السلوك الإحساني في فكر الإمام.. الحال والمقام
عبد الصمد الخزروني
العدل والإحسان
مقدمة
بينما السالك في طريقه يقطع المسافات، ويخطو الخطوات، تعتريه نوازل من الأحوال يتحول بها من حال إلى حال، وتأبى روحه الاستقرار في مقام دون مقام، بل يلذّ لها الانتقال والارتقاء من مقام إلى مقام، وكل مقام بلذته وحلاوته الإيمانية وأنواره الإحسانية. حتى إذا فاز بجوار الحبيب أبتْ روحه عن ذلك بديلا ولا أحبّت عنه رحيلا، هناك يحلو لها اللقاء ويهنأ لها البقاء. وبين نازل الأحوال ونزول المقامات يكون السالك في أشد الحاجة إلى الهداية الربانية والتثبيت، وإلى الاستقامة الشرعية والثبات. ذلك أن مخاطر الطريق وأهوال السلوك واعتراض العقبات لا حدّ لها ولا نهاية.
في فقرة تحت عنوان (الحال والمقام) يتحدث الإمام المرشد رحمه الله في كتاب الإحسان عما يكتنف السالك خلال طريق سلوكه من هذه الأحوال الشريفة، وما يرتقيه بالجهد والمجاهدة والجهاد من مقامات القرب والزلفى، مبينا كيفية تعامل السالك مع ما يرد عليه من أحوال، وما ينتهي إليه من مقامات. وهنا يتساءل الإمام المرشد رحمه الله سؤالا مهما هو محور ولب الكتاب كله من أوله إلى آخره: (أي شيء يرفعني إلى مقامات الإحسان وَفسحات العرفان)؟ 1.
لمعرفة الجواب كانت تجربته الشخصية الروحية، التي نجد صداها المُدوّن على طول الكتاب وعرضه.
الحال والمقام
يقتحم السالك الحجب المانعة عن القصد فينطلق بخطى ثابتة على طريق الإحسان، تتداركه العناية الإلهية في كل مرة يحصل له الفتور ليقوم من جديد، فترتقي روحه ويصفو قلبه فيحصل له ما شاء الله من الكرامات، حتى إذا حفظه الله من محاذير السلوك وأخطاره أتته الأحوال الشريفة بين الحين والآخر. وكلما ثبت له حال من الأحوال واستقر صار مقاما. والمقامات كثيرة يختلف تحديدها وتعدادها وأسماؤها وترتيبها من ولي لولي ومن مُرب لمربّ ومن عارف لعارف.
الحال
فالحال الذي يرد على قلب السالك الصادق في طلب وجه الله تعالى كثمرة من ثمرة أعماله وامتنان يمنّ الله به على عبده، يعرفه الإمام رحمه الله بقوله: (إذا أُطْلِقَ لفظ “الحال” يراد به أحد معنيين: الحال المقابل للمقام، وهو اتصاف السالك بخلق إيماني إحساني قد يحول ويتغير ويتراجع عنه صاحبه. فإذا تمكن في تلك الصفة سمي تمكنُّه ورسوخه وكسبه لها مقاما. والمعنى الثاني للحال هو ظهور حركات في الجسم واضطراب في النفس وكسوف في العقل ورجة في الكيان كلِّه عند غلبة الوارد) 2.
وعند الشيخ عبد الرزاق الكاشاني في معجم اصطلاحات الصوفية: الحال ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمل ولا اجتلاب، كحزن، أو خوف، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو ذوق يزول بظهور صفات النفس، سواء أعقبه المِثل أو لاً، فإذا دام وصارا ملكًا يُسمى مقامًا) 3.
والأحوال من طبيعتها أنها (تفْجَأ الذاكر حالَ الذكر، وحالَ العبادة، وحال الصلاة، من خشوع ودموع وهي الأحوال الشريفة السليمة من كل فتنة. على أن كلَّ الأحوال الربانية شريفة. وقد ذكر الله عز وجل شرفها في كتابه العزيز فقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ 4. فجعل سبحانه اقشعرار الجلود ولينَ الجلود والقلوب عند سماع أحسن الحديث من علامات الهداية، وجعل ضدَّ ذلك من تحجُّر القلب وتَيَبُّس العين وزَيَغَانِ العقل وشرود الذهن عند سماع كتاب الله تعالى من علامات الضلال) 5.
ومن جملة الأحوال التي ذكرها العارفون بالله تعالى في كتبهم: المحبّة، الغيرة، الحياء، القبض، البسط، الاتّصال، الشوق، الأنس، الهيبة، الغيرة، الخاتمة، الوصية، الجمع، التفرقة، الصحو، السكر، الذوق، المحو، الإثبات، الستر، التجلّي، والمكاشفة، وغيرها.
وفي بعض الأحيان يكون السالك مستغرقا في عبادة من العبادات كالذكر مثلا فلا يتحرك من الذاكر إلا لسانه وسبحته، أما هو في باطنه فينتقل من حال إلى حال، من حال محاسبة النفس على تقصيرها وأخطائها إلى حالة الندم والتوبة، إلى حال البكاء والخشوع. وكالقيام كذلك ينتقل فيه المقيم من حالة الخوف إلى حالة الرجاء إلى حالة الخشوع والبكاء. أحوال يصدق فيها قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء 6. ومن الأمثلة كذلك انتقال السالك من حال الصحبة إلى حال الصدق في الصحبة، ثم إلى حال الصدق مع المحبة في الصحبة. فمن السالكين المبتدئين من يغلب عليه الحال فيصرخ ويتحرك ويصيبه الجذب، ومنهم من يمنعون حالهم من الظهور عليهم لتمكنهم وتحققهم في الطريق. وهؤلاء المتمكنون المتحققون يوصون تلامذتهم لمنع ظهور الحال وتهدئته أمام الناس بكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طالع أيضا الإحسان رتبة في الدين ودرجة في التقوى
ومثل الأحوال في طريق السالك كمثل رجل قصد صاحبا له في أقصى البلدة، وفي طريقه إليه يمرّ على الأشجار والديار والمناظر المتنوعة، فهو يراها ويستمتع برؤيتها ولا يقف عندها، فإن وقف عندها أبطأ عن الموعد وأضاع الهدف والمقصد. وتحضرني بالمناسبة واقعة ذكرها لنا أحد الأحباب عن الإمام المرشد رحمه الله، أنه ذات يوم في مجلس ذكر غلب على أحد الحاضرين الحال فصار يبكي بصوت عال. فقال له رحمه الله: (أمسك نفسك عن هذا في وسط المؤمنين، أما عندما تكون لوحدك فتخشّع كما تشاء). وسئل رحمه الله كذلك عن الحال الذي عند أهل الزوايا من شدة الذكر، فقال: (الحال الذي نؤمن به هو ما كان عند الأنبياء والرسل وهم القدوة، أنهمإذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 7.
لعل الواحد يسأل نفسه هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليه الحال كما يرد على السالكين، ولماذا كان يستغفر في اليوم أو في المجلس سبعين مرة وفي رواية مائة مرة. فإنما يكون الاستغفار والمحاسبة عن ذنب، وهو صلى الله عليه وسلم المعصوم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. يجيب أهل السلوك والإحسان عن هذا السؤال، أنه لما كان صلى الله عليه وسلم من طبيعته الارتقاء في المقامات والدرجات، كان استغفاره صلى الله عليه وسلم عن كل مقام أدنى ارتقى منه إلى مقام أعلى.
ومن الأحوال الربانية ما يشتد ورودها على صاحبها فتغلبه حتى تُذهب عقله، وهذا حال المُوَلَّهين والبهاليل ومجاذيب الطريق كما أشار إلى ذلك الإمام، مستشهدا على ذلك بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هؤلاء: (ومن هؤلاء من يَقْوى عليه الوارد حتى يصير مجنونا إما بسبب خَلْطٍ يغْلبُ عليه، وإما بغير ذلك. ومن هؤلاء عقلاءُ المجانين الذين يُعَدُّون في النساك، وقد يُسَمَّون الموَلَّهين. قال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا، فسلب عقولهم، وأسقط ما فرض بما سلب) 8.
يقول المرشد رحمه الله معلقا على هذا الكلام: (هذا النوع من أصحاب الأحوال، بل كل المغلوبين بالحال، لا يُصْحَبُون، ولا يُقْتَدى بهم، ولا يُسْمَع لكلامهم ولو ظهرت عليهم الخوارق. وهم خطرٌ أشدُّ الخطر على السالك. غلبة الأحوال بلاء ومحنة عافانا الله!) 9.
ومن طبيعة الأحوال الربانية أيضا أنها (قد تغلب عظماء الرجال أثناء سلوكهم، ويبقى منها لمحات حتى بعد الكمال، كما كان يقع للإمام عبد القادر قدس الله سره. حكى رضي الله عنه عن نفسه قال: “كنت أشتغل بالعلم، فيطرقني الحال، فأخرج إلى الصحاري ليلا أو نهارا، وأصْرُخُ، وأهيم على وجهي. فصرخت ليلة فسمعني العَيَّارون (السارقون) ففزعوا. فجاؤوا فعرفوني. فقالوا: عبد القادر المجنون أفزَعْتَنَا! وكان ربما أغشي علي، فَيَلُفُّونني ويحسبون أني مت من الحال التي تطرقني”) 10.
المقام
أما المقامات فهي منازل ينزلها السالك كلما استقرت له الأحوال وارتقى واقترب. يقول الله عز وجل: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا 11. وقيل عن المقام أنه يبتدئ بالإيمان وينتهي باليقين. وقيل أيضا: المقام هو الأدب، وهو وقت يراد به أدب الشريعة، ووقت يُؤدى فيه أدب الخدمة، فأدب الشريعة الوقوف عند مراسمها، وهي حدود الله، وأدب الخدمة (خدمة الدين والدعوة) هي الفناء فيها مع المبالغة برؤية مجريها. وفي هذا الصدد يقول الإمام رحمه الله: (يتعين على السالكين إلى مقامات الإحسان وفيها يقظة خاصة حتى يؤدوا مراسيم العبودية مما فرضهُ الله عز وجل وندب إليه ونهى عنه وكرهه بالدقة التي يحرسها الورع، ويُجَلِّلها في القلوب الحضور الدائم مع الله عز وجل، ويوفِّيها هضم حق النفس الزائغة الطاغية بطبعها وهواها ليُصان حقُّ الله وحق عباد الله) 12.
ومن أمثلة المقامات التي ذكرها رحمه الله في كتاب الإحسان على سبيل الذكر لا الحصر: التوبة، اليقظة، الذكر، الدعاء، التفكر، الصدق، الإخلاص، التوكل، الصبر، الشكر، التقوى، الجهاد، الرضا، الأدب، التواضع،… الخ. وقد ذكر سبحانه بعضها وأكد عليها، فقال سبحانه في مقام التوبة: يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا 13، وفي مقام التقوى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته 14، وفي مقام الجهاد: وجاهدوا في الله حقّ جهاده 15. كما يمكن أن نجد في مقام واحد مراتب ودرجات وأحوالا، كمقام الصدق، نجد فيه: الصادق ثم الصدوق ثم الصدّيق، والمرتبة الصديقية هي أعلى مرتبة ما دون مقام النبوة. وهي المرتبة التي نالها سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وفي مقام الذكر نجد الذكر مع غفلة، ثم الذكر مع حضور، ثم الذكر مع مشاهدة المذكور. وفي مقام اليقين نجد علم اليقين، ثم عين اليقين، ثم حقّ اليقين. ولا يمكن الانتقال من مقام سابق إلى مقام لاحق إلا باستكمال شروط السابق لأن الأمر بناء لا تحليق.
طالع أيضا شروط الرجولة.. قراءة في فقرة «رجال» من كتاب «الإحسان» مع د. الحلو
ومثل طالب المقامات كمثل طالب الشهادات، لا يقنع بما هو أدنى بل يطمح في ما هو أعلى، وكلما ارتقى من شهادة أدنى إلى شهادة أعلى ظهر له نقص السابقة وكمال اللاحقة. وكذلك المقامات. وقد قال سبحانه وتعالى في حق نبينا إدريس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: واذكر في الكتاب إدريس، إنه كان صديقا نبيا، ورفعناه مكانا عليا 16.
الفرق بين الحال والمقام
إن من طبيعة الحال والمقام أنهما متداخلان من حيث أن أحدهما يتحول إلى الآخر، وأن أحدهما يحتوي الآخر.فالحال يتحول إلى المقام حين يتمكن منه صاحبه، بينما المقام قبل أن يرتقي صاحبه إلى مقام آخر ترد عليه ما شاء الله من أحوال ذلك المقام المتقدم. وبالرغم من ذلك جعل أهل الإحسان والسلوك بينهما فروقا:
– أن الحال هبة إلهية يرد على قلب السالك ذي التوجه الصادق من غير تعمد ولا كسب ولا جهد، وعندما يأتي السالك لا يمكن دفعه. وقد قال أهل السلوك: إن الله خلق ملكا يرشّ النور في قلوب عباده عند صفائها. بينما المقام فينبغي لتحقيقه الجهد والعمل والقصد. عند أهل السلوك أيضا: (الأحوال من غير الوجود والمقامات ببذل المجهود).
– أن الحال من طبيعته التحول والتغير، فقد يكون السالك في حال من الخشوع في لحظة ثم يزول عنه ليتحول إلى حال آخر، بينما المقام من طبيعته الثبات والاستقرار، فوجود السالك في مقام التوبة لا يتغير بل دائم وثابت عليه طول عمره، وكذلك الاستقامة والذكر والتوكل وغيره. غير أن المجددين والمربين الذين يرفعون بصحبتهم المريدين من حال إلى مقام، ومن مقام إلى مقام لا تحصل لهم الأحوال بل هم يعيشون الصفاء الدائم طول الوقت. ومن صاحبهم عن قرب أدرك ذلك.
– أن الأحوال الشريفة بالنسبة للسالكين المريدين بمثابة لُعب تلهيهم وتسليهم كصغار عن طلب الكرامات والإمدادات والعطاءات ليبقى طلبهم الأوحد هو طلب وجه الله تعالى، بينما الكبار من العارفين بالله والمربين فيتجاوزن الأحوال وليشتغلوا بالمقامات. يقال في المثل: الأحوال للسالكين كالخِشْخيشة للأولاد الصغار.
– أن الحال هو مقدمة المقام، فحين يرد الحال على قلب السالك ويتمكن ويثبت يصير مقاما. يقول أهل السلوك: الحال أشْرف والمقام أثْبت. بمعنى أن الحال يمثل دفعة للسالك للارتقاء إلى المقام. يجلس الذاكر يذكر الله تعالى فيرد على قلبه حال المحاسبة فيحاسب نفسه في تلك اللحظة على تقصيره، ثم عند قيامه وذهابه يصاحبه ذلك الحال من المحاسبة ليكون حالا دائما، عندئذ لم يعد حال المحاسبة حالا بل مقاما، لأن المحاسبة تمكنت وثبتت.
– أن الحال على السالك وارد وطارئ وعابر، بينما المقام مكتسب إليه روح السالك طامح وطالب. فيكون همّ السالك ليس ما يقع له من الأحوال بل ما يناله ويرتقيه من المقامات. وكما يقول العارفون بالله: الأحوال مواهب والمقامات مكاسب.
وقد اعتبر صاحب كتاب اللمع أنّ المقامات سبعة والأحوال عشرةُ 17. أمّا المقامات فهي: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، التوكّل، الرضا، والأحوال: المراقبة، القرب، المحبّة، الخوف، الرجاء، الشوق، الأُنس، الاطمئنان، المشاهدة، واليقين. واعتبر ذو النون المصري أنّ المقامات تسعة عشر، بينما ذكر الجنيد أنّها أربعة.ولعلّ كتاب “منازل السائرين” للشيخ عبد الله الأنصاري الهروي (396-481ه) أفضل أثر في تبيين المنازل وعددها، واللافت فيه أنّه جعل المقامات مئة مقسومة عشرة أقسام ذكرها بالتفصيل، وخصص منها قسما واحدا لذكر الأحوال.ومنها أخذ ابن القيم الجوزية تلك المنازل التي أحصاها وشرح غوامضها في كتابه “مدارج السالكين”، وسماها منازل إياك نعبد وإياك نستعين، بدأها بمنزلة اليقظة، وختمها بمنزلة الشهادة. بينما الأنصاري بدأها باليقظة وختمها بمنزلة التوحيد.
الانتقال من الحال إلى المقام
أورد الإمام المرشد في كتاب الإحسان كلاما عن الإمام السهروردي يبين فيه أهم الأحوال التي تعتري السالك في طريقه وكيف تتحول إلى مقامات يستقر فيها السالك. قال السهروردي رحمه الله: (الحال سُمِّي حالا لتحوله، والمقام مقاما لثبوته واستقراره. وقد يكون الشيء بعينه حالا ثم يصير مقاما، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعيةُ المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس. ثم تعود، ثم تزول. فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهَدُ الحال، ثم يحول الحالُ بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم، ويغلب حال المحاسبة، وتَنْقَهِرَ النفسُ، وتنضبطَ، وتتملكها المحاسبة، فتصير المحاسبة وطنَه ومُسْتَقَرَّهُ ومُقامَه. فيصير في مقام المحاسبة بعد أن كان له حال المحاسبة) 18.
طالع أيضا هذا الإمام...
يمضي السهروردي في تعليمه فيقول: (ثم (من بعد مقام المحاسبة) يُنازل حال المراقبة. ثم يَحول حالُ المراقبة، لتناوُبِ السهو والغفلة في باطن العبد، إلى أن ينقشع ضبابُ السهو والغفلة، ويتداركَ اللهُ عبدَه بالمعونة، فتصير المراقبة مقاما بعد أن كانت حالا. ولا يستقر مقام المحاسبة قرارَه إلا بنازل حال المراقبة. ولا يستقر مقام المراقبة قرارَه إلا بنازل حال المشاهدة.
فإذا مُنحَ العبدُ بنازل حال المشاهدة استقرتْ مراقبتُه، وصارت مقامَه. ونَازِلُ المشاهدة يكون أيضا حالا يحول بالاستتار، ويظهر بالتجلي، ثم يصير مقاما. وتتخلَّص شمسه من كسوف الاستتار.
ثم مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقِّيات من حال إلى حال أعلى منه، كالتحقُّقِ بالفناء والبقاء، والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين. وحقُّ اليقين نازلٌ يخرِق شِغافَ القلب. وذلك أعلى فروع المشاهدة) 19.
فهي إذا مقامات، وأعظم مقام وأعلاه يقف عنده السالكون هو ما أكد عليه الإمام رحمه الله باعتباره غاية مُنى الأولياء والعارفين، وهو مقام العبْدية، يقول رحمه الله تعالى: (على أن أولياء الرحمان لا يرضَوْن بغير مقام العبْدِيَّة الخالصة منتهىً. العبدية المُمَحضَّة لله عز وجل غاية مناهم. وما يمنحون من أسرار وكشوفات ومراتب إنما هي زينة مولاهم ونعمته، يفرحون ويشكرون، لكنَّ وجههُ عز وجل هو المطلب، العبودية له هي أعلى مكسب) 20. ومقام العبدية هي المنزلة التي وصف بها الله تعالى أنبياءه ورسله. فقال سبحانه في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: سبحان الذي أسرى بعبده 21، وقال أيضا: وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا.. 22. وقال في حقه كذلك: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا 23. وقال في حق سيدنا نوح عليه السلام: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا 24. وقال في حق سيدنا سليمان عليه السلام: ووهبنا لداود سليمان، نعم العبد، إنه أواب 25. وفي حق سيدنا أيوب عليه السلام: إنا وجدناه صابرا، نعم العبد، إنه أواب 26.
خاتمة
في السلوك الإحساني وما يعرفه الطريق من أحوال وعطاءات وكرامات وإمدادات وأنوار وأسرار تستحليها النفس ويطرب لها القلب ويفرح لها الروح ما قد يدفع ببعض السالكين إلى الخلوة دون الجلوة، وإلى المجاهدة دون الجهاد، وإلى العزلة دون الجماعة، ظانين منهم أن هذا يكفي لتحقيق المقامات العليا. وهذا ما ينبه إليه الإمام رحمه الله تعالى دائما، أن تحقيق المقامات الإحسانية ينبغي أن لا ينفك عن هم ومصير ومقام الأمة في السلوك الحضاري. يقول رحمه الله: (إذا كنت وحدك في خلوة همُّك نفسك ومصيرُك ومقامُك عند الله فلا تُبالِ. أما إذا كان هم مصيرك ومقامك لا ينفك عن هم الأمة ومصيرها فما في المسلك الصوفي بهذا الصدد لك من أسوة. هُم رضي الله عنهم خاضوا بلاء العزلة والصمت ودوام الصوم والمراقبة والذكر، ونحن معشر السالكين على محجة الجهاد، بلاؤنا بإطعام الجائع ودعوة الغافل، ورفع الصوت غضبا لله، ومخالطة الناس، وتنظيمهم في صف الجهاد، مع دوام ذكر الله، والاستمساك بحبل الله، والاعتصام به لتوحيد الأمة بعد طرد المستكبرين والمترفين من سدة السلطان. وبلاء الحاجة والفاقة والتخلف، فإننا كالأيتام في مأدبة اللئام الحضارية الوفرية، باعث مادي مضايق مُلح قابض على الحلقوم يجرنا بسلاسل الضرورة للوحدة وما تقتضيه ونقتضيه من التصنيع والفاعلية في الأرض) 27.
فاللهم إنك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلا بك، اللهم فأعطنا منها ما يرضيك عنا.
[1] ياسين عبد السلام، الإحسان ج1، ص: 130.
[2] الإحسان ج2، ص: 253.
[3] الكاشاني عبد الرزاق، معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق وتقديم وتعليق الدكتور عبد العال شاهين، ص: 81.
[4] سورة الزمر، الآية: 23.
[5] الإحسان ج2، ص: 255.
[6] النمل: 88.
[7] مريم: 58.
[8] ابن تيمية، الفتاوى ج11، ص: 12، نقلا عن الإحسان ج2، ص: 256.
[9] الإحسان ج2، ص: 256.
[10] نفس المرجع، ص: 256.
[11] الإسراء: 79.
[12] الإحسان ج2، ص: 395-396.
[13] التحريم: 8.
[14] آل عمران: 102.
[15] الحج: 78.
[16] مريم: 57.
[17] ينظر أبو نصر السراج الطوسي، كتاب اللمع، ص: 65-66.
[18] الإمام السهروردي، عوارف المعارف، ج4، ص: 247- 248، نقلا عن الإحسان ج2، ص: 254.
[19] الإحسان ج2، ص: 254-255.
[20] نفس المرجع، ص: 241.
[21] الإسراء: 1.
[22] البقرة: 23.
[23] الكهف: 1.
[24] الإسراء: 3.
[25] ص: 30.
[26] ص: 44.
[27] الإحسان ج1، ص: 481.
الإحسان
عبد الصمد الخزروني
العدل والإحسان
مقدمة
بينما السالك في طريقه يقطع المسافات، ويخطو الخطوات، تعتريه نوازل من الأحوال يتحول بها من حال إلى حال، وتأبى روحه الاستقرار في مقام دون مقام، بل يلذّ لها الانتقال والارتقاء من مقام إلى مقام، وكل مقام بلذته وحلاوته الإيمانية وأنواره الإحسانية. حتى إذا فاز بجوار الحبيب أبتْ روحه عن ذلك بديلا ولا أحبّت عنه رحيلا، هناك يحلو لها اللقاء ويهنأ لها البقاء. وبين نازل الأحوال ونزول المقامات يكون السالك في أشد الحاجة إلى الهداية الربانية والتثبيت، وإلى الاستقامة الشرعية والثبات. ذلك أن مخاطر الطريق وأهوال السلوك واعتراض العقبات لا حدّ لها ولا نهاية.
في فقرة تحت عنوان (الحال والمقام) يتحدث الإمام المرشد رحمه الله في كتاب الإحسان عما يكتنف السالك خلال طريق سلوكه من هذه الأحوال الشريفة، وما يرتقيه بالجهد والمجاهدة والجهاد من مقامات القرب والزلفى، مبينا كيفية تعامل السالك مع ما يرد عليه من أحوال، وما ينتهي إليه من مقامات. وهنا يتساءل الإمام المرشد رحمه الله سؤالا مهما هو محور ولب الكتاب كله من أوله إلى آخره: (أي شيء يرفعني إلى مقامات الإحسان وَفسحات العرفان)؟ 1.
لمعرفة الجواب كانت تجربته الشخصية الروحية، التي نجد صداها المُدوّن على طول الكتاب وعرضه.
الحال والمقام
يقتحم السالك الحجب المانعة عن القصد فينطلق بخطى ثابتة على طريق الإحسان، تتداركه العناية الإلهية في كل مرة يحصل له الفتور ليقوم من جديد، فترتقي روحه ويصفو قلبه فيحصل له ما شاء الله من الكرامات، حتى إذا حفظه الله من محاذير السلوك وأخطاره أتته الأحوال الشريفة بين الحين والآخر. وكلما ثبت له حال من الأحوال واستقر صار مقاما. والمقامات كثيرة يختلف تحديدها وتعدادها وأسماؤها وترتيبها من ولي لولي ومن مُرب لمربّ ومن عارف لعارف.
الحال
فالحال الذي يرد على قلب السالك الصادق في طلب وجه الله تعالى كثمرة من ثمرة أعماله وامتنان يمنّ الله به على عبده، يعرفه الإمام رحمه الله بقوله: (إذا أُطْلِقَ لفظ “الحال” يراد به أحد معنيين: الحال المقابل للمقام، وهو اتصاف السالك بخلق إيماني إحساني قد يحول ويتغير ويتراجع عنه صاحبه. فإذا تمكن في تلك الصفة سمي تمكنُّه ورسوخه وكسبه لها مقاما. والمعنى الثاني للحال هو ظهور حركات في الجسم واضطراب في النفس وكسوف في العقل ورجة في الكيان كلِّه عند غلبة الوارد) 2.
وعند الشيخ عبد الرزاق الكاشاني في معجم اصطلاحات الصوفية: الحال ما يرد على القلب بمحض الموهبة من غير تعمل ولا اجتلاب، كحزن، أو خوف، أو بسط، أو قبض، أو شوق، أو ذوق يزول بظهور صفات النفس، سواء أعقبه المِثل أو لاً، فإذا دام وصارا ملكًا يُسمى مقامًا) 3.
والأحوال من طبيعتها أنها (تفْجَأ الذاكر حالَ الذكر، وحالَ العبادة، وحال الصلاة، من خشوع ودموع وهي الأحوال الشريفة السليمة من كل فتنة. على أن كلَّ الأحوال الربانية شريفة. وقد ذكر الله عز وجل شرفها في كتابه العزيز فقال: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ 4. فجعل سبحانه اقشعرار الجلود ولينَ الجلود والقلوب عند سماع أحسن الحديث من علامات الهداية، وجعل ضدَّ ذلك من تحجُّر القلب وتَيَبُّس العين وزَيَغَانِ العقل وشرود الذهن عند سماع كتاب الله تعالى من علامات الضلال) 5.
ومن جملة الأحوال التي ذكرها العارفون بالله تعالى في كتبهم: المحبّة، الغيرة، الحياء، القبض، البسط، الاتّصال، الشوق، الأنس، الهيبة، الغيرة، الخاتمة، الوصية، الجمع، التفرقة، الصحو، السكر، الذوق، المحو، الإثبات، الستر، التجلّي، والمكاشفة، وغيرها.
وفي بعض الأحيان يكون السالك مستغرقا في عبادة من العبادات كالذكر مثلا فلا يتحرك من الذاكر إلا لسانه وسبحته، أما هو في باطنه فينتقل من حال إلى حال، من حال محاسبة النفس على تقصيرها وأخطائها إلى حالة الندم والتوبة، إلى حال البكاء والخشوع. وكالقيام كذلك ينتقل فيه المقيم من حالة الخوف إلى حالة الرجاء إلى حالة الخشوع والبكاء. أحوال يصدق فيها قوله تعالى: وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مرّ السحاب، صنع الله الذي أتقن كل شيء 6. ومن الأمثلة كذلك انتقال السالك من حال الصحبة إلى حال الصدق في الصحبة، ثم إلى حال الصدق مع المحبة في الصحبة. فمن السالكين المبتدئين من يغلب عليه الحال فيصرخ ويتحرك ويصيبه الجذب، ومنهم من يمنعون حالهم من الظهور عليهم لتمكنهم وتحققهم في الطريق. وهؤلاء المتمكنون المتحققون يوصون تلامذتهم لمنع ظهور الحال وتهدئته أمام الناس بكثرة الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
طالع أيضا الإحسان رتبة في الدين ودرجة في التقوى
ومثل الأحوال في طريق السالك كمثل رجل قصد صاحبا له في أقصى البلدة، وفي طريقه إليه يمرّ على الأشجار والديار والمناظر المتنوعة، فهو يراها ويستمتع برؤيتها ولا يقف عندها، فإن وقف عندها أبطأ عن الموعد وأضاع الهدف والمقصد. وتحضرني بالمناسبة واقعة ذكرها لنا أحد الأحباب عن الإمام المرشد رحمه الله، أنه ذات يوم في مجلس ذكر غلب على أحد الحاضرين الحال فصار يبكي بصوت عال. فقال له رحمه الله: (أمسك نفسك عن هذا في وسط المؤمنين، أما عندما تكون لوحدك فتخشّع كما تشاء). وسئل رحمه الله كذلك عن الحال الذي عند أهل الزوايا من شدة الذكر، فقال: (الحال الذي نؤمن به هو ما كان عند الأنبياء والرسل وهم القدوة، أنهمإذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدا وبكيا 7.
لعل الواحد يسأل نفسه هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليه الحال كما يرد على السالكين، ولماذا كان يستغفر في اليوم أو في المجلس سبعين مرة وفي رواية مائة مرة. فإنما يكون الاستغفار والمحاسبة عن ذنب، وهو صلى الله عليه وسلم المعصوم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. يجيب أهل السلوك والإحسان عن هذا السؤال، أنه لما كان صلى الله عليه وسلم من طبيعته الارتقاء في المقامات والدرجات، كان استغفاره صلى الله عليه وسلم عن كل مقام أدنى ارتقى منه إلى مقام أعلى.
ومن الأحوال الربانية ما يشتد ورودها على صاحبها فتغلبه حتى تُذهب عقله، وهذا حال المُوَلَّهين والبهاليل ومجاذيب الطريق كما أشار إلى ذلك الإمام، مستشهدا على ذلك بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هؤلاء: (ومن هؤلاء من يَقْوى عليه الوارد حتى يصير مجنونا إما بسبب خَلْطٍ يغْلبُ عليه، وإما بغير ذلك. ومن هؤلاء عقلاءُ المجانين الذين يُعَدُّون في النساك، وقد يُسَمَّون الموَلَّهين. قال فيهم بعض العلماء: هؤلاء قوم أعطاهم الله عقولا وأحوالا، فسلب عقولهم، وأسقط ما فرض بما سلب) 8.
يقول المرشد رحمه الله معلقا على هذا الكلام: (هذا النوع من أصحاب الأحوال، بل كل المغلوبين بالحال، لا يُصْحَبُون، ولا يُقْتَدى بهم، ولا يُسْمَع لكلامهم ولو ظهرت عليهم الخوارق. وهم خطرٌ أشدُّ الخطر على السالك. غلبة الأحوال بلاء ومحنة عافانا الله!) 9.
ومن طبيعة الأحوال الربانية أيضا أنها (قد تغلب عظماء الرجال أثناء سلوكهم، ويبقى منها لمحات حتى بعد الكمال، كما كان يقع للإمام عبد القادر قدس الله سره. حكى رضي الله عنه عن نفسه قال: “كنت أشتغل بالعلم، فيطرقني الحال، فأخرج إلى الصحاري ليلا أو نهارا، وأصْرُخُ، وأهيم على وجهي. فصرخت ليلة فسمعني العَيَّارون (السارقون) ففزعوا. فجاؤوا فعرفوني. فقالوا: عبد القادر المجنون أفزَعْتَنَا! وكان ربما أغشي علي، فَيَلُفُّونني ويحسبون أني مت من الحال التي تطرقني”) 10.
المقام
أما المقامات فهي منازل ينزلها السالك كلما استقرت له الأحوال وارتقى واقترب. يقول الله عز وجل: ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا 11. وقيل عن المقام أنه يبتدئ بالإيمان وينتهي باليقين. وقيل أيضا: المقام هو الأدب، وهو وقت يراد به أدب الشريعة، ووقت يُؤدى فيه أدب الخدمة، فأدب الشريعة الوقوف عند مراسمها، وهي حدود الله، وأدب الخدمة (خدمة الدين والدعوة) هي الفناء فيها مع المبالغة برؤية مجريها. وفي هذا الصدد يقول الإمام رحمه الله: (يتعين على السالكين إلى مقامات الإحسان وفيها يقظة خاصة حتى يؤدوا مراسيم العبودية مما فرضهُ الله عز وجل وندب إليه ونهى عنه وكرهه بالدقة التي يحرسها الورع، ويُجَلِّلها في القلوب الحضور الدائم مع الله عز وجل، ويوفِّيها هضم حق النفس الزائغة الطاغية بطبعها وهواها ليُصان حقُّ الله وحق عباد الله) 12.
ومن أمثلة المقامات التي ذكرها رحمه الله في كتاب الإحسان على سبيل الذكر لا الحصر: التوبة، اليقظة، الذكر، الدعاء، التفكر، الصدق، الإخلاص، التوكل، الصبر، الشكر، التقوى، الجهاد، الرضا، الأدب، التواضع،… الخ. وقد ذكر سبحانه بعضها وأكد عليها، فقال سبحانه في مقام التوبة: يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا 13، وفي مقام التقوى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته 14، وفي مقام الجهاد: وجاهدوا في الله حقّ جهاده 15. كما يمكن أن نجد في مقام واحد مراتب ودرجات وأحوالا، كمقام الصدق، نجد فيه: الصادق ثم الصدوق ثم الصدّيق، والمرتبة الصديقية هي أعلى مرتبة ما دون مقام النبوة. وهي المرتبة التي نالها سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه. وفي مقام الذكر نجد الذكر مع غفلة، ثم الذكر مع حضور، ثم الذكر مع مشاهدة المذكور. وفي مقام اليقين نجد علم اليقين، ثم عين اليقين، ثم حقّ اليقين. ولا يمكن الانتقال من مقام سابق إلى مقام لاحق إلا باستكمال شروط السابق لأن الأمر بناء لا تحليق.
طالع أيضا شروط الرجولة.. قراءة في فقرة «رجال» من كتاب «الإحسان» مع د. الحلو
ومثل طالب المقامات كمثل طالب الشهادات، لا يقنع بما هو أدنى بل يطمح في ما هو أعلى، وكلما ارتقى من شهادة أدنى إلى شهادة أعلى ظهر له نقص السابقة وكمال اللاحقة. وكذلك المقامات. وقد قال سبحانه وتعالى في حق نبينا إدريس عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: واذكر في الكتاب إدريس، إنه كان صديقا نبيا، ورفعناه مكانا عليا 16.
الفرق بين الحال والمقام
إن من طبيعة الحال والمقام أنهما متداخلان من حيث أن أحدهما يتحول إلى الآخر، وأن أحدهما يحتوي الآخر.فالحال يتحول إلى المقام حين يتمكن منه صاحبه، بينما المقام قبل أن يرتقي صاحبه إلى مقام آخر ترد عليه ما شاء الله من أحوال ذلك المقام المتقدم. وبالرغم من ذلك جعل أهل الإحسان والسلوك بينهما فروقا:
– أن الحال هبة إلهية يرد على قلب السالك ذي التوجه الصادق من غير تعمد ولا كسب ولا جهد، وعندما يأتي السالك لا يمكن دفعه. وقد قال أهل السلوك: إن الله خلق ملكا يرشّ النور في قلوب عباده عند صفائها. بينما المقام فينبغي لتحقيقه الجهد والعمل والقصد. عند أهل السلوك أيضا: (الأحوال من غير الوجود والمقامات ببذل المجهود).
– أن الحال من طبيعته التحول والتغير، فقد يكون السالك في حال من الخشوع في لحظة ثم يزول عنه ليتحول إلى حال آخر، بينما المقام من طبيعته الثبات والاستقرار، فوجود السالك في مقام التوبة لا يتغير بل دائم وثابت عليه طول عمره، وكذلك الاستقامة والذكر والتوكل وغيره. غير أن المجددين والمربين الذين يرفعون بصحبتهم المريدين من حال إلى مقام، ومن مقام إلى مقام لا تحصل لهم الأحوال بل هم يعيشون الصفاء الدائم طول الوقت. ومن صاحبهم عن قرب أدرك ذلك.
– أن الأحوال الشريفة بالنسبة للسالكين المريدين بمثابة لُعب تلهيهم وتسليهم كصغار عن طلب الكرامات والإمدادات والعطاءات ليبقى طلبهم الأوحد هو طلب وجه الله تعالى، بينما الكبار من العارفين بالله والمربين فيتجاوزن الأحوال وليشتغلوا بالمقامات. يقال في المثل: الأحوال للسالكين كالخِشْخيشة للأولاد الصغار.
– أن الحال هو مقدمة المقام، فحين يرد الحال على قلب السالك ويتمكن ويثبت يصير مقاما. يقول أهل السلوك: الحال أشْرف والمقام أثْبت. بمعنى أن الحال يمثل دفعة للسالك للارتقاء إلى المقام. يجلس الذاكر يذكر الله تعالى فيرد على قلبه حال المحاسبة فيحاسب نفسه في تلك اللحظة على تقصيره، ثم عند قيامه وذهابه يصاحبه ذلك الحال من المحاسبة ليكون حالا دائما، عندئذ لم يعد حال المحاسبة حالا بل مقاما، لأن المحاسبة تمكنت وثبتت.
– أن الحال على السالك وارد وطارئ وعابر، بينما المقام مكتسب إليه روح السالك طامح وطالب. فيكون همّ السالك ليس ما يقع له من الأحوال بل ما يناله ويرتقيه من المقامات. وكما يقول العارفون بالله: الأحوال مواهب والمقامات مكاسب.
وقد اعتبر صاحب كتاب اللمع أنّ المقامات سبعة والأحوال عشرةُ 17. أمّا المقامات فهي: التوبة، الورع، الزهد، الفقر، الصبر، التوكّل، الرضا، والأحوال: المراقبة، القرب، المحبّة، الخوف، الرجاء، الشوق، الأُنس، الاطمئنان، المشاهدة، واليقين. واعتبر ذو النون المصري أنّ المقامات تسعة عشر، بينما ذكر الجنيد أنّها أربعة.ولعلّ كتاب “منازل السائرين” للشيخ عبد الله الأنصاري الهروي (396-481ه) أفضل أثر في تبيين المنازل وعددها، واللافت فيه أنّه جعل المقامات مئة مقسومة عشرة أقسام ذكرها بالتفصيل، وخصص منها قسما واحدا لذكر الأحوال.ومنها أخذ ابن القيم الجوزية تلك المنازل التي أحصاها وشرح غوامضها في كتابه “مدارج السالكين”، وسماها منازل إياك نعبد وإياك نستعين، بدأها بمنزلة اليقظة، وختمها بمنزلة الشهادة. بينما الأنصاري بدأها باليقظة وختمها بمنزلة التوحيد.
الانتقال من الحال إلى المقام
أورد الإمام المرشد في كتاب الإحسان كلاما عن الإمام السهروردي يبين فيه أهم الأحوال التي تعتري السالك في طريقه وكيف تتحول إلى مقامات يستقر فيها السالك. قال السهروردي رحمه الله: (الحال سُمِّي حالا لتحوله، والمقام مقاما لثبوته واستقراره. وقد يكون الشيء بعينه حالا ثم يصير مقاما، مثل أن ينبعث من باطن العبد داعيةُ المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس. ثم تعود، ثم تزول. فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهَدُ الحال، ثم يحول الحالُ بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم، ويغلب حال المحاسبة، وتَنْقَهِرَ النفسُ، وتنضبطَ، وتتملكها المحاسبة، فتصير المحاسبة وطنَه ومُسْتَقَرَّهُ ومُقامَه. فيصير في مقام المحاسبة بعد أن كان له حال المحاسبة) 18.
طالع أيضا هذا الإمام...
يمضي السهروردي في تعليمه فيقول: (ثم (من بعد مقام المحاسبة) يُنازل حال المراقبة. ثم يَحول حالُ المراقبة، لتناوُبِ السهو والغفلة في باطن العبد، إلى أن ينقشع ضبابُ السهو والغفلة، ويتداركَ اللهُ عبدَه بالمعونة، فتصير المراقبة مقاما بعد أن كانت حالا. ولا يستقر مقام المحاسبة قرارَه إلا بنازل حال المراقبة. ولا يستقر مقام المراقبة قرارَه إلا بنازل حال المشاهدة.
فإذا مُنحَ العبدُ بنازل حال المشاهدة استقرتْ مراقبتُه، وصارت مقامَه. ونَازِلُ المشاهدة يكون أيضا حالا يحول بالاستتار، ويظهر بالتجلي، ثم يصير مقاما. وتتخلَّص شمسه من كسوف الاستتار.
ثم مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقِّيات من حال إلى حال أعلى منه، كالتحقُّقِ بالفناء والبقاء، والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين. وحقُّ اليقين نازلٌ يخرِق شِغافَ القلب. وذلك أعلى فروع المشاهدة) 19.
فهي إذا مقامات، وأعظم مقام وأعلاه يقف عنده السالكون هو ما أكد عليه الإمام رحمه الله باعتباره غاية مُنى الأولياء والعارفين، وهو مقام العبْدية، يقول رحمه الله تعالى: (على أن أولياء الرحمان لا يرضَوْن بغير مقام العبْدِيَّة الخالصة منتهىً. العبدية المُمَحضَّة لله عز وجل غاية مناهم. وما يمنحون من أسرار وكشوفات ومراتب إنما هي زينة مولاهم ونعمته، يفرحون ويشكرون، لكنَّ وجههُ عز وجل هو المطلب، العبودية له هي أعلى مكسب) 20. ومقام العبدية هي المنزلة التي وصف بها الله تعالى أنبياءه ورسله. فقال سبحانه في حق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: سبحان الذي أسرى بعبده 21، وقال أيضا: وإن كنتم في ريب مما نزّلنا على عبدنا.. 22. وقال في حقه كذلك: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا 23. وقال في حق سيدنا نوح عليه السلام: ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا 24. وقال في حق سيدنا سليمان عليه السلام: ووهبنا لداود سليمان، نعم العبد، إنه أواب 25. وفي حق سيدنا أيوب عليه السلام: إنا وجدناه صابرا، نعم العبد، إنه أواب 26.
خاتمة
في السلوك الإحساني وما يعرفه الطريق من أحوال وعطاءات وكرامات وإمدادات وأنوار وأسرار تستحليها النفس ويطرب لها القلب ويفرح لها الروح ما قد يدفع ببعض السالكين إلى الخلوة دون الجلوة، وإلى المجاهدة دون الجهاد، وإلى العزلة دون الجماعة، ظانين منهم أن هذا يكفي لتحقيق المقامات العليا. وهذا ما ينبه إليه الإمام رحمه الله تعالى دائما، أن تحقيق المقامات الإحسانية ينبغي أن لا ينفك عن هم ومصير ومقام الأمة في السلوك الحضاري. يقول رحمه الله: (إذا كنت وحدك في خلوة همُّك نفسك ومصيرُك ومقامُك عند الله فلا تُبالِ. أما إذا كان هم مصيرك ومقامك لا ينفك عن هم الأمة ومصيرها فما في المسلك الصوفي بهذا الصدد لك من أسوة. هُم رضي الله عنهم خاضوا بلاء العزلة والصمت ودوام الصوم والمراقبة والذكر، ونحن معشر السالكين على محجة الجهاد، بلاؤنا بإطعام الجائع ودعوة الغافل، ورفع الصوت غضبا لله، ومخالطة الناس، وتنظيمهم في صف الجهاد، مع دوام ذكر الله، والاستمساك بحبل الله، والاعتصام به لتوحيد الأمة بعد طرد المستكبرين والمترفين من سدة السلطان. وبلاء الحاجة والفاقة والتخلف، فإننا كالأيتام في مأدبة اللئام الحضارية الوفرية، باعث مادي مضايق مُلح قابض على الحلقوم يجرنا بسلاسل الضرورة للوحدة وما تقتضيه ونقتضيه من التصنيع والفاعلية في الأرض) 27.
فاللهم إنك سألتنا من أنفسنا ما لا نملكه إلا بك، اللهم فأعطنا منها ما يرضيك عنا.
[1] ياسين عبد السلام، الإحسان ج1، ص: 130.
[2] الإحسان ج2، ص: 253.
[3] الكاشاني عبد الرزاق، معجم اصطلاحات الصوفية، تحقيق وتقديم وتعليق الدكتور عبد العال شاهين، ص: 81.
[4] سورة الزمر، الآية: 23.
[5] الإحسان ج2، ص: 255.
[6] النمل: 88.
[7] مريم: 58.
[8] ابن تيمية، الفتاوى ج11، ص: 12، نقلا عن الإحسان ج2، ص: 256.
[9] الإحسان ج2، ص: 256.
[10] نفس المرجع، ص: 256.
[11] الإسراء: 79.
[12] الإحسان ج2، ص: 395-396.
[13] التحريم: 8.
[14] آل عمران: 102.
[15] الحج: 78.
[16] مريم: 57.
[17] ينظر أبو نصر السراج الطوسي، كتاب اللمع، ص: 65-66.
[18] الإمام السهروردي، عوارف المعارف، ج4، ص: 247- 248، نقلا عن الإحسان ج2، ص: 254.
[19] الإحسان ج2، ص: 254-255.
[20] نفس المرجع، ص: 241.
[21] الإسراء: 1.
[22] البقرة: 23.
[23] الكهف: 1.
[24] الإسراء: 3.
[25] ص: 30.
[26] ص: 44.
[27] الإحسان ج1، ص: 481.
الإحسان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin