المحبة الإلهية والمعرفة
رأينا فيما مضى ما كان لفكرة المحبة الإلهية من أثر في تغيير التصورات الدينية التقليدية، ونريد الآن أن نشرح وظيفتها في جانب آخر هو جانب المعرفة بالله؛ إذ المحبة الإلهية وحدها — لا التعقل والنظر — في نظر الصوفية هي الطريق الوحيد الموصل إلى تلك المعرفة. أي إن معرفة الصوفي بالله ليست وليدة العقل، بل وليدة قوى أخرى تعلو على العقل: ويظهر فيها عنصرا «الذوق» و«النزوع»، والحب الخالص وحده هو الذي يظهر فيه هذان العنصران: الإدراك الذوقي لماهية المحبوب وهو الذي نسميه بالمعرفة، والإقبال الكلي عليه وهو ما نسميه بالنزوع. بل لقد كاد الصوفية يجمعون على أن المعرفة والحب الإلهي شيء واحد وحقيقة واحدة، يدل على ذلك إطلاقهم اسم «العارف» على الصوفي الفاني في محبة الله. يقول القشيري في وصف «العارف»: «فإذا صار من الخلق أجنبيًّا، ومن آفات نفسه بريًّا … ودامت في السر مع الله مناجاته، وحق كل لحظة إليه رجوعه، وصار محدثًا من قِبل الحق سبحانه بتعرف أسراره بما يجريه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك «عارفًا» وتسمى حالته «معرفة»، وبالجملة فمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه.»١ وفي نفس المعنى يقول أبو يزيد البسطامي بلسان الصوفي الفاني في حب الله: «للخلق أحوال ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره.»٢
فالصوفي في حال استغراقه في حب الله يدرك نوعًا من المعرفة ومن اللذة لا عهد لغيره بهما، فهو في حال الحب يعرف محبوبه، وهو في حال المعرفة يحب معروفه: أي إن المعروف والمحبوب اسمان لشيء واحد، والمعرفة والحب وجهان لحقيقة واحدة، ولم يبعد الصوفية كثيرًا عندما شبهوا هذا النوع من المعرفة بالمعرفة الناشئة عن الأذواق والتجارب الحسية المباشرة، فإن الإنسان يدرك معنى الحلاوة في الشيء الحلو ومعنى المرارة في الشيء المر إدراكًا مباشرًا، ولا يستطيع وصف الحلاوة والمرارة ولا تعليلهما، ولا نقل معنيهما إلى من حُرم حاسة الذوق. قالوا كذلك الحال في التجربة الصوفية، إلا أن المعرفة الحاصلة فيها ليست راجعة إلى الحس أو العقل، وإنما هي نور يقذف به الله في قلب من أحبه، أو هي إشراق الجانب الإلهي في قلب الصوفي.
ولهذا قال الصوفية إن محبة العبد لله ومعرفته إياه من المنح الإلهية التي لا تستجلب بالعمل ولا تكتسب بالسعي والمجاهدة، كما أن محبة الله للعبد نوع من الاختصاص سبقت به العناية الإلهية. بل إن المحبتين متلازمتان لأن الذين يحبون الله هم الذين يحبهم الله، وهو تلازم وارد في نصوص القرآن مثل قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.٣
١ الرسالة القشيرية، ص١٤١.
٢ الرسالة القشيرية، ص١٤١.
٣ المائدة: ٥٤.
رأينا فيما مضى ما كان لفكرة المحبة الإلهية من أثر في تغيير التصورات الدينية التقليدية، ونريد الآن أن نشرح وظيفتها في جانب آخر هو جانب المعرفة بالله؛ إذ المحبة الإلهية وحدها — لا التعقل والنظر — في نظر الصوفية هي الطريق الوحيد الموصل إلى تلك المعرفة. أي إن معرفة الصوفي بالله ليست وليدة العقل، بل وليدة قوى أخرى تعلو على العقل: ويظهر فيها عنصرا «الذوق» و«النزوع»، والحب الخالص وحده هو الذي يظهر فيه هذان العنصران: الإدراك الذوقي لماهية المحبوب وهو الذي نسميه بالمعرفة، والإقبال الكلي عليه وهو ما نسميه بالنزوع. بل لقد كاد الصوفية يجمعون على أن المعرفة والحب الإلهي شيء واحد وحقيقة واحدة، يدل على ذلك إطلاقهم اسم «العارف» على الصوفي الفاني في محبة الله. يقول القشيري في وصف «العارف»: «فإذا صار من الخلق أجنبيًّا، ومن آفات نفسه بريًّا … ودامت في السر مع الله مناجاته، وحق كل لحظة إليه رجوعه، وصار محدثًا من قِبل الحق سبحانه بتعرف أسراره بما يجريه من تصاريف أقداره، يسمى عند ذلك «عارفًا» وتسمى حالته «معرفة»، وبالجملة فمقدار أجنبيته عن نفسه تحصل معرفته بربه.»١ وفي نفس المعنى يقول أبو يزيد البسطامي بلسان الصوفي الفاني في حب الله: «للخلق أحوال ولا حال للعارف؛ لأنه محيت رسومه وفنيت هويته بهوية غيره، وغيبت آثاره بآثار غيره.»٢
فالصوفي في حال استغراقه في حب الله يدرك نوعًا من المعرفة ومن اللذة لا عهد لغيره بهما، فهو في حال الحب يعرف محبوبه، وهو في حال المعرفة يحب معروفه: أي إن المعروف والمحبوب اسمان لشيء واحد، والمعرفة والحب وجهان لحقيقة واحدة، ولم يبعد الصوفية كثيرًا عندما شبهوا هذا النوع من المعرفة بالمعرفة الناشئة عن الأذواق والتجارب الحسية المباشرة، فإن الإنسان يدرك معنى الحلاوة في الشيء الحلو ومعنى المرارة في الشيء المر إدراكًا مباشرًا، ولا يستطيع وصف الحلاوة والمرارة ولا تعليلهما، ولا نقل معنيهما إلى من حُرم حاسة الذوق. قالوا كذلك الحال في التجربة الصوفية، إلا أن المعرفة الحاصلة فيها ليست راجعة إلى الحس أو العقل، وإنما هي نور يقذف به الله في قلب من أحبه، أو هي إشراق الجانب الإلهي في قلب الصوفي.
ولهذا قال الصوفية إن محبة العبد لله ومعرفته إياه من المنح الإلهية التي لا تستجلب بالعمل ولا تكتسب بالسعي والمجاهدة، كما أن محبة الله للعبد نوع من الاختصاص سبقت به العناية الإلهية. بل إن المحبتين متلازمتان لأن الذين يحبون الله هم الذين يحبهم الله، وهو تلازم وارد في نصوص القرآن مثل قوله تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.٣
١ الرسالة القشيرية، ص١٤١.
٢ الرسالة القشيرية، ص١٤١.
٣ المائدة: ٥٤.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin