التصوف تربية على المحبة
وزارم الأزقاف والشؤون الاسلامية
يعتبر التصوف كما أرسى قواعده السلوكية شيوخ المغرب من أهم المميزات للخصوصيات المغربية في المجال الديني؛ وذلك لِمَا تراكم أيضا في هذا المجال من رصيد تربوي، أسهم - عبر التاريخ - بصورة فعالة جدا، في تشكيل الوجدان الديني المغربي، والسلوك الاجتماعي الوطني؛ بما لا يمكن محوه أو تغييره. وهذه حقيقة تاريخية راسخة!
وعدم اعتبار هذه الخصوصية من لدن الوعاظ والمرشدين؛ من شأنه أن يؤدي بخطابهم الإصلاحي إلى عكس مقاصده التربوية تماما!
وقد كان للتصوف كما تمثله شيوخ المغاربة - ولا يزال - الأثرُ البالغ في تمتين الروابط الروحية، بين جميع المكونات الثقافية والاجتماعية والقَبَلِيَّةِ للمجتمع المغربي، تحت لواء واحد، هو: لواء المحبة! إذِ المحبة هي غاية التربية الروحية، والسلوك الصوفي، وذلك بالسير بالمريد عبر "مقامات" التربية، و"أحوال" التزكية؛ حتى يصل إلى تحقيق خُلَّةِ "المحبة" في نفسه؛ خُلُقاً تعبديا أصيلا صادقا، يمتد في سلوكه وطبيعته إلى سائر المجالات بعد؛ بما فيها المجال الاجتماعي، والسياسي، والثقافي...إلخ، بما هي علاقات، وتصورات، ومشاعر أيضا! لأن المحبة لا تَلْزَمُ في الوجدان الروحي حدا معينا، بل تفيض مواجيدها في السلوك العام للإنسان. وهذا سر القوة في التربية الصوفية، مما لا تجده في غيرها.
ومن هنا كان السلوك بالناس في الخطاب الديني - تربيةً ووعظاً - بالتدرج بهم بين "المقامات" و"الأحوال" أمرا أساسيا جدا، في سياق تحقيق النظرية الاندماجية، وترسيخ الخصوصية المغربية، في تنظيم الشأن الديني، وحسن تدبيره. وبيان ذلك هو كما يلي:
فالمقامات هي ما يكتسبه العبد من منازل إيمانية؛ بمجاهداته الروحية في طريق العبادة والزهد. فإذا حصل العبد على مقامٍ ما كان له ذلك المقامُ خُلُقاً ثابتا، وصفةً راسخةً، يبني عليها ما بعدها؛ إلى أن يبلغ خلة الكمال.
ومن هنا قال أبو نصر السراج الطوسي رحمه الله: (فإن قيل: ما معنى المقامات؟ يقال: معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل، فيما يقام فيه من العبادات، والمجاهدات، والرياضات، والانقطاع إلى الله عز وجل (...) [قال:] وقد سئل أبو بكر الواسطي رحمه الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة"([1]) قال: "مجندة" على قَدْرِ المقامات. والمقامات: مثل التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والرضا، والتوكل، وغير ذلك. (...) وأما معنى الأحوال: فهو ما يحل بالقلوب، أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار. وقد حُكِيَ عن الجنيد رحمه الله أنه قال: "الحال نازلة تنـزل بالقلوب فلا تدوم".)([2])
وللإمام أبي الحسن الهجويري عبارة لطيفة في تعريف هذين المصطلحين بصورة أدق وأوضح. قال رحمه الله في سياق حديثه عن المريد: (الحال: معنى يرد من الحق على القلب، دون أن يستطيع العبد دفعه عن نفسه بالكسب حين يرد، أو جذبه بالتكلف حين يذهب. فالمقام: عبارة عن طريق الطالب وموضعه في محل الاجتهاد، وتكون درجته بمقدار اكتسابه في حضرة الحق تعالى. والحال: عبارة عن فضل الله تعالى ولطفه إلى قلب العبد، دون أن يكون لمجاهدته تعلق به؛ لأن المقام من جملة الأعمال، والحال من جملة الأفضال! والمقام من جملة المكاسب، والحال من جملة المواهب)([3])
ولذا كانت المنازل أو المقامات مراتب، إذا حصل عليها العبد وجب أن يحافظ عليها ؛ لأنها مستوى معين من التدين، والفهم للدين، والقرب من الله، لا يجمل به أن يتراجع عنه. فهو ثابت. وإذن ؛ فالمقام نتيجة العمل، والحال ذوق المقام ؛ فآل الجميع إلى العمل! وما أحسن قول أبي بكر الكلاباذي رحمه الله: (الأحوال مواريث الأعمال، ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال!)([4])
ولا يزال العبد يسلك هذا الطريق متخلقا، بين تهذيب وتشذيب؛ حتى تصفو روحه تماما لله، محققة الرضى الكامل بالله، بما تخلق من كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، سلوكا أبديا إلى الله؛ فينال نعمة المحبة صفةً ومقاما باقيا، وذلك هو نجاح التربية الصوفية في تربية الخلق؛ لأن مجتمعا يكون السواد الأعظم من أفراده على هذه الشاكلة، لن يصدر منه ما يمزق وحدته، ولا ما يضعف تماسكه، ولا ما يُبْلِي نسيجه الاجتماعي.
والسبب في ذلك أن التربية الصوفية تفتح باب الأمل دائما للناس؛ بما تسلك بهم من منازل على سبيل التدرج. والناس في الدخول إلى أول عتبات التربية جميعا مقبولون! وهذا معنى عظيم جدا ؛ فلا إقصاء لأحد! إذ التصوف يعتمد منـزلة التوبة بابَ أملٍ للعباد، مفتوحا أمام القلوب في كل وقت وحين. وهنا يكمن نجاح الفكر الصوفي السني في الاستيعاب الشامل للمجتمع، والإدماج الكلي للناس في حضنه الدافئ.
فالتوبة عند القوم: هي أول باب يلجه السالك في مسرى المحبة.
والتوبة بهذا المعنى توبتان:
توبة العبد الآبق الشارد عن باب الله، وتوبة العبد السالك إلى الله. قال أبو بكر الكلاباذي: (سئل الحسين المغازلي عن التوبة، فقال: تسألني عن توبة الإنابة أو توبة الاستجابة ؟ فقال السائل: ما توبة الإنابة ؟ قال: أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك. قال: فما توبة الاستجابة ؟ قال: أن تستحيي من الله لقربه منك!)([5])
فأما الأولى فلا تكون إلا بعد مقام اليقظة، يقظة الإنسان من غفلته، واكتشافه أنه غارق في مستنقع الشهوات والمعاصي؛ فيشتاق إلى لحظة سعيدة مع الطاهرين، بعدما ضاقت أنفاسه بالروائح النتنة، المنبعثة من جيفة العلق المسنون! فيقرر بدء المصالحة مع الله ؛ وذلك أول الدخول إلى مقام (الإرادة)، مع قافلة الصالحين، هاربا من رفقته السابقة مع الأشرار الغفلة: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدَوة والعشي يريدون وجهه ولاتعد عيناك عنهم تريد زينة الحيَوة الدنيا ولاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا" الكهف الآية 28.
سواء كان ذلك توبة من كفر صريح، أو من معصية دائمة. فهي في جميع هذه الأحوال خروج من فوضى الشرود ودخول إلى نظام المدار، حيث يستقيم العبد في السير إلى ربه. وتلك هي التوبـة النصـوح:"يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا"(التحريـم: .
أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قُلْ آمنت بالله ثم استقم!)([6]).
والثانية توبة العبد المستقيم السالك إلى الله، إذ يصيبه الشيطان في طريقه ببعض الرشقات والنخسات ؛ فيصيبه القبض بعد البسط؛ وينتبه إلى ما به من أذى؛ فيجأر فارا إلى الله. وهي المشار إليها في قول الله تعالى يصف عباده السالكين: "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر و الحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين" التوبة الآية 112.
إنها صورة ذات إشعاع بهي، ترى فيها قافلة المحبين تقطع المسافات إلى الله توبةً، وعبادة، وحمدا، وسياحة، وركوعا، وسجودا.. آية تعبر بتصويرها الجميل هذا عن حركة السير! ألا ترى أن الركوع والسجود إنما هما فعل واحد هو: الصلاة ؟ لكن الله تعالى ذكر كلا منهما على حدة؛ لترى العبد في حركة دائمة بين ركوع وسجود! فيوحي لك ذلك بالاستمرار والتجدد في الأفعال المستفادة مما سبق من عبـارات: (التائبون العابدون الحامدون السائحون) رغم أن التعبير باسم الفاعل (الفاعلون) دال بذاته على ذلك؛ ولكن تتأكد الصورة المتحركة السائرة باستمرار إلى درجة التشخص الحي ! تماما كما في قوله تعالى:"تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود"(الفتح:29) ]تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا[ أي لا يفترون، يحدوهم الشوق، في حركة سائرة أبدا إلى الله ؛ إلى أن يلقوه على المحبة والرضى!
فهم هنا إذن المؤمنون (التائبون) باستمرار.. المجددون لتوبتهم بلا انقطاع. قال عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها..!)([7])
وابن آدم لا بد أن يذنب؛ فمن هنا كان هو ابن آدم، قال تعالى:"وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" طه 121-122
وقال سبحانه: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم "البقرة 37
ثم تلك هي إرادة الله الجميلة في خلقه، وكرمهالفياض من أنوار أسمائه الحسنى. جاء في الحديث النبوي: "ولو لم تذنبوا لجاءالله بقوم يذنبون كي يغفر لهم"![8]
والتوبة بجميع معانيها من أبهى منازل العبادة في الإسلام.. إنها خضرة الأمل الممتدة في أفق السير إلى الله، المتصلة بمنازل الرجاء، والمحبة، والشوق، والأنس بالله.. ظلال من النور البهي تظلل العبد أبدا وهو يتنقل من منزل إلى منزل، ويسبح من فلك إلى فلك؛ وهو يمضي صعدا في اتجاه السماء، عبر مدارج المحبين!
مقام التوبة إذن يتيح لك أن تعرف الله! ومعرفة الله قربى، واقتراب.. ومن اقترب من الجمال أحبه! والحب غايته الوصال، ومن وصله الحبيب كان حاله أنسا وسرورا! فأنى له إذن أن يقنط أو ييأس؟ هنا في ظلال الله لا قنوط ولا يأس.. وإنما أبواب السماء تنهمر بواردات من النور، ذات رواء علوي، يملأ الوجدان بأنداء المحبة.. قال عز وجل لعباده الغارقين في أوحال الذنوب: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو التواب الرحيم" (الزمر: 53).
إنها لتعجز الكلمات والعبارات البشرية عن وصف ما ينفتح عنه هذا الباب السماوي الفسيح، من خيرات ورحمات! (إن الله يغفر الذنوب جميعا!)..
الكل إذن مقبول عند الله، مأذون له في الدخول إلى حضرته تعالى، موعود بموعد للوصال.. موعد غير بعيد ولا عسير، لا تحجبه الوسائط، ولا تثقله البروتوكولات! " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما"(النساء:110)
وإنما أنت.. أنت أيها العبد المحب عليك أن تسأل.. أن تسأل فقط!
"ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده وياخذ الصدقات و أن الله هو التواب الرحيم" التوبة 104
ذلكم الله الذي يعطي قبل أن يُسْأَلَ، فكيف إذا سئل؟
وعليه، فالتصوف بما يملك من طاقة تربوية هائلة، في تخليق القلوب بالمحبة؛ كفيل بترقية الخطاب الديني لدى الوعاظ والمرشدين عموما إلى مستوى الدلالة على الله! ومن كان كذلك كان أثره فعالا على الحقيقة في ترشيد السلوك الديني العام؛ بما يؤمنه روحيا، ويدمجه اجتماعيا، ويمتنه وطنيا.
ولكي يتيسر على الخطيب والواعظ استثمار التراث الصوفي في ترسيخ القيم السامية في نفوس الناس، فعليه أن يتحدث انطلاقا مما قدمه المنتسبون إلى التصوف في خدمة الناس في الجوانب الدينية والتعليمية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
[1]- أخرجه البخاري 3158 ومسلم 2638.
[2]- اللمع 65-66.
[3]- كشف المحجوب: 409.
[4]- التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي: 97.
[5]- التعرف لمذهب أهل التصوف: 108-19.
[6]- أخرجه أحمد 3/413 ومسلم 38 وابن حبان 3/221 والبيهقي 6/458.
[7]- أخرجه أحمد 5/153 والدارمي 2/415 والترمذي 1987.
[8]- أخرجه أحمد 2/304 وابن حبان 16/396.
وزارم الأزقاف والشؤون الاسلامية
يعتبر التصوف كما أرسى قواعده السلوكية شيوخ المغرب من أهم المميزات للخصوصيات المغربية في المجال الديني؛ وذلك لِمَا تراكم أيضا في هذا المجال من رصيد تربوي، أسهم - عبر التاريخ - بصورة فعالة جدا، في تشكيل الوجدان الديني المغربي، والسلوك الاجتماعي الوطني؛ بما لا يمكن محوه أو تغييره. وهذه حقيقة تاريخية راسخة!
وعدم اعتبار هذه الخصوصية من لدن الوعاظ والمرشدين؛ من شأنه أن يؤدي بخطابهم الإصلاحي إلى عكس مقاصده التربوية تماما!
وقد كان للتصوف كما تمثله شيوخ المغاربة - ولا يزال - الأثرُ البالغ في تمتين الروابط الروحية، بين جميع المكونات الثقافية والاجتماعية والقَبَلِيَّةِ للمجتمع المغربي، تحت لواء واحد، هو: لواء المحبة! إذِ المحبة هي غاية التربية الروحية، والسلوك الصوفي، وذلك بالسير بالمريد عبر "مقامات" التربية، و"أحوال" التزكية؛ حتى يصل إلى تحقيق خُلَّةِ "المحبة" في نفسه؛ خُلُقاً تعبديا أصيلا صادقا، يمتد في سلوكه وطبيعته إلى سائر المجالات بعد؛ بما فيها المجال الاجتماعي، والسياسي، والثقافي...إلخ، بما هي علاقات، وتصورات، ومشاعر أيضا! لأن المحبة لا تَلْزَمُ في الوجدان الروحي حدا معينا، بل تفيض مواجيدها في السلوك العام للإنسان. وهذا سر القوة في التربية الصوفية، مما لا تجده في غيرها.
ومن هنا كان السلوك بالناس في الخطاب الديني - تربيةً ووعظاً - بالتدرج بهم بين "المقامات" و"الأحوال" أمرا أساسيا جدا، في سياق تحقيق النظرية الاندماجية، وترسيخ الخصوصية المغربية، في تنظيم الشأن الديني، وحسن تدبيره. وبيان ذلك هو كما يلي:
فالمقامات هي ما يكتسبه العبد من منازل إيمانية؛ بمجاهداته الروحية في طريق العبادة والزهد. فإذا حصل العبد على مقامٍ ما كان له ذلك المقامُ خُلُقاً ثابتا، وصفةً راسخةً، يبني عليها ما بعدها؛ إلى أن يبلغ خلة الكمال.
ومن هنا قال أبو نصر السراج الطوسي رحمه الله: (فإن قيل: ما معنى المقامات؟ يقال: معناه مقام العبد بين يدي الله عز وجل، فيما يقام فيه من العبادات، والمجاهدات، والرياضات، والانقطاع إلى الله عز وجل (...) [قال:] وقد سئل أبو بكر الواسطي رحمه الله عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأرواح جنود مجندة"([1]) قال: "مجندة" على قَدْرِ المقامات. والمقامات: مثل التوبة، والورع، والزهد، والفقر، والصبر، والرضا، والتوكل، وغير ذلك. (...) وأما معنى الأحوال: فهو ما يحل بالقلوب، أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار. وقد حُكِيَ عن الجنيد رحمه الله أنه قال: "الحال نازلة تنـزل بالقلوب فلا تدوم".)([2])
وللإمام أبي الحسن الهجويري عبارة لطيفة في تعريف هذين المصطلحين بصورة أدق وأوضح. قال رحمه الله في سياق حديثه عن المريد: (الحال: معنى يرد من الحق على القلب، دون أن يستطيع العبد دفعه عن نفسه بالكسب حين يرد، أو جذبه بالتكلف حين يذهب. فالمقام: عبارة عن طريق الطالب وموضعه في محل الاجتهاد، وتكون درجته بمقدار اكتسابه في حضرة الحق تعالى. والحال: عبارة عن فضل الله تعالى ولطفه إلى قلب العبد، دون أن يكون لمجاهدته تعلق به؛ لأن المقام من جملة الأعمال، والحال من جملة الأفضال! والمقام من جملة المكاسب، والحال من جملة المواهب)([3])
ولذا كانت المنازل أو المقامات مراتب، إذا حصل عليها العبد وجب أن يحافظ عليها ؛ لأنها مستوى معين من التدين، والفهم للدين، والقرب من الله، لا يجمل به أن يتراجع عنه. فهو ثابت. وإذن ؛ فالمقام نتيجة العمل، والحال ذوق المقام ؛ فآل الجميع إلى العمل! وما أحسن قول أبي بكر الكلاباذي رحمه الله: (الأحوال مواريث الأعمال، ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال!)([4])
ولا يزال العبد يسلك هذا الطريق متخلقا، بين تهذيب وتشذيب؛ حتى تصفو روحه تماما لله، محققة الرضى الكامل بالله، بما تخلق من كلمة الإخلاص: (لا إله إلا الله)، سلوكا أبديا إلى الله؛ فينال نعمة المحبة صفةً ومقاما باقيا، وذلك هو نجاح التربية الصوفية في تربية الخلق؛ لأن مجتمعا يكون السواد الأعظم من أفراده على هذه الشاكلة، لن يصدر منه ما يمزق وحدته، ولا ما يضعف تماسكه، ولا ما يُبْلِي نسيجه الاجتماعي.
والسبب في ذلك أن التربية الصوفية تفتح باب الأمل دائما للناس؛ بما تسلك بهم من منازل على سبيل التدرج. والناس في الدخول إلى أول عتبات التربية جميعا مقبولون! وهذا معنى عظيم جدا ؛ فلا إقصاء لأحد! إذ التصوف يعتمد منـزلة التوبة بابَ أملٍ للعباد، مفتوحا أمام القلوب في كل وقت وحين. وهنا يكمن نجاح الفكر الصوفي السني في الاستيعاب الشامل للمجتمع، والإدماج الكلي للناس في حضنه الدافئ.
فالتوبة عند القوم: هي أول باب يلجه السالك في مسرى المحبة.
والتوبة بهذا المعنى توبتان:
توبة العبد الآبق الشارد عن باب الله، وتوبة العبد السالك إلى الله. قال أبو بكر الكلاباذي: (سئل الحسين المغازلي عن التوبة، فقال: تسألني عن توبة الإنابة أو توبة الاستجابة ؟ فقال السائل: ما توبة الإنابة ؟ قال: أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك. قال: فما توبة الاستجابة ؟ قال: أن تستحيي من الله لقربه منك!)([5])
فأما الأولى فلا تكون إلا بعد مقام اليقظة، يقظة الإنسان من غفلته، واكتشافه أنه غارق في مستنقع الشهوات والمعاصي؛ فيشتاق إلى لحظة سعيدة مع الطاهرين، بعدما ضاقت أنفاسه بالروائح النتنة، المنبعثة من جيفة العلق المسنون! فيقرر بدء المصالحة مع الله ؛ وذلك أول الدخول إلى مقام (الإرادة)، مع قافلة الصالحين، هاربا من رفقته السابقة مع الأشرار الغفلة: "واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغدَوة والعشي يريدون وجهه ولاتعد عيناك عنهم تريد زينة الحيَوة الدنيا ولاتطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا" الكهف الآية 28.
سواء كان ذلك توبة من كفر صريح، أو من معصية دائمة. فهي في جميع هذه الأحوال خروج من فوضى الشرود ودخول إلى نظام المدار، حيث يستقيم العبد في السير إلى ربه. وتلك هي التوبـة النصـوح:"يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا"(التحريـم: .
أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قُلْ آمنت بالله ثم استقم!)([6]).
والثانية توبة العبد المستقيم السالك إلى الله، إذ يصيبه الشيطان في طريقه ببعض الرشقات والنخسات ؛ فيصيبه القبض بعد البسط؛ وينتبه إلى ما به من أذى؛ فيجأر فارا إلى الله. وهي المشار إليها في قول الله تعالى يصف عباده السالكين: "التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر و الحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين" التوبة الآية 112.
إنها صورة ذات إشعاع بهي، ترى فيها قافلة المحبين تقطع المسافات إلى الله توبةً، وعبادة، وحمدا، وسياحة، وركوعا، وسجودا.. آية تعبر بتصويرها الجميل هذا عن حركة السير! ألا ترى أن الركوع والسجود إنما هما فعل واحد هو: الصلاة ؟ لكن الله تعالى ذكر كلا منهما على حدة؛ لترى العبد في حركة دائمة بين ركوع وسجود! فيوحي لك ذلك بالاستمرار والتجدد في الأفعال المستفادة مما سبق من عبـارات: (التائبون العابدون الحامدون السائحون) رغم أن التعبير باسم الفاعل (الفاعلون) دال بذاته على ذلك؛ ولكن تتأكد الصورة المتحركة السائرة باستمرار إلى درجة التشخص الحي ! تماما كما في قوله تعالى:"تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود"(الفتح:29) ]تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا[ أي لا يفترون، يحدوهم الشوق، في حركة سائرة أبدا إلى الله ؛ إلى أن يلقوه على المحبة والرضى!
فهم هنا إذن المؤمنون (التائبون) باستمرار.. المجددون لتوبتهم بلا انقطاع. قال عليه الصلاة والسلام: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها..!)([7])
وابن آدم لا بد أن يذنب؛ فمن هنا كان هو ابن آدم، قال تعالى:"وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" طه 121-122
وقال سبحانه: "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم "البقرة 37
ثم تلك هي إرادة الله الجميلة في خلقه، وكرمهالفياض من أنوار أسمائه الحسنى. جاء في الحديث النبوي: "ولو لم تذنبوا لجاءالله بقوم يذنبون كي يغفر لهم"![8]
والتوبة بجميع معانيها من أبهى منازل العبادة في الإسلام.. إنها خضرة الأمل الممتدة في أفق السير إلى الله، المتصلة بمنازل الرجاء، والمحبة، والشوق، والأنس بالله.. ظلال من النور البهي تظلل العبد أبدا وهو يتنقل من منزل إلى منزل، ويسبح من فلك إلى فلك؛ وهو يمضي صعدا في اتجاه السماء، عبر مدارج المحبين!
مقام التوبة إذن يتيح لك أن تعرف الله! ومعرفة الله قربى، واقتراب.. ومن اقترب من الجمال أحبه! والحب غايته الوصال، ومن وصله الحبيب كان حاله أنسا وسرورا! فأنى له إذن أن يقنط أو ييأس؟ هنا في ظلال الله لا قنوط ولا يأس.. وإنما أبواب السماء تنهمر بواردات من النور، ذات رواء علوي، يملأ الوجدان بأنداء المحبة.. قال عز وجل لعباده الغارقين في أوحال الذنوب: "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو التواب الرحيم" (الزمر: 53).
إنها لتعجز الكلمات والعبارات البشرية عن وصف ما ينفتح عنه هذا الباب السماوي الفسيح، من خيرات ورحمات! (إن الله يغفر الذنوب جميعا!)..
الكل إذن مقبول عند الله، مأذون له في الدخول إلى حضرته تعالى، موعود بموعد للوصال.. موعد غير بعيد ولا عسير، لا تحجبه الوسائط، ولا تثقله البروتوكولات! " ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما"(النساء:110)
وإنما أنت.. أنت أيها العبد المحب عليك أن تسأل.. أن تسأل فقط!
"ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده وياخذ الصدقات و أن الله هو التواب الرحيم" التوبة 104
ذلكم الله الذي يعطي قبل أن يُسْأَلَ، فكيف إذا سئل؟
وعليه، فالتصوف بما يملك من طاقة تربوية هائلة، في تخليق القلوب بالمحبة؛ كفيل بترقية الخطاب الديني لدى الوعاظ والمرشدين عموما إلى مستوى الدلالة على الله! ومن كان كذلك كان أثره فعالا على الحقيقة في ترشيد السلوك الديني العام؛ بما يؤمنه روحيا، ويدمجه اجتماعيا، ويمتنه وطنيا.
ولكي يتيسر على الخطيب والواعظ استثمار التراث الصوفي في ترسيخ القيم السامية في نفوس الناس، فعليه أن يتحدث انطلاقا مما قدمه المنتسبون إلى التصوف في خدمة الناس في الجوانب الدينية والتعليمية والعلمية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
[1]- أخرجه البخاري 3158 ومسلم 2638.
[2]- اللمع 65-66.
[3]- كشف المحجوب: 409.
[4]- التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي: 97.
[5]- التعرف لمذهب أهل التصوف: 108-19.
[6]- أخرجه أحمد 3/413 ومسلم 38 وابن حبان 3/221 والبيهقي 6/458.
[7]- أخرجه أحمد 5/153 والدارمي 2/415 والترمذي 1987.
[8]- أخرجه أحمد 2/304 وابن حبان 16/396.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin