د. يوسف زيدان في كتاب عبد الكريم الجيلي فيلسوف الصوفية
الوجود المستعار او العارية الوجودية عند الشيخ عبد الكريم الجيلي
محاسن من أنشأ ذلك كله …. فوحد ولا تشرك به فهو واسع
وإياك أن تلفظ بعارية البها ….. فما ثم غير وهو بالحسن بادع
يواصل الصوفي رحلة عروجه الذوقي إلى منابع النور الفياض على الكون ، ويظل على مجاهدته لنوازع النفس .
آملا أن تمتد إليه يد العناية الإلهية فتهديه سواء السبيل ..
وعندما يتم للصوفي التجرد والارتفاع عن هموم حياته الفانية "المتشابكة الأفرع الفقيرة الثمرات " يقف عند مقامات عالية ينفرد فيها مشاهد روحية لا يطلع الله عليها إلا الخواص من الأولياء .
ويقف الجيلى عند مقام من هذه المقامات ، فيجيل ببصره صفحة الكون اللامتناهية الكلمات .
فلا يقرأ سوى كلمة واحدة : الله .. ويعود الجيلي ليحدثنا عن حاله في هذا المقام ، حيث كان كإبرة انجذبت إلى جبل المغناطيس وفنيت فيه فكأنها لم تكن ..
يعود الجيلي ليقول بأن الواصل إلى هذه الدرجة ليس له تعلق بغير الله تعالى.
فهو إن نطق : نطق بالله . وإن صمت متأملا ، ففي الله ..
وإن اغرورقت عيناه بالدموع وهو غارق في مناجأة أرق من نسمات الفجر ، فهو لا يناجي غیر مولاه .
وهكذا يكون الصوفي في هذا المقام مع الله ..
وإن شئت قلت يكون مع الله وإلى الله وفي الله !
ومن مشاهدات هذا المقام ، مشهد يرى فيه الصوفي أن كل ما في الكون أنما قائم بالله.
بل أنه على الحقيقة لا كل ولا أجزاء .. ولا شيء قائم منذ الأزل وإلى الأبد إلا الله سبحانه وتعالى .
ويدرك الصوفي آنذاك أن الحق تعالى شاء أن تتنوع تجليات جماله وجلاله وكماله في الوجود ، حتى يخيل إلى الناظر أنها كثرة وجودية في الكون .
وتظنها العيون الوسني حقائق تقوم بذاتها .. لكن الصوف في هذا المقام ، حين وقعت عيناه على العين !
أدرك أن هذه الكثرة إنما هي حجاب اللواحد، وعرف أن هناك حقيقة واحدة خلف المظاهر المتعددة ، هي حقيقة الفرد الصمد ..
ولما وقعت العين على العين ، شاهد الصوف أنوار حقيقة الحقائق فشهد أنه ما ثم في الكون غير الله !
فإذا سألناه : وما بال الموجودات التي نراها أمام أعيننا وتملأ من حولنا الأركان ؟؟
يقول الصوفي : وهم وخيال ..
الخيال :
من الثابت والبديهي ، أن معارفنا عن العالم الخارجي تستمد من الحواس .
فالحواس تعطينا قدرا من المعطيات عن الشيء ، فنقيم على هذا القدر من المعطيات الحسية عامة معرفتنا لهذا الشيء أو ذاك .
وكان العديد من الفلاسفة السابقين على عبد الكريم الجيلي قد أنكروا الحواس ?سبیل للمعرفة الحقة ، نظرا لأن حواسنا لا تمدنا بالصورة الحقيقة للشيء ، بل هي قاصرة عن إدراك هذه الحقيقة .
فالإنسان يرى الشيء من بعيد فيقول أنه نقطة ، فاذا ما اقترب منه بعض الشيء قال إنما هو شجرة ، فإذا اقترب اكثر قال بل هو انسان يسير على قدميه .. ثم يقترب - فيقول لعله أمراة ، فإذا وصل إليه قال هي إمرأة صغيرة السن وأوصافها كذا وكذا .. الخ..
فعلى هذا المثال ، أية صورة من الصور يمكن أن نعتبرها الصورة الحقيقية للشيء إذا ما اعتبرنا البصر - كأحد الحواس - سبيلا إلى المعرفة الحقة ؟
ثم اننا إذا نظرنا إلى أقرب الأشياء ، فهل بأمكاننا أن نحكم بأن ما في أيدينا هو ?تاب تحتوى سطوره على كلمات !
في حين اننا لو نظرنا اليه خلال عدسة مكبرة لما رأينا غير كلمة واحدة أو كلمتين ، واذا نظرنا خلال می?رومسكوب لوجدنا وديانة وسهولا ..
ثم تأتي نظريات الطبيعة لتقول بأن ما بين أيدينا هو كتلة من الطاقة مفعمة بالحركة الدائمة بين ذرات الا تهدأ ..
لا يستند الجيلي الى هذه الأمثلة في فلسفته الصوفية ، وإنما يتوقف عند الحديث " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ».(من الشائع أنه حديث نبوي شريف ، وإن كان في الحقيقة من حديث علي بن أبي طالب ?رم الله وجهه " انظر : المصنوع في معرفة الحديد الوضوء لعلي القاري/ المقاصد الحسنة للسخاوي / تمييز الطيب من الخبيث للشیانی ".).
ليقول بأن ما يراه الإنسان في حياته - التي هي غفلة ونوم - إنما هو محض أحلام وخيالات.
فأهل الدنيا يلهثون وراء ما يخيل إليهم أنه حقيقة كما يلهث الظمآن نحو السراب حتى إذا بلغه لم يجده شيئا ..
وكذا الأمر فيما نراه من حولنا ، فما هو إلا خيال يتصور في الأذهان .
ولهذا قالت الآيات القرآنية للإنسان بعد الموت ومفارقة الحياة الدنيا " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد"..(سورة ق ، آية ۲۲ .) .
ذلك لأن الإنسان بعد انتباهه من نوم حياته الدنيوية ، يدرك أن ما كان ليس إلأ حلم عاش فيه ردحا من الزمن وأفاق منه على الحقيقة !
ويذكرنا ?لام الجيلي في هذا المقام ، بما كتبه الشاعر الألماني العظيم « جوته » بعده بقرون في أسطورة « فاوست" التي تحكي عن هذا الرجل الذي باع نفسه للشيطان نظير أن يقضي عدة سنوات يمكنه فيها الشيطان من تحقيق أية رغبة تطرأ له ، حتى إذا انقضت المدة المتفق عليها، ذهب الشيطان به إلى الجحيم !
وتروى الأحداث أن الرجل طلب من الشيطان أن يأتي له بتلك المرأة الجميلة و هيلين ، التي قامت من أجلها حرب طروادة في العصور السالفة ، ويأت الشيطان بأجمل الجميلات ، فيضاجعها الرجل ..
لكنه يعرف بعد ذلك أنه لم يضاجع سوی خادمته العجوز التي صورها له الشيطان في صورة هيلين الجميلة ، فقد كان الأمر كائنا في خيال الرجل وليس في حقيقة المرأة !
وترجع إلى الأفق الواسع الذي يشرف عليه الجيلى في هذا المقام .
فنجده يؤكد على أن ما في الوجود إنما هو محض خيال يتراءى للناس في غفلة الحياة الدنيا ، فيعتقدون أنهم يعاينون واقعا ...
مثلا يعتقد المرء في أحلامه أن ما يراه هو الواقع حتى إذا انتبه عرف انها أحلام غفلة لا تغني عن الحقيقة في شيء .
وينتهي بأن الجيلي من تلك النقطة إلى القول الخيال هو أصل جميع الأشياء في العالم وأن الإنتباه من الغفلة لا يكون إلا بعد الموت .
وإن كان بعض الأولياء من أهل الصلاح يتنبهون من الغفلة فيدركون حقيقة الخيال وهم في عالمهم الأرضي ..
يقول الجيلى :
ألا إن الوجود بلا محال ….. خيال في خيال في خيال
ولا يقظان إلا أهل حق …… مع الرحمن هم في كل حال
(الانسان الكامل ۲۹ / ۲ .)
فإذا كان أهل الحق تعالى هم وحدهم الذين يمن عليهم الله بالإنتباه من غفلة الحياة الدنيا .
فهم وحدهم الذين أدركوا باطن الأمر وحقيقته .
وعرفوا أن الوجود جميعه ما هو إلا وجود الله ، فهو "الوجود الحقي" الذي يلتحق به وجود الممكنات أو "الوجود الخلقي" .
وما نسبة هذا الوجود الخلقي إلى الوجود الحقى ،إلا كنسبة خيال الشيء إلى الشيء.
وذلك ما يشير اليه الجيلي بقوله بأن سائر الموجودات أو الممكنات ، انما ينسب اليها الوجود من حيث التحاقها بالموجد عز وجل ..
أو بعبارة أخرى ، هي موجودة بحكم « العارية » التي أعار الله تعالى بها للممكنات ، صفة الوجود .
العارية :
الله تعالى وحده هو "الموجود" وكل ما عداه إنما هو وجود فان ملحق بالعدم .
اذ لا يعدو كونه صورة من تجليات الحق تعالى التي لا يتوقف فيضها السابغ.
فتظهر هذه التجليات في صور متعددة تبدو على سطح مرآة الكون حينا من الدهر.
لا تلبث أن تبدو بعدها أخرى لتجليات الحق تعالى الذي كل يوم هو في شأن .
ويتجلى الحق تعالى في الكون خلال ثلاثة مجال ، هي مجال الجمال الإلهي والجلال الإلهي والكمال الإلهي ..
فتكون هذه المجالي في جملتها هي مظاهر الذات الإلهية في عالم الخلق الذي أعار الحق تعالى صفة الوجود له من حيث النسبة والالتحاق بذاته العلية .
ويرى الجيلى أن التجليات الالهية تبدو في الكون على النحو التالي :
(1) تجلى الجمال الإلهي :
الجمال الإلهي عند الجيلى هو صفات الله وأسماؤه الحسنى ، وقد ظهر هذا الجمال في الكون في صورة الحسن المطلق المتنوع المظاهر.
ويفرق الصوفية بين الجمال والحسن ، على اعتبار أن الجمال هو صفة الله تعالى ، أما الحسن فهو صورة هذا الجمال المتجلى في الكون . ( النابلسي :المعارف الغيبية مخطوط ورقة 99. )
ويصور عبد الكريم الجيلى تجلى الجمال الإلهي في قصيدته " النادرات " مشيرا إلى أن هذه التجليات الجمالية أخذت في التنوع حتى سميت - أسماء هي في الحقيقة إشارات إلى الجمال الأول ..
ولهذا نهتف باسم الله إذا ما نظرنا إلى الشيء الجميل . .
يقول الجيلي :
تجلى حبيبي في مرائي جماله …… ففي كل مرئي للحبيب طلائع
فلما تجلى حسنه متنوعا ….. تسمى بأسماء فهن مطالع
وأبرز منه فيه آثار وصفه ….. فذلكم الآثار من هو صانع
(الجيلي : قصيدة النادرات ، ابيات 136 ،138 .)
ولما كان الكون هو مجلى من مجالي الجمال الإلهي ، فالكون عند الجيلي لا يوصف إلا بالحسن ، فهو في جملته لحسن مطلق. (الجيلي : الإنسان الكامل 53/ 1 .) .
وما القبح في الأشياء إلا باعتبار ونسب ، فالقبيح يوصف بذلك لعدم ملائمته للجمال المطلق ..
ولا يوجد عند الجيلي قبح مطلق ، بل هناك « فعل قبيح" باعتبار النهي عنه .
و" شیء قبيح " باعتباره جمال في غير موضعه .
« وكلمة قبيحة » باعتبار المقام الذي قيلت فيه ..
وهكذا ، ولكن على الحقيقة لا يوجد شيء قبيح في ذاته قبحا مطلقا ، ولا شيء في العالم قبيح إلا باعتبار ما .
وبهذا يرتفع حكم القبح المطلق من الموجود ويبقى الحسن المطلق ، وذلك من حيث أن الوجود هو فيض إلهي ..
وعلى هذا في الوجود بكماله إلا صورة حسنه ومظاهر جماله تعالى .
فإذا نظر الجيلى إلى الكون فهو لا يرى ثمة إلا جمال مطلق .
فيقول بشاعريته المرهفة :
فكلّ بهاء في ملاحة صورة ....... على كل قَدّ شابه الغصن يانع
وكل اسوداد في تصافيف طرّة ..... وكل احمرار في العوارض ناصع
وكل كحيل الطرف يقتل صبه ...... بماض كسيف الهند حالاً مضارع
وكل اسمرار في القوائم كالقنا ..... عليه من الشعر الرسيل شرائع
وكل مليح بالملاحة قد زها ....... وكل جميل بالمحاسن بارع
وكل لطيف جلّ أو دقّ حسنه ...... وكل جليل فهو باللطف صادع
محاسن من أنشأ ذلك كله ....... فوحِّد ولا تشرك به فهو واسع
وإياك أن تلفظ بغيرية البها ...... إليه البها والقبح بالذات راجع
فكل قبيح إن نسبت لفعله ....... أتتك معاني الحسن فيه تسارع
.. فإذا كان الجمال المطلق هو أشاء الله وصفاته ، وكل ما في الوجود من صور الحسن إنما هي تجليات لهذا الجمال .
فإن وجود صور الحسن المتنوعة هذه ، ليس وجودا قائما بذاته .
وإنما هو وجود من حيث الإضافة إلى الجمال الإلهي الذي أعار الحسن إلى كل الموجودات .
فكان وجودها وجود مجازيا معارا من الله خلال تجلیات جماله سبحانه وتعالى . ويذكر لنا الجيلي أسماء الله وصفاته الجمالية التي تتجلى على صفحة الكون فتبدو حسنة لا متناهيا متنوع الأشكال والمظاهر.
فيقول بأن هذه الأسماء والصفات الجمالية هي :
العليم الرحيم - السلام المؤمن - البارئ المصور - الغفار الوهاب - الرزاق الفتاح الباسط الرافع - اللطيف الخبير المعز الحفيظ - الحسيب الجميل - الحليم الكريم - الوكيل الحميد - المبدئ المحيي - المصور الواجد - الدائم الباقي - البارئ البر المنعم العفو - الغفور الرؤوف - المغني المعطي - النافع الهادى - البديع الرشيد المجمل القريب - المجيب الكفيل - الحنان المنان - الكامل الذي لم يلد ولم يولد الكافي الجواد ذو الطول - الشافي المعافي .
ولا تزال تنزلات هذه الأسماء الجماليه وتجلياتها تغمر الكون فتبدو على صفحته في صور خلق جديد ، يشير الى الواحد في كثرته غير المتناهية .
(ب ) تجلى الجلال الإلهي :
جلال الله تعالى هو صفات العظمة والكبرياء والمجد ، التي شاء الحق تعالى أن تظهر تجلياتها في الوجود ?مظاهر لأسمائه وصفاته الجلالية .
ليكون الوجود بذلك هو المجلى التام للذات الإلهية ، و المظهر الأتم للكنز المخفي كما يقول الحديث القدسی "?نت ?نزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني ."
ولما كان الحق تعالى قد اقتضى أن تظهر آثار أسمائه وصفاته الجلالية في الكون ، فقد تجلى الله تعالی بجلاله الإلهي فظهرت آثار اتصافه بأسماء مثل:
الكبير المتعال - الجليل القهار - الجبار المتكبر - القوى المتين - المنتقم ذو الجلال القاهر الغيور - شديد العقاب ...
إلى آخر هذه الأسماء والصفات اللائقة بالجناب الإلهي . ( انظر الإنسان الكامل 1/55 .) .
فإذا كانت الجنة هي مظهر للجمال الإلهي المطلق ، فإن النار هي مظهر لتجليه تعالى في جلاله الإلهي المطلق .
ولكن لما كانت رحمة الحق سبقت غضبه .
فإن جميع ما في الوجود إنما هو مظاهر للجمال .
في حين اختصت فئة من الموجودات بكونها مظاهر لبعض الأسماء الجلالية كالمنتقم والمعذب والضار والمانع وما شابه ذلك من اسمائه وصفاته الجلالية.
التي تكون « بعض » الموجودات مظاهر لها ، وليس جميع الموجودات .
بخلاف أسماء الجمال التي تعم تجلياتها الوجود بأسره ..
وهذا سر قوله تعالى « سبقت رحمتي غضبي » .
ویری الجيلى أن الجمال المطلق والجلال المطلق لا يكون شهودهما إلا الله وحده أما في عالم الخلق ، فلا يتجلى الله بتجل مطلق ..
فلا طاقة للمخلوقات بظهور الجمال المطلق الذى يدهش سناه العقول ، ولا مقدرة لهم لقبول تجلى الجلال المطلق الذي تنمحق له التراكيب .
ومن هنا كانت معظم تجليات الحق تعالى جامعة بين أسمائه وصفاته الجمالية وبين أسمائه وصفاته تعالى الجلالية .
ومن هنا قال الصوفية : لكل جمال جلال ، ولكل جلال جمال .
وأما أسمائه وصفاته الكمالية ، فهي تلك الأسماء والصفات المشتركة بين جمال الله تعالى وجلاله وقد جمعت هذه الاسماء والصفات الجلالية بين الجمال والجلال ، فكانت كالقاسم المشترك بينهما، وهذه الأسماء والصفات الجلالية بين الجمال والجلال ، فكانت كالقاسم بینها ،وهذه الأسماء هي:
الرحمن الملك - الرب المهيمن - الخالق السميع - البصير الحكم - العدل الحكيم - الولي القيوم - المقدم المؤخر- الأول الأخر- الظاهر الباطن - الوالى المتعال - مالك الملك - الجامع الغني - الذي ليس كمثله شيء - المحيط السلطان - المريد المتكلم ..
(ج) تجلى الكمال الإلهي :
كمال الحق تعالى هو ماهيته التي لا يبلغها الإدراك فالإدراك لا يبلغ إلا ما يتناهى وكماله تعالى لا نهاية له .
والكمال الإلهي لا يشبه كمال المخلوقات بوجه من الوجوه ، لانه سبحانه وتعالى لا يتغير ويتبدل ?ا الحال في سائر المخلوقات ..
ولا يظهر الكمال الالهي ويتجلى في الكون ، إلا في صورة واحدة هي صورة "الإنسان الكامل" فعلى ما يرى الجيلى ، ليس هناك مظهر للكمال الإلهي إلا ذلك الإنسان الكامل .
ولذلك فقد أشارت الآيات إلى أن الله تعالى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان . (الآية 72 من سورة الأحزاب .) .
والأمانة هنا تعني الكمال الإلهي الذي لم يكن له ظهور وتجلي إلا في الإنسان الكامل.
وإذا كنا سنتعرض فيها بعد لموضوع الإنسان الكامل ، وكيف يصل الإنسان الى هذا المقام حيث يكون صورة كاملة التجلى الكمال الالهي .
فإننا نشير هنا إلى أن الجيلى قد ارتفع بمقام الإنسان إلى أعلى مراتب الموجودات ، حين جعل الصورة الوحيدة لتجلى الكمال الإلهي هي الصورة الانسانية ، وسوف نعود لذلك فيما بعد .
.. نخرج مما سبق إلى أن الوجود كما يراه الجيلى ، لا يعتبر حقيقة في ذاته إلا بقدر ما هو لمحة من لمحات التجلي الإلهي وموجة من موجات بحر النور الإلهي الممد لجميع الأكوان .
وليست للأشياء عند الجيلى وجود ذاتية ، وإنما هي محض خیالات استعارت صفة الوجود من الحق تعالى .
ويعطينا الجيلى تعريفا للعارية الوجودية في كتابه « الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل " فيقول إن العارية الوجودية في الأشياء ، ما هي إلا نسبة الوجود "الخلقی" إليها مع كون الوجود الحق أصل لها في الحقيقة" .( الإنسان الكامل 1 / 28 .).
فقد أعار الحق تعالى للأشياء وجودة من ذاته لتظهر بذلك أسرار الألوهية في الكون ، وقال تعالى في كتابه العزيز : " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق" .(سورة الحجر، آية 85. )
فالكون كالثلجة التي نرى فيها شكلا معينا ، في حين أن الماء هو حقيقة وجودها . ففي هذا المثال ، نجد أن اسم « الثلج » معار من حقيقة « الماء » . أو كما يقول الجيلى :
وما الخلق في التمثال إلاَّ كثلجة ...... وأنت بها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه ...... وغيران في حكم دعته الشرائع
ولكن بذوب الثلج يرفع حكمه ..... ويوضع حكم الماء والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها ...... وفيه تلاشت وهو عنهن ساطع
(قصيدة النادرات العينية أبيات 164 ، 167 وانظر أيضا : الإنسان الكامل 1 / 28 .)
ثم يعود الجيلي ليؤكد على أن هذه العارية الوجودية التي أعار الحق تعالى بها للمخلوقات وجودها في العالم الدنيوي.
لا تعني أن نقول بوجود المخلوقات ووجود الخالق ...
فما ثم غير الخالق عز وجل ، فالصورة لا ينبغي لها أن تقرن بالأصل .
فإذا قرن المحدث بالقديم لم يعد له وجود .
ومن هنا رأي الجيلى أنه ما ثم غير الله في الكون ، إذ تلاشت كل الموجودات ولم يعد إلا الحق تعالى الذي تفرد بالوجود الأزلي والأبدي :
وإياك أن تلفظ ببارية البها …. فما ثم غير وهو بالحسن بادع
(النادرات العينية البيت 175 .)
.... وبعد ، فإذا كان ما يذهب إليه الجيلي هو ثمرة الكشف والإلهام ، فإنه يقال بأن الصوفية يشربون من نبع واحد .
لذلك فأننا سنلقي في السطور التالية قليلا من الضوء على ما ذهب إليه بعض أئمة التصوف الكبار بصدد هذه الفكرة التي يحدثنا عنها الجيلى .
لنرى ما إذا كان الجيلى بدعة بين صوفية الاسلام حين قال بالعارية الوجودية ، أم أنه كان
صرح بحقيقة أشار إليها هؤلاء الأئمة ..
من كبار صوفية الإسلام الذي أشاروا إلى العارية الوجودية ، الشاعر الصوفي عمر بن الفارض الملقب بسلطان العاشقين ( ولد بمصر سنة 576 هجرية ، وتوفي بها سنة 632 ).
والذي عبر عن الفكر الصوفي من خلال أشعاره الذوقية التي تضمنها دیوانه وخاصة قصيدته التائية الكبرى التي اشتهرت في الأوساط الصوفية باسم : نظم السلوك .
وفي تائية ابن الفارض الكبرى ،نجده يشير إلى تلك المعاني التي حدثنا عنها الجيلى إشارة ذوقية.
تهيب بالصوفي إلى النظر إلى وحدة الجمال الإلهي في الكون ؛ وذلك حين يطلق ابن الفارض تجلى الذات الإلهية في الوجود دون تقييد هذا التجلي في صورة معينة من صور الحسن ، الذي هو في الحقيقة « معار » من جمال الذات الإلهية فيقول : وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل …. بتقييده ميلا لزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالها ….. معار له بل حسن كل مليحة
(ابن الفارض : الديوان ، التائية الكبرى . ابيات 241 ، 242.)
وقد لاحظ الباحثون في شعر ابن الفارض - وعلى رأسهم الدكتور / محمد مصطفى حلمی - إن في شعر ابن الفارض أبيات كثيرة تثبت أن تجلى الجمال الإلهي ليس محصورة في دائرة الصور الجميلة وحدها .
وإنما هو أوسع من ذلك نطاقا وأبعد آفاقا ، إذ يشمل الوجود كله ويبدو في كل ما تقع عليه العين من المرئيات .(د. محمد مصطفى حلمى : ابن الفارض والحب الإلهي ص 295.) .
وذلك يتضح من قول سلطان العاشقين :
جلت في تجليها الوجود لناظری …. ففي كل مرئي أراها برؤية
لكننا نلاحظ أن ابن الفارض إنما يجعل الوجود بأسره مجلى لفيض الجمال الإلهي وحده في حين جعل عبد الكريم الجيلى الوجود عبارة عن تجليات الذات الإلهية في تجلياتها الجمالية والجلالية والكمالية .
هذا وإن كان الرجلين قد اتفقا - رغم الفارق الزمني بينا - على أن الموجودات إنما هي موجودة وجودا اعتباریا معارا من وجود الله الذي أفاض عليها بالعارية الوجودية فظهرت للعيان في الصور الكونية المتعددة ، واتفق كل من ابن الفارض والجيلي على أن الوجود الحقيقي لا ينسب إلا الله تعالى وحده ، أما ما عداه ..
فموجود بهذه الصفة الاضافية وظاهرة بتلك العارية . .
ومن كبار رجال التصوف الاسلامى ، الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي ( ولد سنة 560 هجرية ، وتوفي بدمشق سنة 638 ) الذي تعد مؤلفاته - كالفتوحات المكية وفصوص الحكم - من أهم المصادر والمراجع الصوفية في الإسلام .
ويتلخص ما يذهب إليه الشيخ الأكبر ابن العربی بصدد العلاقة بين الله والموجودات ، في أن الحقيقة الإلهية تتعالى أن تشهد بالعين .(ابن العربي : المنازلات ( مخلوط ) الورقة الأولى ) .
ولذلك فقد جعل الله الموجودات بمثابة مرآة تتجلى فيها أسمائه تعالى وصفاته .. وبذلك يظهر الكنز المخفي الذي أشير إليه في الخبر. (الحديث القدسي : ?نت كنزا مخفيا . فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق .).
ومن هنا فالخلق عند الشيخ الأكبر ابن العربي صورة - أو مثال - الحق ، وليس الوجود فيها يذهب إليه إلآ : حق وخلق .
لكن الشيخ الأكبر ابن العربی حين ينظر بعين الصوفي المتجرد في المظاهر الخلقية ، فإنه لا يشاهد إلا الحق تعالى متجلية فيها.
ولهذا نراه يؤكد في كتابه "فصوص الحكم" على أنه ما ثم إلآ حقيقة واحدة تقبل النسب والإضافات ، وهذه الحقيقة هي الذات الإلهية التي تعطى لكل أسم يظهر في الوجود صورته التي تميزه عن غيره من صور الموجودات .
ويرى الشيخ الأكبر ابن العربي أنه لا يوجد في الكون - أو الحضرة الإلهية - شیء م?رر ، وذلك لتنوع تجليات الله تعالى في أسمائه وصفاته .. لكن هذه الحقيقة - كما يقول ابن العربی - لا يعلمها إلا خاصة العلماء بالله. (ابن العربی : فصوص الح?م ص 65 وما بعدها .) .
أما جملة الكون عند ابن العربی فعبارة عن عوالم أربعة :
عالم البقاء .
عالم الفناء .
عالم البقاء والفناء .
عالم النسب .
ولكن هذا التقسيم عند الشيخ الأكبر ابن العربی محله الخيال !
فالوهم يخلق لكل إنسان في قوة خياله مالا وجود له إلا فيها .
أما المحققين من الصوفية فقد ثبت عندهم بالكشف زيف هذا التقسيم الخيالى للكون ، وثبت عندهم أيضا أنه ما في الوجود إلا الله ، ونحن - إن كنا موجودين - فإنما كان وجودنا به .(ابن العربي : الفتوحات المكية ، السفر الثاني ، فقرة 90.) .
وهكذا ينتهي الشيخ الأكبر ابن العربي إلى أن العالم ليس له في بصيرة العارف وجود حقیقی ، بل وجود متوهم ، وهذا - كما يقول في الفصوص - معنى الخيال ..
ونرى هنا مدى تطابق ما يذهب إليه ابن العربي والجيلى .
فكلاهما يرى العالم محض خیال ، وكلاهما يرى أنه ما ثم غير الله في الكون ..
وإذا كان ابن العربي لم يستعمل كلمة « العارية الوجودية » ، فإنه قد أشار إلى أن قيام الموجودات إنما هو بنوع من الإضافة إلى موجدها .
وأن صفة الوجود لا تضاف إلى المخلوقات إلا على سبيل النسبة والاضافة إلى وجود المولى عز وجل .
إذا كانت هذه المقارنة بين ما ذهب إليه الجيلى وما ذهب إليه كل من ابن الفارض وابن العربي من قبل.
تظهرنا على اتفاق أئمة التصوف في مكاشفاتهم الذوقية ، فإن المزيد من المقارنة قد يؤكد على المعنى الذي يردده الصوفية حين يقولون بأن الكل يشربون من نبع واحد..
فهذه الحقائق التي تكلم عنها هؤلاء الرجال ، نجدها عند غيرهم من أهل الطريق الصوفي .
فشيخ الإشراق :
شهاب الدين السهروردي ( ولد في سهرورد 550 ، وتوفي بحلب 586 هجرية ) يرى أن الوجود مراتب نورانية تستمد وجودها من الله أو نور الأنوار .
كذلك يرى الصوفي الأندلسي المتفلسف :
محمد عبد الحق بن سبعين ( ولد سنة 614 بمرسية ، وتوفي بمكة المكرمة سنة 669 هجرية )
إن الصوفي المحقق إنما هو من أسقط الكثرة من الوجود ، ولم يثبت إلا : الله فقط ..
ومع هذا ، يظل عبد الكريم الجيلى هو أول من فصل القول في مسألة العارية الوجودية على النحو الذي رأيناه فيها سبق .
كما يرجع الفضل إليه في التحديد الدقيق لمصطلح العارية وفي بيان التجليات الالهية التي يعتبر الكون بجملته أثرا لها.
الوجود المستعار او العارية الوجودية عند الشيخ عبد الكريم الجيلي
محاسن من أنشأ ذلك كله …. فوحد ولا تشرك به فهو واسع
وإياك أن تلفظ بعارية البها ….. فما ثم غير وهو بالحسن بادع
يواصل الصوفي رحلة عروجه الذوقي إلى منابع النور الفياض على الكون ، ويظل على مجاهدته لنوازع النفس .
آملا أن تمتد إليه يد العناية الإلهية فتهديه سواء السبيل ..
وعندما يتم للصوفي التجرد والارتفاع عن هموم حياته الفانية "المتشابكة الأفرع الفقيرة الثمرات " يقف عند مقامات عالية ينفرد فيها مشاهد روحية لا يطلع الله عليها إلا الخواص من الأولياء .
ويقف الجيلى عند مقام من هذه المقامات ، فيجيل ببصره صفحة الكون اللامتناهية الكلمات .
فلا يقرأ سوى كلمة واحدة : الله .. ويعود الجيلي ليحدثنا عن حاله في هذا المقام ، حيث كان كإبرة انجذبت إلى جبل المغناطيس وفنيت فيه فكأنها لم تكن ..
يعود الجيلي ليقول بأن الواصل إلى هذه الدرجة ليس له تعلق بغير الله تعالى.
فهو إن نطق : نطق بالله . وإن صمت متأملا ، ففي الله ..
وإن اغرورقت عيناه بالدموع وهو غارق في مناجأة أرق من نسمات الفجر ، فهو لا يناجي غیر مولاه .
وهكذا يكون الصوفي في هذا المقام مع الله ..
وإن شئت قلت يكون مع الله وإلى الله وفي الله !
ومن مشاهدات هذا المقام ، مشهد يرى فيه الصوفي أن كل ما في الكون أنما قائم بالله.
بل أنه على الحقيقة لا كل ولا أجزاء .. ولا شيء قائم منذ الأزل وإلى الأبد إلا الله سبحانه وتعالى .
ويدرك الصوفي آنذاك أن الحق تعالى شاء أن تتنوع تجليات جماله وجلاله وكماله في الوجود ، حتى يخيل إلى الناظر أنها كثرة وجودية في الكون .
وتظنها العيون الوسني حقائق تقوم بذاتها .. لكن الصوف في هذا المقام ، حين وقعت عيناه على العين !
أدرك أن هذه الكثرة إنما هي حجاب اللواحد، وعرف أن هناك حقيقة واحدة خلف المظاهر المتعددة ، هي حقيقة الفرد الصمد ..
ولما وقعت العين على العين ، شاهد الصوف أنوار حقيقة الحقائق فشهد أنه ما ثم في الكون غير الله !
فإذا سألناه : وما بال الموجودات التي نراها أمام أعيننا وتملأ من حولنا الأركان ؟؟
يقول الصوفي : وهم وخيال ..
الخيال :
من الثابت والبديهي ، أن معارفنا عن العالم الخارجي تستمد من الحواس .
فالحواس تعطينا قدرا من المعطيات عن الشيء ، فنقيم على هذا القدر من المعطيات الحسية عامة معرفتنا لهذا الشيء أو ذاك .
وكان العديد من الفلاسفة السابقين على عبد الكريم الجيلي قد أنكروا الحواس ?سبیل للمعرفة الحقة ، نظرا لأن حواسنا لا تمدنا بالصورة الحقيقة للشيء ، بل هي قاصرة عن إدراك هذه الحقيقة .
فالإنسان يرى الشيء من بعيد فيقول أنه نقطة ، فاذا ما اقترب منه بعض الشيء قال إنما هو شجرة ، فإذا اقترب اكثر قال بل هو انسان يسير على قدميه .. ثم يقترب - فيقول لعله أمراة ، فإذا وصل إليه قال هي إمرأة صغيرة السن وأوصافها كذا وكذا .. الخ..
فعلى هذا المثال ، أية صورة من الصور يمكن أن نعتبرها الصورة الحقيقية للشيء إذا ما اعتبرنا البصر - كأحد الحواس - سبيلا إلى المعرفة الحقة ؟
ثم اننا إذا نظرنا إلى أقرب الأشياء ، فهل بأمكاننا أن نحكم بأن ما في أيدينا هو ?تاب تحتوى سطوره على كلمات !
في حين اننا لو نظرنا اليه خلال عدسة مكبرة لما رأينا غير كلمة واحدة أو كلمتين ، واذا نظرنا خلال می?رومسكوب لوجدنا وديانة وسهولا ..
ثم تأتي نظريات الطبيعة لتقول بأن ما بين أيدينا هو كتلة من الطاقة مفعمة بالحركة الدائمة بين ذرات الا تهدأ ..
لا يستند الجيلي الى هذه الأمثلة في فلسفته الصوفية ، وإنما يتوقف عند الحديث " الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا ».(من الشائع أنه حديث نبوي شريف ، وإن كان في الحقيقة من حديث علي بن أبي طالب ?رم الله وجهه " انظر : المصنوع في معرفة الحديد الوضوء لعلي القاري/ المقاصد الحسنة للسخاوي / تمييز الطيب من الخبيث للشیانی ".).
ليقول بأن ما يراه الإنسان في حياته - التي هي غفلة ونوم - إنما هو محض أحلام وخيالات.
فأهل الدنيا يلهثون وراء ما يخيل إليهم أنه حقيقة كما يلهث الظمآن نحو السراب حتى إذا بلغه لم يجده شيئا ..
وكذا الأمر فيما نراه من حولنا ، فما هو إلا خيال يتصور في الأذهان .
ولهذا قالت الآيات القرآنية للإنسان بعد الموت ومفارقة الحياة الدنيا " لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد"..(سورة ق ، آية ۲۲ .) .
ذلك لأن الإنسان بعد انتباهه من نوم حياته الدنيوية ، يدرك أن ما كان ليس إلأ حلم عاش فيه ردحا من الزمن وأفاق منه على الحقيقة !
ويذكرنا ?لام الجيلي في هذا المقام ، بما كتبه الشاعر الألماني العظيم « جوته » بعده بقرون في أسطورة « فاوست" التي تحكي عن هذا الرجل الذي باع نفسه للشيطان نظير أن يقضي عدة سنوات يمكنه فيها الشيطان من تحقيق أية رغبة تطرأ له ، حتى إذا انقضت المدة المتفق عليها، ذهب الشيطان به إلى الجحيم !
وتروى الأحداث أن الرجل طلب من الشيطان أن يأتي له بتلك المرأة الجميلة و هيلين ، التي قامت من أجلها حرب طروادة في العصور السالفة ، ويأت الشيطان بأجمل الجميلات ، فيضاجعها الرجل ..
لكنه يعرف بعد ذلك أنه لم يضاجع سوی خادمته العجوز التي صورها له الشيطان في صورة هيلين الجميلة ، فقد كان الأمر كائنا في خيال الرجل وليس في حقيقة المرأة !
وترجع إلى الأفق الواسع الذي يشرف عليه الجيلى في هذا المقام .
فنجده يؤكد على أن ما في الوجود إنما هو محض خيال يتراءى للناس في غفلة الحياة الدنيا ، فيعتقدون أنهم يعاينون واقعا ...
مثلا يعتقد المرء في أحلامه أن ما يراه هو الواقع حتى إذا انتبه عرف انها أحلام غفلة لا تغني عن الحقيقة في شيء .
وينتهي بأن الجيلي من تلك النقطة إلى القول الخيال هو أصل جميع الأشياء في العالم وأن الإنتباه من الغفلة لا يكون إلا بعد الموت .
وإن كان بعض الأولياء من أهل الصلاح يتنبهون من الغفلة فيدركون حقيقة الخيال وهم في عالمهم الأرضي ..
يقول الجيلى :
ألا إن الوجود بلا محال ….. خيال في خيال في خيال
ولا يقظان إلا أهل حق …… مع الرحمن هم في كل حال
(الانسان الكامل ۲۹ / ۲ .)
فإذا كان أهل الحق تعالى هم وحدهم الذين يمن عليهم الله بالإنتباه من غفلة الحياة الدنيا .
فهم وحدهم الذين أدركوا باطن الأمر وحقيقته .
وعرفوا أن الوجود جميعه ما هو إلا وجود الله ، فهو "الوجود الحقي" الذي يلتحق به وجود الممكنات أو "الوجود الخلقي" .
وما نسبة هذا الوجود الخلقي إلى الوجود الحقى ،إلا كنسبة خيال الشيء إلى الشيء.
وذلك ما يشير اليه الجيلي بقوله بأن سائر الموجودات أو الممكنات ، انما ينسب اليها الوجود من حيث التحاقها بالموجد عز وجل ..
أو بعبارة أخرى ، هي موجودة بحكم « العارية » التي أعار الله تعالى بها للممكنات ، صفة الوجود .
العارية :
الله تعالى وحده هو "الموجود" وكل ما عداه إنما هو وجود فان ملحق بالعدم .
اذ لا يعدو كونه صورة من تجليات الحق تعالى التي لا يتوقف فيضها السابغ.
فتظهر هذه التجليات في صور متعددة تبدو على سطح مرآة الكون حينا من الدهر.
لا تلبث أن تبدو بعدها أخرى لتجليات الحق تعالى الذي كل يوم هو في شأن .
ويتجلى الحق تعالى في الكون خلال ثلاثة مجال ، هي مجال الجمال الإلهي والجلال الإلهي والكمال الإلهي ..
فتكون هذه المجالي في جملتها هي مظاهر الذات الإلهية في عالم الخلق الذي أعار الحق تعالى صفة الوجود له من حيث النسبة والالتحاق بذاته العلية .
ويرى الجيلى أن التجليات الالهية تبدو في الكون على النحو التالي :
(1) تجلى الجمال الإلهي :
الجمال الإلهي عند الجيلى هو صفات الله وأسماؤه الحسنى ، وقد ظهر هذا الجمال في الكون في صورة الحسن المطلق المتنوع المظاهر.
ويفرق الصوفية بين الجمال والحسن ، على اعتبار أن الجمال هو صفة الله تعالى ، أما الحسن فهو صورة هذا الجمال المتجلى في الكون . ( النابلسي :المعارف الغيبية مخطوط ورقة 99. )
ويصور عبد الكريم الجيلى تجلى الجمال الإلهي في قصيدته " النادرات " مشيرا إلى أن هذه التجليات الجمالية أخذت في التنوع حتى سميت - أسماء هي في الحقيقة إشارات إلى الجمال الأول ..
ولهذا نهتف باسم الله إذا ما نظرنا إلى الشيء الجميل . .
يقول الجيلي :
تجلى حبيبي في مرائي جماله …… ففي كل مرئي للحبيب طلائع
فلما تجلى حسنه متنوعا ….. تسمى بأسماء فهن مطالع
وأبرز منه فيه آثار وصفه ….. فذلكم الآثار من هو صانع
(الجيلي : قصيدة النادرات ، ابيات 136 ،138 .)
ولما كان الكون هو مجلى من مجالي الجمال الإلهي ، فالكون عند الجيلي لا يوصف إلا بالحسن ، فهو في جملته لحسن مطلق. (الجيلي : الإنسان الكامل 53/ 1 .) .
وما القبح في الأشياء إلا باعتبار ونسب ، فالقبيح يوصف بذلك لعدم ملائمته للجمال المطلق ..
ولا يوجد عند الجيلي قبح مطلق ، بل هناك « فعل قبيح" باعتبار النهي عنه .
و" شیء قبيح " باعتباره جمال في غير موضعه .
« وكلمة قبيحة » باعتبار المقام الذي قيلت فيه ..
وهكذا ، ولكن على الحقيقة لا يوجد شيء قبيح في ذاته قبحا مطلقا ، ولا شيء في العالم قبيح إلا باعتبار ما .
وبهذا يرتفع حكم القبح المطلق من الموجود ويبقى الحسن المطلق ، وذلك من حيث أن الوجود هو فيض إلهي ..
وعلى هذا في الوجود بكماله إلا صورة حسنه ومظاهر جماله تعالى .
فإذا نظر الجيلى إلى الكون فهو لا يرى ثمة إلا جمال مطلق .
فيقول بشاعريته المرهفة :
فكلّ بهاء في ملاحة صورة ....... على كل قَدّ شابه الغصن يانع
وكل اسوداد في تصافيف طرّة ..... وكل احمرار في العوارض ناصع
وكل كحيل الطرف يقتل صبه ...... بماض كسيف الهند حالاً مضارع
وكل اسمرار في القوائم كالقنا ..... عليه من الشعر الرسيل شرائع
وكل مليح بالملاحة قد زها ....... وكل جميل بالمحاسن بارع
وكل لطيف جلّ أو دقّ حسنه ...... وكل جليل فهو باللطف صادع
محاسن من أنشأ ذلك كله ....... فوحِّد ولا تشرك به فهو واسع
وإياك أن تلفظ بغيرية البها ...... إليه البها والقبح بالذات راجع
فكل قبيح إن نسبت لفعله ....... أتتك معاني الحسن فيه تسارع
.. فإذا كان الجمال المطلق هو أشاء الله وصفاته ، وكل ما في الوجود من صور الحسن إنما هي تجليات لهذا الجمال .
فإن وجود صور الحسن المتنوعة هذه ، ليس وجودا قائما بذاته .
وإنما هو وجود من حيث الإضافة إلى الجمال الإلهي الذي أعار الحسن إلى كل الموجودات .
فكان وجودها وجود مجازيا معارا من الله خلال تجلیات جماله سبحانه وتعالى . ويذكر لنا الجيلي أسماء الله وصفاته الجمالية التي تتجلى على صفحة الكون فتبدو حسنة لا متناهيا متنوع الأشكال والمظاهر.
فيقول بأن هذه الأسماء والصفات الجمالية هي :
العليم الرحيم - السلام المؤمن - البارئ المصور - الغفار الوهاب - الرزاق الفتاح الباسط الرافع - اللطيف الخبير المعز الحفيظ - الحسيب الجميل - الحليم الكريم - الوكيل الحميد - المبدئ المحيي - المصور الواجد - الدائم الباقي - البارئ البر المنعم العفو - الغفور الرؤوف - المغني المعطي - النافع الهادى - البديع الرشيد المجمل القريب - المجيب الكفيل - الحنان المنان - الكامل الذي لم يلد ولم يولد الكافي الجواد ذو الطول - الشافي المعافي .
ولا تزال تنزلات هذه الأسماء الجماليه وتجلياتها تغمر الكون فتبدو على صفحته في صور خلق جديد ، يشير الى الواحد في كثرته غير المتناهية .
(ب ) تجلى الجلال الإلهي :
جلال الله تعالى هو صفات العظمة والكبرياء والمجد ، التي شاء الحق تعالى أن تظهر تجلياتها في الوجود ?مظاهر لأسمائه وصفاته الجلالية .
ليكون الوجود بذلك هو المجلى التام للذات الإلهية ، و المظهر الأتم للكنز المخفي كما يقول الحديث القدسی "?نت ?نزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني ."
ولما كان الحق تعالى قد اقتضى أن تظهر آثار أسمائه وصفاته الجلالية في الكون ، فقد تجلى الله تعالی بجلاله الإلهي فظهرت آثار اتصافه بأسماء مثل:
الكبير المتعال - الجليل القهار - الجبار المتكبر - القوى المتين - المنتقم ذو الجلال القاهر الغيور - شديد العقاب ...
إلى آخر هذه الأسماء والصفات اللائقة بالجناب الإلهي . ( انظر الإنسان الكامل 1/55 .) .
فإذا كانت الجنة هي مظهر للجمال الإلهي المطلق ، فإن النار هي مظهر لتجليه تعالى في جلاله الإلهي المطلق .
ولكن لما كانت رحمة الحق سبقت غضبه .
فإن جميع ما في الوجود إنما هو مظاهر للجمال .
في حين اختصت فئة من الموجودات بكونها مظاهر لبعض الأسماء الجلالية كالمنتقم والمعذب والضار والمانع وما شابه ذلك من اسمائه وصفاته الجلالية.
التي تكون « بعض » الموجودات مظاهر لها ، وليس جميع الموجودات .
بخلاف أسماء الجمال التي تعم تجلياتها الوجود بأسره ..
وهذا سر قوله تعالى « سبقت رحمتي غضبي » .
ویری الجيلى أن الجمال المطلق والجلال المطلق لا يكون شهودهما إلا الله وحده أما في عالم الخلق ، فلا يتجلى الله بتجل مطلق ..
فلا طاقة للمخلوقات بظهور الجمال المطلق الذى يدهش سناه العقول ، ولا مقدرة لهم لقبول تجلى الجلال المطلق الذي تنمحق له التراكيب .
ومن هنا كانت معظم تجليات الحق تعالى جامعة بين أسمائه وصفاته الجمالية وبين أسمائه وصفاته تعالى الجلالية .
ومن هنا قال الصوفية : لكل جمال جلال ، ولكل جلال جمال .
وأما أسمائه وصفاته الكمالية ، فهي تلك الأسماء والصفات المشتركة بين جمال الله تعالى وجلاله وقد جمعت هذه الاسماء والصفات الجلالية بين الجمال والجلال ، فكانت كالقاسم المشترك بينهما، وهذه الأسماء والصفات الجلالية بين الجمال والجلال ، فكانت كالقاسم بینها ،وهذه الأسماء هي:
الرحمن الملك - الرب المهيمن - الخالق السميع - البصير الحكم - العدل الحكيم - الولي القيوم - المقدم المؤخر- الأول الأخر- الظاهر الباطن - الوالى المتعال - مالك الملك - الجامع الغني - الذي ليس كمثله شيء - المحيط السلطان - المريد المتكلم ..
(ج) تجلى الكمال الإلهي :
كمال الحق تعالى هو ماهيته التي لا يبلغها الإدراك فالإدراك لا يبلغ إلا ما يتناهى وكماله تعالى لا نهاية له .
والكمال الإلهي لا يشبه كمال المخلوقات بوجه من الوجوه ، لانه سبحانه وتعالى لا يتغير ويتبدل ?ا الحال في سائر المخلوقات ..
ولا يظهر الكمال الالهي ويتجلى في الكون ، إلا في صورة واحدة هي صورة "الإنسان الكامل" فعلى ما يرى الجيلى ، ليس هناك مظهر للكمال الإلهي إلا ذلك الإنسان الكامل .
ولذلك فقد أشارت الآيات إلى أن الله تعالى عرض الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان . (الآية 72 من سورة الأحزاب .) .
والأمانة هنا تعني الكمال الإلهي الذي لم يكن له ظهور وتجلي إلا في الإنسان الكامل.
وإذا كنا سنتعرض فيها بعد لموضوع الإنسان الكامل ، وكيف يصل الإنسان الى هذا المقام حيث يكون صورة كاملة التجلى الكمال الالهي .
فإننا نشير هنا إلى أن الجيلى قد ارتفع بمقام الإنسان إلى أعلى مراتب الموجودات ، حين جعل الصورة الوحيدة لتجلى الكمال الإلهي هي الصورة الانسانية ، وسوف نعود لذلك فيما بعد .
.. نخرج مما سبق إلى أن الوجود كما يراه الجيلى ، لا يعتبر حقيقة في ذاته إلا بقدر ما هو لمحة من لمحات التجلي الإلهي وموجة من موجات بحر النور الإلهي الممد لجميع الأكوان .
وليست للأشياء عند الجيلى وجود ذاتية ، وإنما هي محض خیالات استعارت صفة الوجود من الحق تعالى .
ويعطينا الجيلى تعريفا للعارية الوجودية في كتابه « الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل " فيقول إن العارية الوجودية في الأشياء ، ما هي إلا نسبة الوجود "الخلقی" إليها مع كون الوجود الحق أصل لها في الحقيقة" .( الإنسان الكامل 1 / 28 .).
فقد أعار الحق تعالى للأشياء وجودة من ذاته لتظهر بذلك أسرار الألوهية في الكون ، وقال تعالى في كتابه العزيز : " وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق" .(سورة الحجر، آية 85. )
فالكون كالثلجة التي نرى فيها شكلا معينا ، في حين أن الماء هو حقيقة وجودها . ففي هذا المثال ، نجد أن اسم « الثلج » معار من حقيقة « الماء » . أو كما يقول الجيلى :
وما الخلق في التمثال إلاَّ كثلجة ...... وأنت بها الماء الذي هو نابع
وما الثلج في تحقيقنا غير مائه ...... وغيران في حكم دعته الشرائع
ولكن بذوب الثلج يرفع حكمه ..... ويوضع حكم الماء والأمر واقع
تجمعت الأضداد في واحد البها ...... وفيه تلاشت وهو عنهن ساطع
(قصيدة النادرات العينية أبيات 164 ، 167 وانظر أيضا : الإنسان الكامل 1 / 28 .)
ثم يعود الجيلي ليؤكد على أن هذه العارية الوجودية التي أعار الحق تعالى بها للمخلوقات وجودها في العالم الدنيوي.
لا تعني أن نقول بوجود المخلوقات ووجود الخالق ...
فما ثم غير الخالق عز وجل ، فالصورة لا ينبغي لها أن تقرن بالأصل .
فإذا قرن المحدث بالقديم لم يعد له وجود .
ومن هنا رأي الجيلى أنه ما ثم غير الله في الكون ، إذ تلاشت كل الموجودات ولم يعد إلا الحق تعالى الذي تفرد بالوجود الأزلي والأبدي :
وإياك أن تلفظ ببارية البها …. فما ثم غير وهو بالحسن بادع
(النادرات العينية البيت 175 .)
.... وبعد ، فإذا كان ما يذهب إليه الجيلي هو ثمرة الكشف والإلهام ، فإنه يقال بأن الصوفية يشربون من نبع واحد .
لذلك فأننا سنلقي في السطور التالية قليلا من الضوء على ما ذهب إليه بعض أئمة التصوف الكبار بصدد هذه الفكرة التي يحدثنا عنها الجيلى .
لنرى ما إذا كان الجيلى بدعة بين صوفية الاسلام حين قال بالعارية الوجودية ، أم أنه كان
صرح بحقيقة أشار إليها هؤلاء الأئمة ..
من كبار صوفية الإسلام الذي أشاروا إلى العارية الوجودية ، الشاعر الصوفي عمر بن الفارض الملقب بسلطان العاشقين ( ولد بمصر سنة 576 هجرية ، وتوفي بها سنة 632 ).
والذي عبر عن الفكر الصوفي من خلال أشعاره الذوقية التي تضمنها دیوانه وخاصة قصيدته التائية الكبرى التي اشتهرت في الأوساط الصوفية باسم : نظم السلوك .
وفي تائية ابن الفارض الكبرى ،نجده يشير إلى تلك المعاني التي حدثنا عنها الجيلى إشارة ذوقية.
تهيب بالصوفي إلى النظر إلى وحدة الجمال الإلهي في الكون ؛ وذلك حين يطلق ابن الفارض تجلى الذات الإلهية في الوجود دون تقييد هذا التجلي في صورة معينة من صور الحسن ، الذي هو في الحقيقة « معار » من جمال الذات الإلهية فيقول : وصرح بإطلاق الجمال ولا تقل …. بتقييده ميلا لزخرف زينة
فكل مليح حسنه من جمالها ….. معار له بل حسن كل مليحة
(ابن الفارض : الديوان ، التائية الكبرى . ابيات 241 ، 242.)
وقد لاحظ الباحثون في شعر ابن الفارض - وعلى رأسهم الدكتور / محمد مصطفى حلمی - إن في شعر ابن الفارض أبيات كثيرة تثبت أن تجلى الجمال الإلهي ليس محصورة في دائرة الصور الجميلة وحدها .
وإنما هو أوسع من ذلك نطاقا وأبعد آفاقا ، إذ يشمل الوجود كله ويبدو في كل ما تقع عليه العين من المرئيات .(د. محمد مصطفى حلمى : ابن الفارض والحب الإلهي ص 295.) .
وذلك يتضح من قول سلطان العاشقين :
جلت في تجليها الوجود لناظری …. ففي كل مرئي أراها برؤية
لكننا نلاحظ أن ابن الفارض إنما يجعل الوجود بأسره مجلى لفيض الجمال الإلهي وحده في حين جعل عبد الكريم الجيلى الوجود عبارة عن تجليات الذات الإلهية في تجلياتها الجمالية والجلالية والكمالية .
هذا وإن كان الرجلين قد اتفقا - رغم الفارق الزمني بينا - على أن الموجودات إنما هي موجودة وجودا اعتباریا معارا من وجود الله الذي أفاض عليها بالعارية الوجودية فظهرت للعيان في الصور الكونية المتعددة ، واتفق كل من ابن الفارض والجيلي على أن الوجود الحقيقي لا ينسب إلا الله تعالى وحده ، أما ما عداه ..
فموجود بهذه الصفة الاضافية وظاهرة بتلك العارية . .
ومن كبار رجال التصوف الاسلامى ، الشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي ( ولد سنة 560 هجرية ، وتوفي بدمشق سنة 638 ) الذي تعد مؤلفاته - كالفتوحات المكية وفصوص الحكم - من أهم المصادر والمراجع الصوفية في الإسلام .
ويتلخص ما يذهب إليه الشيخ الأكبر ابن العربی بصدد العلاقة بين الله والموجودات ، في أن الحقيقة الإلهية تتعالى أن تشهد بالعين .(ابن العربي : المنازلات ( مخلوط ) الورقة الأولى ) .
ولذلك فقد جعل الله الموجودات بمثابة مرآة تتجلى فيها أسمائه تعالى وصفاته .. وبذلك يظهر الكنز المخفي الذي أشير إليه في الخبر. (الحديث القدسي : ?نت كنزا مخفيا . فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق .).
ومن هنا فالخلق عند الشيخ الأكبر ابن العربي صورة - أو مثال - الحق ، وليس الوجود فيها يذهب إليه إلآ : حق وخلق .
لكن الشيخ الأكبر ابن العربی حين ينظر بعين الصوفي المتجرد في المظاهر الخلقية ، فإنه لا يشاهد إلا الحق تعالى متجلية فيها.
ولهذا نراه يؤكد في كتابه "فصوص الحكم" على أنه ما ثم إلآ حقيقة واحدة تقبل النسب والإضافات ، وهذه الحقيقة هي الذات الإلهية التي تعطى لكل أسم يظهر في الوجود صورته التي تميزه عن غيره من صور الموجودات .
ويرى الشيخ الأكبر ابن العربي أنه لا يوجد في الكون - أو الحضرة الإلهية - شیء م?رر ، وذلك لتنوع تجليات الله تعالى في أسمائه وصفاته .. لكن هذه الحقيقة - كما يقول ابن العربی - لا يعلمها إلا خاصة العلماء بالله. (ابن العربی : فصوص الح?م ص 65 وما بعدها .) .
أما جملة الكون عند ابن العربی فعبارة عن عوالم أربعة :
عالم البقاء .
عالم الفناء .
عالم البقاء والفناء .
عالم النسب .
ولكن هذا التقسيم عند الشيخ الأكبر ابن العربی محله الخيال !
فالوهم يخلق لكل إنسان في قوة خياله مالا وجود له إلا فيها .
أما المحققين من الصوفية فقد ثبت عندهم بالكشف زيف هذا التقسيم الخيالى للكون ، وثبت عندهم أيضا أنه ما في الوجود إلا الله ، ونحن - إن كنا موجودين - فإنما كان وجودنا به .(ابن العربي : الفتوحات المكية ، السفر الثاني ، فقرة 90.) .
وهكذا ينتهي الشيخ الأكبر ابن العربي إلى أن العالم ليس له في بصيرة العارف وجود حقیقی ، بل وجود متوهم ، وهذا - كما يقول في الفصوص - معنى الخيال ..
ونرى هنا مدى تطابق ما يذهب إليه ابن العربي والجيلى .
فكلاهما يرى العالم محض خیال ، وكلاهما يرى أنه ما ثم غير الله في الكون ..
وإذا كان ابن العربي لم يستعمل كلمة « العارية الوجودية » ، فإنه قد أشار إلى أن قيام الموجودات إنما هو بنوع من الإضافة إلى موجدها .
وأن صفة الوجود لا تضاف إلى المخلوقات إلا على سبيل النسبة والاضافة إلى وجود المولى عز وجل .
إذا كانت هذه المقارنة بين ما ذهب إليه الجيلى وما ذهب إليه كل من ابن الفارض وابن العربي من قبل.
تظهرنا على اتفاق أئمة التصوف في مكاشفاتهم الذوقية ، فإن المزيد من المقارنة قد يؤكد على المعنى الذي يردده الصوفية حين يقولون بأن الكل يشربون من نبع واحد..
فهذه الحقائق التي تكلم عنها هؤلاء الرجال ، نجدها عند غيرهم من أهل الطريق الصوفي .
فشيخ الإشراق :
شهاب الدين السهروردي ( ولد في سهرورد 550 ، وتوفي بحلب 586 هجرية ) يرى أن الوجود مراتب نورانية تستمد وجودها من الله أو نور الأنوار .
كذلك يرى الصوفي الأندلسي المتفلسف :
محمد عبد الحق بن سبعين ( ولد سنة 614 بمرسية ، وتوفي بمكة المكرمة سنة 669 هجرية )
إن الصوفي المحقق إنما هو من أسقط الكثرة من الوجود ، ولم يثبت إلا : الله فقط ..
ومع هذا ، يظل عبد الكريم الجيلى هو أول من فصل القول في مسألة العارية الوجودية على النحو الذي رأيناه فيها سبق .
كما يرجع الفضل إليه في التحديد الدقيق لمصطلح العارية وفي بيان التجليات الالهية التي يعتبر الكون بجملته أثرا لها.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin