشيخ الإمام محمد السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1188هـ. ج2/ص388].
الدكتور مصطفي السباعي :
وقال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه “مذكرات في فقه السيرة”: (يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفَيْنة والفَيْنة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة والحياة المضطربة من حوله. ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصرت في خير، أو زلت في اتجاه، أو جانبت سبيل الحكمة، أو أخطأت في منهج أو طريق، أو انغمست مع الناس في الجدال والنقاش، حتى أنْسَتْهُ تذكُّرَ الله والأنس به، وتذكر الآخرة وجنتها ونارها والموتِ وغصصه وآلامه. ولذلك كان التهجد وقيام الليل فرضاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، مستحباً في حق غيره. وأحق الناس بالحرص على هذه النافلة هم الدعاة إلى الله وشريعته وجنته. وللخلوة والقيام لله بالعبودية في أعقاب الليل لذة لا يدركها إلا من أكرمه الله بها. وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يقول في أعقاب تهجده وعبادته: نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها) [“مذكرات في فقه السيرة” للدكتور مصطفى السباعي ص18].
عماد الدين الواسطي:
ويقول الشيخ الإمام عماد الدين أحمد الواسطي: (وليكن لنا جميعاً من الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه وتعالى قدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ونطرح أشغال الدنيا عن قلوبنا، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإنسان حاله مع ربه، فمن كان له مع ربه حال، تحركت في تلك الساعة عزائمه، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره، وطالت إلى العلا زفراته وكوامنه. وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وولده. فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار لَمَا احتوشته من الهموم الدنيوية ذواتُ الآصار، فليعلم أنه ليس له ثَمَّ رابطة علوية، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية، فليبك على نفسه، ولا يرض منها إلا بنصيب من قرب ربه وأُنسه. فإذا خلصت لله تلك الساعة؛ أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشية والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع، فلا ينبغي أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة، بساعة لله الواحد القهار، نعبده فيها حق عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج)[“غذاء الألباب” ج1/ص47].
ابن عجيبة:
وقال ابن عجيبة شارحاً قول ابن عطاء الله رحمهما الله تعالى: ما نفعَ القلبَ شيءٌ مثلُ عُزلةٍ يدخل بها مَيْدانَ فكرة:
(والعزلة انفراد القلب بالله. وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس، وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب بالله إلا إذا انفرد القالب. والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. ولا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحِمْية، والفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء بغير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها ولا نهوض بفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جَولاَن القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته، وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال الله تعالى في شأن القيامة: {يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88 -89].
وقد قالوا: إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، ولا ينفعها إلا الحمية، وهو قلة موادها، ومنعها من كثرة الأخلاط (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء). وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض، وربما مات، ولا ينفعه إلا الحمية منها، والفرار من مواطنها، وهي الخلطة، فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه، واستقام قلبه، وإلا بقي سقيماً حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة، نسأل الله العافية.
قال الجنيد رحمه الله تعالى: أشرف المجالس الجلوس مع الفكر في ميدان التوحيد.
وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ثمار العزلة الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة:
كشف الغطاء، وتنزل الرحمة، وتحقيق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة.
ثم ذكر للخلوة عشر فوائد:
1 - السلامة من آفات اللسان، فإنَّ مَنْ كان وحده لا يجد معه من يتكلم، ولا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثرَ الخلوة على الاجتماع.
2 - السلامة من آفات النظر،فإنَّ من كان معتزلاً عن الناس سلم من النظر إلى ما هم مُنْكَبُّون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها، قال بعضهم: (من كثرت لحظاته دامت حسراته).
3 - حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.
4 - حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله.
5 - السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، وفي مخالطتهم فساد عظيم.
6 - التفرغ للعبادة والذكر، والعزم على التقوى والبر.
7 - وُجْدانُ حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة بفراغ سره، قال أبو طالب المكي في “القوت”: (ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية).
8 - راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب.
9 - صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة.
10 - التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لأحمد بن عجيبة ج1/ص30].
هذه نبذة يسيرة من أقوال السادة العلماء الأفاضل، تُبين بوضوح أن الخلوة هي السبيل العملي الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، كي يقوى إيمانهم، وتصفو نفوسهم، وتسمو أرواحهم، وتتطهر قلوبهم، وتتأهل لتجليات الله تعالى.
أليس هذا التوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً للتعرف على فاطر السموات والأرض؟
أليس هذا أساساً للأذواق والمواجيد الصوفية، وسبيلاً للكشف والفيض والإشراق والصفاء؟
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه].
أليس هذا الحديث دليلاً قاطعاً على مشروعية الخلوة لذكر الله تعالى؟.
وفي هذه الخلوة يذكر الصوفي ربه خالياً فيغمره بأنواره ويحظى بمجالسته “أهل ذكري أهل مجالستي” [أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث طويل]. لا يدور بخَلدِه أي طائف يشغله عن ربه، حتى إنه لينسى نفسه في حضرة القدُس الأعلى. وما أحسن قول عمر بن الفارض رحمه الله تعالى معبراً عن تلك الحالة الشائقة:
ولقد خَلوتُ مع الحبيب وبَيننا سرٍّ أرقُّ مِنَ النسيم إذا سرى
فدهشتُ بين جماله وجلالهِ وغدا لسانُ الحالِ عني مخْبراً
فتفيض عيناه دمعاً مما عرف من الحق، ذاهلاً بالله خاشعاً له مستأنساً بحضرته:
وَليُّ الله ليس له أنيسُ سوى الرحمن فهو له جليسُ
فيذكرهُ ويذكرهُ فيبكي وحيدُ الدهر جوهره نفيسُ
فالعبد المقصر إذا أراد اللحاق بهؤلاء الأولياء المخلصين خلا بنفسه الأمارة بالسوء؛ فعاتبها وزجرها وصدق في سيره إلى ربه، فرقَّ قلبه، وذرفت عيناه بالدمع حزناً وأسفاً على ضياع عمره في اللهو والغفلة قائلاً:
على نفسه فليبك من ضاع عمرهُ وليس له فيها نصيب ولا سهمُ
فانتبهَ من رقدته، وصحا من غفلته، وأقبل على ربه راجياً عفوه وغفرانه ومعاهداً إياه على طاعته وعبادته، ففرح الله بتوبته حين تاب، وأقبل عليه حين تقرب منه. قال تعالى في الحديث القدسي: “وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإذا تقرَّبَ إليَّ ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيتُهُ هرولة” [من حديث قدسي أوله: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً...”. الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه]. واستحق - ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إظلال الله تعالى له يوم الحر الأكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس، قد صهرتهم في ذلك الموقف الرهيب.
وأخيراً فلعل القارىء الكريم بعد هذه النصوص الصريحة والنقول الكثيرة عن العلماء الأعلام الذين نأخذ عنهم تعاليم ديننا تبيَّنَ له أن الخلوة مشروعة في الإسلام، وليست مبتدعة، وأنها ليست غاية تقصد، بل وسيلة لشفاء القلب من علله وأمراضه، حتى يكون سليماً، فينجو صاحبه يوم الحساب الأكبر {يومَ لا ينْفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88 -89]
وليست الخلوة عزلة دائمة، وانزواءً مستمراً عن الناس، فكما أن المريض يقضي فترة يسيرة من الوقت في المستشفى كي يتخلص من أمراضه الجسدية، ثم يخرج للعمل بصحة أوفر ومناعة أقوى، متلذذاً بنعيم العافية؛ فكذلك المسلم يقضي في الخلوة فترة يسيرة، يخرج بعدها للحياة العملية، قوي الصلة بربه، عامر القلب بالإيمان واليقين متمتعاً بالمناعة القوية من تسرب بهارج الحياة الخادعة ومفاتنها المغرية إلى نفسه، وخصوصاً بعد أن اطلع على حقائقها الفانية، وتَذوَّقَ معنى قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عليها فانٍ} [الرحمن: 26].
فكم نرى من الناس من يهتم بجسمه الفاني ويوفر له أسباب الصحة، ويفرغ له كثيراً من وقته للاستجمام والاستشفاء والراحة، فإذا دُعي إلى تطبيب قلبه وتهذيب نفسه، في فترة وجيزة يخلو فيها بربه، إذا به يُعرض ويستغرب، ويعتبر ذلك - لجهله - ضياعاً للوقت، وابتداعاً لا أصل له في الدين. فمثل هذا ينطبق عليه قول بعْضِهم:
تطبِّبُ جسمكَ الفاني ليَبْقى وتتركُ قلبكَ الباقي مريضاً
فلو فَهم حقيقة الإسلام، وأنه دعا لإصلاح الأبدان والقلوب معاً لاهتم بقلبه، كما يهتم بجسمه:
يا خادمَ الجسمِ كم تسْعى لخدمته أتطلُبُ الربحَ مما فيه خسرانُ
أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
فعلى المؤمن أن تكون له خلوات يراقب بها ربه، ويحاسب نفسه على ما قدمت من خير أو شر.
ولقد كان شيخي وسيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى يرغب مريديه بالخلوة حيث يجلس المريد منفرداً في مكان منعزل عن الناس بعيد عن صخب الدنيا وضوضائها، ثم يأذن له الشيخ بذكر الاسم المفرد [الله] ليردده مستغرقاً جميع أوقاته في الليل والنهار، لا يتوقف إلا لصلاة أو طعام أو نوم، ولا يشغل نفسه بالتحدث إلى الناس، بل يتفرغ للذكر موافقة لقوله تعالى: {واذكر اسم ربِّكَ وتبَتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8].
ويواصل الذكر ملاحظاً قلبه طارداً عنه أنواع الوساوس والخواطر وصور الأكوان، جامعاً قلبه على الله تعالى، مستعيناً بما يمنحه شيخه من خبرته ومعارفه وأحواله وتوجيهاته.
وحينئذ ينفذ الذكر إلى سويداء قلبه؛ فيرتسم الاسم المفرد فيه، وترتحل عنه الغفلة، وتزول الأغيار، ويشعر بحلاوة الأنس بالله تعالى، ويترقى في مدارج الأذواق والمعارف مما لا يستطيع البيان أن يعبر عنه، وليس له سوى الذوق إفشاء.
إن للخلوة فوائد جليلة وآثاراً هامة، وإنما يدركها من ذاق حلاوتها وجنى ثمارها. فمن فوائدها:
تهذيب النفس وتزكيتها، ورياضتها على طاعة الله تعالى، والاستئناس بمجالسته؛ لأن من طبائع النفس الأمارة حب مجالسة الناس، والميلَ إلى اللهو والعبث والبطالة، وكراهيةَ الخلوة مع الله، والنفورَ من الانفراد للمحاسبة على الهفوات واللوم على الأخطاء. فإذا جاهدناها على ذلك، فإنها تشعر بالضيق والضجر في بادىء أمرها، ولكن سرعان ما تُذعِنُ وتخضع، ثم تذوق حلاوة الأنس بالله ولذة مناجاته، وخصوصاً عندما تنطلق، وتتحرر من قيود المادة، وتسبح في عوالم الملكوت؛ إذ الخلوة تروض النفسَ على الإذعان لبارئها والأنس بربها.
ألا ترى الطير البازي كيف كان نفاره من الآدميين في الجبال الشامخات، ثم حين يُصاد ويلقى في البيت، وتخاط عيناه حتى ينقطع عن الطيران، ويربى باللحم، ويرفق به، حتى يأنس بصاحبه، ويألفه إلفاً؛ إذا دعاه فسمع صوته أجابه، حتى إذا أرسله وحثَّه على الطيران طار، فصاد وأمسك صيده، تحرياً لموافقة مولاه، ثم إن دعاه من الطيران رجع، وآثر هوى صاحبه على هوى نفسه.
أفلا يحق على مؤمن أبصر هذا أن يموت كمداً وعبرة وأسفاً على فوت هذا من نفسه، أن يكون طيره أسمع له وأطوع، وأشد تحرياً لموافقته وألزم لنصيحته من العبد المؤمن لربه.
والخلوة تريح القلب والفكر والعقل من الشواغل الدنيوية المتعاقبة، وهمومها المتلاحقة، وعند ذلك يذوق العبد طعم الإيمان، ويستنشق نسيم السعادة والطمأنينة. وإليك بعض أقوال السادة العلماء في ذلك:
الفيروزأبادي صاحب القاموس:
قال العلامة الكبير الفيروز أبادي رحمه الله تعالى صاحب القاموس في ذكر حال حضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل نزول الوحي: (ولما قربت أيام الوحي أحب الخلوة والانفراد، فكان يتخلى في جبل حراء، وهو على ثلاثة أميال من الكعبة، وبه غار صغير طوله أربعة أذرع وعرضه ذراع وثلث في بعض المواضع، وفي بعضها أقل، واختار محل الخلوة هناك.
وللعلماء في عبادته في خلوته قولان: قال بعضهم: كانت عبادته بالفكر. وقال بعضهم: بالذكر. وهذا القول هو الصحيح، ولا تعريج على الأول ولا التفات إليه؛ لأن خلوة طلاب طريق الحق على أنواع:
الأول: أن تكون خلوتهم لطلب مزيد علم الحق من الحق لا بطريق النظر والفكر، وهذا غاية مقاصد أهل الحق، لأن من خاطب في خلوته كوناً من الأكوان، أو فكَّر فيه فليس هو في خلوة. قال شخص من طلاب الطريق لبعض الأكابر: اذكرني عند ربك في خلوتك. قال: إذا ذكرتك فلستُ معه في خلوة. ومن ثَمَّ يُعلم سر “أنا جليس مَنْ ذكرني”. وشرط هذه الخلوة أن يذكر بنفسه وروحه، لا بنفسه ولسانه.
الثاني: أن تكون خلوتهم لصفاء الفكر لكي يصح نظرهم في طلب المعلومات، وهذه الخلوة لقوم يطلبون العلم من ميزان العقل، وذلك الميزان في غاية اللطافة، وهو بأدنى هوى يخرج عن الاستقامة، وطلاب طريق الحق لا يدخلون في مثل هذه الخلوة، بل تكون خلوتهم للذكر، وليس للفكر عليهم قدرة ولا سلطان، ومهما وُجِدَ الفكر إلى صاحب الخلوة فينبغي أن يعلم أنه ليس من أهل الخلوة، ويخرج من الخلوة ويعلم أنه ليس من أهل العلم الصحيح الإلهي، إذ لو كان من أهل ذلك لحالت العناية الإلهية بينه وبين دوران رأسه بالفكر.
الثالث: خلوة يفعلها جماعة لدفع الوحشة من مخالطة غير الجنس، والاشتغال بما لا يعني، فإنهم إذا رأوا الخلق انقبضوا، فلذلك اختاروا الخلوة.
الرابع: خلوة لطلب زيادة لذة توجد في الخلوة.
وخلوة حضرة صاحب الرسالة من القسم الأول، وكان بعيداً جداً من جميع المخالطات حتى الأهل والمال وذات اليد، واستغرق في بحر الأذكار القلبية، وانقطع عن الأضداد بالكلية، وظهر له الأنس والجلوة بتذكر مَنْ لأجله الخلوة، ولم يزل في ذلك الأنس، ومرآة الوحي تزداد من الصفاء والصقال حتى بلغ أقصى درجات الكمال) [“كتاب سفر السعادة” للفيروز أبادي المتوفى سنة 826هـ ص3 - 4].
الإمام الشافعي:
وقال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: (ومن أحب أن يفتح الله قلبه، ويرزقه العلم، فعليه بالخلوة وقلة الأكل، وترك مخالطة السفهاء وبعض أهل العلم الذي ليس معهم إنصاف ولا أدب) [“بستان العارفين” للإمام الفقيه الحافظ أبي زكريا محي الدين النووي المتوفى 676هـ ص47].
الإمام الغزالي:
وقال الإمام الغزالي رحمه الله تعالى: (وأما الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، والقلب في حكم حوض تنصب إليه مياه كريهة كدرة قذرة من أنهار الحواس. ومقصود الرياضة تفريغ الحوض من تلك المياه ومن الطين الحاصل منها؛ ليتفجر أصل الحوض، فيخرج منه الماء النظيف الطاهر. وكيف يصح له أن ينزح الماء من الحوض، والأنهار مفتوحة إليه؟ فيتجدد في كل حال أكثر مما ينقص. فلا بد من ضبط الحواس إلا عن قدر الضرورة، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة) [“الإحياء” للغزالي ج3/ص66].
وعندما يسلم من علله وأمراضه وتعلقاته ومشاغله، وخواطر الشيطان ووساوسه، يستحق نعيم قربه ويستعد لتلقي العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والنفحات النورانية.
وقال الغزالي أيضاً: (وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أُمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره ليُنتفعَ به، أني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله خاصة، وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقتهم أصْوَبُ الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جُمِع عقل العقلاء، وحكمة العلماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سَيْرِهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً، فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به) [“المنقذ من الضلال” لحجة الإسلام الغزالي ص131 - 132].
الشيخ الأكبر:
وقال الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي (رحمه الله تعالى): (فإن المتأهب الطالب للمزيد، المتعرض لنفحات الجود بأسرار الوجود إذا لزم الخلوة والذكر، وفرَّغ المحل من الفكر، وقعد فقيراً لا شيء له عند باب ربه، حينئذ يمنحه الله تعالى، ويعطيه من العلم به والأسرار الإلهية والمعارف الربانية التي أثنى الله سبحانه بها على عبده خضر فقال: {عبْداً مِنْ عِبادِنا آتيناهُ رحمَةً مِنْ عندِنا وعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا علماً} [الكهف: 65]. وقال تعالى: {واتَّقوا اللهَ ويُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة: 282]. قال تعالى: {إنْ تتَّقوا اللهَ يَجعَلْ لكُمْ فُرقاناً} [الأنفال: 29]. وقال: {ويجعلْ لَكُمْ نُوراً تمشونَ به} [الحديد: 28].
وقيل للجنيد: بم نلت ما نلت؟ فقال: بجلوسي تحت تلك الدرجة ثلاثين سنة.
وقال أبو يزيد: أخذتم علمكم ميتاً عن ميت، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت. فيحصل لصاحب الهمة في الخلوة مع الله وبه جلَّت هيبته وعظمت منته، من العلوم ما يغيب عندها كل متكلم على البسيطة، بل كل صاحب نظر وبرهان، ليست له هذه الحالة) [“الفتوحات المكية” ج1/ص31].
محمد السفاريني:
وقال العلامة محمد السفاريني الحنبلي رحمه الله تعالى شارحاً قصيدة “منظومة الآداب”: (وقد أكثر الناس من مدح الخلوة، وكفِّ رِجْلِ الرجل عن الاختلاط بالناس:
أنستُ بوحدتي ولزمتُ بيتي فدام الأُنسُ لي ونما السرورُ
[“غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” للشيخ الإمام محمد السفاريني الحنبلي المتوفى سنة 1188هـ. ج2/ص388].
الدكتور مصطفي السباعي :
وقال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى في كتابه “مذكرات في فقه السيرة”: (يجب على الداعية إلى الله أن تكون له بين الفَيْنة والفَيْنة أوقات يخلو فيها بنفسه، تتصل فيها روحه بالله جل شأنه، وتصفو فيها نفسه من كدورات الأخلاق الذميمة والحياة المضطربة من حوله. ومثل هذه الخلوات تدعوه إلى محاسبة نفسه إن قصرت في خير، أو زلت في اتجاه، أو جانبت سبيل الحكمة، أو أخطأت في منهج أو طريق، أو انغمست مع الناس في الجدال والنقاش، حتى أنْسَتْهُ تذكُّرَ الله والأنس به، وتذكر الآخرة وجنتها ونارها والموتِ وغصصه وآلامه. ولذلك كان التهجد وقيام الليل فرضاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، مستحباً في حق غيره. وأحق الناس بالحرص على هذه النافلة هم الدعاة إلى الله وشريعته وجنته. وللخلوة والقيام لله بالعبودية في أعقاب الليل لذة لا يدركها إلا من أكرمه الله بها. وقد كان إبراهيم بن أدهم رحمه الله تعالى يقول في أعقاب تهجده وعبادته: نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها) [“مذكرات في فقه السيرة” للدكتور مصطفى السباعي ص18].
عماد الدين الواسطي:
ويقول الشيخ الإمام عماد الدين أحمد الواسطي: (وليكن لنا جميعاً من الليل والنهار ساعة نخلو فيها بربنا جل اسمه وتعالى قدسه، نجمع بين يديه في تلك الساعة همومنا ونطرح أشغال الدنيا عن قلوبنا، فنزهد فيما سوى الله ساعة من نهار، فبذلك يعرف الإنسان حاله مع ربه، فمن كان له مع ربه حال، تحركت في تلك الساعة عزائمه، وابتهجت بالمحبة والتعظيم سرائره، وطالت إلى العلا زفراته وكوامنه. وتلك الساعة أنموذج لحالة العبد في قبره حين خلوه عن ماله وولده. فمن لم يخل قلبه لله ساعة من نهار لَمَا احتوشته من الهموم الدنيوية ذواتُ الآصار، فليعلم أنه ليس له ثَمَّ رابطة علوية، ولا نصيب من المحبة ولا المحبوبية، فليبك على نفسه، ولا يرض منها إلا بنصيب من قرب ربه وأُنسه. فإذا خلصت لله تلك الساعة؛ أمكن إيقاع الصلوات الخمس على نمطها من الحضور والخشية والهيبة للرب العظيم في السجود والركوع، فلا ينبغي أن نبخل على أنفسنا في اليوم والليلة من أربع وعشرين ساعة، بساعة لله الواحد القهار، نعبده فيها حق عبادته، ثم نجتهد على إيقاع الصلوات على ذلك النهج)[“غذاء الألباب” ج1/ص47].
ابن عجيبة:
وقال ابن عجيبة شارحاً قول ابن عطاء الله رحمهما الله تعالى: ما نفعَ القلبَ شيءٌ مثلُ عُزلةٍ يدخل بها مَيْدانَ فكرة:
(والعزلة انفراد القلب بالله. وقد يراد بها الخلوة التي هي انفراد القالب عن الناس، وهو المراد هنا، إذ لا ينفرد القلب بالله إلا إذا انفرد القالب. والفكرة سير القلب إلى حضرة الرب، وهي على قسمين: فكرة تصديق وإيمان، وفكرة شهود وعيان. ولا شيء أنفع للقلب من عزلة مصحوبة بفكرة، لأن العزلة كالحِمْية، والفكرة كالدواء، فلا ينفع الدواء بغير حمية، ولا فائدة في الحمية من غير دواء، فلا خير في عزلة لا فكرة فيها ولا نهوض بفكرة لا عزلة معها، إذ المقصود من العزلة هو تفريغ القلب، والمقصود من التفرغ هو جَولاَن القلب واشتغال الفكرة، والمقصود من اشتغال الفكرة تحصيل العلم وتمكنه من القلب، وتمكن العلم بالله من القلب هو دواؤه وغاية صحته، وهو الذي سماه الله القلب السليم، قال الله تعالى في شأن القيامة: {يومَ لا ينفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88 -89].
وقد قالوا: إن القلب كالمعدة إذا قويت عليها الأخلاط مرضت، ولا ينفعها إلا الحمية، وهو قلة موادها، ومنعها من كثرة الأخلاط (المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء). وكذلك القلب إذا قويت عليه الخواطر واستحوذ عليه الحس مرض، وربما مات، ولا ينفعه إلا الحمية منها، والفرار من مواطنها، وهي الخلطة، فإذا اعتزل الناس واستعمل الفكرة نجح دواؤه، واستقام قلبه، وإلا بقي سقيماً حتى يلقى الله بقلب سقيم بالشك والخواطر الرديئة، نسأل الله العافية.
قال الجنيد رحمه الله تعالى: أشرف المجالس الجلوس مع الفكر في ميدان التوحيد.
وقال أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: ثمار العزلة الظفر بمواهب المنة، وهي أربعة:
كشف الغطاء، وتنزل الرحمة، وتحقيق المحبة، ولسان الصدق في الكلمة.
ثم ذكر للخلوة عشر فوائد:
1 - السلامة من آفات اللسان، فإنَّ مَنْ كان وحده لا يجد معه من يتكلم، ولا يسلم في الغالب من آفاته إلا من آثرَ الخلوة على الاجتماع.
2 - السلامة من آفات النظر،فإنَّ من كان معتزلاً عن الناس سلم من النظر إلى ما هم مُنْكَبُّون عليه من زهرة الدنيا وزخرفها، قال بعضهم: (من كثرت لحظاته دامت حسراته).
3 - حفظ القلب وصونه عن الرياء والمداهنة وغيرهما من الأمراض.
4 - حصول الزهد في الدنيا والقناعة منها، وفي ذلك شرف العبد وكماله.
5 - السلامة من صحبة الأشرار ومخالطة الأرذال، وفي مخالطتهم فساد عظيم.
6 - التفرغ للعبادة والذكر، والعزم على التقوى والبر.
7 - وُجْدانُ حلاوة الطاعات، وتمكن لذيذ المناجاة بفراغ سره، قال أبو طالب المكي في “القوت”: (ولا يكون المريد صادقاً حتى يجد في الخلوة من الحلاوة والنشاط والقوة ما لا يجده في العلانية).
8 - راحة القلب والبدن، فإن في مخالطة الناس ما يوجب تعب القلب.
9 - صيانة نفسه ودينه من التعرض للشرور والخصومات التي توجبها الخلطة.
10 - التمكن من عبادة التفكر والاعتبار، وهو المقصود الأعظم من الخلوة) [“إيقاظ الهمم في شرح الحكم” لأحمد بن عجيبة ج1/ص30].
هذه نبذة يسيرة من أقوال السادة العلماء الأفاضل، تُبين بوضوح أن الخلوة هي السبيل العملي الذي سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس، كي يقوى إيمانهم، وتصفو نفوسهم، وتسمو أرواحهم، وتتطهر قلوبهم، وتتأهل لتجليات الله تعالى.
أليس هذا التوجيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم سبباً للتعرف على فاطر السموات والأرض؟
أليس هذا أساساً للأذواق والمواجيد الصوفية، وسبيلاً للكشف والفيض والإشراق والصفاء؟
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث: “سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله... ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه” [رواه البخاري في صحيحه في كتاب الرقاق عن أبي هريرة رضي الله عنه].
أليس هذا الحديث دليلاً قاطعاً على مشروعية الخلوة لذكر الله تعالى؟.
وفي هذه الخلوة يذكر الصوفي ربه خالياً فيغمره بأنواره ويحظى بمجالسته “أهل ذكري أهل مجالستي” [أخرجه الإمام أحمد في مسنده من حديث طويل]. لا يدور بخَلدِه أي طائف يشغله عن ربه، حتى إنه لينسى نفسه في حضرة القدُس الأعلى. وما أحسن قول عمر بن الفارض رحمه الله تعالى معبراً عن تلك الحالة الشائقة:
ولقد خَلوتُ مع الحبيب وبَيننا سرٍّ أرقُّ مِنَ النسيم إذا سرى
فدهشتُ بين جماله وجلالهِ وغدا لسانُ الحالِ عني مخْبراً
فتفيض عيناه دمعاً مما عرف من الحق، ذاهلاً بالله خاشعاً له مستأنساً بحضرته:
وَليُّ الله ليس له أنيسُ سوى الرحمن فهو له جليسُ
فيذكرهُ ويذكرهُ فيبكي وحيدُ الدهر جوهره نفيسُ
فالعبد المقصر إذا أراد اللحاق بهؤلاء الأولياء المخلصين خلا بنفسه الأمارة بالسوء؛ فعاتبها وزجرها وصدق في سيره إلى ربه، فرقَّ قلبه، وذرفت عيناه بالدمع حزناً وأسفاً على ضياع عمره في اللهو والغفلة قائلاً:
على نفسه فليبك من ضاع عمرهُ وليس له فيها نصيب ولا سهمُ
فانتبهَ من رقدته، وصحا من غفلته، وأقبل على ربه راجياً عفوه وغفرانه ومعاهداً إياه على طاعته وعبادته، ففرح الله بتوبته حين تاب، وأقبل عليه حين تقرب منه. قال تعالى في الحديث القدسي: “وإن تقرَّب إليَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإذا تقرَّبَ إليَّ ذراعاً تقربتُ إليه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيتُهُ هرولة” [من حديث قدسي أوله: “أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني. فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلي شبراً...”. الحديث أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التوحيد عن أبي هريرة رضي الله عنه]. واستحق - ببشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم - إظلال الله تعالى له يوم الحر الأكبر في ظل عرشه والناس في حر الشمس، قد صهرتهم في ذلك الموقف الرهيب.
وأخيراً فلعل القارىء الكريم بعد هذه النصوص الصريحة والنقول الكثيرة عن العلماء الأعلام الذين نأخذ عنهم تعاليم ديننا تبيَّنَ له أن الخلوة مشروعة في الإسلام، وليست مبتدعة، وأنها ليست غاية تقصد، بل وسيلة لشفاء القلب من علله وأمراضه، حتى يكون سليماً، فينجو صاحبه يوم الحساب الأكبر {يومَ لا ينْفَعُ مالٌ ولا يَنونَ إلا مَنْ أتى اللهَ بقلبٍ سليمٍ} [الشعراء: 88 -89]
وليست الخلوة عزلة دائمة، وانزواءً مستمراً عن الناس، فكما أن المريض يقضي فترة يسيرة من الوقت في المستشفى كي يتخلص من أمراضه الجسدية، ثم يخرج للعمل بصحة أوفر ومناعة أقوى، متلذذاً بنعيم العافية؛ فكذلك المسلم يقضي في الخلوة فترة يسيرة، يخرج بعدها للحياة العملية، قوي الصلة بربه، عامر القلب بالإيمان واليقين متمتعاً بالمناعة القوية من تسرب بهارج الحياة الخادعة ومفاتنها المغرية إلى نفسه، وخصوصاً بعد أن اطلع على حقائقها الفانية، وتَذوَّقَ معنى قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عليها فانٍ} [الرحمن: 26].
فكم نرى من الناس من يهتم بجسمه الفاني ويوفر له أسباب الصحة، ويفرغ له كثيراً من وقته للاستجمام والاستشفاء والراحة، فإذا دُعي إلى تطبيب قلبه وتهذيب نفسه، في فترة وجيزة يخلو فيها بربه، إذا به يُعرض ويستغرب، ويعتبر ذلك - لجهله - ضياعاً للوقت، وابتداعاً لا أصل له في الدين. فمثل هذا ينطبق عليه قول بعْضِهم:
تطبِّبُ جسمكَ الفاني ليَبْقى وتتركُ قلبكَ الباقي مريضاً
فلو فَهم حقيقة الإسلام، وأنه دعا لإصلاح الأبدان والقلوب معاً لاهتم بقلبه، كما يهتم بجسمه:
يا خادمَ الجسمِ كم تسْعى لخدمته أتطلُبُ الربحَ مما فيه خسرانُ
أقبلْ على النفس واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ
فعلى المؤمن أن تكون له خلوات يراقب بها ربه، ويحاسب نفسه على ما قدمت من خير أو شر.
ولقد كان شيخي وسيدي محمد الهاشمي رحمه الله تعالى يرغب مريديه بالخلوة حيث يجلس المريد منفرداً في مكان منعزل عن الناس بعيد عن صخب الدنيا وضوضائها، ثم يأذن له الشيخ بذكر الاسم المفرد [الله] ليردده مستغرقاً جميع أوقاته في الليل والنهار، لا يتوقف إلا لصلاة أو طعام أو نوم، ولا يشغل نفسه بالتحدث إلى الناس، بل يتفرغ للذكر موافقة لقوله تعالى: {واذكر اسم ربِّكَ وتبَتَّلْ إليه تبتيلاً} [المزمل: 8].
ويواصل الذكر ملاحظاً قلبه طارداً عنه أنواع الوساوس والخواطر وصور الأكوان، جامعاً قلبه على الله تعالى، مستعيناً بما يمنحه شيخه من خبرته ومعارفه وأحواله وتوجيهاته.
وحينئذ ينفذ الذكر إلى سويداء قلبه؛ فيرتسم الاسم المفرد فيه، وترتحل عنه الغفلة، وتزول الأغيار، ويشعر بحلاوة الأنس بالله تعالى، ويترقى في مدارج الأذواق والمعارف مما لا يستطيع البيان أن يعبر عنه، وليس له سوى الذوق إفشاء.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin