عبد الرحيم البرعي.. الهائم في الذات المحمدية
د . ناظم عبدالملك سعيد الدبعي
لم يبن الدين الإسلامي على شريعة فيها أوامر ونواه فحسب ولكنه بني على المحبة الكاملة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الصالحين . وأضحى مقرراً في الدين ومعلوماً بالضرورة أن التعلق الدائم بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وحبه أكثر من المال والأولاد هو من كمال الإيمان.
{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذا المعنى عندما قال لهم (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين )) فقال سيدنا عمر : يا رسول الله (( أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي )) فقال سيد الخلق (( لم يكمل إيمانك يا عمر )) ثم نظر إليه الحبيب فرقاه من مرتبة الأنا إلى مرتبة الفناء فقال بلسان الصدق ((لأنت الآن يا رسول الله أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي التي بين جنبي )) فقال (( الآن يا عمر )) أي الآن كمل إيمانك .
هذا الارتباط تجلى في أصحابه رضي الله عنهم تجلياً عجيباً لم يسبق له مثيل، وهل سمع التاريخ برجل مثل أبي بكر الملقب بالعتيق والمؤيد من الله بالتوفيق الذي كان يشم منه رائحة الكبد المشوي عندما يفترق عن صاحبه صلى الله عليه وسلم . وهكذا كان الصحابة أجمعون فانين في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فناءً كاملاً حتى انتقل الحبيب إلى الرفيق الأعلى والأصحاب على محبتهم مقيمون. حبهم وتعلقهم بالنبي زاد لهم في السير والاتباع . ونقل الصحابة هذه المحبة إلى التابعين . فكان الصحابي إذا بث إلى التابعي وجده وشوقه هام على وجهه وتوله كالصحابي من شدة الوجد. وروى لنا التاريخ أن أحد التابعين سأل سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أأدركت رسول الله ؟ قال أنس نعم قال التابعي أوتركتموه يمشي على الأرض ، أما والله لو أدركناه لحملناه على أعناقنا.
وبسبب هذه المحبة اجتهد التابعون وتابعوهم في العبادة والزهد وأخرجت هذه المحبة وهذا التعلق رجلاً مثل أبي مسلم الخولاني الذي كان يقول: (أيظن أصحاب محمد أن يسبقونا، أما والله لننافسنهم على رسول الله حتى يعلموا أنه خلف بعده رجالاً).
ولما ضعفت هذه الأنفاس انغمس حكام المسلمين في الملذات والتفنن في اقتناء الجواري وازدادت الهجمات على الأمة من جميع الجهات فمن هجمات تترية وصليبية إلى هجمات فكرية وانحرافية، شعر المسلمون عندها أن عليهم العودة إلى تمتين الروابط مع صاحب الرسالة وحامي حقيقة الدين، فاندفعوا يمدحون النبي يشخصونه، يفنون فيه حتى أشعلوا النور الإيماني في القلوب. وعاد الإسلام حيَّا في قلوب المسلمين فاخترق الإسلام الذين جاءوا لاختراقه واستهلكوا في حنايا صدره الكبير فضمهم إليه مسلمين قانتين .
كان البوصيري ولا جرم شيخ المادحين للحبيب صلى الله عليه وسلم وانتقلت أنفاسه من بعده إلى صدور الأجيال اللاحقة حتى أخرجت سيد المحبين والمولهين عبد الرحيم البرعي الذي صب في قلبه حرارة العشق القديم للذات المحمدية. أذن له في الصدح والغناء بذلك العشق الأزلي فغنى وأطرب. وما زالت الأجيال من بعده طربة بمدحه وغنائه.
البرعي الصوفي :
عاش البرعي في نهايات القرن الثامن وبداية التاسع في منطقة غرب اليمن يقال لها (النيابتين) في مديرية برع وهي منطقة جبلية في الشمال الغربي من مدينة الشرق وفي الجنوب الشرقي من مدينة باجل. وكانت له طريقة صوفية قادرية وشيخه الشيخ عمر العرابي الذي ينتهي سند سلسلته إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. وكانت الطريقة القادرية تكاد تكون الوحيدة في اليمن آنذاك حتى دخلت الطريقة الشاذلية إلى اليمن عن طريق الشيخ علي بن عمر الشاذلي نزيل المخا في القرن الثامن الهجري بعدما أخذ الطريقة في مصر من شيخه ناصر الدين ابن بنت الميلق الخليفة الرابع للشيخ أبي الحسن الشاذلي.
وجلي من قراءة ديوان البرعي أنه كان صوفياً غارقاً في حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما كان محباً للأولياء والمشايخ من أهل زمانه معتقداً فيهم ومعظماً لجنابهم، ويرى أنهم امتداد للنور النبوي الوارثين عنه علوم الشريعة والحقيقة .
حصل البرعي على نصيب كبير من العلم ولعله قد درس في الأربطة الصوفية التي كانت متناثرة في تهامة وحراز وبرع في ذلك الزمان. ويندر أن تجد في ديوانه خطأ نحوياً ويشهد لذلك قوله :
كلام بلا نحو طعام بلا ملح ونحو بلا شعر ظلام بلا صبح
وهذا يدلك على علم وذوق. فإن الكلام بلا نحو يكون ممجوجاً ومستقبحا عند سماعه، كما يكون النحو جافاً ومظلماً إذا لم يكن له قالب شعري وأدبي يخفف من وطأة جفافه وظلمته.
على أن البرعي فوق شعره وعلمه كان شاعراً صوفياً مستهترا في المعنى، درويشا متبذلا في حياته، فقيراً صادق الفقر كثير الترحال والتطواف على أولياء عصره. قصر نبوغه على مدح الله والنبي والآل فكان بحق شاعر الذات المصطفوية.
موضوعات شعره:
لم يطرق البرعي موضوعات في الشعر كثيرة. ويمكن تقسيم شعره إلى :
القصائد الإلهية
القصائد النبوية
قصائد في مدح الأولياء والمشايخ .
قصائد في الوعظ
بيد أن معظم قصائده كانت في المديح النبوي. بلغت قصائده الإلهية اثنتي عشرة قصيدة فقط. لكنها على مقام في الحب كبير كما تشير إلى توحيد صريح مستند إلى علم صحيح ويخرج من نفس المشكاة التي يخرج منها توحيد القوم في قصائدهم .
تجلت لوحدانية الحق أنوار فدلت على أن الجحود هو العار
وهذا البيت شبيه بقول صفي الدين أحمد بن علوان اليفرسي اليماني:
وجود لا يلم به الجحود ووصل لا يكدره الصدود
ويقول البرعي :
وأين يحل الأين منه ولم يكن مع الله غير الله عين وآثار
أليس هذا تفسيرا لقوله صلى الله عليه وسلم :
(( كان الله ولا شيء معه )) فإذا كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان فمن أين يأتي الحلول أو الاتحاد إلا في عقول وأوهام الذي لا يعلمون.
يقول القشيري :
(( اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ))
وقد سار البرعي مع القوم على هذا النهج القويم علماً وسلوكاً وتحقيقاً.
أغلب قصائده الإلهية معظمها تصب في الثناء على الله وإظهار نعمه والدعاء والتضرع والعزوف عن الدنيا وأهلها. لكن لب ديوانه هو في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولا تكاد توجد حلقة ذكر أو مديح في أغلب بلدان العالم الإسلامي إلا وللبرعي وقصائده حضور لا ينكر. ومن شدة ما كتب الله له من المحبة في قلوب الخلق أن أهل كل بلاد ينسبون البرعي إليهم. وكأنه فوق الزمان والمكان. ونسجت حوله الحكايات حتى شط بعضهم فزعموا أنه مقبور بين مكة والمدينة في مكان يقال له (خيف البرعي)، وأن قبره يزحف كل يوم مقدار خطوة إلى المدينة حتى إذا وصل القبر إلى المدينة قامت الساعة . ولا يخفى ما في هذه الحكاية من خيال مفرط إلا أن الحق الذي نسكن إليه هو أنه مدفون في قرية النيابتين من مديرية برع التي عاش فيها طيلة حياته و دفن فيها وقبره موجود هناك يزار وله مولد سنوي يقيمه أهل النيابتين و يحضره كثير من أهل اليمن في أول جمعة من شهر رجب المعظم و لا سيما بعد أن رصفت الطريق الجبلية المؤدية إلى قرية النيابتين في جبل برع إلى الجنوب الشرقي من مدينة باجل اليمنية.
قد يتساءل المرء عن سبب هذه الكثرة من المدائح النبوية في ديوان البرعي. والجواب أن السبب الذي حرك في قلب البرعي شوقاً جارفاً لم ينطفئ أبداً حتى لقي وجه ربه هو شعوره بذنب لا يكاد يغتفر في مذهب المحبين. ذنب لم يكن له فيه ناقة ولا جمل. كان البرعي فقيراً ذا متربة. ولم تتوفر له الاستطاعة لأداء فريضة الحج إلا مرة واحدة على قلة من المال وشظف من العيش كما يظهر جلياً في قصائده. ولما وصل إلى مكة - حرسها الله - لم يتبق له من المال ما يكفي لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم فقفل راجعاً إلى اليمن. وما كاد يحط الرحال حتى استشعر أنه بفعلته تلك قد جفا النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يزره. فلم يغفر لنفسه واندفع يمدح ويتذلل ويبكي ويئن علّ الأيام تسعفه بزورة إلى الحبيب لكن الله لم يقدر له ذلك.
وكان قبل حجته تلك يمدح النبي ويحن شوقاً إلى زيارته.
كم يأمل الروضة الغراء في كرم يرجو الزيارة والأقدار تحرمه
طيف الخيال من النيابتين سرى إلى الحجاز فوافى مضجعي سحرا
وما أن كتب الله له الحج حتى قدر عليه ألا يطفئ نار شوقه بزيارة الحبيب فعاد إلى بلاده ليملأ الدنيا ويشغل الناس :
حجوا وراحوا يزورون ابن آمنة وعدت في الفرقة الجافين منتظرا
عسى لطائف ربي أن تبلغنــــــي قبراً تقر بعيني رائه نظـــــــــــرا
و يستعطف الحبيب ويرجوه ألا يعاتبه :
يا سيدي أنا من علمت أذابني حمل الذنوب وجور دهر نابي
لو لم يكن لي إذ حججت ولم أزر إلا عتابك وحده لكفـــــــى بي
استمع إليه وهو يقسم بالله فالق الحب والنوى أنه لم يقصد الجفاء :
فما كان عودي إذ حججت ولم أفد عليك جفاء لا ومن فلق الحبا
ولكن تصاريف الزمان كثيرة وأنت إذا استعتبت أجدر بالعتبى
ويقر بذنبه و يعترف بالجناية :
يا أكرم الكرماء يا أعلى الورى شرفاً وآمن ذروة و جنابا
أنا عبدك الجاني حججت ولم أزر ولئن عتبت فما أطيق عتاباً
ولئن صفحت فشيمة نبوية شملت على عبد أساء فتابا
ثم يعتصر قلبه ألما فيطلب العفو عن الجرم :
فاعطف على عبد الرحيم برحمة فلقد طغى وبغى وجار وأجرما
وجفاك إذ زار الرفاق ولم يزر لا يستطيع يرد أمرا مبرمــــــا
ثم يرى أن طوفان الذنوب هو الذي منعه من إدراك الزيارة :
أحاط بنا طوفان زلاتنا وما لنا فيه إلا فلك صفحك مركبا
إذا ما هممنا بالزيارة عاقنا بعادك عنا لا الجفا والتجنبا
و يطمع أن يفتقده النبي الكريم فيمن عليه بزيارة :
فانهض بقائلها و صاحبه فقد جفياك إذ صدرا عن الوراد
وأمرهما يعدا إليك ليحضيا يا سيدي بكرامة الوفـــــــاد
ويلح في الطلب بعد أن تقدم به العمر :
فعجل بافتقادك لي فإني ضعفت جوارحا و كبرت سنا
حججت و لم أزرك فليت شعري متى بمزارك الجافي يهنـــــــــــــا
فلما تقدم به العمر واستيأس من الزيارة أقسم غير حانث :
فومن أحن إلى زيارة سوحه لأكفرن خطيئتي بمديحه
ولم يرو لنا البرعي في أي من قصائده أن شوقه هذا انطفأ ببلوغه المراد وهو الزيارة. وأغلب الظن أن الله قد اختاره إلى جنابه قبل أن يتحقق له ذلك. وقد دفن في بلاده برع وله مقام مشهور هناك يزار .
تتبع قصائد البرعي الطريقة الكلاسيكية من بدء القصيدة بالبكاء على الأطلال ووصف الخيام والراحلين ثم يخلص من ذلك إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
ضربوا الخيامَ على الكثيبِ الأحمر ما بينَ روضة ِ حاجرٍ ومحجرِ
و تفيؤا في الأرض ظلا وارتووا من مائه المتسجم المتفجر
للهِ درُّ العيسِ وهيَ رواسمٌ بمروحٍ ومصبحٍ و مهجرِ
يخرقنَ منْ حجبِ السرابِ سرادقاً ما بينَ طيبة َ والمقامِ الأكبرِ
و يلجنَ في لججِ الظلامِ ضوامراً شوقاً إلى المزملِ المدثرِ
وبعد تدبيج المدح وذكر الشمائل والخصائص النبوية ينعى حظه وزمانه الذي خلفه عن الركب. ثم يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الشفاعة والوسيلة:
يا بهجة َ الدنيا وعصمة َ أهلها منْ كلِّ خطبٍ عابسٍ متنكرِ
كنْ منْ أذى الدارينِ نصري واحمني و لنيلِ ما أرجوهُ موسمَ متجر
عاندت الأيام البرعي - رحمه الله - فلم يستطع الزيارة التي حن إليها ، فما كان منه إلى أن شد الرحيل لزيارة أولياء اليمن في زمانه. زار منهم الأحياء والأموات، فزار مقام الشيخين الحكمي والبجلي ومدحهما بقصائد رائعة - وكانا من كبار مشايخ اليمن وأوليائها - وزار النهاري و الأهدل وغيرهما. واسمع إليه وهو يؤكد النسبة المباركة بين هؤلاء الشيوخ وبين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنه بزيارته لهم فكأنه قد زار النبي صلى الله عليه وسلم لما روي من أن العلماء ورثة الأنبياء .
السيدينِ الكريمينِ اللذينِ هما في الصالحينَ كخيرِ الخلقِ في الرسلِ
طودي ْ علاً وإمامي ْ أمة ٍ وسطٍ منْ سادة ٍ ذكرهمْ في الوحي حيثُ تلي
مخصصينَ ببشرى رحمتي وسعتْ مخاطبينَ بكنتمْ خيرَ في الأزلِ
وفي مدحه للشيخين في “عواجة” لا ينسى أن يقارن بين طينتها و طينة طيبة الطيبة:
و متى أعوجُ إلى عواجة نازلاً بالربعِ منْ ذاكَ الجنابِ مسلما
و أهلُّ بالإحرامِ زائرَ سادة ٍ منْ زارَ تربتهم ْأهلَّ وأحرما
هيَ روضة ٌ مزجتْ بطينة ِ طيبة ٍ وسمتْ فنافستٍ الحطيمَ وزمزما
ولا ينسى البرعي أن يذكر دار السلام (المدينة) عندما يذهب لزيارة مقام السيد النهاري في “ريمة”:
نلمُّ بقبرِ سيدنا النهاري فتبيضُ المطالبُ وهيَ سودُ
جنابُ جلالة ٍ وربيعُ برٍّ ربتْ في ريفِ رأفتهُ الوفودُ
فمنْ دارِ السلامِ لهُ نسيمٌ و منْ نورِ الجلالِ لهُ عمودُ
وفي “المراوعة” حيث يحل الشيخ الكبير على الأهدل يقارن البرعي بين هذا المقام وطيبة الطيبة وما له في المقارنة من إرب إلا ليعلل نفسه أنه إن لم يستطع زيارة الأصل فقد زار الفرع :
و اعلمٍ بأنكَ جارُ الأهدلي ِّوفي ذمامِ محترمٍ يحمى بهِ الجارُ
فانزلْ بتربتهِ إما نزلت َوسلٍ أهذهِ طيبة ٌ و الخلق ُزوارُ
أمْ مشهد ُالكعبة ِالبيت ِالحرامِ وفي أكنافها الوفدُ حجاج وعمارُ
وكان لهذه الزيارات سببان :
السبب الأول:
التماس البركات وإطفاء نار الشوق بلقاء الأولياء المتعلقين بالنبي صلى الله عليه وسلم والوارثين عنه. وكان البرعي يجد في ذلك تسلية لنفسه وتعليلاً لها حيث لم يستطع زيارة المدينة. وهذا النفس واضحاً في قصائده إذ إنه ما مدح أحدهم إلا أشار أنه بزيارته قد زار المدينة وخيم بأكنافها.
السبب الثاني :
كان البرعي فقيراً ذا متربة لا يملك من حطام الدنيا قليلا ولا كثيرا ، فكان هؤلاء المشايخ يعطفون عليه ويواسونه فيعود إلى أهله بأرزاقهم . ولم يكن يخفي ذلك في قصائده.
تواعدني العدوُّ بغيرِ جرمٍ أتعجزُ أن ْيحلَّ بهِ الوعيدُ
أما ترثي لأطفالٍ صغارٍ أبوهمْ منْ محلتهمْ طريدُ
يمرُّ العيدُ بالصبيانِ لهواً و ليسَ لهمْ معَ الصبيانِ عيدُ
وربما لم يكن ذلك العدو سوى رجل استدان منه البرعي مالاً ولم يستطع الوفاء به فهرب من بلاده ولم يقدر على الرجوع .
زمنٌ يعاندني ودين هدني كصفا المشقر أو ذرا كهلانِ
و علاجُ فقرٍ لا يفارقُ منزلي مالي بسطوتهِ عليَّ يدانِ
فأمدني بنداكَ وامسح بالغنى فقري و أرغمْ أنفَ منْ يشناني
أيا سيدي شهرٌ كريم وغربة ٌ و دينٌ أ قاسيه و لست ُبهِ جلدا
و غيبة ُأطفالٍ و بعدُ منازلٍ و إخوانِ ِ صدقٍ ذبتُ منْ أجلهمْ فقدا
فقضِّ لباناتي وأنجحْ مطالبي و ما شئت منْ برِّ فلا تألني جهدا
يا سيدي يا عفيفَ الدينٍ جئتكَ في حوائجٍ أغفلتْ والدهرُ يقظانُ
فرشْ جناحي ببذلِ المكرماتِ وصلْ حبلي فإني إلى نعماكَ غرثانُ
و اكسُ الأديبَ منَ البرِّ النفيسِ ولاَ يعد لبيدِ القوافي وهو عريانُ
ولست أدري هل نقرأ كلمة ( البر ) في البيت الثالث بكسر الباء أم بضمها. ومهما يكن من أمر فكلا الحالين صالح لفقير ذي همة عالية مثل البرعي يحاول الغنى فتزيده الأيام فقرا.
مولايَ جئتكَ والخطوبُ وجوهها سودٌ ولولا الفقرُ لمْ تكُ سودا
وقال مخاطباً الشيخ أحمد بن محمد الأهدل بعد أن سمع من زوجته تهديدا ووعيدا لم يكن في حسبانه:
هل منك يابن الأهيدل عطفة تغني بها فقري و تصلح شاني
و تقيلني من عثرتي و تريحني بالجود من همي ومن أحزاني
فو حق من تعنو الوجوه لوجهه ذي العزة الباقي وكل فاني
مالي إلى أحد سواك علاقة ترجى و لا سبب يقود عناني
و سمعتُ من ْأمِّ العيالِ توعداً و تهدداً ما كانَ في حسباني
رجبٌ و شعبانٌ قطعتُ مداهما صبراً وعزَّ الصبرُ في رمضانِ
فبحق حقك برني و أمدني بعوارف و عواطف و حسان
فلقد قصدتك مادحا لك لائذا بك مستجيرا من عناد زماني
ولقد يضيق به الحال وشدة الفقر حتى يشكو إخوانه وأصحابه الذين كان يحن إليهم ويتعلق بودهم .
و خانني من ْ أصيحابي و غيرهمُ منْ لمْ يكنْ قبلُ صفرِ الكفِّ خوانا
قالوا أتشكو منَ الإخوانِ قلتُ وما أفاد َكونُ بني يعقوبَ إخوانا
و كمْ رجال كثير كنت ُآملهمْ و لمْ يزلْ لابسَ الآمالِ عريانا
لكنه لما مدح شيخه الشيخ عمر العرابي لم يرج منه حطام الدنيا وإنما أراد الأجر والثواب في الآخرة :
فلمْ أسألكَ ديناراً وداراً و لا ثوباً سوى ثوبِ الثوابِ
لأدركَ منكَ فيِ الدنيا والأخرى نصيبي منْ دعاءٍ مستجابِ
ولما كان رحمه الله لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً وليس له من حطامها ما يتعلل به ولا ما يورثه لبنيه فقد كتب وصيته لله تعالى وجعله وكيلاً عنه في إرضاء الخصوم و قضاء الديون. ومن اتخذ الله وكيلا كفاه مؤنة كل شيء فهو نعم المولى ونعم النصير :
لي في نوالكَ يا مولايَ آمالُ منْ حيثُ لا ينفعُ الأهلونَ والمالُ
أوصي إليكَ لعلميِ أنَّ لطفكَ بيِ دونَ الورى لمْ يحلْ عني إذا حالوا
فأرضِ عني خصومي واقضِ يا أمليِ ديني فإن حقوقَ الخلقِ أثقال ُ
ولعمري فلقد استجاب الله دعاءه، فأصبح عبد الرحيم البرعي - ذلك الفقير الذي تنكر له أهل زمانه لفقره، وعانده زمانه فلم يبلغه مناه بزيارة حبيبه صلى الله عليه وسلم قد أصبح خالداً على كل لسان فما ذكر المادحون للنبي صلى الله عليه وسلم إلا وذكر البرعي، بل ولا جلس المحبون في مجالس الذكر إلا وترنموا بأبيات البرعي، وأصبح اسم البرعي يطلق على كل شاعر ترنم بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
رحمة الله على البرعي في الأولين والآخرين ، ورحمة الله عليه في المادحين والممدوحين وجمعنا به في حضرة سيد المرسلين.
يا ذا الكرامة يا رسول الله يا علم الهدى يا موسم المتوسم
يا منْ إذا ناديتهُ لملمة ٍ لبى فديتك من عطوف مكرمِ
قصدي ومقصودي رضاكَ ولمْ أزلْ ماليِ ومأموليِ إليكَ ومغنمي.
د . ناظم عبدالملك سعيد الدبعي
لم يبن الدين الإسلامي على شريعة فيها أوامر ونواه فحسب ولكنه بني على المحبة الكاملة لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم وأولياء الله الصالحين . وأضحى مقرراً في الدين ومعلوماً بالضرورة أن التعلق الدائم بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وحبه أكثر من المال والأولاد هو من كمال الإيمان.
{قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} .
وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه هذا المعنى عندما قال لهم (( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين )) فقال سيدنا عمر : يا رسول الله (( أنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي التي بين جنبي )) فقال سيد الخلق (( لم يكمل إيمانك يا عمر )) ثم نظر إليه الحبيب فرقاه من مرتبة الأنا إلى مرتبة الفناء فقال بلسان الصدق ((لأنت الآن يا رسول الله أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي التي بين جنبي )) فقال (( الآن يا عمر )) أي الآن كمل إيمانك .
هذا الارتباط تجلى في أصحابه رضي الله عنهم تجلياً عجيباً لم يسبق له مثيل، وهل سمع التاريخ برجل مثل أبي بكر الملقب بالعتيق والمؤيد من الله بالتوفيق الذي كان يشم منه رائحة الكبد المشوي عندما يفترق عن صاحبه صلى الله عليه وسلم . وهكذا كان الصحابة أجمعون فانين في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فناءً كاملاً حتى انتقل الحبيب إلى الرفيق الأعلى والأصحاب على محبتهم مقيمون. حبهم وتعلقهم بالنبي زاد لهم في السير والاتباع . ونقل الصحابة هذه المحبة إلى التابعين . فكان الصحابي إذا بث إلى التابعي وجده وشوقه هام على وجهه وتوله كالصحابي من شدة الوجد. وروى لنا التاريخ أن أحد التابعين سأل سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه: أأدركت رسول الله ؟ قال أنس نعم قال التابعي أوتركتموه يمشي على الأرض ، أما والله لو أدركناه لحملناه على أعناقنا.
وبسبب هذه المحبة اجتهد التابعون وتابعوهم في العبادة والزهد وأخرجت هذه المحبة وهذا التعلق رجلاً مثل أبي مسلم الخولاني الذي كان يقول: (أيظن أصحاب محمد أن يسبقونا، أما والله لننافسنهم على رسول الله حتى يعلموا أنه خلف بعده رجالاً).
ولما ضعفت هذه الأنفاس انغمس حكام المسلمين في الملذات والتفنن في اقتناء الجواري وازدادت الهجمات على الأمة من جميع الجهات فمن هجمات تترية وصليبية إلى هجمات فكرية وانحرافية، شعر المسلمون عندها أن عليهم العودة إلى تمتين الروابط مع صاحب الرسالة وحامي حقيقة الدين، فاندفعوا يمدحون النبي يشخصونه، يفنون فيه حتى أشعلوا النور الإيماني في القلوب. وعاد الإسلام حيَّا في قلوب المسلمين فاخترق الإسلام الذين جاءوا لاختراقه واستهلكوا في حنايا صدره الكبير فضمهم إليه مسلمين قانتين .
كان البوصيري ولا جرم شيخ المادحين للحبيب صلى الله عليه وسلم وانتقلت أنفاسه من بعده إلى صدور الأجيال اللاحقة حتى أخرجت سيد المحبين والمولهين عبد الرحيم البرعي الذي صب في قلبه حرارة العشق القديم للذات المحمدية. أذن له في الصدح والغناء بذلك العشق الأزلي فغنى وأطرب. وما زالت الأجيال من بعده طربة بمدحه وغنائه.
البرعي الصوفي :
عاش البرعي في نهايات القرن الثامن وبداية التاسع في منطقة غرب اليمن يقال لها (النيابتين) في مديرية برع وهي منطقة جبلية في الشمال الغربي من مدينة الشرق وفي الجنوب الشرقي من مدينة باجل. وكانت له طريقة صوفية قادرية وشيخه الشيخ عمر العرابي الذي ينتهي سند سلسلته إلى الشيخ عبد القادر الجيلاني. وكانت الطريقة القادرية تكاد تكون الوحيدة في اليمن آنذاك حتى دخلت الطريقة الشاذلية إلى اليمن عن طريق الشيخ علي بن عمر الشاذلي نزيل المخا في القرن الثامن الهجري بعدما أخذ الطريقة في مصر من شيخه ناصر الدين ابن بنت الميلق الخليفة الرابع للشيخ أبي الحسن الشاذلي.
وجلي من قراءة ديوان البرعي أنه كان صوفياً غارقاً في حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما كان محباً للأولياء والمشايخ من أهل زمانه معتقداً فيهم ومعظماً لجنابهم، ويرى أنهم امتداد للنور النبوي الوارثين عنه علوم الشريعة والحقيقة .
حصل البرعي على نصيب كبير من العلم ولعله قد درس في الأربطة الصوفية التي كانت متناثرة في تهامة وحراز وبرع في ذلك الزمان. ويندر أن تجد في ديوانه خطأ نحوياً ويشهد لذلك قوله :
كلام بلا نحو طعام بلا ملح ونحو بلا شعر ظلام بلا صبح
وهذا يدلك على علم وذوق. فإن الكلام بلا نحو يكون ممجوجاً ومستقبحا عند سماعه، كما يكون النحو جافاً ومظلماً إذا لم يكن له قالب شعري وأدبي يخفف من وطأة جفافه وظلمته.
على أن البرعي فوق شعره وعلمه كان شاعراً صوفياً مستهترا في المعنى، درويشا متبذلا في حياته، فقيراً صادق الفقر كثير الترحال والتطواف على أولياء عصره. قصر نبوغه على مدح الله والنبي والآل فكان بحق شاعر الذات المصطفوية.
موضوعات شعره:
لم يطرق البرعي موضوعات في الشعر كثيرة. ويمكن تقسيم شعره إلى :
القصائد الإلهية
القصائد النبوية
قصائد في مدح الأولياء والمشايخ .
قصائد في الوعظ
بيد أن معظم قصائده كانت في المديح النبوي. بلغت قصائده الإلهية اثنتي عشرة قصيدة فقط. لكنها على مقام في الحب كبير كما تشير إلى توحيد صريح مستند إلى علم صحيح ويخرج من نفس المشكاة التي يخرج منها توحيد القوم في قصائدهم .
تجلت لوحدانية الحق أنوار فدلت على أن الجحود هو العار
وهذا البيت شبيه بقول صفي الدين أحمد بن علوان اليفرسي اليماني:
وجود لا يلم به الجحود ووصل لا يكدره الصدود
ويقول البرعي :
وأين يحل الأين منه ولم يكن مع الله غير الله عين وآثار
أليس هذا تفسيرا لقوله صلى الله عليه وسلم :
(( كان الله ولا شيء معه )) فإذا كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان فمن أين يأتي الحلول أو الاتحاد إلا في عقول وأوهام الذي لا يعلمون.
يقول القشيري :
(( اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ))
وقد سار البرعي مع القوم على هذا النهج القويم علماً وسلوكاً وتحقيقاً.
أغلب قصائده الإلهية معظمها تصب في الثناء على الله وإظهار نعمه والدعاء والتضرع والعزوف عن الدنيا وأهلها. لكن لب ديوانه هو في مدح المصطفى صلى الله عليه وسلم. ولا تكاد توجد حلقة ذكر أو مديح في أغلب بلدان العالم الإسلامي إلا وللبرعي وقصائده حضور لا ينكر. ومن شدة ما كتب الله له من المحبة في قلوب الخلق أن أهل كل بلاد ينسبون البرعي إليهم. وكأنه فوق الزمان والمكان. ونسجت حوله الحكايات حتى شط بعضهم فزعموا أنه مقبور بين مكة والمدينة في مكان يقال له (خيف البرعي)، وأن قبره يزحف كل يوم مقدار خطوة إلى المدينة حتى إذا وصل القبر إلى المدينة قامت الساعة . ولا يخفى ما في هذه الحكاية من خيال مفرط إلا أن الحق الذي نسكن إليه هو أنه مدفون في قرية النيابتين من مديرية برع التي عاش فيها طيلة حياته و دفن فيها وقبره موجود هناك يزار وله مولد سنوي يقيمه أهل النيابتين و يحضره كثير من أهل اليمن في أول جمعة من شهر رجب المعظم و لا سيما بعد أن رصفت الطريق الجبلية المؤدية إلى قرية النيابتين في جبل برع إلى الجنوب الشرقي من مدينة باجل اليمنية.
قد يتساءل المرء عن سبب هذه الكثرة من المدائح النبوية في ديوان البرعي. والجواب أن السبب الذي حرك في قلب البرعي شوقاً جارفاً لم ينطفئ أبداً حتى لقي وجه ربه هو شعوره بذنب لا يكاد يغتفر في مذهب المحبين. ذنب لم يكن له فيه ناقة ولا جمل. كان البرعي فقيراً ذا متربة. ولم تتوفر له الاستطاعة لأداء فريضة الحج إلا مرة واحدة على قلة من المال وشظف من العيش كما يظهر جلياً في قصائده. ولما وصل إلى مكة - حرسها الله - لم يتبق له من المال ما يكفي لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم فقفل راجعاً إلى اليمن. وما كاد يحط الرحال حتى استشعر أنه بفعلته تلك قد جفا النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم يزره. فلم يغفر لنفسه واندفع يمدح ويتذلل ويبكي ويئن علّ الأيام تسعفه بزورة إلى الحبيب لكن الله لم يقدر له ذلك.
وكان قبل حجته تلك يمدح النبي ويحن شوقاً إلى زيارته.
كم يأمل الروضة الغراء في كرم يرجو الزيارة والأقدار تحرمه
طيف الخيال من النيابتين سرى إلى الحجاز فوافى مضجعي سحرا
وما أن كتب الله له الحج حتى قدر عليه ألا يطفئ نار شوقه بزيارة الحبيب فعاد إلى بلاده ليملأ الدنيا ويشغل الناس :
حجوا وراحوا يزورون ابن آمنة وعدت في الفرقة الجافين منتظرا
عسى لطائف ربي أن تبلغنــــــي قبراً تقر بعيني رائه نظـــــــــــرا
و يستعطف الحبيب ويرجوه ألا يعاتبه :
يا سيدي أنا من علمت أذابني حمل الذنوب وجور دهر نابي
لو لم يكن لي إذ حججت ولم أزر إلا عتابك وحده لكفـــــــى بي
استمع إليه وهو يقسم بالله فالق الحب والنوى أنه لم يقصد الجفاء :
فما كان عودي إذ حججت ولم أفد عليك جفاء لا ومن فلق الحبا
ولكن تصاريف الزمان كثيرة وأنت إذا استعتبت أجدر بالعتبى
ويقر بذنبه و يعترف بالجناية :
يا أكرم الكرماء يا أعلى الورى شرفاً وآمن ذروة و جنابا
أنا عبدك الجاني حججت ولم أزر ولئن عتبت فما أطيق عتاباً
ولئن صفحت فشيمة نبوية شملت على عبد أساء فتابا
ثم يعتصر قلبه ألما فيطلب العفو عن الجرم :
فاعطف على عبد الرحيم برحمة فلقد طغى وبغى وجار وأجرما
وجفاك إذ زار الرفاق ولم يزر لا يستطيع يرد أمرا مبرمــــــا
ثم يرى أن طوفان الذنوب هو الذي منعه من إدراك الزيارة :
أحاط بنا طوفان زلاتنا وما لنا فيه إلا فلك صفحك مركبا
إذا ما هممنا بالزيارة عاقنا بعادك عنا لا الجفا والتجنبا
و يطمع أن يفتقده النبي الكريم فيمن عليه بزيارة :
فانهض بقائلها و صاحبه فقد جفياك إذ صدرا عن الوراد
وأمرهما يعدا إليك ليحضيا يا سيدي بكرامة الوفـــــــاد
ويلح في الطلب بعد أن تقدم به العمر :
فعجل بافتقادك لي فإني ضعفت جوارحا و كبرت سنا
حججت و لم أزرك فليت شعري متى بمزارك الجافي يهنـــــــــــــا
فلما تقدم به العمر واستيأس من الزيارة أقسم غير حانث :
فومن أحن إلى زيارة سوحه لأكفرن خطيئتي بمديحه
ولم يرو لنا البرعي في أي من قصائده أن شوقه هذا انطفأ ببلوغه المراد وهو الزيارة. وأغلب الظن أن الله قد اختاره إلى جنابه قبل أن يتحقق له ذلك. وقد دفن في بلاده برع وله مقام مشهور هناك يزار .
تتبع قصائد البرعي الطريقة الكلاسيكية من بدء القصيدة بالبكاء على الأطلال ووصف الخيام والراحلين ثم يخلص من ذلك إلى مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
ضربوا الخيامَ على الكثيبِ الأحمر ما بينَ روضة ِ حاجرٍ ومحجرِ
و تفيؤا في الأرض ظلا وارتووا من مائه المتسجم المتفجر
للهِ درُّ العيسِ وهيَ رواسمٌ بمروحٍ ومصبحٍ و مهجرِ
يخرقنَ منْ حجبِ السرابِ سرادقاً ما بينَ طيبة َ والمقامِ الأكبرِ
و يلجنَ في لججِ الظلامِ ضوامراً شوقاً إلى المزملِ المدثرِ
وبعد تدبيج المدح وذكر الشمائل والخصائص النبوية ينعى حظه وزمانه الذي خلفه عن الركب. ثم يستغيث بالنبي صلى الله عليه وسلم ويطلب منه الشفاعة والوسيلة:
يا بهجة َ الدنيا وعصمة َ أهلها منْ كلِّ خطبٍ عابسٍ متنكرِ
كنْ منْ أذى الدارينِ نصري واحمني و لنيلِ ما أرجوهُ موسمَ متجر
عاندت الأيام البرعي - رحمه الله - فلم يستطع الزيارة التي حن إليها ، فما كان منه إلى أن شد الرحيل لزيارة أولياء اليمن في زمانه. زار منهم الأحياء والأموات، فزار مقام الشيخين الحكمي والبجلي ومدحهما بقصائد رائعة - وكانا من كبار مشايخ اليمن وأوليائها - وزار النهاري و الأهدل وغيرهما. واسمع إليه وهو يؤكد النسبة المباركة بين هؤلاء الشيوخ وبين الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأنه بزيارته لهم فكأنه قد زار النبي صلى الله عليه وسلم لما روي من أن العلماء ورثة الأنبياء .
السيدينِ الكريمينِ اللذينِ هما في الصالحينَ كخيرِ الخلقِ في الرسلِ
طودي ْ علاً وإمامي ْ أمة ٍ وسطٍ منْ سادة ٍ ذكرهمْ في الوحي حيثُ تلي
مخصصينَ ببشرى رحمتي وسعتْ مخاطبينَ بكنتمْ خيرَ في الأزلِ
وفي مدحه للشيخين في “عواجة” لا ينسى أن يقارن بين طينتها و طينة طيبة الطيبة:
و متى أعوجُ إلى عواجة نازلاً بالربعِ منْ ذاكَ الجنابِ مسلما
و أهلُّ بالإحرامِ زائرَ سادة ٍ منْ زارَ تربتهم ْأهلَّ وأحرما
هيَ روضة ٌ مزجتْ بطينة ِ طيبة ٍ وسمتْ فنافستٍ الحطيمَ وزمزما
ولا ينسى البرعي أن يذكر دار السلام (المدينة) عندما يذهب لزيارة مقام السيد النهاري في “ريمة”:
نلمُّ بقبرِ سيدنا النهاري فتبيضُ المطالبُ وهيَ سودُ
جنابُ جلالة ٍ وربيعُ برٍّ ربتْ في ريفِ رأفتهُ الوفودُ
فمنْ دارِ السلامِ لهُ نسيمٌ و منْ نورِ الجلالِ لهُ عمودُ
وفي “المراوعة” حيث يحل الشيخ الكبير على الأهدل يقارن البرعي بين هذا المقام وطيبة الطيبة وما له في المقارنة من إرب إلا ليعلل نفسه أنه إن لم يستطع زيارة الأصل فقد زار الفرع :
و اعلمٍ بأنكَ جارُ الأهدلي ِّوفي ذمامِ محترمٍ يحمى بهِ الجارُ
فانزلْ بتربتهِ إما نزلت َوسلٍ أهذهِ طيبة ٌ و الخلق ُزوارُ
أمْ مشهد ُالكعبة ِالبيت ِالحرامِ وفي أكنافها الوفدُ حجاج وعمارُ
وكان لهذه الزيارات سببان :
السبب الأول:
التماس البركات وإطفاء نار الشوق بلقاء الأولياء المتعلقين بالنبي صلى الله عليه وسلم والوارثين عنه. وكان البرعي يجد في ذلك تسلية لنفسه وتعليلاً لها حيث لم يستطع زيارة المدينة. وهذا النفس واضحاً في قصائده إذ إنه ما مدح أحدهم إلا أشار أنه بزيارته قد زار المدينة وخيم بأكنافها.
السبب الثاني :
كان البرعي فقيراً ذا متربة لا يملك من حطام الدنيا قليلا ولا كثيرا ، فكان هؤلاء المشايخ يعطفون عليه ويواسونه فيعود إلى أهله بأرزاقهم . ولم يكن يخفي ذلك في قصائده.
تواعدني العدوُّ بغيرِ جرمٍ أتعجزُ أن ْيحلَّ بهِ الوعيدُ
أما ترثي لأطفالٍ صغارٍ أبوهمْ منْ محلتهمْ طريدُ
يمرُّ العيدُ بالصبيانِ لهواً و ليسَ لهمْ معَ الصبيانِ عيدُ
وربما لم يكن ذلك العدو سوى رجل استدان منه البرعي مالاً ولم يستطع الوفاء به فهرب من بلاده ولم يقدر على الرجوع .
زمنٌ يعاندني ودين هدني كصفا المشقر أو ذرا كهلانِ
و علاجُ فقرٍ لا يفارقُ منزلي مالي بسطوتهِ عليَّ يدانِ
فأمدني بنداكَ وامسح بالغنى فقري و أرغمْ أنفَ منْ يشناني
أيا سيدي شهرٌ كريم وغربة ٌ و دينٌ أ قاسيه و لست ُبهِ جلدا
و غيبة ُأطفالٍ و بعدُ منازلٍ و إخوانِ ِ صدقٍ ذبتُ منْ أجلهمْ فقدا
فقضِّ لباناتي وأنجحْ مطالبي و ما شئت منْ برِّ فلا تألني جهدا
يا سيدي يا عفيفَ الدينٍ جئتكَ في حوائجٍ أغفلتْ والدهرُ يقظانُ
فرشْ جناحي ببذلِ المكرماتِ وصلْ حبلي فإني إلى نعماكَ غرثانُ
و اكسُ الأديبَ منَ البرِّ النفيسِ ولاَ يعد لبيدِ القوافي وهو عريانُ
ولست أدري هل نقرأ كلمة ( البر ) في البيت الثالث بكسر الباء أم بضمها. ومهما يكن من أمر فكلا الحالين صالح لفقير ذي همة عالية مثل البرعي يحاول الغنى فتزيده الأيام فقرا.
مولايَ جئتكَ والخطوبُ وجوهها سودٌ ولولا الفقرُ لمْ تكُ سودا
وقال مخاطباً الشيخ أحمد بن محمد الأهدل بعد أن سمع من زوجته تهديدا ووعيدا لم يكن في حسبانه:
هل منك يابن الأهيدل عطفة تغني بها فقري و تصلح شاني
و تقيلني من عثرتي و تريحني بالجود من همي ومن أحزاني
فو حق من تعنو الوجوه لوجهه ذي العزة الباقي وكل فاني
مالي إلى أحد سواك علاقة ترجى و لا سبب يقود عناني
و سمعتُ من ْأمِّ العيالِ توعداً و تهدداً ما كانَ في حسباني
رجبٌ و شعبانٌ قطعتُ مداهما صبراً وعزَّ الصبرُ في رمضانِ
فبحق حقك برني و أمدني بعوارف و عواطف و حسان
فلقد قصدتك مادحا لك لائذا بك مستجيرا من عناد زماني
ولقد يضيق به الحال وشدة الفقر حتى يشكو إخوانه وأصحابه الذين كان يحن إليهم ويتعلق بودهم .
و خانني من ْ أصيحابي و غيرهمُ منْ لمْ يكنْ قبلُ صفرِ الكفِّ خوانا
قالوا أتشكو منَ الإخوانِ قلتُ وما أفاد َكونُ بني يعقوبَ إخوانا
و كمْ رجال كثير كنت ُآملهمْ و لمْ يزلْ لابسَ الآمالِ عريانا
لكنه لما مدح شيخه الشيخ عمر العرابي لم يرج منه حطام الدنيا وإنما أراد الأجر والثواب في الآخرة :
فلمْ أسألكَ ديناراً وداراً و لا ثوباً سوى ثوبِ الثوابِ
لأدركَ منكَ فيِ الدنيا والأخرى نصيبي منْ دعاءٍ مستجابِ
ولما كان رحمه الله لا يملك من الدنيا قليلاً ولا كثيراً وليس له من حطامها ما يتعلل به ولا ما يورثه لبنيه فقد كتب وصيته لله تعالى وجعله وكيلاً عنه في إرضاء الخصوم و قضاء الديون. ومن اتخذ الله وكيلا كفاه مؤنة كل شيء فهو نعم المولى ونعم النصير :
لي في نوالكَ يا مولايَ آمالُ منْ حيثُ لا ينفعُ الأهلونَ والمالُ
أوصي إليكَ لعلميِ أنَّ لطفكَ بيِ دونَ الورى لمْ يحلْ عني إذا حالوا
فأرضِ عني خصومي واقضِ يا أمليِ ديني فإن حقوقَ الخلقِ أثقال ُ
ولعمري فلقد استجاب الله دعاءه، فأصبح عبد الرحيم البرعي - ذلك الفقير الذي تنكر له أهل زمانه لفقره، وعانده زمانه فلم يبلغه مناه بزيارة حبيبه صلى الله عليه وسلم قد أصبح خالداً على كل لسان فما ذكر المادحون للنبي صلى الله عليه وسلم إلا وذكر البرعي، بل ولا جلس المحبون في مجالس الذكر إلا وترنموا بأبيات البرعي، وأصبح اسم البرعي يطلق على كل شاعر ترنم بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
رحمة الله على البرعي في الأولين والآخرين ، ورحمة الله عليه في المادحين والممدوحين وجمعنا به في حضرة سيد المرسلين.
يا ذا الكرامة يا رسول الله يا علم الهدى يا موسم المتوسم
يا منْ إذا ناديتهُ لملمة ٍ لبى فديتك من عطوف مكرمِ
قصدي ومقصودي رضاكَ ولمْ أزلْ ماليِ ومأموليِ إليكَ ومغنمي.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin