القبور في المساجد
بقلم : محمود سلطاني
يواجهنا المنكرون على عدم جواز بناء المساجد على القبور ، وعلى إقامة الأضرحة عليها ، بالحديث الذي روته السيّدة عائشة رضي الله عنها « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . وإذا ما رددنا عليهم بأنّ قبره صلّى الله عليه وسلّم نفسه في مسجده ، وأنّ عليه ضريحا قائما ، يقولون إنذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يدفن في المسجد ، وإنّ قبره أُدخِلَ فيه بعد ضُمَّتْ حجرته التي بها دُفِن إليه .
أمّا مسألة الضمّ فهي صحيحة .
لكن صحّتها لا تغيّر من الأمر شيئا ، ولا تفيد المنكرين في سعيهم للبرهنة على صحّة دعواهم لا في كثير ولا في قليل .
أمّا الحديث فقد اتّفق أهل التحقيق من علماء الأمّة الأجلاّء ، والعارفين بالله رضوان الله عليهم ، على أنّ القصد من الإنكار الوارد فيه هو على سلوك أهله إذْ كانوا يخرجون من كيفيات التعظيم الجائز إلى عبادة وتأليه أولئك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وهذا الأمر كان يتمّ إمّا ببناء المساجد فعلا ، أو باتّخاذ القبور محلاّ للسجود وإن كان في العراء . والرأي الأخير هو ما تميل إليه كلّ رؤية فاحصة لأنّه لو كان المعنى هو البناء على القبر لكنّا في ساعتنا هذه جميعا نعلم بمكان قبور ساداتنا الأنبياء من بعد سيّدنا إبراهيم حتّى سيّدنا عيسى بن مريم عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم . ولا شيء من هذا موجودا .
والغريب أن سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ذكر الحديث قبيْل وفاته بوقت قصير ، ثمّ اسأذن زوجاته كي يمرّض في بيت سيّدتنا أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها . من ناحية أخرى ، يخبرنا التاريخ أنّه صلّى الله عليه وسلّم أخبر سيّدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها بأنّ الله متوفّيه . ثمّ أنّه هو الذي قال ، وقوله الحق : « ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه » عند النظر إلى هذه المعطيات في آنٍ واحد فإنّ ما نستنتجه منها هو كِبَر احتمال حدوث محذور على مرأى ومسمع من الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم . لو كان المعنى في حديث اتّخاذ القبور مساجد هو النهي عن وجودها بالمساجد لكان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإقدامه على إكمال أيّامه الأخيرة ببيت سيّدتنا عائشة ، مع علمه وقوله بأنّ مثواه الأخير هو بقعة انتقاله إلى جوار ربّه ، قد وضع الأمّة على بركان فتنة في دينها ومصيرها الآجل . وحاشا أن يكون . بل إنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند الإطّلاع على الحديث المذكور هو أنّه لو كان النهي ما فهمه المنكرون لكان مولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بإبعاده عن مكمن الشبهة إلى محلٍّ يطمئنّ فيه على سلامة أحوال المسلمين من كيد الشيطان . أمّا وأنْ يُنبّه عن خطرٍ ثمّ يحطّ رحاله داخل حدوده - وهو الذي أمضى حياته يحذّر من الإقتراب من حدود الله وتعدّيها - فهذا محال على أرأف الخلق بالخلق وبخاصّة أمّته . محالٌ على من يقول : « ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله عز وجل إلي وأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة » وعلى من يقول : « فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه » ، وعلى كامل الأخلاق الذي قالت أم المؤمنين سيّدتنا عائشة رضي الله عنها فيه : « ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين في الإسلام إلا اختار أيسرهما » ما خيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"
بل سنذهب إلى أبعد من هذا .
إنّ في اختيار الله له بيتَ عائشة رضي الله عنها ليكون له مثوى نهائي لدعوة خفيّة لأنْ يُضمَّ بيتُه وقبرُه إلى مسجده .
وإنّي أرى - بعمق بصيرة وعقيدة - أنّه عليه الصلاة والسلام لو لم يُدخَل قبرُه وقبرا صاحبيه عليهما الرضوان في المسجد لكان ستنجرّ على ذلك معضلات وتعقيدات في حركة وسلوك المسلمين بين المسجد والقبر ، وربّما كان مسجده عليه الصلاة والسلام سيهجر إلا في أوقات الصلاة ، ولانقسم الحجّاج والمعتمرون قسمٌ يصلّي في المسجد وقسمٌ يصلّي قرب القبر ، وستعمّ الفوضى والإزدحام عند الزيارة لأنّ أدب الناس وخشوعهم قطعا سينقص وهم بالخارج ، ويعمّ التشويش ، وربّما يقع العنف بين الإخوة أو بين الزائرين والساهرين على الأمن والنظام ، وربّما تزهق الأرواح ويسهل الإعتداء بأنواعه ، وسيتحوّل جوار أطهر وأنقى وأفضل مكان إلى عشّ تفرّخ فيه الجريمة وسوء الأدب .
هذا في أحسن الأحوال .
أمّا في أسوئها ، فهو طمس معالم القبر من قِبَل المتنطّعين الذين يرفضون التبرّك بصفوة خلق الله والتوسّل بهم إليه ، أو إقامة منشآت ذات صلة بمصالح الدنيا لصرف المسلمين عمّا يعتبرونه شركا أو طريقا إليه .
ومن يخلص في رؤية الأمر بموضوعية فسيثبت له أن قبره عليه الصلاة والسلام داخل المسجد يتقاطع مع سبل كلّ أدب وسلامة ، حيث تغمر سكينة التعبّد والتقرّب إلى الله كل جوارح المؤمن فيه قبل التفكير في الزيارة فتكبّل كل جموح واندفاع في طبعه . فإذا أضيف إلى هذا الترويض والتأهيل الرباني ، والتذلّل والخضوع أمام المولى الواحد الأحد ، إذا أضيف له جبال المحبّة والأدب والشوق وطهارة الأبدان والأرواح ، فإنّ ذلك المسجد الشريف بمن فيه سيتحوّل إلى جزيرةِ مجتمعٍ فاضلٍ أفراده أفضل من الملائكة الكرام ، لا رقيب عليهم سوى الله سبحانه وتعالى وروح رسوله صلّى الله عليه وسلّم الرامقة للجميع ، وشحنات الإخلاص الدافق المهيمنة على كل أقطار الروح والجسد والتفكير والسلوك .
ولقد أكّدت لنا هذه المسألة ما كنّا دائما نردّده بثقة من أنّ المنكرين على ساداتنا الصوفية جهلة حتى النخاع ولو عبّوا من كلّ العلوم . ليس فحسب جهلهم ، ولكن أيضا تذبذبهم بالقياس إلى مرجعيّة أقوالهم . إسألْ إيّ منكر على الصوفية عن مرجعيّته ، فسيقول لك : هو الكتاب والسنّة وعمل العلماء من أهل القرون الثلاثة الفضلى . لكن في هذه المرّة فإنّ المنكرين قد دفعوا بخطّ مرجعيّتهم إلى الوراء كثيرا ، وقالوا قولة واحدة بأنّ ضمَّ قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تمّ زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان عندما توفيّ أغلب الصحابة . فلو أردنا رسم خطّ ثقتهم - المتذبذب أصلا - في هذه المسألة فسنسطره في عهد حكم سيّدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في أبعد نقطة له . وحين توقّف بهم قطار فكرهم ، واستبدّ بهم اليأس ، تشبّثوا بقول سيّدنا ومولانا سعيد بن المسيّب رضي الله عنه حيث قال : " ليتهم لم يهدموها " ، يعني حجرة سيّدتنا عائشة رضي الله عنها .
ولا تسلْ عن تفنّنهم في انتقاص الوليد بن عبد الملك ، فقد فاقت كل وصف .
أمّا حقيقة ذلك الخليفة فقد فصّلها المؤرّخون الثقات ، وقالوا ما له وما عليه ، فكانت محاسنه ومآثره من القوّة والعنفوان والفيضان ما يرفعه بحقّ إلى مصاف العظماء الذين خدموا هذا الدين الحنيف وأخلصوا لأمتّه .
أمّا مساوئه فيمكن حصرها في سببين اثنين رئيسيين لا دخل له مباشرة في وجودهما فيه . السبب الأوّل كان تدليله الكبير من طرف والديه ، والسبب الثاني نقص ذكائه ومحدودية استعداداته الطبيعية لتلقّي العلوم ، فنشأ عنيفا شأن كلّ مدلّل وقليل الزاد من العلم . إلا أنّ هذا لا يعني أنّه كان غبيّا أو عربيدا أو مستهترا بالدين . فيكفي أنّ في عهده بلغتْ رقعة الدولة الإسلامية أقصى اتّساعها الذي لم تنلْه إلى يوم الناس هذا . لقد طفق الخليفة الوليد في تنفيذ برنامج فتوحات وصلتْ بمقتضاه الجيوش الإسلامية إلى حدود الهند والسند شرقا ، وإلى الأندلس بأوروبا ، بقيادة نخبة من أشرف ما أنجبته الأمّة كمحمّد بن القاسم ، وقتيبة بن مسلم ، وموسى بن نصير رضي الله عنهم . ولقد عمّ الأمان في عهده جميع طرق الحجّ في كلّ فجّ ، وعمّت خيرات يده الطولى كلّ محتاج وذي عاهة ، وأنفق الكثير لمنح الأمة الإسلامية وجها حضاريّا مُهابا ومرهوبا وفي كلّ مجال إلى درجة الإبداع في بعض الأحيان .
ومن بين ما قام به الوليد بن عبد الملك توسعة المسجد النبوي الشريف ، وإدخال الحجرة المقدّسة فيه .
قال المنكرون إنّ الوليد إنّما هدم بنيان الحجرة القديم وأقدم على ما فعل انتقاما وغيرة من آل البيت الذين خطفوا كلّ اهتمام الناس منه .
فهل يقول ذلك امرئ له ذرّة من عقل في رجل ، مهما كان حبّه وشغفه بالملك كبيرا ، وهب حياته لدينه وعقيدته ، وأمضى ما نيّف عن عشر سنوات ، هي كلّ مدّة حكمه ، غازيا ذائدا ساهرا على مصالح الأمّة بأعلى مراتب المسؤولية القاصمة لظهور الرجال ؟ وَهَبْ أنّ أمير المؤمنين الوليد قد غار من آل البيت الكرام واكتوى بنارها وهو الذي نشأ أميرا من أوّل يوم في حياته ولم يعْتدْ سوى على إعطاء الأمر وتلبيتها وتنفيذها ، فهل هذا مسوّغ ليندفع إلى بيت السيّدة عائشة رضي الله عنها فيهدمه حتّى ولو كان فارغا ؟ ما بالك وبداخله قبر سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه العظيمين رضي الله عنهما . بداخله قبر الرجل الذي من أجله سيّر الجيوش ، وأنشأ وعمّر . ثمّ ما الذي كان الوليد سيجنيه من إدخال القبر في المسجد حين أغاضه آل البيت ؟ ما العلاقة بين هذا وذاك ؟ لقد كان أيسر له قطع رقبة من لم يعجبه من أن يحرّك إصبعا بتنفيذ ضمّ القبر . يجب على من لم يفهم أن يفهم . إنّ رجلا مثل الوليد بن عبد الملك له من العقيدة ما يجعله يفرّق بين الخطوط الحمراء من قبيل مرتبة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين ما يجوز تخطّيها أو ما تُلبِس عليه غطرستُه - حتى ولو وُجِدتْ - حقيقة حكم الشرع فيه . ولذلك فإننا نقول غير متردّدين من أنّ العملية برمّتها قد تمّت بعد استشاراتٍ وتخطيط وتفكير أدّتْ إليه ضرورة تضاعف أعداد الحجّاج اطّرادا مع اتّساع رقعة الدولة الإسلامية .
إنّ ما يروّج له المنكرون من أنّ سكوت الأمّة كان خوفا من بطش الأمويين وعساكرهم لَهُوَ مِن أبشع الأوصاف التي يرمون بها رجال ذلك العهد الفضيل لأنّ أولئك الرجال كانوا من شدّة الإعتقاد والإخلاص لدينهم ومن تقوى وخوف الله ومن الزهد في الدنيا وزخارفها ، لا يخشون في الله لومة لائم أو ظالم ولو نُشِروا بالمناشير أو قرضوا بالمقاريض ، خاصة إذا تعلّق الأمر بمُنكَر أو كبيرة . وعجبي من المنكرين كيف لا يحسّون بدمغ الحقائق والوقائع آنذاك . فهل يكون آلاف المجاهدين من المسلمين العاديين المرابطين في ثغور نائية ، ومقاتلين في جبهات بأقاليم بعيدة ، أشجع وأنبل وأجسر من فحول رابطوا على بساط الحق تعالى وأقاموا بحضرته القدسية ؟ لم يعارض أحد منهم عمل الوليد بن عبد الملك لأنّهم رأوا فيه الصواب والمصلحة والجواز وانعدام الضرر والبأس .
ويزداد اليقين بصواب العملية عند العلم بأنّها تمّت في عهد ولاية سيّدنا عمر بن عبد العزيز على المدينة المنوّرة . فلو رأى أنّ في الإقدام عليها معصية تعمّ ويلاتها الأمّة الإسلامية أو لو قد وصلت أسماعه أخبار سخط العلماء من أكابر التابعين ومن هُم أقلّ منهم لكان راجع الخليفة في قراره مهما كلّفه من عقاب وطرد .
وحتّى التحجّج بقول سعيد بن المسيّب رضي الله عنه السالف الذكر لا يعني شيئا كونه تعلّق بالهدم لا بالضمّ وبصيغة توحي بأن تحسّره لا يعدو أن يكون ملاحظة وتعبير عن رأي . ثمّ أن سعيد بن المسيّب الْتقى الخليفة الوليد بالمسجد النبوي فارغ من الناس سوى من الوالي عمر بن عبد العزيز ، وحدّثه وسأله عن أحواله ، ولم يكن أوانٌ لعرض القضية أحسن مواتاة من ذلك الأوان لو صحّ الإدّعاء بأنّ سكوت العلماء ناتج عن خوف ، لأنّها فرصة مقامٍ مناسب لإرسال المقال الذي يتّفق مع شروط طرحه ، خاصّة إن وقع بلين ومراعاة لمقام المخاطَب . ومن مثل سيدنا سعيد بن المسيّب رضوان الله عليه يحسن ذلك الأسلوب ؟ لكن لا شيء من ذلك حصل . ولنفترض أنّ عمر بن عبد العزيز قد أثناه خوفه من الوليد عن معارضة مشروعه ، فإنّ الله تعالى قد مكّنه من الخلافة بعد حين ليس بالطويل نسبيّا ، فلو كان كان لديه أيّ اعتراض مكتوم قبلها لكان أوّل ما يبادر به حين واتته كلّ الظروف هو إصلاح ما أُجبِر على تنفيذه قسرا ، بل لكانت إرادته قد تقاطعتْ مع إرادة غيره من الصالحين الذين سكتوا ردحا من الزمن تحت قهر نفس أسبابه . كيف لا وهو الخليفة الذي أُلْحِقَ بالراشدين رضوان الله عليهم أجمعين ، وممّن لا يخاف أحدٌ من قول كلمة الحق بحضرته .
إنّ كلّ ما قلناه مُهِمٌّ .
لكن ما سيأتي أهمّ .
أفلتْ شمس الأمويين ، وأشرقت شمس العبّاسيين . وقد كانت فترة انتقالية دموية ، وأيّام مطاردات أشدّ وحشية من لوحات مطاردة ضواري الأدغال لفرائسها .لقد تعطّلت في الحاكم العبّاسي في تلك الإفتتاحية كلّ ذرة من إنسانيته ، وتكفّلت لجج الحقد والكراهية والسعي إلى الإنتقام بإرساء شريعتها وتحديد معالم كلّ فكر أو حركة . لقد كانت فتنة كقطع الليل المظلم راح ضحيّتها من الأبرياء ما لا يعلمه إلا الله ، وضاعت بسببها حقوقٌ وأعراضٌ وأملاكٌ . ويخبرنا التاريخ أنّ الأمر قد وصل إلى حدّ اللامعقول حيث نُبِشتْ القبور وأخرجت رفاة وما تبقّى من جثث الأمويين ، ثم جُلِدتْ . إنّ قوما هذا شأنهم كانوا أوّل ما سيفعلونه هو نقض كلّ ما أقامه خصومهم من سياسات وعادات وحتّى الكثير من المنشآت . ومن بين ما كانوا سيفعلونه هو إخراج قبره عليه الصلاة والسلام من مسجده لأنّهم كانوا - ولا شك - قد سمعوا بتذمّر العلماء والفقهاءوالقرّاء لو حدث تذمّر . فزيادة على أنّ ذلك الفعل سيعتبر من أوجه إشفاء الغليل من أعدائهم فإنّه كذلك فرصة لتقوية أسس دولتهم الفتيّة عند الناس . ومرّة أخرى ، فلو كان صلحاء الأمّة قد سكتوا خوفا من عاقبةٍ وخيمةٍ أيّام الحكم الأمويّ فإنّه لم يعد لذلك السكوت مبرّر بعد زوال أسبابه ، ولكانوا الْتجؤوا مباشرة إلى الخليفة السفّاح أو أخيه أبي جعفر المنصور لرفع المنكر والبدعة التي ألقيتْ ظلما وعدوانا على ظهر الأمّة . وكما أسلفنا ، فإنّ أولئك الخلفاء كانوا بلا ريب سيسارعون إلى تلبية الْتماسهم بصفته دعاية لعهدهم الغض المفتقر لالتفاف الرعية حوله ونصرتهم لأهله وتهوين وطأة إفراطهم في سفك الدماء على النفوس .
وهنا أيضا يعيد التاريخ نفسه في نفس المكان لكن في زمان مختلف ورجال آخرين ، ويلتقي الإمام سيّدنا مالك بن أنس رضي الله عنه الخليفة أبي جعفر المنصور بداخل مسجده صلّى الله عليه وسلّم والإمام يحاوره ويوجّهه وينصحه ، ويُستَشار في إعادة بناء الكعبة ، ويُلْتَمَس منه تعميم كتاب المطّإ في جميع الأقاليم وحمل الناس على ذلك ، فيدلي برأيه السديد ، لكنّه لم يتطرّق في حواره إلى قضية وجود القبر بداخل المسجد أو إلى مسألة تحويله لا من قريب ولا من بعيد ، بل لم يكن في سياق الكلام إلا عكس ما يدّعيه المنكرون . أفلم تكن تلك من أنسب الفرص وأخصّها لطلبه لو احتلّ ذلك الطلب حيّزا من القلب والفكر ؟
أيّها المنكرون ، أليس هؤلاء هُم أهل القرون المفضّلة ؟ماذا بعد كبار التابعين وتابع التابعين من أئمّة المذاهب المشهورة أو التي لم تشتهر ؟ وكيف يروّج المنكرون المفلسون فكرة خوف العلماء من غضب الحكّام وقد بيّنّا أنّ الله قد قدّر من التناقضات ما فيه مندوحة لكلّ من أراد إقامة الإعوجاج لو كان هناك اعوجاج ؟ ثمّ أن الرجال المذكورين ، ومَن لم نذكر ، قد لاقوا في أقلّ ممّا يدّعيه المنكرون من منكر ابتلاء كبيرا ولم يُرجِعْهم عن الحكم الحق الذي ألهمهم الله تعالى إيّاه ، وصبروا لمجرى الأقدار عليهم حتى رفع المولى عنهم الضيم ، وانتقم ممّن ظلمهم ، وعادوا إلى أمّتهم منصورين من غير أن يكتب التاريخ عنهم لحظة من وهنٍ أو جزعٍ أو جبنٍ أو ذلٍّ .
هذه هي العيّنة من الأمّة ، وطبقات أهل العلم والصلاح فيها ممّن أفنى العمر في خدمتها بخدمة الدين بأداءٍ يكاد يكون مثاليّا إلى كلّ خلَفٍ ، وإنّها لكذلك إلى يومنا بين أيدي حرّاس العقيدة من أهل السنة والجماعة من فقهاء ومحدّثين مُجازين ومفكّرين وعارفين بالله . وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيبقى مسجده عليه الصلاة والسلام وجهةَ كلّ مخلصٍ له ، وقبلة كلّ مشتاقٍ إلى قربه ، ووسيلةً إلى الله لكلّ من رام استجابة دعواته ، وملاذًا لكلّ مستغيث مكروب يبتغي الفرج والغنم والتمكين .
ونقول للمنكرين على أهل الله ، ما دمتم قد حكمتم - تصريحا وتلميحا - على السلسلة الطويلة جدّا من علماء الأمّة عبر القرون بالجبن والسكوت على انتشار شرّ مستطير ، فها أنتم اليوم في قلب الحدث تملكون من زمام الأمور المقدّسة ما لا يملك غيركم ، وبين أياديكم جميع أدوات فرض الحلّ الصائب في نظركم ، فلِمَ لا تصحّحوا الوضع المعوجّ وتخرجوا القبر الشريف من المسجد ؟ قالوا لو فعلنا ذلك فسنتسبّب في فتنة يثيرها " القبوريون " الجهلة . أيْ والله لقد قرأت هذا . ألم أقل لكم أنّه في نظر المنكرين لا توجد مشكلة في الوجود سوى وجود الصوفية والطرقيين نفسه ؟ وهذا كلام باطل كأصحابه ، لأنّ البقاع المقدّسة تحت رعاية دولة تتبنّى نفس فكر المنكرين ، والصوفية وأتباعهم مواطنون بسطاء عزّل في دول متفرّقة ولا قِبَل لهم بنظام رسميّ له جيوشه وأسلحته ومؤازريه . ثمّ أنّ المنكرين يفتخرون أنّ من يعارض فكرهم ودعوتهم إليه هُم جزء من الدهماء الجهلة ، أمّا العلماء فكلّهم ، إلا قليلا ، يساندهم ويناصر آرائهم . فلم يعد للمنكرين إذن من مبرّر لعدم الإيعاز لأولئك العلماء بإقناع الناس في كلّ مكان بوجوب التحرّك لتصحيح الخطأ ولو بعد مرور كلّ هذه القرون ، إذْ أنّ الخطأ لا يسقط بالتقادم ، وحينها سوف يتمّ التنفيذ بدون أدنى خوف من فتنة ، خاصّة إذا اختير لها مناسبة مثل مناسبات التوسعة التي تجري من حين لآخر .
أتحدّى الدنيا بإنسها وجنّها ، كبيرهم وصغيرهم ، أوّلهم وآخرهم ، أن يحرّك ذرة تراب في القبر النبوي الشريف من المسجد المقدّس . ومهما حاولوا إيهام الناس بأن القبر ليس بالمسجد لحائلٍ قام دونه ، فإنّه هناك كما وضعه واضعه أوّل مرّة إمّا بإلهام إلهي من غير أن يعلم أو بأمر ربّاني صادر عن فتح مبين وكشفٍ يقيني . فأعلى الله يدا ألحقتْ قبر سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم بالمسجد النبوي الشريف ، وأطاح بكلّ يدٍ تمتدّ لفصله وأسقطها في سجّين .
والحمد لله ربّ العالمين .
بقلم : محمود سلطاني
يواجهنا المنكرون على عدم جواز بناء المساجد على القبور ، وعلى إقامة الأضرحة عليها ، بالحديث الذي روته السيّدة عائشة رضي الله عنها « لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد » . وإذا ما رددنا عليهم بأنّ قبره صلّى الله عليه وسلّم نفسه في مسجده ، وأنّ عليه ضريحا قائما ، يقولون إنذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لم يدفن في المسجد ، وإنّ قبره أُدخِلَ فيه بعد ضُمَّتْ حجرته التي بها دُفِن إليه .
أمّا مسألة الضمّ فهي صحيحة .
لكن صحّتها لا تغيّر من الأمر شيئا ، ولا تفيد المنكرين في سعيهم للبرهنة على صحّة دعواهم لا في كثير ولا في قليل .
أمّا الحديث فقد اتّفق أهل التحقيق من علماء الأمّة الأجلاّء ، والعارفين بالله رضوان الله عليهم ، على أنّ القصد من الإنكار الوارد فيه هو على سلوك أهله إذْ كانوا يخرجون من كيفيات التعظيم الجائز إلى عبادة وتأليه أولئك الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . وهذا الأمر كان يتمّ إمّا ببناء المساجد فعلا ، أو باتّخاذ القبور محلاّ للسجود وإن كان في العراء . والرأي الأخير هو ما تميل إليه كلّ رؤية فاحصة لأنّه لو كان المعنى هو البناء على القبر لكنّا في ساعتنا هذه جميعا نعلم بمكان قبور ساداتنا الأنبياء من بعد سيّدنا إبراهيم حتّى سيّدنا عيسى بن مريم عليهم جميعا أفضل الصلاة وأزكى التسليم . ولا شيء من هذا موجودا .
والغريب أن سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ذكر الحديث قبيْل وفاته بوقت قصير ، ثمّ اسأذن زوجاته كي يمرّض في بيت سيّدتنا أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها . من ناحية أخرى ، يخبرنا التاريخ أنّه صلّى الله عليه وسلّم أخبر سيّدتنا فاطمة الزهراء رضي الله عنها بأنّ الله متوفّيه . ثمّ أنّه هو الذي قال ، وقوله الحق : « ما قبض الله نبيا إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه » عند النظر إلى هذه المعطيات في آنٍ واحد فإنّ ما نستنتجه منها هو كِبَر احتمال حدوث محذور على مرأى ومسمع من الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم . لو كان المعنى في حديث اتّخاذ القبور مساجد هو النهي عن وجودها بالمساجد لكان سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بإقدامه على إكمال أيّامه الأخيرة ببيت سيّدتنا عائشة ، مع علمه وقوله بأنّ مثواه الأخير هو بقعة انتقاله إلى جوار ربّه ، قد وضع الأمّة على بركان فتنة في دينها ومصيرها الآجل . وحاشا أن يكون . بل إنّ أوّل ما يتبادر إلى الذهن عند الإطّلاع على الحديث المذكور هو أنّه لو كان النهي ما فهمه المنكرون لكان مولانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد أمر بإبعاده عن مكمن الشبهة إلى محلٍّ يطمئنّ فيه على سلامة أحوال المسلمين من كيد الشيطان . أمّا وأنْ يُنبّه عن خطرٍ ثمّ يحطّ رحاله داخل حدوده - وهو الذي أمضى حياته يحذّر من الإقتراب من حدود الله وتعدّيها - فهذا محال على أرأف الخلق بالخلق وبخاصّة أمّته . محالٌ على من يقول : « ما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر وإنما كان الذي أوتيت وحيا أوحاه الله عز وجل إلي وأرجو أن أكون أكثرهم تبعا يوم القيامة » وعلى من يقول : « فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه » ، وعلى كامل الأخلاق الذي قالت أم المؤمنين سيّدتنا عائشة رضي الله عنها فيه : « ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين في الإسلام إلا اختار أيسرهما » ما خيّر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم"
بل سنذهب إلى أبعد من هذا .
إنّ في اختيار الله له بيتَ عائشة رضي الله عنها ليكون له مثوى نهائي لدعوة خفيّة لأنْ يُضمَّ بيتُه وقبرُه إلى مسجده .
وإنّي أرى - بعمق بصيرة وعقيدة - أنّه عليه الصلاة والسلام لو لم يُدخَل قبرُه وقبرا صاحبيه عليهما الرضوان في المسجد لكان ستنجرّ على ذلك معضلات وتعقيدات في حركة وسلوك المسلمين بين المسجد والقبر ، وربّما كان مسجده عليه الصلاة والسلام سيهجر إلا في أوقات الصلاة ، ولانقسم الحجّاج والمعتمرون قسمٌ يصلّي في المسجد وقسمٌ يصلّي قرب القبر ، وستعمّ الفوضى والإزدحام عند الزيارة لأنّ أدب الناس وخشوعهم قطعا سينقص وهم بالخارج ، ويعمّ التشويش ، وربّما يقع العنف بين الإخوة أو بين الزائرين والساهرين على الأمن والنظام ، وربّما تزهق الأرواح ويسهل الإعتداء بأنواعه ، وسيتحوّل جوار أطهر وأنقى وأفضل مكان إلى عشّ تفرّخ فيه الجريمة وسوء الأدب .
هذا في أحسن الأحوال .
أمّا في أسوئها ، فهو طمس معالم القبر من قِبَل المتنطّعين الذين يرفضون التبرّك بصفوة خلق الله والتوسّل بهم إليه ، أو إقامة منشآت ذات صلة بمصالح الدنيا لصرف المسلمين عمّا يعتبرونه شركا أو طريقا إليه .
ومن يخلص في رؤية الأمر بموضوعية فسيثبت له أن قبره عليه الصلاة والسلام داخل المسجد يتقاطع مع سبل كلّ أدب وسلامة ، حيث تغمر سكينة التعبّد والتقرّب إلى الله كل جوارح المؤمن فيه قبل التفكير في الزيارة فتكبّل كل جموح واندفاع في طبعه . فإذا أضيف إلى هذا الترويض والتأهيل الرباني ، والتذلّل والخضوع أمام المولى الواحد الأحد ، إذا أضيف له جبال المحبّة والأدب والشوق وطهارة الأبدان والأرواح ، فإنّ ذلك المسجد الشريف بمن فيه سيتحوّل إلى جزيرةِ مجتمعٍ فاضلٍ أفراده أفضل من الملائكة الكرام ، لا رقيب عليهم سوى الله سبحانه وتعالى وروح رسوله صلّى الله عليه وسلّم الرامقة للجميع ، وشحنات الإخلاص الدافق المهيمنة على كل أقطار الروح والجسد والتفكير والسلوك .
ولقد أكّدت لنا هذه المسألة ما كنّا دائما نردّده بثقة من أنّ المنكرين على ساداتنا الصوفية جهلة حتى النخاع ولو عبّوا من كلّ العلوم . ليس فحسب جهلهم ، ولكن أيضا تذبذبهم بالقياس إلى مرجعيّة أقوالهم . إسألْ إيّ منكر على الصوفية عن مرجعيّته ، فسيقول لك : هو الكتاب والسنّة وعمل العلماء من أهل القرون الثلاثة الفضلى . لكن في هذه المرّة فإنّ المنكرين قد دفعوا بخطّ مرجعيّتهم إلى الوراء كثيرا ، وقالوا قولة واحدة بأنّ ضمَّ قبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد تمّ زمن الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك بن مروان عندما توفيّ أغلب الصحابة . فلو أردنا رسم خطّ ثقتهم - المتذبذب أصلا - في هذه المسألة فسنسطره في عهد حكم سيّدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في أبعد نقطة له . وحين توقّف بهم قطار فكرهم ، واستبدّ بهم اليأس ، تشبّثوا بقول سيّدنا ومولانا سعيد بن المسيّب رضي الله عنه حيث قال : " ليتهم لم يهدموها " ، يعني حجرة سيّدتنا عائشة رضي الله عنها .
ولا تسلْ عن تفنّنهم في انتقاص الوليد بن عبد الملك ، فقد فاقت كل وصف .
أمّا حقيقة ذلك الخليفة فقد فصّلها المؤرّخون الثقات ، وقالوا ما له وما عليه ، فكانت محاسنه ومآثره من القوّة والعنفوان والفيضان ما يرفعه بحقّ إلى مصاف العظماء الذين خدموا هذا الدين الحنيف وأخلصوا لأمتّه .
أمّا مساوئه فيمكن حصرها في سببين اثنين رئيسيين لا دخل له مباشرة في وجودهما فيه . السبب الأوّل كان تدليله الكبير من طرف والديه ، والسبب الثاني نقص ذكائه ومحدودية استعداداته الطبيعية لتلقّي العلوم ، فنشأ عنيفا شأن كلّ مدلّل وقليل الزاد من العلم . إلا أنّ هذا لا يعني أنّه كان غبيّا أو عربيدا أو مستهترا بالدين . فيكفي أنّ في عهده بلغتْ رقعة الدولة الإسلامية أقصى اتّساعها الذي لم تنلْه إلى يوم الناس هذا . لقد طفق الخليفة الوليد في تنفيذ برنامج فتوحات وصلتْ بمقتضاه الجيوش الإسلامية إلى حدود الهند والسند شرقا ، وإلى الأندلس بأوروبا ، بقيادة نخبة من أشرف ما أنجبته الأمّة كمحمّد بن القاسم ، وقتيبة بن مسلم ، وموسى بن نصير رضي الله عنهم . ولقد عمّ الأمان في عهده جميع طرق الحجّ في كلّ فجّ ، وعمّت خيرات يده الطولى كلّ محتاج وذي عاهة ، وأنفق الكثير لمنح الأمة الإسلامية وجها حضاريّا مُهابا ومرهوبا وفي كلّ مجال إلى درجة الإبداع في بعض الأحيان .
ومن بين ما قام به الوليد بن عبد الملك توسعة المسجد النبوي الشريف ، وإدخال الحجرة المقدّسة فيه .
قال المنكرون إنّ الوليد إنّما هدم بنيان الحجرة القديم وأقدم على ما فعل انتقاما وغيرة من آل البيت الذين خطفوا كلّ اهتمام الناس منه .
فهل يقول ذلك امرئ له ذرّة من عقل في رجل ، مهما كان حبّه وشغفه بالملك كبيرا ، وهب حياته لدينه وعقيدته ، وأمضى ما نيّف عن عشر سنوات ، هي كلّ مدّة حكمه ، غازيا ذائدا ساهرا على مصالح الأمّة بأعلى مراتب المسؤولية القاصمة لظهور الرجال ؟ وَهَبْ أنّ أمير المؤمنين الوليد قد غار من آل البيت الكرام واكتوى بنارها وهو الذي نشأ أميرا من أوّل يوم في حياته ولم يعْتدْ سوى على إعطاء الأمر وتلبيتها وتنفيذها ، فهل هذا مسوّغ ليندفع إلى بيت السيّدة عائشة رضي الله عنها فيهدمه حتّى ولو كان فارغا ؟ ما بالك وبداخله قبر سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه العظيمين رضي الله عنهما . بداخله قبر الرجل الذي من أجله سيّر الجيوش ، وأنشأ وعمّر . ثمّ ما الذي كان الوليد سيجنيه من إدخال القبر في المسجد حين أغاضه آل البيت ؟ ما العلاقة بين هذا وذاك ؟ لقد كان أيسر له قطع رقبة من لم يعجبه من أن يحرّك إصبعا بتنفيذ ضمّ القبر . يجب على من لم يفهم أن يفهم . إنّ رجلا مثل الوليد بن عبد الملك له من العقيدة ما يجعله يفرّق بين الخطوط الحمراء من قبيل مرتبة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبين ما يجوز تخطّيها أو ما تُلبِس عليه غطرستُه - حتى ولو وُجِدتْ - حقيقة حكم الشرع فيه . ولذلك فإننا نقول غير متردّدين من أنّ العملية برمّتها قد تمّت بعد استشاراتٍ وتخطيط وتفكير أدّتْ إليه ضرورة تضاعف أعداد الحجّاج اطّرادا مع اتّساع رقعة الدولة الإسلامية .
إنّ ما يروّج له المنكرون من أنّ سكوت الأمّة كان خوفا من بطش الأمويين وعساكرهم لَهُوَ مِن أبشع الأوصاف التي يرمون بها رجال ذلك العهد الفضيل لأنّ أولئك الرجال كانوا من شدّة الإعتقاد والإخلاص لدينهم ومن تقوى وخوف الله ومن الزهد في الدنيا وزخارفها ، لا يخشون في الله لومة لائم أو ظالم ولو نُشِروا بالمناشير أو قرضوا بالمقاريض ، خاصة إذا تعلّق الأمر بمُنكَر أو كبيرة . وعجبي من المنكرين كيف لا يحسّون بدمغ الحقائق والوقائع آنذاك . فهل يكون آلاف المجاهدين من المسلمين العاديين المرابطين في ثغور نائية ، ومقاتلين في جبهات بأقاليم بعيدة ، أشجع وأنبل وأجسر من فحول رابطوا على بساط الحق تعالى وأقاموا بحضرته القدسية ؟ لم يعارض أحد منهم عمل الوليد بن عبد الملك لأنّهم رأوا فيه الصواب والمصلحة والجواز وانعدام الضرر والبأس .
ويزداد اليقين بصواب العملية عند العلم بأنّها تمّت في عهد ولاية سيّدنا عمر بن عبد العزيز على المدينة المنوّرة . فلو رأى أنّ في الإقدام عليها معصية تعمّ ويلاتها الأمّة الإسلامية أو لو قد وصلت أسماعه أخبار سخط العلماء من أكابر التابعين ومن هُم أقلّ منهم لكان راجع الخليفة في قراره مهما كلّفه من عقاب وطرد .
وحتّى التحجّج بقول سعيد بن المسيّب رضي الله عنه السالف الذكر لا يعني شيئا كونه تعلّق بالهدم لا بالضمّ وبصيغة توحي بأن تحسّره لا يعدو أن يكون ملاحظة وتعبير عن رأي . ثمّ أن سعيد بن المسيّب الْتقى الخليفة الوليد بالمسجد النبوي فارغ من الناس سوى من الوالي عمر بن عبد العزيز ، وحدّثه وسأله عن أحواله ، ولم يكن أوانٌ لعرض القضية أحسن مواتاة من ذلك الأوان لو صحّ الإدّعاء بأنّ سكوت العلماء ناتج عن خوف ، لأنّها فرصة مقامٍ مناسب لإرسال المقال الذي يتّفق مع شروط طرحه ، خاصّة إن وقع بلين ومراعاة لمقام المخاطَب . ومن مثل سيدنا سعيد بن المسيّب رضوان الله عليه يحسن ذلك الأسلوب ؟ لكن لا شيء من ذلك حصل . ولنفترض أنّ عمر بن عبد العزيز قد أثناه خوفه من الوليد عن معارضة مشروعه ، فإنّ الله تعالى قد مكّنه من الخلافة بعد حين ليس بالطويل نسبيّا ، فلو كان كان لديه أيّ اعتراض مكتوم قبلها لكان أوّل ما يبادر به حين واتته كلّ الظروف هو إصلاح ما أُجبِر على تنفيذه قسرا ، بل لكانت إرادته قد تقاطعتْ مع إرادة غيره من الصالحين الذين سكتوا ردحا من الزمن تحت قهر نفس أسبابه . كيف لا وهو الخليفة الذي أُلْحِقَ بالراشدين رضوان الله عليهم أجمعين ، وممّن لا يخاف أحدٌ من قول كلمة الحق بحضرته .
إنّ كلّ ما قلناه مُهِمٌّ .
لكن ما سيأتي أهمّ .
أفلتْ شمس الأمويين ، وأشرقت شمس العبّاسيين . وقد كانت فترة انتقالية دموية ، وأيّام مطاردات أشدّ وحشية من لوحات مطاردة ضواري الأدغال لفرائسها .لقد تعطّلت في الحاكم العبّاسي في تلك الإفتتاحية كلّ ذرة من إنسانيته ، وتكفّلت لجج الحقد والكراهية والسعي إلى الإنتقام بإرساء شريعتها وتحديد معالم كلّ فكر أو حركة . لقد كانت فتنة كقطع الليل المظلم راح ضحيّتها من الأبرياء ما لا يعلمه إلا الله ، وضاعت بسببها حقوقٌ وأعراضٌ وأملاكٌ . ويخبرنا التاريخ أنّ الأمر قد وصل إلى حدّ اللامعقول حيث نُبِشتْ القبور وأخرجت رفاة وما تبقّى من جثث الأمويين ، ثم جُلِدتْ . إنّ قوما هذا شأنهم كانوا أوّل ما سيفعلونه هو نقض كلّ ما أقامه خصومهم من سياسات وعادات وحتّى الكثير من المنشآت . ومن بين ما كانوا سيفعلونه هو إخراج قبره عليه الصلاة والسلام من مسجده لأنّهم كانوا - ولا شك - قد سمعوا بتذمّر العلماء والفقهاءوالقرّاء لو حدث تذمّر . فزيادة على أنّ ذلك الفعل سيعتبر من أوجه إشفاء الغليل من أعدائهم فإنّه كذلك فرصة لتقوية أسس دولتهم الفتيّة عند الناس . ومرّة أخرى ، فلو كان صلحاء الأمّة قد سكتوا خوفا من عاقبةٍ وخيمةٍ أيّام الحكم الأمويّ فإنّه لم يعد لذلك السكوت مبرّر بعد زوال أسبابه ، ولكانوا الْتجؤوا مباشرة إلى الخليفة السفّاح أو أخيه أبي جعفر المنصور لرفع المنكر والبدعة التي ألقيتْ ظلما وعدوانا على ظهر الأمّة . وكما أسلفنا ، فإنّ أولئك الخلفاء كانوا بلا ريب سيسارعون إلى تلبية الْتماسهم بصفته دعاية لعهدهم الغض المفتقر لالتفاف الرعية حوله ونصرتهم لأهله وتهوين وطأة إفراطهم في سفك الدماء على النفوس .
وهنا أيضا يعيد التاريخ نفسه في نفس المكان لكن في زمان مختلف ورجال آخرين ، ويلتقي الإمام سيّدنا مالك بن أنس رضي الله عنه الخليفة أبي جعفر المنصور بداخل مسجده صلّى الله عليه وسلّم والإمام يحاوره ويوجّهه وينصحه ، ويُستَشار في إعادة بناء الكعبة ، ويُلْتَمَس منه تعميم كتاب المطّإ في جميع الأقاليم وحمل الناس على ذلك ، فيدلي برأيه السديد ، لكنّه لم يتطرّق في حواره إلى قضية وجود القبر بداخل المسجد أو إلى مسألة تحويله لا من قريب ولا من بعيد ، بل لم يكن في سياق الكلام إلا عكس ما يدّعيه المنكرون . أفلم تكن تلك من أنسب الفرص وأخصّها لطلبه لو احتلّ ذلك الطلب حيّزا من القلب والفكر ؟
أيّها المنكرون ، أليس هؤلاء هُم أهل القرون المفضّلة ؟ماذا بعد كبار التابعين وتابع التابعين من أئمّة المذاهب المشهورة أو التي لم تشتهر ؟ وكيف يروّج المنكرون المفلسون فكرة خوف العلماء من غضب الحكّام وقد بيّنّا أنّ الله قد قدّر من التناقضات ما فيه مندوحة لكلّ من أراد إقامة الإعوجاج لو كان هناك اعوجاج ؟ ثمّ أن الرجال المذكورين ، ومَن لم نذكر ، قد لاقوا في أقلّ ممّا يدّعيه المنكرون من منكر ابتلاء كبيرا ولم يُرجِعْهم عن الحكم الحق الذي ألهمهم الله تعالى إيّاه ، وصبروا لمجرى الأقدار عليهم حتى رفع المولى عنهم الضيم ، وانتقم ممّن ظلمهم ، وعادوا إلى أمّتهم منصورين من غير أن يكتب التاريخ عنهم لحظة من وهنٍ أو جزعٍ أو جبنٍ أو ذلٍّ .
هذه هي العيّنة من الأمّة ، وطبقات أهل العلم والصلاح فيها ممّن أفنى العمر في خدمتها بخدمة الدين بأداءٍ يكاد يكون مثاليّا إلى كلّ خلَفٍ ، وإنّها لكذلك إلى يومنا بين أيدي حرّاس العقيدة من أهل السنة والجماعة من فقهاء ومحدّثين مُجازين ومفكّرين وعارفين بالله . وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيبقى مسجده عليه الصلاة والسلام وجهةَ كلّ مخلصٍ له ، وقبلة كلّ مشتاقٍ إلى قربه ، ووسيلةً إلى الله لكلّ من رام استجابة دعواته ، وملاذًا لكلّ مستغيث مكروب يبتغي الفرج والغنم والتمكين .
ونقول للمنكرين على أهل الله ، ما دمتم قد حكمتم - تصريحا وتلميحا - على السلسلة الطويلة جدّا من علماء الأمّة عبر القرون بالجبن والسكوت على انتشار شرّ مستطير ، فها أنتم اليوم في قلب الحدث تملكون من زمام الأمور المقدّسة ما لا يملك غيركم ، وبين أياديكم جميع أدوات فرض الحلّ الصائب في نظركم ، فلِمَ لا تصحّحوا الوضع المعوجّ وتخرجوا القبر الشريف من المسجد ؟ قالوا لو فعلنا ذلك فسنتسبّب في فتنة يثيرها " القبوريون " الجهلة . أيْ والله لقد قرأت هذا . ألم أقل لكم أنّه في نظر المنكرين لا توجد مشكلة في الوجود سوى وجود الصوفية والطرقيين نفسه ؟ وهذا كلام باطل كأصحابه ، لأنّ البقاع المقدّسة تحت رعاية دولة تتبنّى نفس فكر المنكرين ، والصوفية وأتباعهم مواطنون بسطاء عزّل في دول متفرّقة ولا قِبَل لهم بنظام رسميّ له جيوشه وأسلحته ومؤازريه . ثمّ أنّ المنكرين يفتخرون أنّ من يعارض فكرهم ودعوتهم إليه هُم جزء من الدهماء الجهلة ، أمّا العلماء فكلّهم ، إلا قليلا ، يساندهم ويناصر آرائهم . فلم يعد للمنكرين إذن من مبرّر لعدم الإيعاز لأولئك العلماء بإقناع الناس في كلّ مكان بوجوب التحرّك لتصحيح الخطأ ولو بعد مرور كلّ هذه القرون ، إذْ أنّ الخطأ لا يسقط بالتقادم ، وحينها سوف يتمّ التنفيذ بدون أدنى خوف من فتنة ، خاصّة إذا اختير لها مناسبة مثل مناسبات التوسعة التي تجري من حين لآخر .
أتحدّى الدنيا بإنسها وجنّها ، كبيرهم وصغيرهم ، أوّلهم وآخرهم ، أن يحرّك ذرة تراب في القبر النبوي الشريف من المسجد المقدّس . ومهما حاولوا إيهام الناس بأن القبر ليس بالمسجد لحائلٍ قام دونه ، فإنّه هناك كما وضعه واضعه أوّل مرّة إمّا بإلهام إلهي من غير أن يعلم أو بأمر ربّاني صادر عن فتح مبين وكشفٍ يقيني . فأعلى الله يدا ألحقتْ قبر سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم بالمسجد النبوي الشريف ، وأطاح بكلّ يدٍ تمتدّ لفصله وأسقطها في سجّين .
والحمد لله ربّ العالمين .
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin