العلم اللدنّـي : عموم المنطلق وفوارق الإصطفـاء
بقلم : محمود سلطاني
ومرّة أخرى .. العلم اللدنّيّ !
كان لا بدّ من عودة إلى الموضوع . وما أعادني هو الظلم الذي تُلْبِسه الفضائيات عباءة العلم وتذيعه في الناس سُمّا ملفوفا بطبقة رقيقة من السكّر فيهلك من يهلك بسبب لؤمها محروما حتّى من حلاوة يطول أمدها شيئا قليلا .
لقد كان يتحدّث عن آداب تلقّي العلم ، وكان حينها يفسّر الآيات التي تحكي قصّة سيّدنا موسى على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام وسيّدنا الخضر رضي الله عنه في سورة الكهف .
فلمّا وصل إلى قوله تعالى : وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا قال ، ( في ما معناه ) : « وأنا لا أؤمن بتصنيف العلوم إلى صنفين :علمٌ لدنّيّ وعلمٌ ظاهريٌّ ، وأنّ العلم علمٌ واحد ، وهو كلّه من عند الله ، يتعلّمه مَن يتعلّمه بأسبابه المعروفة من جهدٍ وسهرٍ وكدٍّ ، ولا علم هناك يُنال بغير واسطة ، إذ حتّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه الوحي بالواسطة » قلت في نفسي : « ولكن أسباب أخذ العلم عند سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليست نفس أسباب غيره ولو تمّ بواسطة ؟ » فأردف الرجل ، وكأنّه انتبه إلى خطئه وقال : « إنّ قصدي بعبارة بغير واسطة هو أن تتفاجأ بأنّك تعلم من غير شعور مسبق منك » . وأراد أن يُرفق قوله بحركةٍ يمنح بها القلّة الحاضرة حوله توضيحا أكثر ، فتيبّس واضعا يديه أمامه في هيئة المستسلم ، رافعا جبينه قليلا ، ومغلقا عينيه . فعل ذلك إمعانا في تقمّص الحالة المقصودة لعدم الواسطة . ثمّ أضاف ، في صورة مَن يلقي بالنتيجة النهائية : « ولذلك فإنّه لا داعي إلى القول أنّ هذا علمٌ إلهيّ وذاك علمٌ شيطانيّ » .
من كلام الرجل نرى بوضوح هيئة مفهوم العلم اللدنّي في ذهنه واعتقاده :
1 - أنّ الخصيصة الرئيسيّة لهذا العلم التي اعتمدها أهله لفصله علما مستقلاّ هي كونه يُكتسب بدون واسطة ، ولذلك رفضَه ورفض وجوده أصلا .
2 - أنّ الصوفيّة لا يعتبرون غير العلم اللدنّيّ من الله ، بل يعتبرونه علما شيطانيّا أو شبيها به ، إنِ الْتمسنا للرجل عذرا تفرضه مبالغة محتملة في تعبيره .
إنّ أشدّ الأسف ألما في الأمور ليس عندما يقصّر في حقّها العوامّ ، وإنّما الألم الحقيقيّ في تقصير أولئك الذين ، إن تيسّرتْ لهم سبل الوصول إلى المعاهد والمقاعد ، لم يتيسّر لهم نفخ روح العلم الخاصّة الممدّة لحائزها بحياة تفيض من حناياها أنوار الفهوم ، ومفاتيح أسرار المعاني حتّى وكأنّها صفحات كتاب مفتوحة كلّها في ذات اللحظة يأخذ منها صاحبها ما يشاء وقت ما يشاء .
إنّ مثل هذا العالم فذّ حقّا ، وليس صورة مكرّرة عن غيره تضاف إلى نسخ البلاد القديمة . هذا الفذّ هو القادر على الإنفراد بصنع الجديد من الموجود المتاح لكلّ الأيادي ، لأنّ السرّ كامن فيه لا في ذلك الموجود . مثل هذا له إمكانية تعيين مكامن الحلّ لكلّ إشكال وربطه بها ، وكأنّ كلّ إشكال زاوية رؤيةٍ انعكستْ جميع إشعاعات المكامن الملائمة لحلّه فيها .
وما أبعد صاحبنا عن هذا المستوى !!!
نعم ، إنّ السادة الصوفيّة يصرّحون أنّهم يأخذون العلم بدون واسطة . لكن :
أوّلا - لم يقولوا كلّ علمهم ، وإنّما هي مواهب من الله تعالى تصلهم بالتوازي مع الآليات العادية للتعلّم .
ثانيا - إنّ القصد من عبارة " بدون واسطة " هو قصدٌ اصطلاحيّ محض ، شاء من شاء وأبى من أبى .
وكان لا بدّ لنا من تلك الحدّة في نبرة القول . وما الذي يُنتظر منّا إذا جهل أدعياء الدعوة إلى الله أبجديات فنون التنظيم في التسمية والتصنيف الخاصّة بالعلوم ؟ ومن أبسط هذه الأبجديات : المجازات ، والمصطلحات .
لقد قلنا في غير هذا الموضع أنّ العالم يكتب للعالم بلغته ، وهي لغة مختلفة عن لغة العوامّ ولو اتّحدت في الحروف والمعاني الظاهرة . من هذا المنطلق يمكن الإستنتاج أنّه لا يفهم أهل العلم إلاّ أهل العلم ، وأنّ من لم يفهم فإنّه من العوامّ ولو مات أمام السبّورة في أرذل العمر .
فالإطلاق الذي يوحي به الإصطلاح - وفي كلّ فنّ - إطلاقٌ بيئته العقول الجامدة التي يستوي بداخلها معنى الخصوصي والعامّ ، وليس هكذا العلماء . لن تجد عالما ينظر إلى المفردة أو التعبير الإصطلاحي نظرته إليها وهي رابضة مطمئنّة في القاموس اللغويّ العامّ . وهو سرّ استغراب مَن لا دراية له بالإختصاصات العلميّة من استعمال كلمات تختلف معانيها عمّا اطّلع عليه من مصادر محو الأميّة أو علوم صفوف السنوات الإبتدائيّة .
ولأعطي مثلا من ميدان المحروقات الذي أعمل به .
إنّ كلمة " Poisson " أو " Fish " في قواميس الفرنسيين أو الإنجليز هي ذلك المخلوق البحريّ المعروف عند أهل الأرض قاطبة ، وهي " السمكة " عندنا بالعربية . إلاّ أنّها في ميدان البترول تعني جسما غير مرغوب فيه بقي أو سقط بقاع بئر النفط يتوجّب إخراجه حتّى لا يعوق الإنتاج . واسألْ أيّ فرنسيّ أو عالم باللغة الفرنسية عن معنى كلمة " Carotte " فسيجيبك بأنّها نبتة الجزر . لكنّك لو سألت مهندسا أو تقنيّا متخصّصا في الحفر أو الجيولوجيا أو الإنتاج النفطي فسيقول لك أنّها عيّنة إسطوانية طويلة تُبتَلع ابتلاعا بتقنيّة معيّنة من الصخرة الخازنة للبترول لدراسة خصائصها التي هي نفس خصائص الطبقة المستخرجة منها .
وهناك مصطلحات أخرى تقترب من العاميّة لكنّها معتمدة ومعمول بها ، مثل " Dog House " وتعني " بيت الكلب " ، و " Mouse Hole " وتعني " جحر الفأر " ، و " The monkey " وتعني " القرد " ، وهي كلّها عبارات لا صلة لها بحقيقة الكلاب والفئران والقرود ، ولكنّه إيحاء الواقع ، وسحر الإصطلاح ، وسرّ الإتّفاق الراتق للمعاني ، والمقدّم من غير وصفات استعمال لأنّ مَن سيستعمله يُفترَض فيه العلم به مسبقا ، وإذا ما حدث لومٌ أو نقدٌ من غير أهل الفنّ ، فلا عبرة بالمتطفّلين الثقلاء .
وكذلك شأن الواسطة بالقياس إلى العلم اللدنّيّ .
إنّ الواسطة المقصودة هي الواسطة الطبيعية المألوفة في تلقّي العلوم اعتمادا على الحواسّ الجسديّة والعقل . وبديهيّ أنّ قولهم هذا لا يعني جحودا لهذه النعم كما يدّعي خصومهم ، ولكنّه يعني أنّ هذه النعم ليست الوسيلة المناسبة لنيل العلم اللدنّيّ لأنّ اختلافه عن العلوم المعتادة ليس اختلافا كميّا ليكون الجدّ والنبوغ كافيا لطيّ مراحله واللحاق بكلّ ذي سبْقٍ . الإختلاف هنا اختلاف في الكيف والطبيعة والماهية الخارجة عن دوائر الحيل ونطاقها .
بل وكذلك شأن كلمة " اللدنّيّ " التي لا تعدو أن تكون إطلاق إسم على مسمّى لتمييزه عن غيره من العلوم ، إذ لا يُعقل أن يُترَك نكرة لا علامة له أو عليه . والأهميّة ليست في اصطلاح الناس واتّفاقهم على الإسم ، إنّما هي في المسمّى وقيمة ما يرمز إليه ويحمله . والمسمّى جوهر موجود سواء باسم أو بغير إسم ، أو أُطْلِقَ عليه كلّ يوم عنوان جديد .
وكلمة " اللدنّيّ " هي نسبة إلى كلمة لَدُنَّا المذكورة في الآية الكريمة وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ، إختارها العارفون بالله رضي الله عنهم من باب التحرّي في استعمال إسم له مغزى وهيبة ، وذلك جائز لأنّ العنوان الذي يرتبط بفنّ سيلزمه على الدوام ، ومن حقّ الفنّ على القائمين عليه تكريمه بإسم هادف جميل لطيف .
ولو أنّ المنكِر رفض الإسم لكان ذلك من قبيل حريّة التعبير عمّا لم يستسغه . أمّا أن ينكر جوهرا موجودا بذاته ، حقّا وحقيقة ، فقط انطلاقا من عنوانه ، وانطلاقا من مفهوم استبدّ به ، فهو العجب العجاب . إنّه بمثابة امرئ ينكر على " آينشتاين " نظرياته في علوم الذرّة والنسبية ويقول للناس : " لا تصدّقوا هذا الأفّاك ، فالعلم كلّه لله ، ولا داعي لهذا التصنيف الذي يذكره لكم " .
ولا أظنّ أنّ في الدنيا مخلوقا عاقلا ينكر في مصالحه على إطلاقها دور الأسباب ، فكيف بأكمل المخلوقات ، بعد الرسل والأنبياء ، عقلا ودينا ؟
ولو تمتّع صاحبنا بذرّة من بداهة لأحجم عن ظلمه ، لأنّه في تلك الحالة سيعلم أنّ الدليل على عدم الواسطة ليس دليلا ماديّا حتّى يمارسه مدّعي عدم الإحتياج لها ، ويفلح هو في إظهاره للناس باتّخاذ هيئاتٍ متحرّكة أو ساكنة . فمتى كان السكون توقّفا ؟ ومتى كان الصمت تعطيلا ؟ ومن قال أنّ أطباق الفكر والعلم والإبداع الفنّيّ والصناعة الذوقيّة لا تُعَدُّ إلاّ في أفران الجوارح الذاهبة والآيبة ؟ مهما كان الحال ، فإنّ هناك دائما واسطة عاملة تتغيّر بتغيّر عمق بيئة من ينشد خدمتها ، إن لم تكن ماديّة محضة فهي معنويّة عقليّة ، وإن لم تكن كذلك فهي معنويّة روحانيّة . ولقد كان يكفي هذا المسكين دليلا على حتميّة الواسطة ضرورة صفة الوجود في المخلوق لأنّها الأداة الأولى للتعرّف على خالقه واسطة الوسائط كلّها ، جلّ وعلا .
وكما يرى القارئ الكريم ، فإنّ الرجل حدّد لنفسه منوالا من الوسائط ، وأراده لنا ، لكنّه لم يذكر لنا اختلافاتٍ في الوسائط من الضروري الإشارة إليها لأنّه رأى أن في إبدائها فتْح باب تهبّ عليه منه رياح المتاعب أمام تلاميذه .
هذا الباب هو تقديم وسائط العامّة وواسطة الأنبياء والنبوّة بدون توضيح للفوارق بينهما لأنّ في تلك الفوارق تفسير الأمر كلّه . فإذا كان الناس العاديين يتلقّون علومهم من أناس عاديين مثلهم ولو فاقوهم في درجات المعرفة ، ويسعون إلى المدارس سعيهم لنيل كلّ رزق وما يسبق ذلك ويتبعه من ضرورات ونتائج وأحاسيس يعيشها ويعانيها كلّ من عرك نفس الظروف ، فإنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإنْ كانوا في جانب من جوانب خلقهم كالناس العاديين ، يتلقّون علمهم عن وحيٍ وبواسطة الملائكة ، وهي مخلوقات غير عادية ولا هي من جنسهم ، وبالتالي فإنّ وسائلهم كذلك ليست عادية . إذنْ فلم يكن يكفي لنفي العلم اللدنّيّ الإستشهاد بواسطية تلقّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنّ نهاية الإشكال ليست في مجرّد ثبوت الواسطة ، ولكن في نوعية الواسطة ، وقد رأينا أنّها مختلفة . فالسكوت عند هذا الحدّ ليس من الأمانة في شيء لأنّه تملّص من إحراج يرى المُحْرَج أنّه سينجرّ عن قول الحقّ ولا سبيل لتتفاديه سوى إنكاره أو الإلتجاء إلى تدليس ممقوت لا يليق بالمؤمن .
ولو كان مجيء الملك هو الواسطة الوحيدة لتلقين سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاحتجّ البعض بقولهم أنّ للملَك القدرة على الحضور على هيئةٍ آدميّة ، وأنّ الأمر كلّه يتمّ على نفس النمط العاديّ . لكن الذي نعلمه في الدين هو أنّ وسائط تلقّي سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متعدّدة ، وكلّ واحدة منها أعجب من الأخرى . تأمّلوا معي هذه الأحاديث الشريفة ثمّ احكموا .
1 - عن سيّدنا جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنه قال ، وهو يحدّث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه: « بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زمّلوني زمّلوني »
2 - عن سيّدتنا عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها : « أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول » .
3 - عن سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : « كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل » .
4 - وقال سيّدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « وإن الروح الامين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها » .
واضح ممّا قدّمنا من أحاديث أنّ مناط الأمر كلّه هو أنماط الوسائط ، أمّا فكرة انعدام الواسطة فقد افتضح زيفها وزيف الفاشلين الذين يتّخذونها جُنّة .
إنّ المنكر يصرف اصطلاح الصوفيّة في التلقّي على هواه ، وإذا قُدّم له دليل خطئه ناصعا أبلجا رفض المادّة المُتَلَقَّاة من أساسها . ومن بين الحجج التي يلتجئ إليها : عدم صحّة القياس بأحوال الأنبياء . لكننا لم نقدّم تلك الأحاديث لنقيس أحوال مقام النبوّة ومتعلّقاتها على غيرها ، وإنّما لنعطي الدليل على جواز الظاهرة بالقياس إلى ما لا يستحيل على الله سبحانه وتعالى من أفعال بينه وبين خلقه كلّ حسب مرتبته .
إنّ وسائط التلقّي والتعلّم العجيبة تكاد لا يحدّها حدّ ، وإنّها لتوغل في الخفاء والسريّة إلى درجة تستوي في علم الناس العاديين مع المعدومات ، وقد وقعت أو ستقع لعباد ليسوا بأنبياء ، بل ولحيوانات ، بل ولجمادات أصلاً .
ونقدّم في ما يلي لمن متّعه الله بدرجات المتواضعين له ولخلقه أمثلة متّفق عليها من أحاديث وأخبار ليرى الدليل الدامغ الصادق القائم على هيئة الأعلام الباذخة التي لا يخطئ رؤيتها إلاّ أعمى بصيرة ، ولا ينكرها سوى محروم .
الصبيان الذين تكلّموا .
روى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « لم يتكلّم في المهد إلاّ ثلاثة عيسى بن مريم وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة بنت فرعون »
وسوف لن نستشهد بكلام سيّدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لأنّنا اتّفقنا على تقديم أدلّتنا ممّا وقع لغير الأنبياء .
روى الإمام مسلم والإمام أحمد رضي الله عنهما وأرضاهما ، في سياق تفسير قصّة ضحايا الأخدود المذكورة في القرآن ضمن آيات سورة البروج الكريمة ، عن سيّدنا صهيب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( سنذكر فقط جزءً من الحديث ) : « ... فأمر ( يعني الملِك ) بالأخدود في أفواه السكك فخدّت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتّى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمّه اصبري فإنّك على الحقّ »
وهذا جزء من قصّة ماشطة فرعون المجاهدة رضي الله عنها ، كما يحكيها الإمام البغوي في تفسيره :
« ... فأتى ( يعني فرعون ) بابنتها الصغرى ، فلمّا أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمتْ ، وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالاً ، وقالت : يا أمّاه لا تجزعي فإنّ الله قد بنى لك بيتاً في الجنّة . إصبري فإنّك تُفضِينَ إلى رحمة الله وكرامته ، فذبحت ، فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله في الجنّة »
شاهد سيّدنا يوسف عليه الصلاة والسلام .
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ سورة يوسف - الآيتان 26 - 27 ]
واقعة الناسك جريج .
روى الإمام البخاري رضي الله عنه عن سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( جزء من الحديث ) « فتوضّأ وصلّى ثمّ أتى الغلام فقال من أبوك يا غلام قال : الراعي »
كلام الحيوانات .
روى الإمام أحمد رضي الله عنه عن سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال : « صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها قالت إنّا لم نخلق لهذا إنّما خلقنا للحراثة فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلّم فقال فإنّي أؤمن بهذا أنا وأبو بكر غدا وعمر وما هما ثمّ وبينا رجل في غنمه إذ عدا عليها الذئب فأخذ شاة منها فطلبه فأدركه فاستنقذها منه فقال يا هذا استنقذتها منّي فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري قال الناس سبحان الله ذئب يتكلّم فقال إنّي أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر وما هما ثمّ » .
إنّ جميع ملابسات القصّة إبتداء من المخبر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وانتهاء بساداتنا الصحابة المبدين لتعجّبهم الجمّ ، ومرورا بخليفتيّ النبيّ عليه وعليهم الصلاة والسلام الذيْن لم يُثِرْ فيهما الحدث أيّ انفعال ، كلّ هذا إشارة إلى لامحدودية طرق تعليم الله عباده وإلى لانهائية أنماط العلوم الخارقة الموهوبة . وهو كذلك درس بيداغوجي راقٍ ودقيقٍ من أعظم معلّم عرفه الوجود من بين خلق الله فصّل فيه الحبيب الأكرم جميع مراحل الظاهرة بالقياس إلى متلقّييها ، وبيّن مواقفهم من أمثالها وفقا لطبائعهم واستعداداتهم وسعة أوانيهم . فالقصّة هي نموذج حيّ صارخ للإبداع الإلهي في تشكيل خلقه وتصريفه لملكاتهم على أنحاء مبهرة معجِزة . وسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو ناقل الخبر ، وكفى به مخبرا ، فهو نائب عن صاحب البقرة والراعي ، والصحابة الكرام الذين صدّقوا لكنّهم تعجّبوا مثال على فئة يُثير فيها غير المألوف تساؤلات ، إن كانت لديهم لا تعني سوى الإستغراب البريء ، فإنّها عند أكثر المتسائلين سواهم تتحوّل إلى إنكار بالجملة . وأمّا سيّدنا أبي بكر وسيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما فَهُمَا مثال أصحاب العقيدة المسيطرة على كلّ ما له سيطرة على ذواتهم ، ولذلك صدّقوا ولم يتعجّبوا لأنّ حالهم كان كحال من حضر وقوع الحادثة ، ولذلك عبّر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نيابة عنهما في محلّ لا ينوب عادة فيه واحدٌ عن واحدٍ ، وقَرَنَ تصديقهما بتصديقه ، وقال : « إنّي أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر ومَا هُمَا ثَمَّ » ، ليُنْبِئ مَن كان حاضرا ومن يصله حديثه عن عظمة الإعتقاد في خبر مَن تثبت عدالته ويتحقّق صدقه وورعه وتقواه .
وأسأل المنكر : كيف علِمتْ البقرة أنّها لم تُخلق للركوب ؟ وفي أيّ معهد تعلّمتْ لغة الرجل الذي كان يملكها ؟ فإذا كان كلامها كلاما خاصّا بالبقر ، فمَن علّم المالك لسان البقر ؟ وأنا أسأل كلّ من يصل إلى هذا المستوى من المقال ويقرأ كلامي ، هل تعرف " يوم السبع " ؟ فإن كنتَ منكرا على العلم اللدنّيّ ولا تعرف أنّ هذا اليوم لا محالة موجود ، فإنّي أبشّرك بأنّ ذوات الأنياب أعلم منك ، وأفصح منك في تقديم دروس الإقناع وتدبير شؤونها ومصالحها .
أمّا نحن ، فلا ريب عندنا أنّ تلك العجماوات قد زُجَّ بها في قبضة " كنْ " فبُدِّل الطبع غير الطبع ، وذلّلتْ لها ضروب الإستعدادات في أسرع من طرفة العين ، فوجدت نفسها عالمة مؤدّية وموفّية .
ويجب على من يقرأ القصّة أن يتنبّه إلى أنّ وقت سردها كان مقترنا بوقت انصرافه صلّى الله عليه وسلّم من مكتوبة ، وهو دليل على أهمّية مراميها ، وعلوّ شأنها ومرتبتها في حياته وفي أمّته من بعد رحيله .
كلام الجمادات .
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : « لا تقوم الساعة حتّى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتّى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديّ خلفي فتعال فاقتله إلاّ الغرقد فإنّه من شجر اليهود » .
إذنْ ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يمكّن الحجر والشجر ، ليس فحسب من النطق ، ولكن أيضا يُعْلِمُه بحقيقة عقيدة المختبئ وراءه ، وحقيقة عقيدة الباحث عنه .
أراد بعض الناس تأويل كلام الحجر والشجر وحمله على معاني إشاريّة يراد بها استعمال المخترَعات العالية في الإتّصال ، إلاّ أنّ ذلك لا يستقيم مع ذِكْرِ شجر الغرقد باسمه وعينه . بل على العكس ، فلو تعلّق الأمر بالمخترعات فإنّه لن يتكلّم سوى هذا الشجر لينبّه اليهوديّ إلى الخطر لأنّه شجرهم ، وفيهم الروّاد في الإختراعات والعلوم .
بقلم : محمود سلطاني
ومرّة أخرى .. العلم اللدنّيّ !
كان لا بدّ من عودة إلى الموضوع . وما أعادني هو الظلم الذي تُلْبِسه الفضائيات عباءة العلم وتذيعه في الناس سُمّا ملفوفا بطبقة رقيقة من السكّر فيهلك من يهلك بسبب لؤمها محروما حتّى من حلاوة يطول أمدها شيئا قليلا .
لقد كان يتحدّث عن آداب تلقّي العلم ، وكان حينها يفسّر الآيات التي تحكي قصّة سيّدنا موسى على نبيّنا وعليه الصلاة والسلام وسيّدنا الخضر رضي الله عنه في سورة الكهف .
فلمّا وصل إلى قوله تعالى : وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا قال ، ( في ما معناه ) : « وأنا لا أؤمن بتصنيف العلوم إلى صنفين :علمٌ لدنّيّ وعلمٌ ظاهريٌّ ، وأنّ العلم علمٌ واحد ، وهو كلّه من عند الله ، يتعلّمه مَن يتعلّمه بأسبابه المعروفة من جهدٍ وسهرٍ وكدٍّ ، ولا علم هناك يُنال بغير واسطة ، إذ حتّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جاءه الوحي بالواسطة » قلت في نفسي : « ولكن أسباب أخذ العلم عند سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليست نفس أسباب غيره ولو تمّ بواسطة ؟ » فأردف الرجل ، وكأنّه انتبه إلى خطئه وقال : « إنّ قصدي بعبارة بغير واسطة هو أن تتفاجأ بأنّك تعلم من غير شعور مسبق منك » . وأراد أن يُرفق قوله بحركةٍ يمنح بها القلّة الحاضرة حوله توضيحا أكثر ، فتيبّس واضعا يديه أمامه في هيئة المستسلم ، رافعا جبينه قليلا ، ومغلقا عينيه . فعل ذلك إمعانا في تقمّص الحالة المقصودة لعدم الواسطة . ثمّ أضاف ، في صورة مَن يلقي بالنتيجة النهائية : « ولذلك فإنّه لا داعي إلى القول أنّ هذا علمٌ إلهيّ وذاك علمٌ شيطانيّ » .
من كلام الرجل نرى بوضوح هيئة مفهوم العلم اللدنّي في ذهنه واعتقاده :
1 - أنّ الخصيصة الرئيسيّة لهذا العلم التي اعتمدها أهله لفصله علما مستقلاّ هي كونه يُكتسب بدون واسطة ، ولذلك رفضَه ورفض وجوده أصلا .
2 - أنّ الصوفيّة لا يعتبرون غير العلم اللدنّيّ من الله ، بل يعتبرونه علما شيطانيّا أو شبيها به ، إنِ الْتمسنا للرجل عذرا تفرضه مبالغة محتملة في تعبيره .
إنّ أشدّ الأسف ألما في الأمور ليس عندما يقصّر في حقّها العوامّ ، وإنّما الألم الحقيقيّ في تقصير أولئك الذين ، إن تيسّرتْ لهم سبل الوصول إلى المعاهد والمقاعد ، لم يتيسّر لهم نفخ روح العلم الخاصّة الممدّة لحائزها بحياة تفيض من حناياها أنوار الفهوم ، ومفاتيح أسرار المعاني حتّى وكأنّها صفحات كتاب مفتوحة كلّها في ذات اللحظة يأخذ منها صاحبها ما يشاء وقت ما يشاء .
إنّ مثل هذا العالم فذّ حقّا ، وليس صورة مكرّرة عن غيره تضاف إلى نسخ البلاد القديمة . هذا الفذّ هو القادر على الإنفراد بصنع الجديد من الموجود المتاح لكلّ الأيادي ، لأنّ السرّ كامن فيه لا في ذلك الموجود . مثل هذا له إمكانية تعيين مكامن الحلّ لكلّ إشكال وربطه بها ، وكأنّ كلّ إشكال زاوية رؤيةٍ انعكستْ جميع إشعاعات المكامن الملائمة لحلّه فيها .
وما أبعد صاحبنا عن هذا المستوى !!!
نعم ، إنّ السادة الصوفيّة يصرّحون أنّهم يأخذون العلم بدون واسطة . لكن :
أوّلا - لم يقولوا كلّ علمهم ، وإنّما هي مواهب من الله تعالى تصلهم بالتوازي مع الآليات العادية للتعلّم .
ثانيا - إنّ القصد من عبارة " بدون واسطة " هو قصدٌ اصطلاحيّ محض ، شاء من شاء وأبى من أبى .
وكان لا بدّ لنا من تلك الحدّة في نبرة القول . وما الذي يُنتظر منّا إذا جهل أدعياء الدعوة إلى الله أبجديات فنون التنظيم في التسمية والتصنيف الخاصّة بالعلوم ؟ ومن أبسط هذه الأبجديات : المجازات ، والمصطلحات .
لقد قلنا في غير هذا الموضع أنّ العالم يكتب للعالم بلغته ، وهي لغة مختلفة عن لغة العوامّ ولو اتّحدت في الحروف والمعاني الظاهرة . من هذا المنطلق يمكن الإستنتاج أنّه لا يفهم أهل العلم إلاّ أهل العلم ، وأنّ من لم يفهم فإنّه من العوامّ ولو مات أمام السبّورة في أرذل العمر .
فالإطلاق الذي يوحي به الإصطلاح - وفي كلّ فنّ - إطلاقٌ بيئته العقول الجامدة التي يستوي بداخلها معنى الخصوصي والعامّ ، وليس هكذا العلماء . لن تجد عالما ينظر إلى المفردة أو التعبير الإصطلاحي نظرته إليها وهي رابضة مطمئنّة في القاموس اللغويّ العامّ . وهو سرّ استغراب مَن لا دراية له بالإختصاصات العلميّة من استعمال كلمات تختلف معانيها عمّا اطّلع عليه من مصادر محو الأميّة أو علوم صفوف السنوات الإبتدائيّة .
ولأعطي مثلا من ميدان المحروقات الذي أعمل به .
إنّ كلمة " Poisson " أو " Fish " في قواميس الفرنسيين أو الإنجليز هي ذلك المخلوق البحريّ المعروف عند أهل الأرض قاطبة ، وهي " السمكة " عندنا بالعربية . إلاّ أنّها في ميدان البترول تعني جسما غير مرغوب فيه بقي أو سقط بقاع بئر النفط يتوجّب إخراجه حتّى لا يعوق الإنتاج . واسألْ أيّ فرنسيّ أو عالم باللغة الفرنسية عن معنى كلمة " Carotte " فسيجيبك بأنّها نبتة الجزر . لكنّك لو سألت مهندسا أو تقنيّا متخصّصا في الحفر أو الجيولوجيا أو الإنتاج النفطي فسيقول لك أنّها عيّنة إسطوانية طويلة تُبتَلع ابتلاعا بتقنيّة معيّنة من الصخرة الخازنة للبترول لدراسة خصائصها التي هي نفس خصائص الطبقة المستخرجة منها .
وهناك مصطلحات أخرى تقترب من العاميّة لكنّها معتمدة ومعمول بها ، مثل " Dog House " وتعني " بيت الكلب " ، و " Mouse Hole " وتعني " جحر الفأر " ، و " The monkey " وتعني " القرد " ، وهي كلّها عبارات لا صلة لها بحقيقة الكلاب والفئران والقرود ، ولكنّه إيحاء الواقع ، وسحر الإصطلاح ، وسرّ الإتّفاق الراتق للمعاني ، والمقدّم من غير وصفات استعمال لأنّ مَن سيستعمله يُفترَض فيه العلم به مسبقا ، وإذا ما حدث لومٌ أو نقدٌ من غير أهل الفنّ ، فلا عبرة بالمتطفّلين الثقلاء .
وكذلك شأن الواسطة بالقياس إلى العلم اللدنّيّ .
إنّ الواسطة المقصودة هي الواسطة الطبيعية المألوفة في تلقّي العلوم اعتمادا على الحواسّ الجسديّة والعقل . وبديهيّ أنّ قولهم هذا لا يعني جحودا لهذه النعم كما يدّعي خصومهم ، ولكنّه يعني أنّ هذه النعم ليست الوسيلة المناسبة لنيل العلم اللدنّيّ لأنّ اختلافه عن العلوم المعتادة ليس اختلافا كميّا ليكون الجدّ والنبوغ كافيا لطيّ مراحله واللحاق بكلّ ذي سبْقٍ . الإختلاف هنا اختلاف في الكيف والطبيعة والماهية الخارجة عن دوائر الحيل ونطاقها .
بل وكذلك شأن كلمة " اللدنّيّ " التي لا تعدو أن تكون إطلاق إسم على مسمّى لتمييزه عن غيره من العلوم ، إذ لا يُعقل أن يُترَك نكرة لا علامة له أو عليه . والأهميّة ليست في اصطلاح الناس واتّفاقهم على الإسم ، إنّما هي في المسمّى وقيمة ما يرمز إليه ويحمله . والمسمّى جوهر موجود سواء باسم أو بغير إسم ، أو أُطْلِقَ عليه كلّ يوم عنوان جديد .
وكلمة " اللدنّيّ " هي نسبة إلى كلمة لَدُنَّا المذكورة في الآية الكريمة وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا ، إختارها العارفون بالله رضي الله عنهم من باب التحرّي في استعمال إسم له مغزى وهيبة ، وذلك جائز لأنّ العنوان الذي يرتبط بفنّ سيلزمه على الدوام ، ومن حقّ الفنّ على القائمين عليه تكريمه بإسم هادف جميل لطيف .
ولو أنّ المنكِر رفض الإسم لكان ذلك من قبيل حريّة التعبير عمّا لم يستسغه . أمّا أن ينكر جوهرا موجودا بذاته ، حقّا وحقيقة ، فقط انطلاقا من عنوانه ، وانطلاقا من مفهوم استبدّ به ، فهو العجب العجاب . إنّه بمثابة امرئ ينكر على " آينشتاين " نظرياته في علوم الذرّة والنسبية ويقول للناس : " لا تصدّقوا هذا الأفّاك ، فالعلم كلّه لله ، ولا داعي لهذا التصنيف الذي يذكره لكم " .
ولا أظنّ أنّ في الدنيا مخلوقا عاقلا ينكر في مصالحه على إطلاقها دور الأسباب ، فكيف بأكمل المخلوقات ، بعد الرسل والأنبياء ، عقلا ودينا ؟
ولو تمتّع صاحبنا بذرّة من بداهة لأحجم عن ظلمه ، لأنّه في تلك الحالة سيعلم أنّ الدليل على عدم الواسطة ليس دليلا ماديّا حتّى يمارسه مدّعي عدم الإحتياج لها ، ويفلح هو في إظهاره للناس باتّخاذ هيئاتٍ متحرّكة أو ساكنة . فمتى كان السكون توقّفا ؟ ومتى كان الصمت تعطيلا ؟ ومن قال أنّ أطباق الفكر والعلم والإبداع الفنّيّ والصناعة الذوقيّة لا تُعَدُّ إلاّ في أفران الجوارح الذاهبة والآيبة ؟ مهما كان الحال ، فإنّ هناك دائما واسطة عاملة تتغيّر بتغيّر عمق بيئة من ينشد خدمتها ، إن لم تكن ماديّة محضة فهي معنويّة عقليّة ، وإن لم تكن كذلك فهي معنويّة روحانيّة . ولقد كان يكفي هذا المسكين دليلا على حتميّة الواسطة ضرورة صفة الوجود في المخلوق لأنّها الأداة الأولى للتعرّف على خالقه واسطة الوسائط كلّها ، جلّ وعلا .
وكما يرى القارئ الكريم ، فإنّ الرجل حدّد لنفسه منوالا من الوسائط ، وأراده لنا ، لكنّه لم يذكر لنا اختلافاتٍ في الوسائط من الضروري الإشارة إليها لأنّه رأى أن في إبدائها فتْح باب تهبّ عليه منه رياح المتاعب أمام تلاميذه .
هذا الباب هو تقديم وسائط العامّة وواسطة الأنبياء والنبوّة بدون توضيح للفوارق بينهما لأنّ في تلك الفوارق تفسير الأمر كلّه . فإذا كان الناس العاديين يتلقّون علومهم من أناس عاديين مثلهم ولو فاقوهم في درجات المعرفة ، ويسعون إلى المدارس سعيهم لنيل كلّ رزق وما يسبق ذلك ويتبعه من ضرورات ونتائج وأحاسيس يعيشها ويعانيها كلّ من عرك نفس الظروف ، فإنّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وإنْ كانوا في جانب من جوانب خلقهم كالناس العاديين ، يتلقّون علمهم عن وحيٍ وبواسطة الملائكة ، وهي مخلوقات غير عادية ولا هي من جنسهم ، وبالتالي فإنّ وسائلهم كذلك ليست عادية . إذنْ فلم يكن يكفي لنفي العلم اللدنّيّ الإستشهاد بواسطية تلقّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأنّ نهاية الإشكال ليست في مجرّد ثبوت الواسطة ، ولكن في نوعية الواسطة ، وقد رأينا أنّها مختلفة . فالسكوت عند هذا الحدّ ليس من الأمانة في شيء لأنّه تملّص من إحراج يرى المُحْرَج أنّه سينجرّ عن قول الحقّ ولا سبيل لتتفاديه سوى إنكاره أو الإلتجاء إلى تدليس ممقوت لا يليق بالمؤمن .
ولو كان مجيء الملك هو الواسطة الوحيدة لتلقين سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لاحتجّ البعض بقولهم أنّ للملَك القدرة على الحضور على هيئةٍ آدميّة ، وأنّ الأمر كلّه يتمّ على نفس النمط العاديّ . لكن الذي نعلمه في الدين هو أنّ وسائط تلقّي سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم متعدّدة ، وكلّ واحدة منها أعجب من الأخرى . تأمّلوا معي هذه الأحاديث الشريفة ثمّ احكموا .
1 - عن سيّدنا جابر بن عبد الله الأنصاريّ رضي الله عنه قال ، وهو يحدّث عن فترة الوحي ، فقال في حديثه: « بينا أنا أمشي إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض فرعبت منه فرجعت فقلت زمّلوني زمّلوني »
2 - عن سيّدتنا عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها : « أنّ الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال : يا رسول الله، كيف يأتيك الوحي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيت عنه ما قال وأحيانا يتمثّل لي الملك رجلا فيكلّمني فأعي ما يقول » .
3 - عن سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : « كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل » .
4 - وقال سيّدنا ومولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « وإن الروح الامين نفث في روعي أنه ليس من نفس تموت حتى تستوفي رزقها » .
واضح ممّا قدّمنا من أحاديث أنّ مناط الأمر كلّه هو أنماط الوسائط ، أمّا فكرة انعدام الواسطة فقد افتضح زيفها وزيف الفاشلين الذين يتّخذونها جُنّة .
إنّ المنكر يصرف اصطلاح الصوفيّة في التلقّي على هواه ، وإذا قُدّم له دليل خطئه ناصعا أبلجا رفض المادّة المُتَلَقَّاة من أساسها . ومن بين الحجج التي يلتجئ إليها : عدم صحّة القياس بأحوال الأنبياء . لكننا لم نقدّم تلك الأحاديث لنقيس أحوال مقام النبوّة ومتعلّقاتها على غيرها ، وإنّما لنعطي الدليل على جواز الظاهرة بالقياس إلى ما لا يستحيل على الله سبحانه وتعالى من أفعال بينه وبين خلقه كلّ حسب مرتبته .
إنّ وسائط التلقّي والتعلّم العجيبة تكاد لا يحدّها حدّ ، وإنّها لتوغل في الخفاء والسريّة إلى درجة تستوي في علم الناس العاديين مع المعدومات ، وقد وقعت أو ستقع لعباد ليسوا بأنبياء ، بل ولحيوانات ، بل ولجمادات أصلاً .
ونقدّم في ما يلي لمن متّعه الله بدرجات المتواضعين له ولخلقه أمثلة متّفق عليها من أحاديث وأخبار ليرى الدليل الدامغ الصادق القائم على هيئة الأعلام الباذخة التي لا يخطئ رؤيتها إلاّ أعمى بصيرة ، ولا ينكرها سوى محروم .
الصبيان الذين تكلّموا .
روى الحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضى الله تعالى عنه قال ، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : « لم يتكلّم في المهد إلاّ ثلاثة عيسى بن مريم وشاهد يوسف وصاحب جريج وابن ماشطة بنت فرعون »
وسوف لن نستشهد بكلام سيّدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام لأنّنا اتّفقنا على تقديم أدلّتنا ممّا وقع لغير الأنبياء .
روى الإمام مسلم والإمام أحمد رضي الله عنهما وأرضاهما ، في سياق تفسير قصّة ضحايا الأخدود المذكورة في القرآن ضمن آيات سورة البروج الكريمة ، عن سيّدنا صهيب رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( سنذكر فقط جزءً من الحديث ) : « ... فأمر ( يعني الملِك ) بالأخدود في أفواه السكك فخدّت وأضرم النيران وقال من لم يرجع عن دينه فأحموه فيها أو قيل له اقتحم ففعلوا حتّى جاءت امرأة ومعها صبيّ لها فتقاعست أن تقع فيها فقال لها الغلام يا أمّه اصبري فإنّك على الحقّ »
وهذا جزء من قصّة ماشطة فرعون المجاهدة رضي الله عنها ، كما يحكيها الإمام البغوي في تفسيره :
« ... فأتى ( يعني فرعون ) بابنتها الصغرى ، فلمّا أضجعت على صدرها وأرادوا ذبحها جزعت المرأة ، فأطلق الله لسان ابنتها فتكلّمتْ ، وهي من الأربعة الذين تكلّموا أطفالاً ، وقالت : يا أمّاه لا تجزعي فإنّ الله قد بنى لك بيتاً في الجنّة . إصبري فإنّك تُفضِينَ إلى رحمة الله وكرامته ، فذبحت ، فلم تلبث أن ماتت فأسكنها الله في الجنّة »
شاهد سيّدنا يوسف عليه الصلاة والسلام .
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ سورة يوسف - الآيتان 26 - 27 ]
واقعة الناسك جريج .
روى الإمام البخاري رضي الله عنه عن سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : ( جزء من الحديث ) « فتوضّأ وصلّى ثمّ أتى الغلام فقال من أبوك يا غلام قال : الراعي »
كلام الحيوانات .
روى الإمام أحمد رضي الله عنه عن سيّدنا أبي هريرة رضي الله عنه قال : « صلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلاة ثمّ أقبل علينا بوجهه فقال بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها قالت إنّا لم نخلق لهذا إنّما خلقنا للحراثة فقال الناس سبحان الله بقرة تتكلّم فقال فإنّي أؤمن بهذا أنا وأبو بكر غدا وعمر وما هما ثمّ وبينا رجل في غنمه إذ عدا عليها الذئب فأخذ شاة منها فطلبه فأدركه فاستنقذها منه فقال يا هذا استنقذتها منّي فمن لها يوم السبع يوم لا راعي لها غيري قال الناس سبحان الله ذئب يتكلّم فقال إنّي أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر وما هما ثمّ » .
إنّ جميع ملابسات القصّة إبتداء من المخبر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ، وانتهاء بساداتنا الصحابة المبدين لتعجّبهم الجمّ ، ومرورا بخليفتيّ النبيّ عليه وعليهم الصلاة والسلام الذيْن لم يُثِرْ فيهما الحدث أيّ انفعال ، كلّ هذا إشارة إلى لامحدودية طرق تعليم الله عباده وإلى لانهائية أنماط العلوم الخارقة الموهوبة . وهو كذلك درس بيداغوجي راقٍ ودقيقٍ من أعظم معلّم عرفه الوجود من بين خلق الله فصّل فيه الحبيب الأكرم جميع مراحل الظاهرة بالقياس إلى متلقّييها ، وبيّن مواقفهم من أمثالها وفقا لطبائعهم واستعداداتهم وسعة أوانيهم . فالقصّة هي نموذج حيّ صارخ للإبداع الإلهي في تشكيل خلقه وتصريفه لملكاتهم على أنحاء مبهرة معجِزة . وسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو ناقل الخبر ، وكفى به مخبرا ، فهو نائب عن صاحب البقرة والراعي ، والصحابة الكرام الذين صدّقوا لكنّهم تعجّبوا مثال على فئة يُثير فيها غير المألوف تساؤلات ، إن كانت لديهم لا تعني سوى الإستغراب البريء ، فإنّها عند أكثر المتسائلين سواهم تتحوّل إلى إنكار بالجملة . وأمّا سيّدنا أبي بكر وسيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنهما فَهُمَا مثال أصحاب العقيدة المسيطرة على كلّ ما له سيطرة على ذواتهم ، ولذلك صدّقوا ولم يتعجّبوا لأنّ حالهم كان كحال من حضر وقوع الحادثة ، ولذلك عبّر سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نيابة عنهما في محلّ لا ينوب عادة فيه واحدٌ عن واحدٍ ، وقَرَنَ تصديقهما بتصديقه ، وقال : « إنّي أؤمن بذلك وأبو بكر وعمر ومَا هُمَا ثَمَّ » ، ليُنْبِئ مَن كان حاضرا ومن يصله حديثه عن عظمة الإعتقاد في خبر مَن تثبت عدالته ويتحقّق صدقه وورعه وتقواه .
وأسأل المنكر : كيف علِمتْ البقرة أنّها لم تُخلق للركوب ؟ وفي أيّ معهد تعلّمتْ لغة الرجل الذي كان يملكها ؟ فإذا كان كلامها كلاما خاصّا بالبقر ، فمَن علّم المالك لسان البقر ؟ وأنا أسأل كلّ من يصل إلى هذا المستوى من المقال ويقرأ كلامي ، هل تعرف " يوم السبع " ؟ فإن كنتَ منكرا على العلم اللدنّيّ ولا تعرف أنّ هذا اليوم لا محالة موجود ، فإنّي أبشّرك بأنّ ذوات الأنياب أعلم منك ، وأفصح منك في تقديم دروس الإقناع وتدبير شؤونها ومصالحها .
أمّا نحن ، فلا ريب عندنا أنّ تلك العجماوات قد زُجَّ بها في قبضة " كنْ " فبُدِّل الطبع غير الطبع ، وذلّلتْ لها ضروب الإستعدادات في أسرع من طرفة العين ، فوجدت نفسها عالمة مؤدّية وموفّية .
ويجب على من يقرأ القصّة أن يتنبّه إلى أنّ وقت سردها كان مقترنا بوقت انصرافه صلّى الله عليه وسلّم من مكتوبة ، وهو دليل على أهمّية مراميها ، وعلوّ شأنها ومرتبتها في حياته وفي أمّته من بعد رحيله .
كلام الجمادات .
وفي مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال : « لا تقوم الساعة حتّى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتّى يختبئ اليهود من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهوديّ خلفي فتعال فاقتله إلاّ الغرقد فإنّه من شجر اليهود » .
إذنْ ، فإنّ الله سبحانه وتعالى يمكّن الحجر والشجر ، ليس فحسب من النطق ، ولكن أيضا يُعْلِمُه بحقيقة عقيدة المختبئ وراءه ، وحقيقة عقيدة الباحث عنه .
أراد بعض الناس تأويل كلام الحجر والشجر وحمله على معاني إشاريّة يراد بها استعمال المخترَعات العالية في الإتّصال ، إلاّ أنّ ذلك لا يستقيم مع ذِكْرِ شجر الغرقد باسمه وعينه . بل على العكس ، فلو تعلّق الأمر بالمخترعات فإنّه لن يتكلّم سوى هذا الشجر لينبّه اليهوديّ إلى الخطر لأنّه شجرهم ، وفيهم الروّاد في الإختراعات والعلوم .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin