الحياة الصوفية في ظل المرشدين وأصحاب الفرق
جرت عادة الصوفية مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يقسموا الحياة الصوفية إلى قسمين: حياة المجاهدة وحياة المشاهدة، فيفرقوا بين أعمال الزهد والرياضات والعبادات من جهة، وما ينكشف في الطريق الصوفي من معان وأسرار وإشارات وموارد من جهة أخرى، وقد أطلق المسيحيون في القرون الوسطى على القسم الأول اسم «حياة التطهير»، وعلى الثاني اسم «حياة الإشراق»، وسمى صوفية الإسلام الأول باسم الزهد، والثاني باسم التصوف، وهذه تفرقة قد التزمناها في هذا الكتاب في بعض المواضع تسهيلًا للبحث وعرض المسائل، وربط الظواهر الصوفية الإشراقية بالجانب العملي من الحياة الصوفية على نحو ما تُربط المسببات بأسبابها، ولكن الحقيقة أن الحياة الصوفية كلٌّ لا يتجزأ ولا ينقسم، ووحدة متصلة لا تخضع لحدود زمانية بحيث يقال إن هذا الجزء متقدم بالزمان على ذلك الجزء، كما أنها لا تخضع لمنطق العقل بحيث يقال إن جانبها العملي بمثابة المقدمات وجانبها الإشراقي بمثابة النتائج. نعم، قد نصف الفوائد الروحية والأحوال النفسية التي يعانيها الصوفي بأنها ثمرات المجاهدة، ولكن الثمرة هنا ليست شيئًا منفصلًا ولا مستقلًّا عن الشجرة التي تحملها، بل هي جزء لا يتجزأ منها.
وكما أن الشجرة قد تنمو وتترعرع وتورق ولا تثمر، كذلك السالك في الطريق الصوفي قد يحيى حياة مجاهدة غير موجهة وغير سليمة ولا يظفر بشيء من الحياة الذوقية الكشفية، وبذلك لا تؤدي رياضاته ومجاهداته إلى النتيجة التي يطلبها من تصفية النفس وصدق المعاملة مع الله والخلق؛ ولهذا أوجب الصوفية على المريدين صحبة المشايخ لكي يرشدوهم على التغلب على مصاعب الطريق ويمكنوهم من الترقي في سُلم المعراج الروحي.
والصحبة الصوفية شيء أعم من مجرد التلمذة أو الاتِّباع، وإنما هي من قِبَل الشيخ تعهد وإرشاد ومراقبة دقيقة ومحاسبة للمريد وتصحيح أوضاع ونقد وتعليم وتبصير بأسرار الحياة الروحية، وهي أيضًا محبة وعطف وإشفاق، وأخذ بالصرامة والعنف حيث تجب الصرامة أو العنف، وهي من جانب المريد طاعة وحب وتفويض وفناء في شخصية الشيخ المرشد، وبهذا يستطيع الشيخ أن يوجِّه الطاقة الروحية الكامنة عند المريد ويخرجها من القوة إلى الفعل على الوجه الذي يحقق لها ثمرتها. يقول الأستاذ أبو علي الدقاق أستاذ القشيري: «الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد ورَّق ولكنه لا يثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لا يجيء منه شيء.»١ ويقول أبو يزيد البسطامي: «من لم يكن له أستاذ فأستاذه الشيطان.»
ولا تتهيأ هذه القيادة الروحية إلا لكبار الروحانيين أصحاب البصيرة النافذة والفراسة القوية، الصادقين في إرشادهم، المخلصين لدينهم وأصحابهم، وهؤلاء قلة من الصوفية ظهروا ويظهرون بين حين وآخر، وأسسوا ويؤسسون مدارس في التصوف وإن لم يكن لبعضهم كتب مصنفة. هؤلاء الروحانيون نماذج حية مُشعة موحية موجهة عن طريق الإيحاء والإيمان أكثر منها عن طريق التعليم والوعظ، وقد سجل لنا تاريخ التصوف أسماء عدد غير قليل من هؤلاء المشايخ الذين كان لهم أكبر الفضل لا في تكوين المريدين وحسب، بل في تشكيل الحياة الروحية في التصوف الإسلامي: منهم أبو القاسم الجنيد وأبو حفص النيسابوري وأبو علي الدقاق من العصر السابق على ظهور الطرق الصوفية، وعبد القادر الجيلاني وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري من رجال الطرق.
وللصوفية آداب في الطريق تحدد العلاقة بين الشيخ والمريدين وتعين واجبات كلٍّ، وقد تختلف هذه الآداب والواجبات باختلاف المشايخ والطرق في مسائل تفصيلية، ولكنها تتفق في الأمور الأساسية الجوهرية التي بدونها يضل السالك الطريق إلى الله.
والواجب الأول على المريد نحو أستاذه الطاعة المطلقة في كل ما يأمر به حتى ولو خيل للمريد أنه مأمور بشيء يخالف ظاهر الشرع. بل لقد بالغ بعض الصوفية فطالبوا بطاعة الشيخ أولًا وطاعة الله ثانيًا؛ لأن طاعة الله في نظرهم لا تصح إلا إذا وجه إليها الشيخ التوجيه الصحيح، وهم يعتبرون مخالفة المريد لشيخه دليلًا على عدم صدق إرادته وعلى فساد حاله.
والواجب الثاني أن يحفظ المريد سره إلا عن شيخه، وأن يبوح له بكل عمل يعمله أو خاطر يخطر بباله. يقول القشيري: «ولو كتم نَفَسًا من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في صحبته.»٢ ولو وقعت له مخالفة — غير مقصودة — فيما أشار عليه شيخه، يجب أن يبادر بالإقرار بها بين يدي شيخه في الوقت، ويستسلم لما يحكم به عليه من العقوبة، وقد تذكرنا هذه القاعدة بمبدأ «الاعتراف» عند بعض الطوائف المسيحية، ولكن الفرق بينهما جوهري وأساسي: إذ «الاعتراف» المسيحي متصل بأصل من أصول الدين، والاعتراف الصوفي جزء من نظام أخلاقي ولا صلة له بأية مسألة اعتقادية.
ولا تبدأ صحبة المريد للشيخ على الحقيقة إلا بعد أن يصح عزم المريد على الدخول في الطريق، ولا يصح هذا العزم إلا باجتياز المريد «عتبة» الطريق أو المقام الأول فيه، وهو مقام التوبة، ومعناه ليس الإقلاع عن المعاصي والاستغفار عما سلف منها وحسب، بل التصميم على دخول حياة جديدة تختلف في أهدافها وبواعثها عن كل ما ألفه السالك من قبل؛ ولهذا شبه الصوفية مقام التوبة بالميلاد الجديد لأنه الحد الفاصل بين حياتين: الحياة في الدنيا ومن أجل الدنيا، والحياة في الله ومن أجل الله.
أما الأسباب التي تدعو إلى التوبة بهذا المعنى فكثيرة ومتنوعة، وقد سجل لنا التاريخ عددًا كبيرًا منها في تاريخ أولياء المسلمين وغير المسلمين، منها الرُّؤى الخارقة والأزمات الروحية الحادة كأزمة الغزالي وأزمة القديس أوغسطين وغيرهما، ولكن هذه مسألة تعني علماء النفس أكثر مما تعنينا هنا.
وإذا أيقن الشيخ صِدْق توبة المريد قَبِل صحبته والإشراف عليه، وراقبه في مراحل الطريق التالية، وقد اصطلح الصوفية على تسمية هذه المراحل بالمقامات، وسموا ما يعرض فيها للسالك من أحداث روحية باسم الأحوال، وقد ذكر أبو نصر السراج في كتاب «اللمع» — وهو أقدم كتاب عربي في التصوف — سبعة من هذه المقامات هي: التوبة، والقناعة، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا. كما ذكر عشرة أحوال هي: الذكر، والقرب، والمحبة، والرجاء، والشوق، والأنس، واليقين، والمراقبة، والسكون.
أما القشيري والهجويري فيذكران عددًا أكبر من المقامات والأحوال، ولهما أساليبهما الخاصة في عرضها وشرحها، وربما كان القشيري أدق في تعريفاته للأحوال الصوفية التي كثيرًا ما يعرضها أزواجًا متقابلة مثل: «القبض والبسط»، و«الهيبة والأنس»، و«التواجد والوجد»، و«الجمع والفرق»، و«الفناء والبقاء»، و«الصحو والسكر»، و«المحو والإثبات»، و«الستر والتجلي»، وما إلى ذلك. أما الهجويري فيمتاز بدقة التحليل الصوفي لمفاهيم هذه المصطلحات، ومناقشتها والتعقيب عليها بأسلوب علمي بارع، كما يمتاز بإرشاداته إلى اختلاف آراء الصوفية فيها إذا كان هنالك اختلاف.
ولا ينتهي الطريق إلا بقطع المقامات كلها، ولا ينتقل السالك من واحد منها إلى آخر إلا إذا كان قد وصل إلى درجة الكمال في المقام السابق. فإذا اجتاز جميع المقامات انتقل إلى مرتبة روحية أعلى هي مرتبة المعرفة والشهود، وكمال المعرفة أن يدرك الصوفي ذوقًا وحدة العارف والمعروف.
(١) الفرق الصوفية
وكما يختلف كبار مشايخ الصوفية في تفصيل التكاليف العملية في الطريق الصوفي، كما هو واضح من تعاليم أصحاب الطرق التي ظهرت في الإسلام ابتداءً من القرن السادس، كذلك يختلفون في وجهات نظرهم في المسائل النظرية والحياة الإشراقية ومظاهرها في المقامات والأحوال، وقد ظهر لنا بعض جوانب هذه الفوارق فيما عالجناه من ظواهر الحياة الصوفية كالمحبة الإلهية والذكر والفناء والبقاء وغير ذلك، وهذه الفوارق قديمة قدم التصوف ذاته، ولكنها لا ترتفع بأصحابها إلى مرتبة «الفِرَق» على النحو الذي نفهمه من علم الكلام، بل ولا مرتبة أصحاب المذاهب على النحو الذي نفهمه في الفقه. فالفِرَق في علم الكلام تمثل اتجاهات مختلفة في تفسير وفهم أصول العقائد الدينية، أو مسائل متفرعة عن هذه الأصول كمسألة خلق القرآن أو قِدَمه المتفرعة عن مسألة الصفات الإلهية وصفة الكلام الإلهي بوجه خاص، وكمسألة حرية الإرادة الإنسانية أو جَبريَّتها المتفرعة عن مسألة العدل الإلهي، وغير ذلك.
وكذلك تختلف الفِرَق الكلامية في مناهجها في استنباط العقائد وتدعيمها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية، ومن أصحاب الفرق من يلتزم ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومنهم المتأول لها، وهم يختلفون في أساليب التأويل وتوجيهه وجهات تتفق وروح المذهب العام الذي تدين به الفرقة، وفي كل حالة يظهر موقف المتكلم لا من مسألة اعتقادية خاصة، بل من الدين كله: فالمشبِّهة والمجسمة من المتكلمين غير المنزهة، والمعتزلة غير الأشاعرة والكرامية والحشوية، والشيعة غير أهل السنة، وهكذا. بل إن كل واحدة من هذه الفرق تتمثل الدين في صورة غير الصورة التي تتمثله فيها الفرق الأخرى على الرغم من اتفاقها جميعًا في المبدأ العقيدي الأول وهو مبدأ التوحيد.
أما الفرق الصوفية فلا خلاف بينها في مسائل العقائد، بل في الحياة الصوفية، ماهيتها ومقوماتها وغاياتها وأساليبها ومظاهرها. بعبارة أخرى يختلف الصوفية من حيث هم صوفية لا من حيث هم أشاعرة أو معتزلة أو ظاهرية، فقد يكون الصوفي واحدًا من هؤلاء أو من غيرهم. فهم يختلفون في نظرتهم إلى ذلك اللون من الحياة التي اختاروها وتميزوا بها عن غيرهم، وإلى ما ينكشف لهم فيها من غريب الأحوال والأطوار وإلى حقيقة هذا الكشف وقيمته الروحية، وأخيرًا يختلفون فيما يعدونه طريقًا ناجحًا موصلًا إلى مطلوبهم، ويتبعهم في هذا الطريق أصحابهم ومريدوهم.
وقد عقد الشيخ أبو الحسن علي بن عثمان بن علي الجُلَّابي الهجويري المُتوفَّى سنة ٤٥٦ فصلًا ممتعًا في كتابه «كشف المحجوب» — وهو أقدم وأفضل مرجع في التصوف باللغة الفارسية — فيما سماه «فرق الصوفية»٣ وهي الفرق التي ظهرت في التصوف الإسلامي في عصره الذهبي وهو عصر التصوف البحت الذي شهد معظم كبار الصوفية المبتكرين، وكان التصوف فيه بعيدًا — نسبيًّا — عن الاختلاط بالفلسفة وعلوم الأسرار، وقد قسم الهجويري هذه الفرق إلى اثنتي عشرة فرقة، قَبِل منها عشرًا ورد اثنتين وضعهما تحت اسم الحلولية. أما العشرة المقبولة فأطلق عليها أسماء مؤسسيها، وهي:
(١)المحاسبية: نسبةً إلى الحارث بن أسد المحاسبي.
(٢)القصارية: نسبةً إلى حمدون بن أحمد القصار الملامتي.
(٣)الطيفورية: نسبةً إلى أبي يزيد طيفور بن عيسى البسطامي.
(٤)الجنيدية: نسبةً إلى أبي القاسم الجنيد.
(٥)النورية: نسبةً إلى أبي الحسين النوري.
(٦)السهلية: نسبةً إلى سهل بن عبد الله التستري.
(٧)الحكيمية: نسبةً إلى أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي.
(٨)الخرَّازية: نسبةً إلى أبي سعيد الخرَّاز.
(٩)الخفيفية: نسبةً إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي.
(١٠)السيَّارية: نسبةً إلى أبي العباس السياري.
وليس لأحد آخر فيما نعلم تصنيف للفرق الصوفية من هذا النوع، بل هو نوع انفرد به الهجويري في كتابه العلمي الرائع، وهو ينظر في هذا الفصل من الكتاب إلى الميدان الصوفي العام ويحاول أن يتبين المعالم البارزة فيه، ويركز هذه المعالم حول كبار مشايخ الطريق الذين كان لهم أتباع وتعاليم روحية اصطبغ بها تصوفهم وخلفت أثرها في مجرى التصوف العام؛ لذلك أفرد كل واحد من هؤلاء المشايخ بفقرة خاصة طويلة أحيانًا وقصيرة أحيانًا أخرى، معالجًا أخص ما امتاز به تصوفه وتصوف فرقته، تاركًا مختلف التفاصيل التي يشترك فيها مع غيره، كما يعرج أحيانًا على المسائل التي هي موضع خلاف بين صوفي وآخر ليعرضها عرضًا موضوعيًّا مفصلًا ويورد أقوال الصوفية الآخرين فيها، ويسجل رأيه الخاص في أغلب الأحيان، وبهذا يضع الهجويري أمامنا صورة مصغرة لتاريخ المذاهب الصوفية واتجاهاتها منذ ظهر التصوف حتى نهاية النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.
والآن نعرض بعض جوانب الحياة الصوفية التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الصوفية حسب تقدير الهجويري لنتبين نوع هذا الخلاف ومداه، ولكننا سوف لا نتقيد في عرضنا بما يقوله الهجويري وحده في هذه المسائل، ومن ذلك:
(١-١) اختلافهم في الفقر والغنى
يتكلم الناس عادةً عن الفقر والغنى بمعناهما المادي: فالفقير عندهم هو المعدم الذي لا يملك ما يملكه الغني، والغني هو الذي أعطي بسطة في الرزق فكان له المال أو العقار أو غيرهما من متاع الدنيا، وقد تكلم أوائل الزهاد المسلمين عن الفقر والغنى بهذا المعنى فلم يتجاوزوا التصور المادي لهما؛ ولذلك جعلوا الفقر أساسًا في طريقهم وتجردوا عما يملكون من مال ومتاع، بل جعلوا هذا التجرد بداية لا بد منها للدخول في ميدان الزهد، وإذا تصفحنا أقوال إبراهيم بن أدهم وغيره من زهاد المسلمين في الفقر لم نجد في كلامهم إلا هذا.
ولكن الصوفية ابتداءً من القرن الثالث فلسفوا الفقر والغنى واتخذوا لهما معايير أخرى، وهي معايير لا صلة لها بالمال ولا بما يملك الناس من مقتنيات هذه الدنيا: وإنما صلتها بالنفس الإنسانية وصفاتها ورغباتها، وبالله وعلاقته بالعبد، ولذا كانت نظرتهم إلى الفقر والغنى نظرة ميتافيزيقية سيكولوجية عميقة بنوا عليها نظامًا في الزهد على مستوى روحي أعلى.
وقد شاع اسم «الفقير» في أوساط الصوفية في عصر مبكر في تاريخ التصوف حتى كاد يصبح عَلمًا على الصوفي، ولكن «الفقير» بالمعنى الصوفي ليس هو المعدم الذي لا يملك قوت يومه، ولا الأشعث الأغبر لابس المرقعة، وإن كان من الصوفية من هُم على هذا النحو، بل هو الصوفي الكامل الذي تحقق بصفات «الافتقار» إلى الله، وسار في حياته بمقتضى ما تَحَقَّق به، وهذه هي النقطة الأولى في فلسفتهم للفقر، وهي تفسيره بمعنى «الافتقار».
ليس الفقير عندهم إذن من خلا من الزاد، وإنما الفقير من خلا قلبه من الرغبة في المراد. هذا تعريف الفقير في عرفهم، وهو تعريف يفسر الناحية السلبية من الفقر الصوفي. أما الناحية الإيجابية فهي استغناء الفقير بالله وحده، وفي هذا يقول الشبلي: «الفقير من لا يستغني بشيء دون الله.»٤ فالفقر في عرف القوم فِقْدَان الصفات والرغبات والإرادات والفوز بالله وحده، وبهذا المعنى يقرب الفقر الصوفي من حال «الفناء» التي أطلنا القول فيها في مناسبات عديدة، بل ومن أحوال أخرى كثيرة وإن لم تجر العادة بتسميتها باسم الفقر، وقد لاحظنا عند النظر في أحوال الصوفية وتحليلها وسبر أغوارها أنها يفضي بعضها إلى بعض، ويئول بعضها إلى بعض، ويندمج بعضها في بعض، وكأنما هي مظاهر مختلفة لتجربة روحية واحدة هي «التجربة الصوفية» التي يتحقق فيها استغراق الصوفي في الله. فسواء تكلم الصوفية في «المحبة» أو «الذكر» أو «الفناء» أو «الزهد» أو «الإيثار» أو «الفقر» أو «التوكل» أو «الوجد» أو «السكر» أو «الجذب»، تجدهم يحومون حول معان مختلفة لحقيقة واحدة هي اتحادهم بالله أو اتصالهم به أو قربهم منه أو ما شئت فسمه، وليست هذه الأسماء إلا الألوان التي تصطبغ بها تجربتهم عندما ينكشف في قلوبهم النور الإلهي القاهر، أو هي الزوايا التي ينكسر عليها ذلك النور.
وعندما اختلف الصوفية أيهما أفضل: الفقر أم الغنى، لم يكونوا يفكرون في الفقر والغنى الماديين؛ إذ لا جدال بينهم في أن الفقر المادي من ألزم صفاتهم وأن الغنى المادي من الأشياء التي يجب أن يزهدوا فيها، وإنما الاختلاف في الفقر والغنى من حيث هما حالتان من حالات النفس، وفي أي هاتين الحالتين أولى بالصوفي أن يتحقق بها.
ذهب يحيى بن معاذ الرازي وأحمد بن أبي الحواري والحارث المحاسبي وأبو العباس بن عطاء ورُويم البغدادي وأبو سعد فضل الله بن محمد الميهني، إلى أن الاتصاف بالغنى أفضل من الاتصاف بالفقر: لأن الغنى من صفات الله وقد يوصف به العبد، والفقر من صفات العبد وحده، والصفة التي يمكن إطلاقها بالاشتراك على الله والعبد أفضل من تلك التي تطلق على العبد وحده، ولكن هذا استدلال خاطئ كما يلاحظ الهجويري: لأن جهة الاشتراك منفكة، وغنى الله ليس من نوع غنى العبد: إذ غنى الله معناه قيامه تعالى بنفسه وعدم افتقاره إلى غيره، وهو بذلك صفة قديمة لله. أما غنى العبد فهو استغناؤه بربه عن كل ما عداه، وهو صفة حادثة، ويذهب الهجويري إلى أن الغنى على الإطلاق إنما هو لله وحده، وأن الفقر صفة ملازمة للعبد، إذ الغني الحقيقي هو الغني عن الأسباب، ومن كان مصدر الأسباب كلها، وهو الله، كان هو الغني. يصف الله تعالى نفسه بأنه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أي أنه لا يفتقر إلى شيء وليس معلولًا لشيء.
والجمهور الأعظم من الصوفية يفضلون اتصاف الصوفي بالفقر دون الغنى لسببين: أولهما أن القرآن والحديث يمتدحان الفقراء ويَصفانهم بأنهم أقرب وأحب إلى الله. يقول الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ،٥ ويقول: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.٦ ويروى عن النبي ﷺ أنه قال: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.» ولكن الإشارة هنا إلى الفقر المادي وهو الاجتزاء بالقليل الضروري والزهد في متاع الحياة الدنيا، والسبب الثاني هو أن كل إنسان مفتقر إلى الله افتقار المعلول إلى علته؛ أي إن الافتقار من طبيعة المخلوق سواء أكان يملك شيئًا أم لا يملك، وهذا هو بعينه معنى العبودية بدليل قوله تعالى في وصف كلٍّ من سليمان وأيوب بصفة «العبد» في قوله: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ٧ مع أن سليمان كان صاحب ملك عظيم وكان أيوب فقيرًا مبتلى، وأي افتقار أعظم من افتقار العبد إلى من يمنحه الوجود وما يتقوم به ذلك الوجود؟ إن الغني الذي منحه الله شيئًا من النعم فقير من حيث هو غني؛ لأنه غني إذا نظرت إلى النعم ذاتها، فقير إذا نظرت إلى واهب النعم.
وإذا فهمنا من الفقر افتقار العبد إلى ربه ومن الغنى استغناءه به، لم يكن السؤال عن أيهما أفضل وأتم بالنسبة للعبد ذا موضوع؛ لأنه على حد قول الجنيد: «إذا صح الافتقار إلى الله عز وجل فقد صح الاستغناء بالله تعالى، وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغنى. فلا يقال أيهما أتم: الافتقار أم الغنى؛ لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.»٨ ومن ذلك:
الرضا
وهو من الظواهر التي اختلف الصوفية في اعتبارها من الأحوال أو المقامات، وفي هل الرضا أفضل من الزهد أم الزهد أفضل منه.
وقد امتاز مذهب الحارث المحاسبي باعتبار الرضا حالًا من الأحوال، وتبعه في ذلك الخراسانيون، وذهب أهل العراق إلى اعتباره مقامًا من المقامات. هذا هو رأي الهجويري، ولكن القشيري يعكس هذا الوضع عكسًا تامًّا ويقول: «واختلف العراقيون والخراسانيون في الرضا هل هو من الأحوال أو المقامات، فأهل خراسان قالوا: الرضا من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل، ومعناه أنه يئول إلى أنه مما يتوصل إليه العبد باكتسابه، وأما العراقيون فإنهم قالوا: الرضا من جملة الأحوال، وليس ذلك كسبًا للعبد، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال.»٩
ويحاول القشيري أن يوفق بين الاتجاهين فيقول: «ويمكن الجمع بين اللسانين فيقال بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وليست مكتسبة.»١٠
وليست المسألة مسألة ألفاظ، وإنما هي من المسائل التي تظهر فيها النظرة العميقة إلى كنه الحياة الصوفية باعتبار «الرضا» عنوان هذه الحياة وجوهرها: فإننا إذا اعتبرنا «الرضا» حالًا من الأحوال، كان شيئًا وهبيًّا يلقيه الله في قلب العبد، ويرد عليه عندما يرد على فترات، شأنه في ذلك شأن الأحوال الأخرى. أما إذا اعتبرناه «مقامًا» فهو من الأمور الكسبية التي يحصلها السالك بالرياضة والمجاهدة والتفكير في حكمة الله وأفعاله، وما يصدق على «الرضا» يصدق على غيره من مظاهر الحياة الصوفية الأخرى كالتوبة والورع والمحبة: فإن لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه على الحقيقة أحوالًا أو مقامات، أو بعبارة أخرى عما إذا كانت مواهب أو مكاسب؟ وقد يكون من المبالغة اعتبارها كلها من المواهب الإلهية التي لا دخل لأعمال العبد فيها، فإن هذا يذهب بقيمة المجاهدات والرياضات جملةً. كما أن من المبالغة أن ذهب إلى أنها كلها من أكساب العبد فنسد الطريق على العناية الإلهية التي يختص بها الله من يشاء، والحل الوسط الذي يذهب إليه القشيري هو أفضل الحلول: فهي كسبية في بداية أمرها وهبية في نهايتها؛ أي إن الصوفي في بداية حاله يُنَازل نفسه ويجاهدها ويروضها فيسير بها في مقام الرضا أو الورع أو التوبة، ثم يهبه الله تعالى في هذه المقامات المواهب ويورد في قلبه الأحوال التي تزيده إيمانًا ويقينًا برضاه وورعه وتوبته.
ولكن «الرضا» نوعان: رضا من جانب العبد، ورضا من جانب الله. قال تعالى: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ورضا الله عن العبد مجازاته على طاعته وإعلاء ذكره في الدنيا والآخرة، في حين أن رضا العبد عن الله هو الإذعان التام بإرادة الله والتسليم بقضائه وقدره والقيام بأمره، وبهذا يسبق الرضا الإلهي رضا العبد لأن من لا يرضى الله عنه لايوفقه إلى طاعته، فرضا العبد رهنٌ برضا الله عنه ولازمٌ من لوازمه.
وإذا حصل العبد في مقام الرضا استوى عنده المنح والمنع، والعطاء والحرمان، واللذة والألم، واستوت في نظره الأحداث خيرها وشرها، ما كان منها من مجالي الجلال الإلهي كالفقر والمرض في هذه الدنيا وكعذاب النار في الدار الآخرة، ومجالي الجمال الإلهي كالغنى والصحة في هذه الدنيا ونعيم الجنة في الدار الآخرة. سئل الحسين بن علي رضي الله عنه عن قول أبي ذر الغفاري: «الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلى من الصحة»، فقال: «رحم الله أبا ذر. أما أنا فأقول: إن من اتكل على حسن اختيار الله تعالى لم يتمن غير ما اختاره الله عز وجل.» فالذي أجاب بن الحسين بن علي هو ترك إرادة العبد والتفويض التام لإرادة الله، وهذا هو الرضا الصحيح.
والصوفي الكامل هو الذي يحوِّل نظره إلى المعطي دون الشي ء الذي أعطاه، فإذا أعطاه الله النعمى لا يكون رضاه بها من حيث هي نعمى، بل من حيث صدورها عن الله؛ لأن الرضا بالنعمى من حيث هي ارتكان إلى الأسباب. فالنعمى لا تكون نعمى إلا إذا أدت إلى المنعم.
وكذلك الذي يرضى بالبلاء، يرضى به ويحتمل آلامه لا من حيث هو بلاء بل من حيث صدوره عن الله الذي أنزله به، والذي يرضى بالاصطفاء لا يرضى به إلا من حيث صدوره عن الله الذي اصطفاه. فالله هو المقصود بالرضا في جميع هذه الأحوال، ومن كان رضاه بالله كان رضاه بكل شيء.
والرضا هو قلب الحياة الصوفية والمحور الذي تدور حوله أخلاق الصوفي، فمنه ينبع التوكل على الله والزهد في الدنيا، وهو الذي يورث السكينة في القلب والاطمئنان إلى أحكام القضاء الإلهي، وهو صنو المحبة الإلهية، بل هو ثمرتها لأن من شأن المحب أن يرضى بكل ما يفعله المحبوب. قال أبو عثمان الحيري: «منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته.» وهذا كمال الرضا وكمال المحبة.
ومن ذلك:
(١-٢) اختلافهم في أسلوب الملامة ومظاهرها
الملامة أسلوب من أساليب تقويم النفس ومحاربتها وتطهيرها من شوائب العجب والرياء، ابتدعته فرقة من أشهر فرق الصوفية وأبعدها أثرًا في تشكيل الحياة الصوفية في البيئة التي ظهرت فيها، وهي فرقة الملامتية.
من أشهر رجالها: حمدون القصار الذي يعتبر مؤسسها الحقيقي، وأبو حفص الحداد، وأبو عثمان الحيري، ويقوم مذهبهم الذي انتشر في نيسابور — وفي خراسان عامةً — ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثالث على أصلين هامين: أولهما مقاومة النفس في كل ما يصدر عنها من أفعال وما يخطر بها من خواطر، وثانيهما إخفاء المظاهر التي تنم عن الحياة الروحية، وبخاصة ما يشير منها إلى الصلة بين العبد وربه، بل الظهور بين الناس بالمظاهر التي يبدو أنها لا تتفق مع ظاهر الشرع استجلابًا لملامة الناس وتأنيبهم، ومن هنا سموا «الملامتية». على هذين الأساسين بنى الملامتية نظامًا في التصوف العملي والنظري انفردوا به وامتازوا عن غيرهم من متصوفة العراق والشام الذين كانوا يعلنون مظاهر الورع والزهد ويحفلون بالطقوس والأشكال الدينية.
وقد جمع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي أصول الملامتية التي لا تخرج عن الأساسين سالفي الذكر في رسالة فريدة نشرناها مع دراسة تحليلية لمذهب هذه الفرقة، والصلة بينه وبين التصوف من ناحية، وبينه وبين «الفتوة» من ناحية أخرى.١١
وفي محاربة الملامتية للنفس التي يعدونها أعدى أعداء الإنسان، حاربوا كل مظهر من مظاهرها ينبئ عن الرياء، فحرموا على أنفسهم وأتباعهم لبس «المرقعة» التي كانت شارة الصوفية وعنوان «الفقراء»؛ لما ينطوي عليه لبس المرقعة من ادعاء وما عسى أن يجلب للابسها من مدح الناس وإعجابهم وغير ذلك مما يدخل العجب إلى نفسه، وكذلك حرموا الظهور بين الناس بمظاهر الورع والتقوى والإيثار ونحو ذلك للسبب عينه. بعبارة أخرى، حرموا الرياء في الأعمال والأحوال والعلم، وقالوا باتهام النفس في كل ذلك ورؤية التقصير في كل ما يصدر عنها من أعمال الطاعة.
قيل إنه لما دخل أبو بكر الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان الحيري: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالطاعات ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها؟١٢
أما الإقلاع عن لبس الخرقة من حيث هي مظهر من مظاهر الادعاء والرياء فيدل عليه ما جرى من حديث بين حمدون القصار المؤسس الأول لمذهب الملامتية، ونوح العيَّار أحد المعروفين بالفتوة بنيسابور، وهو الحديث الذي ذكره الهجويري وفريد الدين العطار.١٣ قال حمدون: كنت أسير يومًا في حي من نيسابور فلقيت نوحًا العيار أحد المعروفين بالفتوة، وكان على رأس الشُّطار بنيسابور، فقلت له: يا نوح، ما الفتوة؟ فقال: فتوتي أم فتوتك؟ فقلت: صف الاثنين، فقال: «أخْلَعُ القباء وألبس الخرقة وأفعل الأفعال التي تليق بهذا الثوب لعلي أصبح صوفيًّا، وأقلع عن المعاصي لما أشعر به من الحياء من الله، ولكنك تخلق الخرقة لكيلا يخدعك الناس وينخدعوا بك. ففتوتي في اتباع ظاهر الشرع، أما فتوتك ففي تلبية نداء القلب.» في هذه العبارة القصيرة لخص نوح الفرق الجوهري بين أسلوب الملامتية وأسلوب الصوفية في فهم الحياة الدينية في مظرها وحقيقتها، وإذا كان للخرقة معنى فوق كونها شعارًا للورع والزهد والتقوى، فهو أنها تذكِّر صاحبها بمنزلته من الله وتحول بينه وبين إتيان ما لا يليق بها من الأفعال وتحمله على فعل ما يتمشى مع ظاهر الشرع، وهذا لا شك باعث خارجي على الطاعة. أما الملامتي الذي لا يلبس الخرقة فهو في غنى عن هذا الباعث لأن باعثه الحقيقي على الطاعة هو نداء القلب.
•••
أما من الأحوال فسنكتفي بذكر مثال واحد، هو اختلافهم في:
(١-٣) السكر والصحو
والسكر والصحو من أظهر الأحوال الصوفية وأخصها، وقد اختلف المشايخ في أيهما أفضل وأليق بالصوفي، وظهر هذا الخلاف في موقف أبي يزيد البسطامي وأتباعه من جانب، وأبي القاسم الجنيد وأصحابه من جانب آخر، وكان أبو يزيد من الصوفية الذين غلبت عليهم أحوال الجذب والوجد واختطفوا عن أنفسهم بالكلية؛ ولذا فاضت الأقوال المأثورة عنه بالتعبير عن الفناء والغيبة والسكر ونحو ذلك مما يشير إلى أنه كان في أغلب أحواله مأخوذًا مشغولًا عن نفسه وعن كل ما سوى الله بالله وحده، وقد أشرنا إلى الكثير من أقواله في كلامنا عن الفناء.
يعرِّف القشيري «السكر» بأنه «غيبة بوارد قوي»،١٤ ويأتي هذا الوارد عندما يتجلى الحق للعبد بصفة من صفات جماله فيقع العبد في حالة أشبه ما تكون بحال السكر: يفقد فيها وعيه بذاته وبالعالم حوله وينحصر فيها وعيه في الله وحده من غير إحاطة ولا شمول ولا تحديد بكيفية زمانية أو مكانية، بل باستغراق كلي للمتناهي في اللامتناهي، وشعور غامر بوحدة الذات والموضوع، وهذا في نظر الصوفية هو «الصعق» الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا،١٥ فالوارد الذي أسكر موسى وصعقه جاءه عندما تجلى ربه للجبل؛ أي ظهر في صورة من صور جماله في الجبل، فغاب عن نفسه في هذا المشهد، وشغل عنها وعن الجبل وبقي وعيه بالله المتجلي وحده.
والفرق بين السكر والصحو أن الصوفي في حالة سكره مستغرق في سكره، وليس عنده علم ولا خبر ولا إدراك للفناء والبقاء. أما في حالة صحوه فهو مدرك لنفسه وللعالم حوله ولكنه ينظر إليهما بعين الفناء؛ إذ البقاء للموجود الحقيقي الذي هو الله وحده.
ويفضل أبو يزيد وأصحابه السكر على الصحو لأن الصحو في نظرهم يقتضي وجود الصفات البشرية التي هي أعظم حجاب يحول بين العبد وربه، أما السكر فهو محو لهذه الصفات ورفع لحجب الاختيار والتصرف والتدبير.
أما الجنيد وأصحابه فيفضلون الصحو على السكر لأن السكر يخرج بالعبد عن حالته الطبيعية ويفقده سلامة العقل الواعي والقدرة على التصرف، وسر المسألة في نظرهم هو «المعرفة» بحقيقة الوجود، فإذا عرف الإنسان الأشياء على حقيقتها فرَّ منها ونظر إليها بعين الفناء، ومن نظر إلى الأشياء بعين الفناء أدرك أنها معدومة بالإضافة إلى وجود الواحد الحق.
والسكر في نظر الجنيد وأصحابه أشبه بميدان لعب الأطفال وأليق بالمبتدئين في الطريق الصوفي، أما الصحو فهو الميدان الذي يصرع فيه الرجال وهو من صفات الصوفية المتمكنين. السكر عندهم توهم فناء الذات مع بقاء الصفات، وهذا هو الحجاب بعينه، أما الصحو فهو رؤية بقاء الذات مع فناء الصفات، وهذا هو الكشف.
وكما أن من تعود شرب الخمر حتى أصبح مدمنًا عليها لا يرتوي منها مهما شرب، كذلك من ذاق طعم الخمر الإلهية وسكر بها لا تروي له غلة مهما شرب، ورجل الصحو لا يلتذ بالشرب ولا يقوى عليه، في حين أن رجل الشرب يلتذ بالشرب ويطلب المزيد. حكي أن يحيى بن معاذ الرازي كتب إلى أبي يزيد البسطامي: «ما ظنك بمن شرب قطرة من بحر حبه فسكر؟» فقال أبو يزيد: «ما ظنك بمن شرب بحور السموات والأرض وما روي بعدُ، ولسانه خارج يقول هل من مزيد؟»١٦ يقول الهجويري معقبًا على هذين القولين: «وقد توهم قوم أن يحيى بن معاذ يتكلم هنا عن السكر، وأن أبا يزيد يتكلم عن الصحو، لكن العكس هو الصحيح، فإن رجل الصحو هو الذي يعجز حتى عن شرب قطرة واحدة، ورجل السكر هو الذي يشرب كل ما يستطيع ويطلب المزيد.»١٧ ومما يزيد في قيمة الصحو في نظر الجنيد أنه لا مجال فيه لإظهار المواجد، والسكر لا يكون إلا لأصحاب المواجد، وإظهار المواجد من الأمور التي عاب بها الجنيد على الصوفية واعتبرها من علامات ضعف الروحانية.
ولذلك رفض مصاحبة الحلاج واعتبره رجلًا استسلم للمواجد ولم يكتم سرًّا كان أولى به أن يكتمه.
قيل إنه لما قطع الحلاج صلته بعمرو بن عثمان أتى إلى الجنيد فسأله: ما جاء بك إلينا؟ فقال الحلاج: جئت لصحبة الشيخ، فقال الجنيد: «أنا لا أصحب المجانين، إن الصحبة تقتضي كمال العقل، فإن لم يكن ذاك فالعقابة كما ترى من مسلكك من سهل بن عبد الله وعمرو بن عثمان المكي»، فقال الحلاج: «يا شيخ إن الصحو والسكر صفتان للعبد، والعبد محجوب عن ربه حتى يفنى عن صفاته»، فقال الجنيد: «يا بن منصور إنك أخطأت في الصحو والسكر، إن الصحو سلامة الحال مع الله، والسكر المبالغة في الشوق والمحبة، وليس واحد من هذين ينال بالكسب. يا ابن منصور إن في كلامك حماقة ومخرقة.»١٨
ومذهب الجنيد في تفضيل الصحو على السكر هو المذهب الذي أخذ به كبار الصوفية من بعده.
وأما ضعاف النفوس من المتأخرين الذين بالغوا في الطرف الآخر واعتبروا الجذب والغيبة والظهور بشتى ألوان الهوس والرعونة علامة من علامات أولياء الله، فلم يكونوا إلا أفاقين دخلاء على التصوف، والتصوف منهم براء.
هذه نماذج قليلة سقناها على سبيل الأمثلة لتوضيح بعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين من يسميهم الهجويري بالفرَق الصوفية، وهي — كما يرى القارئ — مسائل تفصيلية لا تمس جوهر الحياة الصوفية في شيء، ولكنها تكشف عن بعض دقائقها، وتظهرنا على مدى تغلغل القوم إلى أعماق نفوسهم، ومقدرتهم على تحليل ألطف وأدق معاني التصوف والأحوال التي يعالجونها في حياتهم الصوفية، ناظرين في هذا التحليل دائمًا إلى الله وصلتهم به.
١ الرسالة القشيرية، ص١٣٤. قارن ص١٨١، س٥ من أسفل.
٢ القشيري، ص١٨٢.
٣ وهو في الفصل الرابع عشر في تسعين صفحة من الترجمة الإنجليزية للأستاذ نيكولسون سنة ١٩١١.
٤ كشف المحجوب، ص٢٥.
٥ البقرة: ٢٧٣.
٦ الأنعام: ٥٢.
٧ سورة ص: ٣٠، ٤٤.
٨ الرسالة القشيرية، ص١٢٣.
٩ رسالة القشيري، ص٨٩.
١٠ رسالة القشيري، ص٨٩.
١١ انظر كتاب الملامتية والصوفية وأهل الفتوة للمؤلف، القاهرة، سنة ١٩٤٥.
١٢ الرسالة القشيرية، ص٣٢. ويروي الكلاباذي القصة نفسها ولكنه يذكر «أبا بكر القحطبي» بدلًا من أبي بكر الواسطي، التعرف، ص٧٠.
١٣ كشف المحجوب للهجويري، ص١٨٣؛ وتذكرة الأولياء للعطار، ج١، ص٣٣٤.
١٤ رسالة القشيري، ص٣٨.
١٥ الأعراف: ١٤٣.
١٦ الرسالة القشيرية، ص١٤٦.
١٧ كشف المحجوب، ص١٨٧.
١٨ انظر كشف المحجوب، ص١٨٩.
جرت عادة الصوفية مسلمين كانوا أم غير مسلمين أن يقسموا الحياة الصوفية إلى قسمين: حياة المجاهدة وحياة المشاهدة، فيفرقوا بين أعمال الزهد والرياضات والعبادات من جهة، وما ينكشف في الطريق الصوفي من معان وأسرار وإشارات وموارد من جهة أخرى، وقد أطلق المسيحيون في القرون الوسطى على القسم الأول اسم «حياة التطهير»، وعلى الثاني اسم «حياة الإشراق»، وسمى صوفية الإسلام الأول باسم الزهد، والثاني باسم التصوف، وهذه تفرقة قد التزمناها في هذا الكتاب في بعض المواضع تسهيلًا للبحث وعرض المسائل، وربط الظواهر الصوفية الإشراقية بالجانب العملي من الحياة الصوفية على نحو ما تُربط المسببات بأسبابها، ولكن الحقيقة أن الحياة الصوفية كلٌّ لا يتجزأ ولا ينقسم، ووحدة متصلة لا تخضع لحدود زمانية بحيث يقال إن هذا الجزء متقدم بالزمان على ذلك الجزء، كما أنها لا تخضع لمنطق العقل بحيث يقال إن جانبها العملي بمثابة المقدمات وجانبها الإشراقي بمثابة النتائج. نعم، قد نصف الفوائد الروحية والأحوال النفسية التي يعانيها الصوفي بأنها ثمرات المجاهدة، ولكن الثمرة هنا ليست شيئًا منفصلًا ولا مستقلًّا عن الشجرة التي تحملها، بل هي جزء لا يتجزأ منها.
وكما أن الشجرة قد تنمو وتترعرع وتورق ولا تثمر، كذلك السالك في الطريق الصوفي قد يحيى حياة مجاهدة غير موجهة وغير سليمة ولا يظفر بشيء من الحياة الذوقية الكشفية، وبذلك لا تؤدي رياضاته ومجاهداته إلى النتيجة التي يطلبها من تصفية النفس وصدق المعاملة مع الله والخلق؛ ولهذا أوجب الصوفية على المريدين صحبة المشايخ لكي يرشدوهم على التغلب على مصاعب الطريق ويمكنوهم من الترقي في سُلم المعراج الروحي.
والصحبة الصوفية شيء أعم من مجرد التلمذة أو الاتِّباع، وإنما هي من قِبَل الشيخ تعهد وإرشاد ومراقبة دقيقة ومحاسبة للمريد وتصحيح أوضاع ونقد وتعليم وتبصير بأسرار الحياة الروحية، وهي أيضًا محبة وعطف وإشفاق، وأخذ بالصرامة والعنف حيث تجب الصرامة أو العنف، وهي من جانب المريد طاعة وحب وتفويض وفناء في شخصية الشيخ المرشد، وبهذا يستطيع الشيخ أن يوجِّه الطاقة الروحية الكامنة عند المريد ويخرجها من القوة إلى الفعل على الوجه الذي يحقق لها ثمرتها. يقول الأستاذ أبو علي الدقاق أستاذ القشيري: «الشجر إذا نبت بنفسه ولم يستنبته أحد ورَّق ولكنه لا يثمر، كذلك المريد إذا لم يكن له أستاذ يتخرج به لا يجيء منه شيء.»١ ويقول أبو يزيد البسطامي: «من لم يكن له أستاذ فأستاذه الشيطان.»
ولا تتهيأ هذه القيادة الروحية إلا لكبار الروحانيين أصحاب البصيرة النافذة والفراسة القوية، الصادقين في إرشادهم، المخلصين لدينهم وأصحابهم، وهؤلاء قلة من الصوفية ظهروا ويظهرون بين حين وآخر، وأسسوا ويؤسسون مدارس في التصوف وإن لم يكن لبعضهم كتب مصنفة. هؤلاء الروحانيون نماذج حية مُشعة موحية موجهة عن طريق الإيحاء والإيمان أكثر منها عن طريق التعليم والوعظ، وقد سجل لنا تاريخ التصوف أسماء عدد غير قليل من هؤلاء المشايخ الذين كان لهم أكبر الفضل لا في تكوين المريدين وحسب، بل في تشكيل الحياة الروحية في التصوف الإسلامي: منهم أبو القاسم الجنيد وأبو حفص النيسابوري وأبو علي الدقاق من العصر السابق على ظهور الطرق الصوفية، وعبد القادر الجيلاني وأبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري من رجال الطرق.
وللصوفية آداب في الطريق تحدد العلاقة بين الشيخ والمريدين وتعين واجبات كلٍّ، وقد تختلف هذه الآداب والواجبات باختلاف المشايخ والطرق في مسائل تفصيلية، ولكنها تتفق في الأمور الأساسية الجوهرية التي بدونها يضل السالك الطريق إلى الله.
والواجب الأول على المريد نحو أستاذه الطاعة المطلقة في كل ما يأمر به حتى ولو خيل للمريد أنه مأمور بشيء يخالف ظاهر الشرع. بل لقد بالغ بعض الصوفية فطالبوا بطاعة الشيخ أولًا وطاعة الله ثانيًا؛ لأن طاعة الله في نظرهم لا تصح إلا إذا وجه إليها الشيخ التوجيه الصحيح، وهم يعتبرون مخالفة المريد لشيخه دليلًا على عدم صدق إرادته وعلى فساد حاله.
والواجب الثاني أن يحفظ المريد سره إلا عن شيخه، وأن يبوح له بكل عمل يعمله أو خاطر يخطر بباله. يقول القشيري: «ولو كتم نَفَسًا من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في صحبته.»٢ ولو وقعت له مخالفة — غير مقصودة — فيما أشار عليه شيخه، يجب أن يبادر بالإقرار بها بين يدي شيخه في الوقت، ويستسلم لما يحكم به عليه من العقوبة، وقد تذكرنا هذه القاعدة بمبدأ «الاعتراف» عند بعض الطوائف المسيحية، ولكن الفرق بينهما جوهري وأساسي: إذ «الاعتراف» المسيحي متصل بأصل من أصول الدين، والاعتراف الصوفي جزء من نظام أخلاقي ولا صلة له بأية مسألة اعتقادية.
ولا تبدأ صحبة المريد للشيخ على الحقيقة إلا بعد أن يصح عزم المريد على الدخول في الطريق، ولا يصح هذا العزم إلا باجتياز المريد «عتبة» الطريق أو المقام الأول فيه، وهو مقام التوبة، ومعناه ليس الإقلاع عن المعاصي والاستغفار عما سلف منها وحسب، بل التصميم على دخول حياة جديدة تختلف في أهدافها وبواعثها عن كل ما ألفه السالك من قبل؛ ولهذا شبه الصوفية مقام التوبة بالميلاد الجديد لأنه الحد الفاصل بين حياتين: الحياة في الدنيا ومن أجل الدنيا، والحياة في الله ومن أجل الله.
أما الأسباب التي تدعو إلى التوبة بهذا المعنى فكثيرة ومتنوعة، وقد سجل لنا التاريخ عددًا كبيرًا منها في تاريخ أولياء المسلمين وغير المسلمين، منها الرُّؤى الخارقة والأزمات الروحية الحادة كأزمة الغزالي وأزمة القديس أوغسطين وغيرهما، ولكن هذه مسألة تعني علماء النفس أكثر مما تعنينا هنا.
وإذا أيقن الشيخ صِدْق توبة المريد قَبِل صحبته والإشراف عليه، وراقبه في مراحل الطريق التالية، وقد اصطلح الصوفية على تسمية هذه المراحل بالمقامات، وسموا ما يعرض فيها للسالك من أحداث روحية باسم الأحوال، وقد ذكر أبو نصر السراج في كتاب «اللمع» — وهو أقدم كتاب عربي في التصوف — سبعة من هذه المقامات هي: التوبة، والقناعة، والزهد، والفقر، والصبر، والتوكل، والرضا. كما ذكر عشرة أحوال هي: الذكر، والقرب، والمحبة، والرجاء، والشوق، والأنس، واليقين، والمراقبة، والسكون.
أما القشيري والهجويري فيذكران عددًا أكبر من المقامات والأحوال، ولهما أساليبهما الخاصة في عرضها وشرحها، وربما كان القشيري أدق في تعريفاته للأحوال الصوفية التي كثيرًا ما يعرضها أزواجًا متقابلة مثل: «القبض والبسط»، و«الهيبة والأنس»، و«التواجد والوجد»، و«الجمع والفرق»، و«الفناء والبقاء»، و«الصحو والسكر»، و«المحو والإثبات»، و«الستر والتجلي»، وما إلى ذلك. أما الهجويري فيمتاز بدقة التحليل الصوفي لمفاهيم هذه المصطلحات، ومناقشتها والتعقيب عليها بأسلوب علمي بارع، كما يمتاز بإرشاداته إلى اختلاف آراء الصوفية فيها إذا كان هنالك اختلاف.
ولا ينتهي الطريق إلا بقطع المقامات كلها، ولا ينتقل السالك من واحد منها إلى آخر إلا إذا كان قد وصل إلى درجة الكمال في المقام السابق. فإذا اجتاز جميع المقامات انتقل إلى مرتبة روحية أعلى هي مرتبة المعرفة والشهود، وكمال المعرفة أن يدرك الصوفي ذوقًا وحدة العارف والمعروف.
(١) الفرق الصوفية
وكما يختلف كبار مشايخ الصوفية في تفصيل التكاليف العملية في الطريق الصوفي، كما هو واضح من تعاليم أصحاب الطرق التي ظهرت في الإسلام ابتداءً من القرن السادس، كذلك يختلفون في وجهات نظرهم في المسائل النظرية والحياة الإشراقية ومظاهرها في المقامات والأحوال، وقد ظهر لنا بعض جوانب هذه الفوارق فيما عالجناه من ظواهر الحياة الصوفية كالمحبة الإلهية والذكر والفناء والبقاء وغير ذلك، وهذه الفوارق قديمة قدم التصوف ذاته، ولكنها لا ترتفع بأصحابها إلى مرتبة «الفِرَق» على النحو الذي نفهمه من علم الكلام، بل ولا مرتبة أصحاب المذاهب على النحو الذي نفهمه في الفقه. فالفِرَق في علم الكلام تمثل اتجاهات مختلفة في تفسير وفهم أصول العقائد الدينية، أو مسائل متفرعة عن هذه الأصول كمسألة خلق القرآن أو قِدَمه المتفرعة عن مسألة الصفات الإلهية وصفة الكلام الإلهي بوجه خاص، وكمسألة حرية الإرادة الإنسانية أو جَبريَّتها المتفرعة عن مسألة العدل الإلهي، وغير ذلك.
وكذلك تختلف الفِرَق الكلامية في مناهجها في استنباط العقائد وتدعيمها والدفاع عنها بالأدلة العقلية والنقلية، ومن أصحاب الفرق من يلتزم ظاهر النصوص القرآنية والأحاديث النبوية، ومنهم المتأول لها، وهم يختلفون في أساليب التأويل وتوجيهه وجهات تتفق وروح المذهب العام الذي تدين به الفرقة، وفي كل حالة يظهر موقف المتكلم لا من مسألة اعتقادية خاصة، بل من الدين كله: فالمشبِّهة والمجسمة من المتكلمين غير المنزهة، والمعتزلة غير الأشاعرة والكرامية والحشوية، والشيعة غير أهل السنة، وهكذا. بل إن كل واحدة من هذه الفرق تتمثل الدين في صورة غير الصورة التي تتمثله فيها الفرق الأخرى على الرغم من اتفاقها جميعًا في المبدأ العقيدي الأول وهو مبدأ التوحيد.
أما الفرق الصوفية فلا خلاف بينها في مسائل العقائد، بل في الحياة الصوفية، ماهيتها ومقوماتها وغاياتها وأساليبها ومظاهرها. بعبارة أخرى يختلف الصوفية من حيث هم صوفية لا من حيث هم أشاعرة أو معتزلة أو ظاهرية، فقد يكون الصوفي واحدًا من هؤلاء أو من غيرهم. فهم يختلفون في نظرتهم إلى ذلك اللون من الحياة التي اختاروها وتميزوا بها عن غيرهم، وإلى ما ينكشف لهم فيها من غريب الأحوال والأطوار وإلى حقيقة هذا الكشف وقيمته الروحية، وأخيرًا يختلفون فيما يعدونه طريقًا ناجحًا موصلًا إلى مطلوبهم، ويتبعهم في هذا الطريق أصحابهم ومريدوهم.
وقد عقد الشيخ أبو الحسن علي بن عثمان بن علي الجُلَّابي الهجويري المُتوفَّى سنة ٤٥٦ فصلًا ممتعًا في كتابه «كشف المحجوب» — وهو أقدم وأفضل مرجع في التصوف باللغة الفارسية — فيما سماه «فرق الصوفية»٣ وهي الفرق التي ظهرت في التصوف الإسلامي في عصره الذهبي وهو عصر التصوف البحت الذي شهد معظم كبار الصوفية المبتكرين، وكان التصوف فيه بعيدًا — نسبيًّا — عن الاختلاط بالفلسفة وعلوم الأسرار، وقد قسم الهجويري هذه الفرق إلى اثنتي عشرة فرقة، قَبِل منها عشرًا ورد اثنتين وضعهما تحت اسم الحلولية. أما العشرة المقبولة فأطلق عليها أسماء مؤسسيها، وهي:
(١)المحاسبية: نسبةً إلى الحارث بن أسد المحاسبي.
(٢)القصارية: نسبةً إلى حمدون بن أحمد القصار الملامتي.
(٣)الطيفورية: نسبةً إلى أبي يزيد طيفور بن عيسى البسطامي.
(٤)الجنيدية: نسبةً إلى أبي القاسم الجنيد.
(٥)النورية: نسبةً إلى أبي الحسين النوري.
(٦)السهلية: نسبةً إلى سهل بن عبد الله التستري.
(٧)الحكيمية: نسبةً إلى أبي عبد الله محمد بن علي الحكيم الترمذي.
(٨)الخرَّازية: نسبةً إلى أبي سعيد الخرَّاز.
(٩)الخفيفية: نسبةً إلى أبي عبد الله محمد بن خفيف الشيرازي.
(١٠)السيَّارية: نسبةً إلى أبي العباس السياري.
وليس لأحد آخر فيما نعلم تصنيف للفرق الصوفية من هذا النوع، بل هو نوع انفرد به الهجويري في كتابه العلمي الرائع، وهو ينظر في هذا الفصل من الكتاب إلى الميدان الصوفي العام ويحاول أن يتبين المعالم البارزة فيه، ويركز هذه المعالم حول كبار مشايخ الطريق الذين كان لهم أتباع وتعاليم روحية اصطبغ بها تصوفهم وخلفت أثرها في مجرى التصوف العام؛ لذلك أفرد كل واحد من هؤلاء المشايخ بفقرة خاصة طويلة أحيانًا وقصيرة أحيانًا أخرى، معالجًا أخص ما امتاز به تصوفه وتصوف فرقته، تاركًا مختلف التفاصيل التي يشترك فيها مع غيره، كما يعرج أحيانًا على المسائل التي هي موضع خلاف بين صوفي وآخر ليعرضها عرضًا موضوعيًّا مفصلًا ويورد أقوال الصوفية الآخرين فيها، ويسجل رأيه الخاص في أغلب الأحيان، وبهذا يضع الهجويري أمامنا صورة مصغرة لتاريخ المذاهب الصوفية واتجاهاتها منذ ظهر التصوف حتى نهاية النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.
والآن نعرض بعض جوانب الحياة الصوفية التي وقع فيها الخلاف بين الفرق الصوفية حسب تقدير الهجويري لنتبين نوع هذا الخلاف ومداه، ولكننا سوف لا نتقيد في عرضنا بما يقوله الهجويري وحده في هذه المسائل، ومن ذلك:
(١-١) اختلافهم في الفقر والغنى
يتكلم الناس عادةً عن الفقر والغنى بمعناهما المادي: فالفقير عندهم هو المعدم الذي لا يملك ما يملكه الغني، والغني هو الذي أعطي بسطة في الرزق فكان له المال أو العقار أو غيرهما من متاع الدنيا، وقد تكلم أوائل الزهاد المسلمين عن الفقر والغنى بهذا المعنى فلم يتجاوزوا التصور المادي لهما؛ ولذلك جعلوا الفقر أساسًا في طريقهم وتجردوا عما يملكون من مال ومتاع، بل جعلوا هذا التجرد بداية لا بد منها للدخول في ميدان الزهد، وإذا تصفحنا أقوال إبراهيم بن أدهم وغيره من زهاد المسلمين في الفقر لم نجد في كلامهم إلا هذا.
ولكن الصوفية ابتداءً من القرن الثالث فلسفوا الفقر والغنى واتخذوا لهما معايير أخرى، وهي معايير لا صلة لها بالمال ولا بما يملك الناس من مقتنيات هذه الدنيا: وإنما صلتها بالنفس الإنسانية وصفاتها ورغباتها، وبالله وعلاقته بالعبد، ولذا كانت نظرتهم إلى الفقر والغنى نظرة ميتافيزيقية سيكولوجية عميقة بنوا عليها نظامًا في الزهد على مستوى روحي أعلى.
وقد شاع اسم «الفقير» في أوساط الصوفية في عصر مبكر في تاريخ التصوف حتى كاد يصبح عَلمًا على الصوفي، ولكن «الفقير» بالمعنى الصوفي ليس هو المعدم الذي لا يملك قوت يومه، ولا الأشعث الأغبر لابس المرقعة، وإن كان من الصوفية من هُم على هذا النحو، بل هو الصوفي الكامل الذي تحقق بصفات «الافتقار» إلى الله، وسار في حياته بمقتضى ما تَحَقَّق به، وهذه هي النقطة الأولى في فلسفتهم للفقر، وهي تفسيره بمعنى «الافتقار».
ليس الفقير عندهم إذن من خلا من الزاد، وإنما الفقير من خلا قلبه من الرغبة في المراد. هذا تعريف الفقير في عرفهم، وهو تعريف يفسر الناحية السلبية من الفقر الصوفي. أما الناحية الإيجابية فهي استغناء الفقير بالله وحده، وفي هذا يقول الشبلي: «الفقير من لا يستغني بشيء دون الله.»٤ فالفقر في عرف القوم فِقْدَان الصفات والرغبات والإرادات والفوز بالله وحده، وبهذا المعنى يقرب الفقر الصوفي من حال «الفناء» التي أطلنا القول فيها في مناسبات عديدة، بل ومن أحوال أخرى كثيرة وإن لم تجر العادة بتسميتها باسم الفقر، وقد لاحظنا عند النظر في أحوال الصوفية وتحليلها وسبر أغوارها أنها يفضي بعضها إلى بعض، ويئول بعضها إلى بعض، ويندمج بعضها في بعض، وكأنما هي مظاهر مختلفة لتجربة روحية واحدة هي «التجربة الصوفية» التي يتحقق فيها استغراق الصوفي في الله. فسواء تكلم الصوفية في «المحبة» أو «الذكر» أو «الفناء» أو «الزهد» أو «الإيثار» أو «الفقر» أو «التوكل» أو «الوجد» أو «السكر» أو «الجذب»، تجدهم يحومون حول معان مختلفة لحقيقة واحدة هي اتحادهم بالله أو اتصالهم به أو قربهم منه أو ما شئت فسمه، وليست هذه الأسماء إلا الألوان التي تصطبغ بها تجربتهم عندما ينكشف في قلوبهم النور الإلهي القاهر، أو هي الزوايا التي ينكسر عليها ذلك النور.
وعندما اختلف الصوفية أيهما أفضل: الفقر أم الغنى، لم يكونوا يفكرون في الفقر والغنى الماديين؛ إذ لا جدال بينهم في أن الفقر المادي من ألزم صفاتهم وأن الغنى المادي من الأشياء التي يجب أن يزهدوا فيها، وإنما الاختلاف في الفقر والغنى من حيث هما حالتان من حالات النفس، وفي أي هاتين الحالتين أولى بالصوفي أن يتحقق بها.
ذهب يحيى بن معاذ الرازي وأحمد بن أبي الحواري والحارث المحاسبي وأبو العباس بن عطاء ورُويم البغدادي وأبو سعد فضل الله بن محمد الميهني، إلى أن الاتصاف بالغنى أفضل من الاتصاف بالفقر: لأن الغنى من صفات الله وقد يوصف به العبد، والفقر من صفات العبد وحده، والصفة التي يمكن إطلاقها بالاشتراك على الله والعبد أفضل من تلك التي تطلق على العبد وحده، ولكن هذا استدلال خاطئ كما يلاحظ الهجويري: لأن جهة الاشتراك منفكة، وغنى الله ليس من نوع غنى العبد: إذ غنى الله معناه قيامه تعالى بنفسه وعدم افتقاره إلى غيره، وهو بذلك صفة قديمة لله. أما غنى العبد فهو استغناؤه بربه عن كل ما عداه، وهو صفة حادثة، ويذهب الهجويري إلى أن الغنى على الإطلاق إنما هو لله وحده، وأن الفقر صفة ملازمة للعبد، إذ الغني الحقيقي هو الغني عن الأسباب، ومن كان مصدر الأسباب كلها، وهو الله، كان هو الغني. يصف الله تعالى نفسه بأنه غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ أي أنه لا يفتقر إلى شيء وليس معلولًا لشيء.
والجمهور الأعظم من الصوفية يفضلون اتصاف الصوفي بالفقر دون الغنى لسببين: أولهما أن القرآن والحديث يمتدحان الفقراء ويَصفانهم بأنهم أقرب وأحب إلى الله. يقول الله عز وجل: لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ،٥ ويقول: وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ.٦ ويروى عن النبي ﷺ أنه قال: «يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام.» ولكن الإشارة هنا إلى الفقر المادي وهو الاجتزاء بالقليل الضروري والزهد في متاع الحياة الدنيا، والسبب الثاني هو أن كل إنسان مفتقر إلى الله افتقار المعلول إلى علته؛ أي إن الافتقار من طبيعة المخلوق سواء أكان يملك شيئًا أم لا يملك، وهذا هو بعينه معنى العبودية بدليل قوله تعالى في وصف كلٍّ من سليمان وأيوب بصفة «العبد» في قوله: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ٧ مع أن سليمان كان صاحب ملك عظيم وكان أيوب فقيرًا مبتلى، وأي افتقار أعظم من افتقار العبد إلى من يمنحه الوجود وما يتقوم به ذلك الوجود؟ إن الغني الذي منحه الله شيئًا من النعم فقير من حيث هو غني؛ لأنه غني إذا نظرت إلى النعم ذاتها، فقير إذا نظرت إلى واهب النعم.
وإذا فهمنا من الفقر افتقار العبد إلى ربه ومن الغنى استغناءه به، لم يكن السؤال عن أيهما أفضل وأتم بالنسبة للعبد ذا موضوع؛ لأنه على حد قول الجنيد: «إذا صح الافتقار إلى الله عز وجل فقد صح الاستغناء بالله تعالى، وإذا صح الاستغناء بالله تعالى كمل الغنى. فلا يقال أيهما أتم: الافتقار أم الغنى؛ لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى.»٨ ومن ذلك:
الرضا
وهو من الظواهر التي اختلف الصوفية في اعتبارها من الأحوال أو المقامات، وفي هل الرضا أفضل من الزهد أم الزهد أفضل منه.
وقد امتاز مذهب الحارث المحاسبي باعتبار الرضا حالًا من الأحوال، وتبعه في ذلك الخراسانيون، وذهب أهل العراق إلى اعتباره مقامًا من المقامات. هذا هو رأي الهجويري، ولكن القشيري يعكس هذا الوضع عكسًا تامًّا ويقول: «واختلف العراقيون والخراسانيون في الرضا هل هو من الأحوال أو المقامات، فأهل خراسان قالوا: الرضا من جملة المقامات، وهو نهاية التوكل، ومعناه أنه يئول إلى أنه مما يتوصل إليه العبد باكتسابه، وأما العراقيون فإنهم قالوا: الرضا من جملة الأحوال، وليس ذلك كسبًا للعبد، بل هو نازلة تحل بالقلب كسائر الأحوال.»٩
ويحاول القشيري أن يوفق بين الاتجاهين فيقول: «ويمكن الجمع بين اللسانين فيقال بداية الرضا مكتسبة للعبد وهي من المقامات، ونهايته من جملة الأحوال وليست مكتسبة.»١٠
وليست المسألة مسألة ألفاظ، وإنما هي من المسائل التي تظهر فيها النظرة العميقة إلى كنه الحياة الصوفية باعتبار «الرضا» عنوان هذه الحياة وجوهرها: فإننا إذا اعتبرنا «الرضا» حالًا من الأحوال، كان شيئًا وهبيًّا يلقيه الله في قلب العبد، ويرد عليه عندما يرد على فترات، شأنه في ذلك شأن الأحوال الأخرى. أما إذا اعتبرناه «مقامًا» فهو من الأمور الكسبية التي يحصلها السالك بالرياضة والمجاهدة والتفكير في حكمة الله وأفعاله، وما يصدق على «الرضا» يصدق على غيره من مظاهر الحياة الصوفية الأخرى كالتوبة والورع والمحبة: فإن لنا أن نتساءل عما إذا كانت هذه على الحقيقة أحوالًا أو مقامات، أو بعبارة أخرى عما إذا كانت مواهب أو مكاسب؟ وقد يكون من المبالغة اعتبارها كلها من المواهب الإلهية التي لا دخل لأعمال العبد فيها، فإن هذا يذهب بقيمة المجاهدات والرياضات جملةً. كما أن من المبالغة أن ذهب إلى أنها كلها من أكساب العبد فنسد الطريق على العناية الإلهية التي يختص بها الله من يشاء، والحل الوسط الذي يذهب إليه القشيري هو أفضل الحلول: فهي كسبية في بداية أمرها وهبية في نهايتها؛ أي إن الصوفي في بداية حاله يُنَازل نفسه ويجاهدها ويروضها فيسير بها في مقام الرضا أو الورع أو التوبة، ثم يهبه الله تعالى في هذه المقامات المواهب ويورد في قلبه الأحوال التي تزيده إيمانًا ويقينًا برضاه وورعه وتوبته.
ولكن «الرضا» نوعان: رضا من جانب العبد، ورضا من جانب الله. قال تعالى: رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، ورضا الله عن العبد مجازاته على طاعته وإعلاء ذكره في الدنيا والآخرة، في حين أن رضا العبد عن الله هو الإذعان التام بإرادة الله والتسليم بقضائه وقدره والقيام بأمره، وبهذا يسبق الرضا الإلهي رضا العبد لأن من لا يرضى الله عنه لايوفقه إلى طاعته، فرضا العبد رهنٌ برضا الله عنه ولازمٌ من لوازمه.
وإذا حصل العبد في مقام الرضا استوى عنده المنح والمنع، والعطاء والحرمان، واللذة والألم، واستوت في نظره الأحداث خيرها وشرها، ما كان منها من مجالي الجلال الإلهي كالفقر والمرض في هذه الدنيا وكعذاب النار في الدار الآخرة، ومجالي الجمال الإلهي كالغنى والصحة في هذه الدنيا ونعيم الجنة في الدار الآخرة. سئل الحسين بن علي رضي الله عنه عن قول أبي ذر الغفاري: «الفقر أحب إلي من الغنى والسقم أحب إلى من الصحة»، فقال: «رحم الله أبا ذر. أما أنا فأقول: إن من اتكل على حسن اختيار الله تعالى لم يتمن غير ما اختاره الله عز وجل.» فالذي أجاب بن الحسين بن علي هو ترك إرادة العبد والتفويض التام لإرادة الله، وهذا هو الرضا الصحيح.
والصوفي الكامل هو الذي يحوِّل نظره إلى المعطي دون الشي ء الذي أعطاه، فإذا أعطاه الله النعمى لا يكون رضاه بها من حيث هي نعمى، بل من حيث صدورها عن الله؛ لأن الرضا بالنعمى من حيث هي ارتكان إلى الأسباب. فالنعمى لا تكون نعمى إلا إذا أدت إلى المنعم.
وكذلك الذي يرضى بالبلاء، يرضى به ويحتمل آلامه لا من حيث هو بلاء بل من حيث صدوره عن الله الذي أنزله به، والذي يرضى بالاصطفاء لا يرضى به إلا من حيث صدوره عن الله الذي اصطفاه. فالله هو المقصود بالرضا في جميع هذه الأحوال، ومن كان رضاه بالله كان رضاه بكل شيء.
والرضا هو قلب الحياة الصوفية والمحور الذي تدور حوله أخلاق الصوفي، فمنه ينبع التوكل على الله والزهد في الدنيا، وهو الذي يورث السكينة في القلب والاطمئنان إلى أحكام القضاء الإلهي، وهو صنو المحبة الإلهية، بل هو ثمرتها لأن من شأن المحب أن يرضى بكل ما يفعله المحبوب. قال أبو عثمان الحيري: «منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، وما نقلني إلى غيره فسخطته.» وهذا كمال الرضا وكمال المحبة.
ومن ذلك:
(١-٢) اختلافهم في أسلوب الملامة ومظاهرها
الملامة أسلوب من أساليب تقويم النفس ومحاربتها وتطهيرها من شوائب العجب والرياء، ابتدعته فرقة من أشهر فرق الصوفية وأبعدها أثرًا في تشكيل الحياة الصوفية في البيئة التي ظهرت فيها، وهي فرقة الملامتية.
من أشهر رجالها: حمدون القصار الذي يعتبر مؤسسها الحقيقي، وأبو حفص الحداد، وأبو عثمان الحيري، ويقوم مذهبهم الذي انتشر في نيسابور — وفي خراسان عامةً — ابتداءً من النصف الثاني من القرن الثالث على أصلين هامين: أولهما مقاومة النفس في كل ما يصدر عنها من أفعال وما يخطر بها من خواطر، وثانيهما إخفاء المظاهر التي تنم عن الحياة الروحية، وبخاصة ما يشير منها إلى الصلة بين العبد وربه، بل الظهور بين الناس بالمظاهر التي يبدو أنها لا تتفق مع ظاهر الشرع استجلابًا لملامة الناس وتأنيبهم، ومن هنا سموا «الملامتية». على هذين الأساسين بنى الملامتية نظامًا في التصوف العملي والنظري انفردوا به وامتازوا عن غيرهم من متصوفة العراق والشام الذين كانوا يعلنون مظاهر الورع والزهد ويحفلون بالطقوس والأشكال الدينية.
وقد جمع الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي أصول الملامتية التي لا تخرج عن الأساسين سالفي الذكر في رسالة فريدة نشرناها مع دراسة تحليلية لمذهب هذه الفرقة، والصلة بينه وبين التصوف من ناحية، وبينه وبين «الفتوة» من ناحية أخرى.١١
وفي محاربة الملامتية للنفس التي يعدونها أعدى أعداء الإنسان، حاربوا كل مظهر من مظاهرها ينبئ عن الرياء، فحرموا على أنفسهم وأتباعهم لبس «المرقعة» التي كانت شارة الصوفية وعنوان «الفقراء»؛ لما ينطوي عليه لبس المرقعة من ادعاء وما عسى أن يجلب للابسها من مدح الناس وإعجابهم وغير ذلك مما يدخل العجب إلى نفسه، وكذلك حرموا الظهور بين الناس بمظاهر الورع والتقوى والإيثار ونحو ذلك للسبب عينه. بعبارة أخرى، حرموا الرياء في الأعمال والأحوال والعلم، وقالوا باتهام النفس في كل ذلك ورؤية التقصير في كل ما يصدر عنها من أعمال الطاعة.
قيل إنه لما دخل أبو بكر الواسطي نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان الحيري: بماذا كان يأمركم شيخكم؟ فقالوا: كان يأمرنا بالطاعات ورؤية التقصير فيها، فقال: أمركم بالمجوسية المحضة، هلا أمركم بالغيبة عنها برؤية منشئها ومجريها؟١٢
أما الإقلاع عن لبس الخرقة من حيث هي مظهر من مظاهر الادعاء والرياء فيدل عليه ما جرى من حديث بين حمدون القصار المؤسس الأول لمذهب الملامتية، ونوح العيَّار أحد المعروفين بالفتوة بنيسابور، وهو الحديث الذي ذكره الهجويري وفريد الدين العطار.١٣ قال حمدون: كنت أسير يومًا في حي من نيسابور فلقيت نوحًا العيار أحد المعروفين بالفتوة، وكان على رأس الشُّطار بنيسابور، فقلت له: يا نوح، ما الفتوة؟ فقال: فتوتي أم فتوتك؟ فقلت: صف الاثنين، فقال: «أخْلَعُ القباء وألبس الخرقة وأفعل الأفعال التي تليق بهذا الثوب لعلي أصبح صوفيًّا، وأقلع عن المعاصي لما أشعر به من الحياء من الله، ولكنك تخلق الخرقة لكيلا يخدعك الناس وينخدعوا بك. ففتوتي في اتباع ظاهر الشرع، أما فتوتك ففي تلبية نداء القلب.» في هذه العبارة القصيرة لخص نوح الفرق الجوهري بين أسلوب الملامتية وأسلوب الصوفية في فهم الحياة الدينية في مظرها وحقيقتها، وإذا كان للخرقة معنى فوق كونها شعارًا للورع والزهد والتقوى، فهو أنها تذكِّر صاحبها بمنزلته من الله وتحول بينه وبين إتيان ما لا يليق بها من الأفعال وتحمله على فعل ما يتمشى مع ظاهر الشرع، وهذا لا شك باعث خارجي على الطاعة. أما الملامتي الذي لا يلبس الخرقة فهو في غنى عن هذا الباعث لأن باعثه الحقيقي على الطاعة هو نداء القلب.
•••
أما من الأحوال فسنكتفي بذكر مثال واحد، هو اختلافهم في:
(١-٣) السكر والصحو
والسكر والصحو من أظهر الأحوال الصوفية وأخصها، وقد اختلف المشايخ في أيهما أفضل وأليق بالصوفي، وظهر هذا الخلاف في موقف أبي يزيد البسطامي وأتباعه من جانب، وأبي القاسم الجنيد وأصحابه من جانب آخر، وكان أبو يزيد من الصوفية الذين غلبت عليهم أحوال الجذب والوجد واختطفوا عن أنفسهم بالكلية؛ ولذا فاضت الأقوال المأثورة عنه بالتعبير عن الفناء والغيبة والسكر ونحو ذلك مما يشير إلى أنه كان في أغلب أحواله مأخوذًا مشغولًا عن نفسه وعن كل ما سوى الله بالله وحده، وقد أشرنا إلى الكثير من أقواله في كلامنا عن الفناء.
يعرِّف القشيري «السكر» بأنه «غيبة بوارد قوي»،١٤ ويأتي هذا الوارد عندما يتجلى الحق للعبد بصفة من صفات جماله فيقع العبد في حالة أشبه ما تكون بحال السكر: يفقد فيها وعيه بذاته وبالعالم حوله وينحصر فيها وعيه في الله وحده من غير إحاطة ولا شمول ولا تحديد بكيفية زمانية أو مكانية، بل باستغراق كلي للمتناهي في اللامتناهي، وشعور غامر بوحدة الذات والموضوع، وهذا في نظر الصوفية هو «الصعق» الذي أشار إليه القرآن في قوله تعالى: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا،١٥ فالوارد الذي أسكر موسى وصعقه جاءه عندما تجلى ربه للجبل؛ أي ظهر في صورة من صور جماله في الجبل، فغاب عن نفسه في هذا المشهد، وشغل عنها وعن الجبل وبقي وعيه بالله المتجلي وحده.
والفرق بين السكر والصحو أن الصوفي في حالة سكره مستغرق في سكره، وليس عنده علم ولا خبر ولا إدراك للفناء والبقاء. أما في حالة صحوه فهو مدرك لنفسه وللعالم حوله ولكنه ينظر إليهما بعين الفناء؛ إذ البقاء للموجود الحقيقي الذي هو الله وحده.
ويفضل أبو يزيد وأصحابه السكر على الصحو لأن الصحو في نظرهم يقتضي وجود الصفات البشرية التي هي أعظم حجاب يحول بين العبد وربه، أما السكر فهو محو لهذه الصفات ورفع لحجب الاختيار والتصرف والتدبير.
أما الجنيد وأصحابه فيفضلون الصحو على السكر لأن السكر يخرج بالعبد عن حالته الطبيعية ويفقده سلامة العقل الواعي والقدرة على التصرف، وسر المسألة في نظرهم هو «المعرفة» بحقيقة الوجود، فإذا عرف الإنسان الأشياء على حقيقتها فرَّ منها ونظر إليها بعين الفناء، ومن نظر إلى الأشياء بعين الفناء أدرك أنها معدومة بالإضافة إلى وجود الواحد الحق.
والسكر في نظر الجنيد وأصحابه أشبه بميدان لعب الأطفال وأليق بالمبتدئين في الطريق الصوفي، أما الصحو فهو الميدان الذي يصرع فيه الرجال وهو من صفات الصوفية المتمكنين. السكر عندهم توهم فناء الذات مع بقاء الصفات، وهذا هو الحجاب بعينه، أما الصحو فهو رؤية بقاء الذات مع فناء الصفات، وهذا هو الكشف.
وكما أن من تعود شرب الخمر حتى أصبح مدمنًا عليها لا يرتوي منها مهما شرب، كذلك من ذاق طعم الخمر الإلهية وسكر بها لا تروي له غلة مهما شرب، ورجل الصحو لا يلتذ بالشرب ولا يقوى عليه، في حين أن رجل الشرب يلتذ بالشرب ويطلب المزيد. حكي أن يحيى بن معاذ الرازي كتب إلى أبي يزيد البسطامي: «ما ظنك بمن شرب قطرة من بحر حبه فسكر؟» فقال أبو يزيد: «ما ظنك بمن شرب بحور السموات والأرض وما روي بعدُ، ولسانه خارج يقول هل من مزيد؟»١٦ يقول الهجويري معقبًا على هذين القولين: «وقد توهم قوم أن يحيى بن معاذ يتكلم هنا عن السكر، وأن أبا يزيد يتكلم عن الصحو، لكن العكس هو الصحيح، فإن رجل الصحو هو الذي يعجز حتى عن شرب قطرة واحدة، ورجل السكر هو الذي يشرب كل ما يستطيع ويطلب المزيد.»١٧ ومما يزيد في قيمة الصحو في نظر الجنيد أنه لا مجال فيه لإظهار المواجد، والسكر لا يكون إلا لأصحاب المواجد، وإظهار المواجد من الأمور التي عاب بها الجنيد على الصوفية واعتبرها من علامات ضعف الروحانية.
ولذلك رفض مصاحبة الحلاج واعتبره رجلًا استسلم للمواجد ولم يكتم سرًّا كان أولى به أن يكتمه.
قيل إنه لما قطع الحلاج صلته بعمرو بن عثمان أتى إلى الجنيد فسأله: ما جاء بك إلينا؟ فقال الحلاج: جئت لصحبة الشيخ، فقال الجنيد: «أنا لا أصحب المجانين، إن الصحبة تقتضي كمال العقل، فإن لم يكن ذاك فالعقابة كما ترى من مسلكك من سهل بن عبد الله وعمرو بن عثمان المكي»، فقال الحلاج: «يا شيخ إن الصحو والسكر صفتان للعبد، والعبد محجوب عن ربه حتى يفنى عن صفاته»، فقال الجنيد: «يا بن منصور إنك أخطأت في الصحو والسكر، إن الصحو سلامة الحال مع الله، والسكر المبالغة في الشوق والمحبة، وليس واحد من هذين ينال بالكسب. يا ابن منصور إن في كلامك حماقة ومخرقة.»١٨
ومذهب الجنيد في تفضيل الصحو على السكر هو المذهب الذي أخذ به كبار الصوفية من بعده.
وأما ضعاف النفوس من المتأخرين الذين بالغوا في الطرف الآخر واعتبروا الجذب والغيبة والظهور بشتى ألوان الهوس والرعونة علامة من علامات أولياء الله، فلم يكونوا إلا أفاقين دخلاء على التصوف، والتصوف منهم براء.
هذه نماذج قليلة سقناها على سبيل الأمثلة لتوضيح بعض المسائل التي وقع فيها الخلاف بين من يسميهم الهجويري بالفرَق الصوفية، وهي — كما يرى القارئ — مسائل تفصيلية لا تمس جوهر الحياة الصوفية في شيء، ولكنها تكشف عن بعض دقائقها، وتظهرنا على مدى تغلغل القوم إلى أعماق نفوسهم، ومقدرتهم على تحليل ألطف وأدق معاني التصوف والأحوال التي يعالجونها في حياتهم الصوفية، ناظرين في هذا التحليل دائمًا إلى الله وصلتهم به.
١ الرسالة القشيرية، ص١٣٤. قارن ص١٨١، س٥ من أسفل.
٢ القشيري، ص١٨٢.
٣ وهو في الفصل الرابع عشر في تسعين صفحة من الترجمة الإنجليزية للأستاذ نيكولسون سنة ١٩١١.
٤ كشف المحجوب، ص٢٥.
٥ البقرة: ٢٧٣.
٦ الأنعام: ٥٢.
٧ سورة ص: ٣٠، ٤٤.
٨ الرسالة القشيرية، ص١٢٣.
٩ رسالة القشيري، ص٨٩.
١٠ رسالة القشيري، ص٨٩.
١١ انظر كتاب الملامتية والصوفية وأهل الفتوة للمؤلف، القاهرة، سنة ١٩٤٥.
١٢ الرسالة القشيرية، ص٣٢. ويروي الكلاباذي القصة نفسها ولكنه يذكر «أبا بكر القحطبي» بدلًا من أبي بكر الواسطي، التعرف، ص٧٠.
١٣ كشف المحجوب للهجويري، ص١٨٣؛ وتذكرة الأولياء للعطار، ج١، ص٣٣٤.
١٤ رسالة القشيري، ص٣٨.
١٥ الأعراف: ١٤٣.
١٦ الرسالة القشيرية، ص١٤٦.
١٧ كشف المحجوب، ص١٨٧.
١٨ انظر كشف المحجوب، ص١٨٩.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin