رسالة غريبة
د. محمد سعيد بكر
بداية الحكاية
رجع راشد من عمله ذات يوم متعباً ..
وبدأ يلهو بجواله ويتنقل عبر مواقع الترفيه ويسترق النظرات هنا وهناك كالعادة ..!
ثم أخذ ينظر في رسائل (الماسنجر) .. حتى وقعت عينه على رسالة من صديقه سالم ..
فأصيب بحالة ذعر أو خوف ورهبة واندهاش كبير ..!!
كيف لا؟ وصديقه سالم كان قد توفي قبل خمس سنوات .. فظن أنها مزحة من أحد الأصدقاء ..
لكنه بدأ يقرأ ويقرأ فتأكد له أن لا أحد يمكنه المزاح بهذه الطريقة ..
إنه رفيق دراسته وجاره وقريبه الذي يعرفه جيداً، ويعرف أسلوبه ومنطقه وبصمة كلامه.
وقد جاء في هذه الرسالة الغريبة ما يأتي
مني أنا الميت سالم ..
إلى صديقي الحي راشد ..
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
صديقي الحبيب ورفيقي الودود راشد ..
منذ خمسة أعوام خلَت انقطع الاتصال بيننا حين نزل قدر الله تعالى وجاء ملك الموت فقبض روحي فجأة دون سابق إنذار وأنا في ريعان الشباب ..
وذلك بعد أن كان اتصالنا بشكل شبه يومي؛ نتبادل أطراف الحديث ونتابع أشغالنا ونحاول بناء طموحاتنا ..
عشنا معاً أياماً جميلة وأخرى حزينة وثالثة شاقة ورابعة وخامسة .. كانت الأيام تمر كأنما هي طائر سريع يمر من أمامنا ولا يتوقف ..
صديقي الغالي راشد
يعلم الله تعالى كم هو شوقي وحنيني إليك .. ولا أدري إن كنتَ تشتاق إليّ، وقد خرجتُ من حساباتك وبحثتَ عن صحبة أخرى .. ولعلك تكون قد تزوجت وأنجبت ووجدت وظيفة وأكملت دراستك العليا وسافرت وتنقلت ..
فهل بقي للذكريات مجال لديك مع كثرة أشغالك .. وهل سمحت لك أشغالك أن ترفع يديك وتلهج بالدعاء لأخيك .. أو لعلك إن كنت لا زلت تصلي تطيل سجودك وتذكرني بدعاء أجد أثره وبركته في قبري ..؟!
كيف لا وهذا الأثر والبركة نجده نحن أهل المقابر كلما مر علينا إنسان وقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين .. أنتم السابقون ونحن اللاحقون .. تلك الكلمات التي كنت أقولها وأنا حي بمجرد مروري من مقبرة فلا أستشعر أثرها وأبعادها ومعانيها .. وإلا فلو كنت أعي دلالات كلمة: (ونحن اللاحقون) لأعددت لهذا اللحاق الأكيد.
صديقي راشد
ما أردت برسالتي هذه التنغيص عليك، فأنا أعلم أن الأحياء يزعجهم ذكر الموت وما وراء الموت من أحوال وأهوال ..
وهم يحبون الحياة ويحرصون عليها حرصاً شديداً جعلهم يتنافسون ويتشاكسون عليها، ويعطونها حجماً ووزناً أكبر من حجمها، بل وينسون حقيقة الموت التي يرونها مع كل حالة وفاة يغسلونها ويكفنونها ويصلّون عليها ثم يدفنونها، ويرجعون ليأكلوا ثم يناموا مع أهلهم وذويهم بشكل معتاد، وكأن ملك الموت ما جاء بيوتهم وأحياءهم ولا أخذ من شيبهم وشبابهم وصبيانهم وأطفالهم وملوكهم وشعوبهم!
صديقي الحبيب
لربما تسألني عن أحوالي فأنا في دار غير داركم ..
فاسمح لي أن أحكي لك تفصيلاً عما رأيت ووجدت (عين) اليقين، بعد أن كان بعض ما رأيت بالنسبة لي مجرد (علم) اليقين ..
وليت أحداً مات قبلي فأخبرني عما رأى .. كما سأخبرك عما رأيت .. فليس من رأى كمن سمع ..
ولقد كنت أقرأ وأسمع كما تسمع أنت الآن عن الموت وعذاب القبر أو نعيمه فلا أكترث كثيراً باعتبار أنه أمر بعيد .. وتشغلني الشواغل فلا تبقى رهبة الموت والاستعداد له عالقة في نفسي .. حتى متُّ وتوفاني الله .. وهنا وجدت المفاجأة وكشفت أمامي الحقائق كلها .. لا سيما تلك التي ينكرها الماديون واللادينيون والملحدون .. ومن على شاكلتهم من المشككين.
أخي الكريم راشد
كانت لحظة انتزاع روحي مع سكرات (كربات وغمرات) موتي ثقيلة صعبة، فلا زلت متمسكاً بحياتي وأهلي وأصحابي وأموالي ومكتسباتي وشهاداتي وطموحاتي وآمالي حتى الرمق الأخير ..
ولو كنت أعلم إلى أي شيء أصير ما تمسكتُ بتلك الحياة الفانية لحظة واحدة .. بل لكنتُ ألقيت بنفسي في المعامع والمعارك، وما ترددت عن جبهات قول الحق وفعله وميادين الشهادة الغالية .. ولكن زيّن لي الشيطان القعود وخوفني، بل وأقنعني بأن التضحية والجهاد والفداء والشهادة من إلقاء النفس إلى التهلكة .. وكأن في الجبن والتردد إبقاء للنفس على الحياة ..
وها نحن نرى في عالمنا نحن الأموات أولئك الشهداء ونشمّ من عبق دمائهم روائح مسك وعطر، ولكن ليس كأجود أنواع العطور التي شممتها في حياتي .. فيا لسعادتهم ويا لهنائهم .. بل ونسمع دعاءهم وطلبهم من الله تعالى أن يموتوا مرات ومرات على ذات الطريق لعظيم ما أكرمهم به ربهم في قبورهم فهنيئاً لهم، ولأهلهم وذويهم ومن يتعرضون لشفاعتهم، على الرغم من شدة مصابهم بهم.
صديقي راشد
جاءني ملك الموت عليه السلام في اليوم والساعة التي تعرفها، وفيها إنتهاء أجلي وتوقف عملي وانقطاع أملي، ولم أكن أدري متى ولا أين أموت .. ولو دريت لتجهزتُّ وأعددت وحضّرت .. وليته خيرني كما يُخير الأنبياء ولكن هيهات هيهات .. ثم أخذ روحي إلى مكان يعلمه ربي .. وأبقى لكم جسدي مؤقتاً ..
ثم سمعت بكاء أهلي وإخواني ومن حضر من أحبابي وأصحابي، فقد تجمعوا حولي كلٌّ يريد مساعدتي وإغاثتي وهم لا يقدرون على استعادة روحي إلى جسدي فقد فات الأوان .. وأنا لا أقدر على مساعدتهم في البقاء بينهم ولو لحظة واحدة؛ لعلي أعتذر لهم فيها عن تقصيري بحقهم أو أوصي لهم، أو أشهد شهادة حق تنفعهم .. ورأيت في ذاك الموقف قول ربي: " كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ" (القيامة: 30).
لقد خفف عليّ دعاء الأحباب وشهادتهم لي بالخير كثيراً فالناس شهداء الله في أرضه .. وذكرُ محاسننا بعد وفاتنا له قيمة كبيرة عند ربنا لأجل ذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:" اذكروا محاسن موتاكم" .. ولكن دون زيادة في المديح ولا مبالغة في البكاء ولا عويل .. ولو علم الأحياء ما حصل لأمواتهم الصالحين من خيرات وبركات في قبورهم لجعلوا يوم موتهم عرساً يحتفلون به في كل عام، بدل النواح وتجديد الآلام .. أما الفاسدون "فما بكت عليهم السماء والأرض" ... ولو أنها بكت ما نفعتهم.
الجزء الثاني
????صديقي الغالي????
أنصحك بأن توصي أهلك أن يدفنوك مباشرة بعد وفاتك وبلا تأخير، فمن إكرامنا نحن الأموات تعجيل دفننا ولا داعي للتأخير.
وأذكر أن خلافاً حصل بين أهلي حول مكان دفني وآخر حول من سيصلي عليّ، ونواحاً وصياحاً صدر من أهلي؛ كل ذلك أزعجني وآذاني وأنا ميت مسجى بينهم .. فلا داعي لأي نواح أو خلاف عند موتاكم .. ويكفي ما يجري من نواحكم وخلافكم في سائر شؤونكم.
????صديقي راشد????
لك أن تتخيل حالي وقد جاء المغسل ووضع جثماني على المغسلة وبدأ ينزع ثيابي ويصب الماء عليّ صباً، في مشهد أقرب ما يكون إلى غسيل وحمام الأم لطفلها الوليد .. ولكن الفارق وجود استجابات لدى ذاك الطفل فهو يلعب ويضحك تارة ويبكي تارة أخرى .. وانعدام استجابتي بين يدي مغسلي .. مع حرصه على ستر عورتي التي لم أملك حتى سترها بنفسي.
وبعد انتهاء المغسل من غسلي بدأ بوضوئي آخر وضوء لي .. ويا له من وضوء لا يدَ لي فيه مطلقاً .. فهو يأخذ بيدي ويمسح وجهي ورأسي وقدماي .. وأنا لا أملك أي قدرة على الحراك والاستجابة!
ثم جاء دور تكفيني؛ فتناول المغسل ثلاث قطع قماش بيضاء يكفنني بها .. وكنت قد تركت في بيتي خزانة ملابس جديدة للمناسبات، فوددت لو ألبسوني أجملها وأثمنها، فأنا مسافر والمسافر يحب التأنق والتجمل .. ولكن هيهات هيهات وهم يعلمون أن ذلك لا يجوز أو لا ينفع .. حتى خاتمي الفضي الجميل نزعوه من يدي، واستشعرت حينها معنى الإفلاس الحقيقي .. سوى من أعمال بدأت استشعر قيمتها وأرجو من الله قبولها.
آه يا صديقي كم تمنيت لو يضعوا في كفني جهازي (الخلوي) لعلي أنظر فيه وأتابع رسائله في قبري .. ولكني تذكرت أن هذا لا يجوز فلا تواصل بين الأموات والأحياء (غير أن رسالتي هذه لك استثناء) .. ولا شاحن ولا كهرباء .. ولكن يا ترى كيف سأقضي وقتي في عالمي الجديد؟!
????صديقي الطيب????
ثم حملوني على أكتافهم إلى بيتي (الذي كان) وألقت أمي وزوجتي وبناتي عليّ نظرات وداع أخير .. وكلهم يتمنون لو يعطوني من أعمارهم لأبقى بينهم .. ولكن هيهات هيهات .. فقد أنتهت مدة إقامتي المقدرة بينهم .. وبقي عزاؤنا بأننا سنلتقي بين يدي ربنا الرحيم .. ونحن نحسن به الظن بأنه سيجمعنا معاً في جنات النعيم .. وما كنت أحب هذا اللقاء الأخير لأنني عجزت عن مسح دموعهنّ .. فدموعهنّ لأي سبب أثناء حياتي كانت تحرق قلبي.
ثم حُملت على أكتاف الرجال مرة أخرى، وتم نقلي إلى المسجد الذي كنت أصلي فيه .. وكنت أصلي فيه على الأموات من الجنازات الحاضرة دون أي اكتراث .. وماذا يعني بالنسبة للأحياء موت فلان أو فلانة طالما أن الحياة ستمضي ولن تتوقف؟!
????صديقي العزيز????
وأقيمت الصلاة وصلى الناس صلاة الظهر قبل أن يصلوا عليّ، وأنا في آخر الصفوف مسجى على حمالة خشبية لا صلاة لي .. بل لا ذكر ولا تلاوة ولا صدقة ولا تسبيح فقد انقطع عملي .. هاهم أمامي يصلون الفريضة والسُّنة وأنا مسجى خلفهم ممنوع عليّ الصلاة .. ويأتي المتأخرون عن الصلاة فينظرون إليّ ويلتحقون بالصفوف، وكلهم يقول في نفسه .. يرحمه الله ويعذرونني لعدم الصلاة فأنا مجرد جثة هامدة.
وتنتهي صلاة الظهر وينادي الإمام على الناس بأن يأتوا ب (الجنازة) هكذا دون أي ألقاب ولا كنىً ولا أوصاف .. هاتوا الجنازة للصلاة عليها يا رجال ..
وأحمل على الأكتاف مرة أخرى، وقد وضع الرجال رأسي في الجهة اليمنى عند القبلة ..
ثم وقف الإمام عند رأسي أمام المصلين، وحدثهم عن كيفية صلاة الجنازة وأنها أربع تكبيرات ..
???? بعد التكبيرة الأولى يقرأون الفاتحة (لعلها تفتح أبواب الخير لي).
???? وبعد الثانية الصلاة الإبراهيمية (وقد وجدت ببركاتها نفحات أنبياء الله في نفسي).
???? وبعد الثالثة الدعاء لي ..
وقد أوصاهم الإمام جزاه الله خيراً بالدعاء الخالص الخاشع لي... وودت لو أنني كنت ممن صلى على جنازتي لأخشع وأبكي وأتضرع إلى ربي .. ولكن هيهات هيهات فعلى الرغم من أنني مغتسل ومتوضئ وجاهز للصلاة إلا أنني ممنوع من الصلاة عليّ .. بل حتى إنني ممنوع من التأمين على دعاء الأحياء لي، لكن عزائي أن دعائي الخالص للجنازات التي صليت عليها قبل موتي سيسعفني ويخفف عني.
???? وبعد التكبيرة الرابعة الدعاء لعموم المسلمين ..
وقد لفت انتباهي أن حضرة الإمام جزاه الله خيراً طلب من أصحاب الديون التي عليّ أن يأخذوها من أهلي وإخواني .. حتى لا يحبسني دَيني عن رحمة ربي، وهو لا يعلم أنني بحمد الله تعالى لا ديون عليّ فقد كنت حريصاً على سدادها كلها .. بل كنت حريصاً على ترك ميراث قليل يفرح به ورثتي لاحقاً بعد انتهاء حزنهم على وفاتي ..
أما الديون المعنوية فهي التي أفزعني حديثه عنها؛ فقد طلب من الناس السماح عني .. ولا أدري هل من مسامح عن غيبة اغتبته إياها أو نميمة أو طعن وقدح وسخرية؟!
????صديقي الطيب????
لا أكتمك أنني وجدت أثراً كبيراً لصلاة الناس عليّ ولم أكن أشعر أبداً بأن من أصلي عليهم ينتفعون بصلاتي حتى جربت ذلك، فكانت صلاتكم برداً وسلاماً على روحي، فليتك تشكر هؤلاء المصلين أو إمامهم عني.
ثم حُملت مرة أخرى على الأكتاف، حتى أخرجوني من المسجد، وكانت آخر زيارة لي ..
وأنا أغبطك إذ لا يزال مسموحاً لك أن تذهب إلى المسجد برجليك، فهنيئاً لك لأنه لا زالت إحداهما ترفع لك درجة، والثانية تحطُّ عنك خطيئة.
ومضى الركب بجثماني إلى المقبرة حتى وصلوا إلى حيث مثواي (قبل الأخير) لأن مثواي الأخير في الجنة بإذن الله أو في السعير لا سمح الله ..
وتسابق القوم على حفر وتسوية قبري، وتسارعوا في تناولي بين أيديهم حتى أنزلوني قبري .. ثم كشفوا عن وجهي ووجهوني إلى القبلة على جنبي الأيمن .. ولم أفكر قبل تلك اللحظة ماذا يعني أن يتم إغلاق قبري باللبن والطين .. وماذا يعني أن يهيل الناس على قبري التراب .. لن أقول لك بأنني متُّ حينئذ خوفاً أو خنقاً فأنا ميت والميت لا يموت مرة أخرى، ولكنها الوحشة .. وترقب السؤال، وانتظار ما كنت أسمع عنه وأومن به .. وينكره غيري من أحوال البرزخ والقبر.
وقد أحسست بأرجل الناس فوقي وشعرت بأن واعظاً وداعياً يعظ الناس ويحكي لهم: كفى بالموت واعظاً .. وودت لو أنني أخرج حينئذ وأقول له: لن يتعظوا يا شيخ حتى ينزلوا إلى حيث نزلت، وتتعطل إرادتهم وقدرتهم على العمل .. وعندها يطلبون العودة: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) ..
ثم ينزل دعاؤهم عليّ مرة أخرى برداً وسلاماً .. ولا تدري ولن تدري قيمة الدعاء للأموات حتى تموت، فهو توسل صادق بطلب العفو الإلهي عنا ممن لا يزالون يملكون الطلب لنا نحن الأموات فاقدي كل قول ينفعنا أو عمل.
????صديقي الودود????
ومضى الناس بعد أن شاركوا في أجر الصلاة عليّ وحملي وتشييعي ودفني .. وسمعت دف خطواتهم وهم راجعون .. وبقيت وحدي في المكان الذي لا فرار منه بالنسبة لكل ميت .. إنه القبر؛ ذاك المكان الموحش الضيق المخيف .. هذا بالنسبة للأحياء .. أما نحن الأموات فقد بدأنا مشوار حياة جديدة في قبورنا .. ولكنها حياة مختلفة .. حياة حساب وجزاء بلا عمل .. بينما كانت حياتي معكم حياة عمل بلا حساب .. نعم بلا حساب ولا جزاء فمهما أخذ الإنسان من مكافآت أو ناله من عقوبات في الدنيا فإنها لا قيمة لها في مقابل ما يجد في قبره بعد موته .. وكل شيء في الدنيا يمكننا استدراكه والتوبة منه .. لكنني بعد موتي فقدت وخسرت هذه الميزة الوحيدة (ميزة القدرة على الاستدراك) التي تتميزون بها أنتم الأحياء عنا.
????صديقي راشد????
دعني أخبرك ماذا حصل لي بعد ذلك ..
لقد حصل ما كنت أتوقعه بل ما كنت أومن به .. لقد حصل ما كنت أحاول إقناعك به على ضوء ما قرأتُ وتعلمتُ في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. ولكن عقلك كان يحيلك إلى عالم الماديات فتقول لي: كيف نؤمن بأشياء لا نراها؟! ..
وأنا أذكرك بأهمية الإيمان بالغيب .. طالما أنه وصلنا بطريق إسناد صحيح .. فالحمد لله أنني ما كنت أجاريك فيما تقول .. وإلا لدخلت في مغامرة خطيرة لا يحمد عقباها ولا رجوع ولا استدراك بعدها.
جاءني يا صاحبي ملكان كريمان، والوصف تماماً كما قرأناه في الصحاح، فأقعداني فقالا لي: "ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟" بل لقد سألاني ثلاثة أسئلة كنتُ قد تدربت على الإجابة عنها سابقاً: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ .. فقد كنت أحرص على قول جملة تجمع الإجابة بعد كل أذان أسمعه: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً".
أسئلة بالنسبة لكم سهلة يسيرة يجيب عليها المسلم الحي طائعاً كان أو عاصياً .. ولكنني في تلك اللحظة من هول الموقف ترددت وتلعثمت وخفت وسكتُّ، وخشيت على نفسي من سكوتي، حتى أنطق الله جوارحي كلها لتقول وأنا أسمع ما قالت: ربي الله وديني الإسلام ورسولي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا أشهد أنه عبد الله ورسوله .. وسكتُّ فلم أزد عليها ولم أنقص.
هذه الأسطر والكلمات هي أخطر أسطر وكلمات قررتْ وحددت بأمر الله تعالى مصيري في قبري الذي هو أول منازل الآخرة .. صحيح أنها معروفة مألوفة لكنها أثقل بكثير ما تتصور .. ولولا معية الله ورحمته وعونه وتسديده لهلكت .. ويا ويلي ثم يا ويلي لو هلكت.
د. محمد سعيد بكر
بداية الحكاية
رجع راشد من عمله ذات يوم متعباً ..
وبدأ يلهو بجواله ويتنقل عبر مواقع الترفيه ويسترق النظرات هنا وهناك كالعادة ..!
ثم أخذ ينظر في رسائل (الماسنجر) .. حتى وقعت عينه على رسالة من صديقه سالم ..
فأصيب بحالة ذعر أو خوف ورهبة واندهاش كبير ..!!
كيف لا؟ وصديقه سالم كان قد توفي قبل خمس سنوات .. فظن أنها مزحة من أحد الأصدقاء ..
لكنه بدأ يقرأ ويقرأ فتأكد له أن لا أحد يمكنه المزاح بهذه الطريقة ..
إنه رفيق دراسته وجاره وقريبه الذي يعرفه جيداً، ويعرف أسلوبه ومنطقه وبصمة كلامه.
وقد جاء في هذه الرسالة الغريبة ما يأتي
مني أنا الميت سالم ..
إلى صديقي الحي راشد ..
السلام عليك ورحمة الله وبركاته
صديقي الحبيب ورفيقي الودود راشد ..
منذ خمسة أعوام خلَت انقطع الاتصال بيننا حين نزل قدر الله تعالى وجاء ملك الموت فقبض روحي فجأة دون سابق إنذار وأنا في ريعان الشباب ..
وذلك بعد أن كان اتصالنا بشكل شبه يومي؛ نتبادل أطراف الحديث ونتابع أشغالنا ونحاول بناء طموحاتنا ..
عشنا معاً أياماً جميلة وأخرى حزينة وثالثة شاقة ورابعة وخامسة .. كانت الأيام تمر كأنما هي طائر سريع يمر من أمامنا ولا يتوقف ..
صديقي الغالي راشد
يعلم الله تعالى كم هو شوقي وحنيني إليك .. ولا أدري إن كنتَ تشتاق إليّ، وقد خرجتُ من حساباتك وبحثتَ عن صحبة أخرى .. ولعلك تكون قد تزوجت وأنجبت ووجدت وظيفة وأكملت دراستك العليا وسافرت وتنقلت ..
فهل بقي للذكريات مجال لديك مع كثرة أشغالك .. وهل سمحت لك أشغالك أن ترفع يديك وتلهج بالدعاء لأخيك .. أو لعلك إن كنت لا زلت تصلي تطيل سجودك وتذكرني بدعاء أجد أثره وبركته في قبري ..؟!
كيف لا وهذا الأثر والبركة نجده نحن أهل المقابر كلما مر علينا إنسان وقال: السلام عليكم دار قوم مؤمنين .. أنتم السابقون ونحن اللاحقون .. تلك الكلمات التي كنت أقولها وأنا حي بمجرد مروري من مقبرة فلا أستشعر أثرها وأبعادها ومعانيها .. وإلا فلو كنت أعي دلالات كلمة: (ونحن اللاحقون) لأعددت لهذا اللحاق الأكيد.
صديقي راشد
ما أردت برسالتي هذه التنغيص عليك، فأنا أعلم أن الأحياء يزعجهم ذكر الموت وما وراء الموت من أحوال وأهوال ..
وهم يحبون الحياة ويحرصون عليها حرصاً شديداً جعلهم يتنافسون ويتشاكسون عليها، ويعطونها حجماً ووزناً أكبر من حجمها، بل وينسون حقيقة الموت التي يرونها مع كل حالة وفاة يغسلونها ويكفنونها ويصلّون عليها ثم يدفنونها، ويرجعون ليأكلوا ثم يناموا مع أهلهم وذويهم بشكل معتاد، وكأن ملك الموت ما جاء بيوتهم وأحياءهم ولا أخذ من شيبهم وشبابهم وصبيانهم وأطفالهم وملوكهم وشعوبهم!
صديقي الحبيب
لربما تسألني عن أحوالي فأنا في دار غير داركم ..
فاسمح لي أن أحكي لك تفصيلاً عما رأيت ووجدت (عين) اليقين، بعد أن كان بعض ما رأيت بالنسبة لي مجرد (علم) اليقين ..
وليت أحداً مات قبلي فأخبرني عما رأى .. كما سأخبرك عما رأيت .. فليس من رأى كمن سمع ..
ولقد كنت أقرأ وأسمع كما تسمع أنت الآن عن الموت وعذاب القبر أو نعيمه فلا أكترث كثيراً باعتبار أنه أمر بعيد .. وتشغلني الشواغل فلا تبقى رهبة الموت والاستعداد له عالقة في نفسي .. حتى متُّ وتوفاني الله .. وهنا وجدت المفاجأة وكشفت أمامي الحقائق كلها .. لا سيما تلك التي ينكرها الماديون واللادينيون والملحدون .. ومن على شاكلتهم من المشككين.
أخي الكريم راشد
كانت لحظة انتزاع روحي مع سكرات (كربات وغمرات) موتي ثقيلة صعبة، فلا زلت متمسكاً بحياتي وأهلي وأصحابي وأموالي ومكتسباتي وشهاداتي وطموحاتي وآمالي حتى الرمق الأخير ..
ولو كنت أعلم إلى أي شيء أصير ما تمسكتُ بتلك الحياة الفانية لحظة واحدة .. بل لكنتُ ألقيت بنفسي في المعامع والمعارك، وما ترددت عن جبهات قول الحق وفعله وميادين الشهادة الغالية .. ولكن زيّن لي الشيطان القعود وخوفني، بل وأقنعني بأن التضحية والجهاد والفداء والشهادة من إلقاء النفس إلى التهلكة .. وكأن في الجبن والتردد إبقاء للنفس على الحياة ..
وها نحن نرى في عالمنا نحن الأموات أولئك الشهداء ونشمّ من عبق دمائهم روائح مسك وعطر، ولكن ليس كأجود أنواع العطور التي شممتها في حياتي .. فيا لسعادتهم ويا لهنائهم .. بل ونسمع دعاءهم وطلبهم من الله تعالى أن يموتوا مرات ومرات على ذات الطريق لعظيم ما أكرمهم به ربهم في قبورهم فهنيئاً لهم، ولأهلهم وذويهم ومن يتعرضون لشفاعتهم، على الرغم من شدة مصابهم بهم.
صديقي راشد
جاءني ملك الموت عليه السلام في اليوم والساعة التي تعرفها، وفيها إنتهاء أجلي وتوقف عملي وانقطاع أملي، ولم أكن أدري متى ولا أين أموت .. ولو دريت لتجهزتُّ وأعددت وحضّرت .. وليته خيرني كما يُخير الأنبياء ولكن هيهات هيهات .. ثم أخذ روحي إلى مكان يعلمه ربي .. وأبقى لكم جسدي مؤقتاً ..
ثم سمعت بكاء أهلي وإخواني ومن حضر من أحبابي وأصحابي، فقد تجمعوا حولي كلٌّ يريد مساعدتي وإغاثتي وهم لا يقدرون على استعادة روحي إلى جسدي فقد فات الأوان .. وأنا لا أقدر على مساعدتهم في البقاء بينهم ولو لحظة واحدة؛ لعلي أعتذر لهم فيها عن تقصيري بحقهم أو أوصي لهم، أو أشهد شهادة حق تنفعهم .. ورأيت في ذاك الموقف قول ربي: " كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ ۜ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ" (القيامة: 30).
لقد خفف عليّ دعاء الأحباب وشهادتهم لي بالخير كثيراً فالناس شهداء الله في أرضه .. وذكرُ محاسننا بعد وفاتنا له قيمة كبيرة عند ربنا لأجل ذلك كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:" اذكروا محاسن موتاكم" .. ولكن دون زيادة في المديح ولا مبالغة في البكاء ولا عويل .. ولو علم الأحياء ما حصل لأمواتهم الصالحين من خيرات وبركات في قبورهم لجعلوا يوم موتهم عرساً يحتفلون به في كل عام، بدل النواح وتجديد الآلام .. أما الفاسدون "فما بكت عليهم السماء والأرض" ... ولو أنها بكت ما نفعتهم.
الجزء الثاني
????صديقي الغالي????
أنصحك بأن توصي أهلك أن يدفنوك مباشرة بعد وفاتك وبلا تأخير، فمن إكرامنا نحن الأموات تعجيل دفننا ولا داعي للتأخير.
وأذكر أن خلافاً حصل بين أهلي حول مكان دفني وآخر حول من سيصلي عليّ، ونواحاً وصياحاً صدر من أهلي؛ كل ذلك أزعجني وآذاني وأنا ميت مسجى بينهم .. فلا داعي لأي نواح أو خلاف عند موتاكم .. ويكفي ما يجري من نواحكم وخلافكم في سائر شؤونكم.
????صديقي راشد????
لك أن تتخيل حالي وقد جاء المغسل ووضع جثماني على المغسلة وبدأ ينزع ثيابي ويصب الماء عليّ صباً، في مشهد أقرب ما يكون إلى غسيل وحمام الأم لطفلها الوليد .. ولكن الفارق وجود استجابات لدى ذاك الطفل فهو يلعب ويضحك تارة ويبكي تارة أخرى .. وانعدام استجابتي بين يدي مغسلي .. مع حرصه على ستر عورتي التي لم أملك حتى سترها بنفسي.
وبعد انتهاء المغسل من غسلي بدأ بوضوئي آخر وضوء لي .. ويا له من وضوء لا يدَ لي فيه مطلقاً .. فهو يأخذ بيدي ويمسح وجهي ورأسي وقدماي .. وأنا لا أملك أي قدرة على الحراك والاستجابة!
ثم جاء دور تكفيني؛ فتناول المغسل ثلاث قطع قماش بيضاء يكفنني بها .. وكنت قد تركت في بيتي خزانة ملابس جديدة للمناسبات، فوددت لو ألبسوني أجملها وأثمنها، فأنا مسافر والمسافر يحب التأنق والتجمل .. ولكن هيهات هيهات وهم يعلمون أن ذلك لا يجوز أو لا ينفع .. حتى خاتمي الفضي الجميل نزعوه من يدي، واستشعرت حينها معنى الإفلاس الحقيقي .. سوى من أعمال بدأت استشعر قيمتها وأرجو من الله قبولها.
آه يا صديقي كم تمنيت لو يضعوا في كفني جهازي (الخلوي) لعلي أنظر فيه وأتابع رسائله في قبري .. ولكني تذكرت أن هذا لا يجوز فلا تواصل بين الأموات والأحياء (غير أن رسالتي هذه لك استثناء) .. ولا شاحن ولا كهرباء .. ولكن يا ترى كيف سأقضي وقتي في عالمي الجديد؟!
????صديقي الطيب????
ثم حملوني على أكتافهم إلى بيتي (الذي كان) وألقت أمي وزوجتي وبناتي عليّ نظرات وداع أخير .. وكلهم يتمنون لو يعطوني من أعمارهم لأبقى بينهم .. ولكن هيهات هيهات .. فقد أنتهت مدة إقامتي المقدرة بينهم .. وبقي عزاؤنا بأننا سنلتقي بين يدي ربنا الرحيم .. ونحن نحسن به الظن بأنه سيجمعنا معاً في جنات النعيم .. وما كنت أحب هذا اللقاء الأخير لأنني عجزت عن مسح دموعهنّ .. فدموعهنّ لأي سبب أثناء حياتي كانت تحرق قلبي.
ثم حُملت على أكتاف الرجال مرة أخرى، وتم نقلي إلى المسجد الذي كنت أصلي فيه .. وكنت أصلي فيه على الأموات من الجنازات الحاضرة دون أي اكتراث .. وماذا يعني بالنسبة للأحياء موت فلان أو فلانة طالما أن الحياة ستمضي ولن تتوقف؟!
????صديقي العزيز????
وأقيمت الصلاة وصلى الناس صلاة الظهر قبل أن يصلوا عليّ، وأنا في آخر الصفوف مسجى على حمالة خشبية لا صلاة لي .. بل لا ذكر ولا تلاوة ولا صدقة ولا تسبيح فقد انقطع عملي .. هاهم أمامي يصلون الفريضة والسُّنة وأنا مسجى خلفهم ممنوع عليّ الصلاة .. ويأتي المتأخرون عن الصلاة فينظرون إليّ ويلتحقون بالصفوف، وكلهم يقول في نفسه .. يرحمه الله ويعذرونني لعدم الصلاة فأنا مجرد جثة هامدة.
وتنتهي صلاة الظهر وينادي الإمام على الناس بأن يأتوا ب (الجنازة) هكذا دون أي ألقاب ولا كنىً ولا أوصاف .. هاتوا الجنازة للصلاة عليها يا رجال ..
وأحمل على الأكتاف مرة أخرى، وقد وضع الرجال رأسي في الجهة اليمنى عند القبلة ..
ثم وقف الإمام عند رأسي أمام المصلين، وحدثهم عن كيفية صلاة الجنازة وأنها أربع تكبيرات ..
???? بعد التكبيرة الأولى يقرأون الفاتحة (لعلها تفتح أبواب الخير لي).
???? وبعد الثانية الصلاة الإبراهيمية (وقد وجدت ببركاتها نفحات أنبياء الله في نفسي).
???? وبعد الثالثة الدعاء لي ..
وقد أوصاهم الإمام جزاه الله خيراً بالدعاء الخالص الخاشع لي... وودت لو أنني كنت ممن صلى على جنازتي لأخشع وأبكي وأتضرع إلى ربي .. ولكن هيهات هيهات فعلى الرغم من أنني مغتسل ومتوضئ وجاهز للصلاة إلا أنني ممنوع من الصلاة عليّ .. بل حتى إنني ممنوع من التأمين على دعاء الأحياء لي، لكن عزائي أن دعائي الخالص للجنازات التي صليت عليها قبل موتي سيسعفني ويخفف عني.
???? وبعد التكبيرة الرابعة الدعاء لعموم المسلمين ..
وقد لفت انتباهي أن حضرة الإمام جزاه الله خيراً طلب من أصحاب الديون التي عليّ أن يأخذوها من أهلي وإخواني .. حتى لا يحبسني دَيني عن رحمة ربي، وهو لا يعلم أنني بحمد الله تعالى لا ديون عليّ فقد كنت حريصاً على سدادها كلها .. بل كنت حريصاً على ترك ميراث قليل يفرح به ورثتي لاحقاً بعد انتهاء حزنهم على وفاتي ..
أما الديون المعنوية فهي التي أفزعني حديثه عنها؛ فقد طلب من الناس السماح عني .. ولا أدري هل من مسامح عن غيبة اغتبته إياها أو نميمة أو طعن وقدح وسخرية؟!
????صديقي الطيب????
لا أكتمك أنني وجدت أثراً كبيراً لصلاة الناس عليّ ولم أكن أشعر أبداً بأن من أصلي عليهم ينتفعون بصلاتي حتى جربت ذلك، فكانت صلاتكم برداً وسلاماً على روحي، فليتك تشكر هؤلاء المصلين أو إمامهم عني.
ثم حُملت مرة أخرى على الأكتاف، حتى أخرجوني من المسجد، وكانت آخر زيارة لي ..
وأنا أغبطك إذ لا يزال مسموحاً لك أن تذهب إلى المسجد برجليك، فهنيئاً لك لأنه لا زالت إحداهما ترفع لك درجة، والثانية تحطُّ عنك خطيئة.
ومضى الركب بجثماني إلى المقبرة حتى وصلوا إلى حيث مثواي (قبل الأخير) لأن مثواي الأخير في الجنة بإذن الله أو في السعير لا سمح الله ..
وتسابق القوم على حفر وتسوية قبري، وتسارعوا في تناولي بين أيديهم حتى أنزلوني قبري .. ثم كشفوا عن وجهي ووجهوني إلى القبلة على جنبي الأيمن .. ولم أفكر قبل تلك اللحظة ماذا يعني أن يتم إغلاق قبري باللبن والطين .. وماذا يعني أن يهيل الناس على قبري التراب .. لن أقول لك بأنني متُّ حينئذ خوفاً أو خنقاً فأنا ميت والميت لا يموت مرة أخرى، ولكنها الوحشة .. وترقب السؤال، وانتظار ما كنت أسمع عنه وأومن به .. وينكره غيري من أحوال البرزخ والقبر.
وقد أحسست بأرجل الناس فوقي وشعرت بأن واعظاً وداعياً يعظ الناس ويحكي لهم: كفى بالموت واعظاً .. وودت لو أنني أخرج حينئذ وأقول له: لن يتعظوا يا شيخ حتى ينزلوا إلى حيث نزلت، وتتعطل إرادتهم وقدرتهم على العمل .. وعندها يطلبون العودة: (رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً فيما تركت) ..
ثم ينزل دعاؤهم عليّ مرة أخرى برداً وسلاماً .. ولا تدري ولن تدري قيمة الدعاء للأموات حتى تموت، فهو توسل صادق بطلب العفو الإلهي عنا ممن لا يزالون يملكون الطلب لنا نحن الأموات فاقدي كل قول ينفعنا أو عمل.
????صديقي الودود????
ومضى الناس بعد أن شاركوا في أجر الصلاة عليّ وحملي وتشييعي ودفني .. وسمعت دف خطواتهم وهم راجعون .. وبقيت وحدي في المكان الذي لا فرار منه بالنسبة لكل ميت .. إنه القبر؛ ذاك المكان الموحش الضيق المخيف .. هذا بالنسبة للأحياء .. أما نحن الأموات فقد بدأنا مشوار حياة جديدة في قبورنا .. ولكنها حياة مختلفة .. حياة حساب وجزاء بلا عمل .. بينما كانت حياتي معكم حياة عمل بلا حساب .. نعم بلا حساب ولا جزاء فمهما أخذ الإنسان من مكافآت أو ناله من عقوبات في الدنيا فإنها لا قيمة لها في مقابل ما يجد في قبره بعد موته .. وكل شيء في الدنيا يمكننا استدراكه والتوبة منه .. لكنني بعد موتي فقدت وخسرت هذه الميزة الوحيدة (ميزة القدرة على الاستدراك) التي تتميزون بها أنتم الأحياء عنا.
????صديقي راشد????
دعني أخبرك ماذا حصل لي بعد ذلك ..
لقد حصل ما كنت أتوقعه بل ما كنت أومن به .. لقد حصل ما كنت أحاول إقناعك به على ضوء ما قرأتُ وتعلمتُ في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .. ولكن عقلك كان يحيلك إلى عالم الماديات فتقول لي: كيف نؤمن بأشياء لا نراها؟! ..
وأنا أذكرك بأهمية الإيمان بالغيب .. طالما أنه وصلنا بطريق إسناد صحيح .. فالحمد لله أنني ما كنت أجاريك فيما تقول .. وإلا لدخلت في مغامرة خطيرة لا يحمد عقباها ولا رجوع ولا استدراك بعدها.
جاءني يا صاحبي ملكان كريمان، والوصف تماماً كما قرأناه في الصحاح، فأقعداني فقالا لي: "ما كنت تقول في هذا الرجل محمد؟" بل لقد سألاني ثلاثة أسئلة كنتُ قد تدربت على الإجابة عنها سابقاً: من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ .. فقد كنت أحرص على قول جملة تجمع الإجابة بعد كل أذان أسمعه: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً".
أسئلة بالنسبة لكم سهلة يسيرة يجيب عليها المسلم الحي طائعاً كان أو عاصياً .. ولكنني في تلك اللحظة من هول الموقف ترددت وتلعثمت وخفت وسكتُّ، وخشيت على نفسي من سكوتي، حتى أنطق الله جوارحي كلها لتقول وأنا أسمع ما قالت: ربي الله وديني الإسلام ورسولي محمد صلى الله عليه وسلم، وأنا أشهد أنه عبد الله ورسوله .. وسكتُّ فلم أزد عليها ولم أنقص.
هذه الأسطر والكلمات هي أخطر أسطر وكلمات قررتْ وحددت بأمر الله تعالى مصيري في قبري الذي هو أول منازل الآخرة .. صحيح أنها معروفة مألوفة لكنها أثقل بكثير ما تتصور .. ولولا معية الله ورحمته وعونه وتسديده لهلكت .. ويا ويلي ثم يا ويلي لو هلكت.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin