كتاب إرشاد المريد
من تاليف العارف بالله تعالي سيدي الشيخ ابراهيم الكباشي الحسيني
مقدمه الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب المنن لمنِ يشاء بغير حساب، المنعم على أوليائه بكمال الشهود بلا حجاب، والصلاة على ذي الجاه الأعم الواسطة في كل النعم وعلى آله وسلم بعد.
يعتبر عند أهل التصوف أن تزكية النفس وتهذيبها هو أول ما يؤهلها لأداء حق ربها حتى تصفو بذلك وتصلح لحضرة القرب ومن تلك البداية إلى هذه النهاية يسمى ذلك بالطريق وهو أحد محاور هذا الكتاب وتحديث الكتاب عن أول بدايته وتسلسل درجاته والمحور الثاني هو المريد لله تعالى وتحدث عنه فيما ينبغي عليه من الواجبات والآداب وأما ثالث المحاور فهي الصفة التي يتقمصها المريد لله تعالى وهي الإرادة.
وتحدث الكتاب عن وظائفها وأساسها ونحن إذ نورد إليك هذا الكتاب، أخي المسلم نرجو الله أن ينفع به المسلمين أجمعين، وأن يكون منارة يهتدي بها السالكون للطريق المستقيم وهو من مؤلفات العارف بالله سيدي الشيخ إبراهيم الشيخ الكباشي وقد سقناه إليك كما وجدناه مخطوطاً من النسخة الأصلية بلا زيادة أو نقصان.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
نبذة عن المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
هو إبراهيم بن الأمين بن الفقيه على الملقب ب (الكباشي) فهو ينتمي إلى قبيلة العركيين ويلحق نسبة بالأمام الحسين بن على بن أبي طالب كرم الله وجهه. قرأ القران وحفظه على الفقيه ود الفادني (القاطن بقرية ود الفادني التي تقع جنوب شرق مدينة الحصاحيصا) ثم جَّود القرآن على الفقيه (كلي) بقرية العركيين (طيبة) ودرس الفقه والتوحيد وغيرهما من علوم الشريعة الإسلامية بمسيد ود عيسى المشهور.
ثم بعد أن حفظ القرآن وبرع في التوحيد والفقه سلك طريق الزهد والتصوف والسير إلى الله تعالى فاخذ الطريق القادرى (المنسوب للشيخ عبد القادر الجيلانى) من الشيخ طه الأبيض (البطحانى) .
وإنشاء المساجد والخلاوى وكان الناس يتوافدون على خلاويه من مناطق السودان المختلفة لدراسة القران وحفظه ولمعرفة التوحيد والفقه ولم يقف عند إنشاء الخلاوى وتدريس القران بل كان داعية من دعاة الاسلام فقد تتلمذ على يديه كثير من المشايخ واخذوا عليه الطريق وصار كل منهم علما فى مكانه وانشئوا المساجد والخلاوى وساروا على نهجه فى تعليم الناس ونشر الدعوة الاسلامية.
للشيخ إبراهيم الكباشى كثير من المؤلفات فى شتى العلوم الاسلامية والتصوف
وهى الآن محفوظة نذكر منها.
1- العدلة.
2-الذوق.
3-السير إلى الله.
4-التعبير في ذكر البصير.
5-المهدي المنتظر.
6-مقعد الصديقين.
7-بيان المشهد الألهى.
8-انشقاق القمر.
9-إرشاد المريد.
كما أنه ألف مجموعة من الأحزاب والصلوات منها:
1/ جزب الجلال. 2/ حزب الحمد.
3/ حزب الأنوار. 4/ حزب الدائرة.
5/ صلاة فتح الفتوح. 6/ صلاة سر الأسرار.
7 / صلاة الإرشاد.
ولقد أدي الشيخ الكباشي عليه رحمه الله فريضة الحج عام 1283 هـ قبل وفاته بثلاث سنوات حيث كانت وفاته عام 1286 هـ الموافق 1869م بعد أن بلغ من العمر خمس وثمانين سنة.
الفصل الاول:
الحمد لله الذي يقذف في قلوب المريدين لوعة الإرادة فيزعجهم بها إلى سلوك سبيل السعادة التي هي الإيمان والعبادة ومحو كل رسم وعادة وصلي الله علي سيدنا محمد سيد أهل السعادة وعلى آله وصحبه السادة والقادة.
أما بعد فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (19) سورة الإسراء (الاسراء: 18-19) فالعاجلة هي الدنيا فإذا كان المريد لها فضلاً عن الساعي في طلبها مصيره إلى النار مع اللوم والصغار فما أجدر العاقل للأعراض عنها والاحتراز منها والآخر هي الجنة ولا يكفي في حصول الفوز بها الإرادة فقط بل هي مع الإيمان والعمل الصالح المشار اليه بقوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) والسعي المشكور هو العمل المقبول المستوجب صاحبه المدح والثناء والثواب العظيم الذي لا ينقضي ولا يفني بفضل الله ورحمته والخاسر من كل وجه للمريد للدنيا الذي يتحقق فيه الوعيد المذكور في الآية المذكورة هو مريد الدنيا إرادة ينسي في جنبها الآخرة فلا يؤمن أو يؤمن ولا يعمل لها فالأول كافر خالد في النار والثاني فاسق مرسوم الخسارة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمريءٍ ما نوي فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"
أخبر صلى الله عليه وسلم إنه لا عمل إلا عن نية والإنسان على ما ينوي بحيث يثاب ويجازي إن كان خيراً فخيراً وإن شراً فشراً فمن حسنت نيته حسن عمله وإن خبثت نيته خبث عمله لا محالة وإن كان في الصورة ولم يعمل الصالحات تصنعاً للمخلوقين وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من عمل لله بالأقوال والأفعال المتابعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثوابه على الله وكان منقلبه إلى الله وجنته في جوار الله وخيرته وان من قصد غير الله وعمل لغير الله كان ثوابه على من تصنع له وراء اه فمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة لا نشوراً فكيف ينتفع به غيره وخص الهجرة عليه الصلاة والسلام من بين سائر الأعمال تنبيها على الكل بالبعض لانه من العلوم عند أولي الأفهام أن الأخبار ليس خاص بالهجرة بل عام في جميع شرائع الإسلام. ثم أقول اعلم أيها المريد الطالب المتوجه الراغب انك حيث سألتني أن أبعث إليك شيئاً من الكلام المنسوب إلىّ لم يحضرني منه ما أراه مناسباً لما أنت سائله وقد رأيت أن أقيد فصولاً وجيزة تشتمل على شيء من آداب العبادات بعبارة سلسة والله أسأل أن ينفعني وإياك ولله أبر الإخوان بما يعدونه علي من ذلك ويوصلونه إلى ما هنالك فهو حسبي ونعم الوكيل.
الفصل الثاني:
اعلم أن أول الطريق باعث قوي يقذف في القلب يزعجه ويقلقه ويحثه على الإقبال على الله تعالى والدار الآخرة وعلى الإعراض عن الدنيا وعن ما الخلق مشغولين به من عماراتها وجمعها والتمتع بشهواتها>والاغترار بزخرفها وهذا الباعث من جنود الله الباطنية وهو من نفحات الهداية وأعلام البداية وكثيراً ما يفتح به على العبد عند التخويف والترغيب والتسويف وعند النظر إلى أهل الله تعالى والنظر منهم وقد يقع بدون سبب والتعرض للنفحات مأمور به ومرغب فيه والانتظار والارتقاب بدون التعرض ولزوم الباب حمق وغباوة كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" ومن أكرمه الله بهذا الباعث الشريف فليعرف قدره وليعلم أنه من أعظم نعم الله عليه التي لا يقدر قدرها ولا يبلغ شكرها فليبالغ في شكر الله تعالى ما منحه وأولاه وخصه من بين أشكاله وأقرانه، فكم من مسلم بلغ عمره ثمانين سنة أو أكثر لم يجد هذا الباعث ولم يطرقه يوما من الدهر وعلى المريد أن يجتهد في تقويته وحفظه بالبعد عن مجالس المحجوبين والإعراض عن وسوسة الشياطين، وإجابته أن يبادر بالإنابة إلى الله تعالى ويصدق في الإقبال على الله تعالى ولا يتواني ولا يسوف ولا يتباطأ ولا يؤخره ولو أمكنه الفرصة فلينتهزها وفتح له الباب فليدخل ودعاه الداعي فليسرع وليحذر من غدٍ وبعد غدٍ فإن ذلك من عمل الشيطان وليصل ولا يتثبط ولا يتعلل بعدم الفراغ وعدم الصلاحية قال أبو الربيع رحمه الله تعالى "سيروا إلى الله عرجا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة"، وقال ابن عطاء الله في الحكم " إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ من رعونات النفوس".
الفصل الثالث:
أول شيء يبدأ به المريد طريق الله تعالى تصحيح التوبة إلى الله تعالى من جميع الذنوب وإن كان عليه شيء من المظالم لأحد من الخلق فليبادر بأدائها لأربابها إن أمكن وإلا فليطلب الإحلال منهم فإن الذي تكون ذمته مرتهنة بحقوق الخلق لا يمكنه السير إلى الحق وشرط صحة التوبة صدق الندم على ترك العودة إليها مد العمر ومن تا عن شيء من الذنوب وهو مصر عليه وعازم على العودة إليه فلا توبة له وليكن المريد على الدوام في غاية الاعتراف بالتقصير عن القيام بما يجب عليه من حق ربه، ومتى حزن على تقصيره وانكسر قلبه من أجله فليعلم أن الله عنده إذ يقول " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" وعلى المريد أن يحترز من أصغر الذنوب فضلاً من أكبرها أشد من احترازه من تناول السم الناقع ويكون خوفه لو ارتكب شيئاً منها أعظم من خوفه لو أكل السم وذلك بأن المعاصي تعمل في القلوب عمل السم في الأجسام وقلب المريد أعز عليه من جسمه بل رأس مال المريد حفظ قلبه وعمارته والجسم عرضة للآفات وعما قريب يتلف بالموت وليس في ذهابه إلا مفارقة الدنيا النكدة النقصة وأما القلب إذا تلف فقد تلفت الآخرة، فأنه لا ينجو من سخط الله وعذابه ولا يفوز برضوانه وثوابه إلا من أتي الله بقلب سليم.
الفصل الرابع:
وعلى المريد أن يجتهد في حفظ قلبه من الوسواس والأماني والخواطر الرديئة وليقم على باب قلبه حجابا من المراقبة يمنعها من الدخول إليه فإنها إذا دخلته أفسدته ويعسر بعد ذلك أخراجها منه وليبالغ في تقنية قلبه الذي هو موضع نظر ربه من الميل إلى شهوات الدنيا ومن الحقد والغل والغش لأحد من المسلمين ومن الظن السوء بأحد من المسلمين، وليكن ناصحاً لهم، رحيما بهم، مشفقاً عليهم، معتقداً للخير فيهم يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ولتعلم أيها المريد أن للقلب معاصي هي أفحش وأقبح من معاصي الجوارح ولا يصلح القلب لنزول معرفة الله تعالى وصحبته إلا بعد التخلي عنها والتخلص منها فمن أفحشها الكبر والرياء والحسد، فالكبر يدل على صاحبه غاية الحماقة ونهاية الجهالة والغباوة وكيف يليق التكبر ممن يعلم انه مخلوق من نطفة مزرة وفي القبر يصير جيفة قذرة وإن كان عنده شيء من الفضائل والمحاسن فذلك من فضل الله وصنعة ليس له فيه فضل ولا قدرة ولا يحصله بحول ولا قوة ونخشى إذا تكبر على عباد الله بما آتاه الله أن يسلبه ما أعطاه لسوء أدبه ومنازعته لربه في وصفه لأن الكبر من صفات الجبار المتكبر وأما الرياء فيدل على خلو قلب المرء من عظمة الله وإجلاله لأنه يتصنع ويتزين للمخلوقين ولا يقنع بعلم الله رب العالمين ومن عمل بالصالحات وأحب أن يعرفه الناس ليعظموه ويصطنعون إليه المعروف فهو مراءٍ جاهلٍ راغبٍ في الدنيا، لأن الزاهد من لو أقبل الناس عليه بالتعظيم وبذل الأموال لكان يعرض عن ذلك ويكرهه، وهذا يطلب الدنيا بعمل الآخرة فمن أجهل منه؟ وإذا لم يقدر على الزهد في الدنيا فينبغي له أن يطلب الدنيا من المالك لها وهو الله تعالى فان قلوب الخلائق بيده يقبل بهما على من أقبل عليه ويسخرها له فيما يشاء وأما الحسد فهو معاداة لله ظاهرة ومنازعة له في ملكه بينة، لأنه سبحانه إذا أنعم على بعض عباده بنعمة فلا شك أنه مريد لذلك ومختار إذا لا
مكروه له تعالى فإذا أراد العبد خلاف ما أراده مولاه فقد أساء الأدب واستوجب العطب ثم إن الحسد قد يكون على أمور الدنيا كالجاه والمال وهي أصغر من أن يحسد عليها بل ينبغي أن تترحم على من أبتلي بها وتحمد الله الذي عافاك منها، وقد يكون على أمور الآخرة كالعلم والصلاح، وقبيح بالمريد أن يحسد من وافقه على طريقة وعاونه على أمره بل ينبغي له أن يفرح لأنه صار عونا له وحبيبا يتقوى به والمؤمن كثير بأخيه بل والذي ينبغي للمريد أن يحب ببطانه ويجتهد بظاهره في جمع الناس على طريق الله والاشتغال بطاعته ولا يبالي فضلوه أو فضلوه فأن ذلك أرزاق من الله يختص برحمته من يشاء، وفي القلب أخلاق كثيرة مذمومة لم نذكرها حرصاً على الإيجاز وقد نبهنا على أمهاتها. وأمهات الجميع وأصلها ومغرسها حب الدنيا فحبها رأس كل خطيئة كما ورد، واذا سلم القلب منه فقد صحا وصفا وتنور وطاب وتأهل لو ارادات الأنوار وصلح للمكاشفة بالاسرار.
الفصل الخامس:
وعلى المريد إن يجتهد في كبح جوارحه عن المعاصي والآثام ولا يحرك شيئاً منها إلا في طاعة الله ولا يعمل بها إلا شيئاً يعود عليه نفعه في الآخرة وليبالغ في حفظ اللسان فإن جرمه صغير وجُرمُه كبير فليكفه عن الكذب والغيبة وسائر الكلام المحظور وليحترز من الكلام الفاحش ومن الخوض فيما لا يعنيه وإن لم يكن محرماً فأنه يقسى القلب ويكون فيه ضياع الوقت بل ينبغي للمريد ألا يحرك لسانه ألا بتلاوة أو ذكر أو نصح لمسلم أو نهي عن منكر أو شيء من حاجات دنياه التي يستعين بها على آخرته وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل كلام أبن آدم عليه لا له إلا ذكر الله أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر" وأعلم أن السمع والبصر بابان مفتوحاً إلى القلب يسير إليه كل ما يدخل منهما وكم من شيء يسمعه إنسان أو يراه مما لا ينبغي يصل منه أثر إلى القلب يعسر محوه عنه، فليكن المريد حريصاً على حفظ سمعه وبصره وأن يجتهد في كف جميع جوارحه من الآثام وليحذر من النظر بعين الاستحسان إلى زهرة الدنيا وزينتها فان ظاهرها فتنة وبطانها عبرة والعين تنظر إلى ظاهر فتنتها والقلب ينظر إلى باطن عبرتها كم من مريد ينظر إلى شيء من زخارف الدنيا فمال بقلبه إلى محبتها والسير في جمعها وعمارتها وينبغي لك أيها المريد أن تغض بصرك عن جميع الكائنات ولا تنظر إلى شيء منها إلا على قصد الاعتبار ومعناه تذكر عند النظر إليها أنها تفني وتذهب وأنها كانت قبل معدومة وانه كم نظر اليها أحد من الآدميين قد ذهب وبقيت هي، وكم توارثوها خلف عن سلف، وإذا نظرت إلى الموجودات فأنظر اليها نظر المستدل بها على كمال قدرة مُوجدها وبارئها سبحانه، فإن جميع الموجودات تنادي بلسان حالها نداء يسمعه أهل القلوب المنورة الناظرون بنور الله لا إله إلا الله العزيز الحكيم.
الفصل السادس:
وينبغي للمريد ألا يزال على الطهارة وكلما أحدث توضأ وصلى ركعتين وإذا كان متأهلاً وأتي أهله فليبادر للاغتسال من الجنابة في الوقت ولا يلبث جنباً يستعين على دوام الطهارة بقلة الأكل فان الذي يكثر الأكل يقع له كثيراً فيشق عليه المداومة على الطهارة، وفي قلة الأكل معونة على السهر، ومن أكد وظائف الإرادة أنه ينبغي للمريد ألا يأكل إلا عن فاقة ولا ينام إلا عن غلبة ولا يتكلم إلا في حاجة ولا يخالط أحداً من الخلق إلا كانت له في مخالطته فائدة، ومن أكثر الأكل قسي قلبه وثقلت جوارحه عن العبادة وكثرة الأكل تدعو إلى النوم والكلام والمريد إن كثر نومه وكلامه صارت إرادته صورة لا حقيقة لها، في الحديث " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه".
الفصل السابع:
وينبغي للمريد أن يكون أبعد الناس عن المعاصي والمحظورات وأحفظهم للفرائض والمأمورات، وأحرصهم على القربات، وأسرعهم إلى الخيرات، فإن المريد لم يتميز عن غيره من الناس إلا بالإقبال على الله وعلى طاعته والتفرغ عن كل ما يشغله عن عبادته وليكن شحيحاً بأنفاسه بخيلاً بأوقاته لا يعرف منها قليلاً ولا كثيراً إلا مما يقربه من ربه أو يعود عليه بالنفع في معاده وينبغي له أن يكون له ورد من كل نوع من العبادات يواظب عليها ولا يسمح بترك شيء منها في عسر ولا يسر وليكثر من تلاوة القرآن العظيم مع التدبر بعناية والترتيل بالألفاظ وليكن ممتلئ بعظمة المتكلم عند تلاوة كلامه، ولا يقرأ كما يقرأ الغافلون الذين يقرؤون القرآن بالسنة فصيحة وأصوات عالية وقلوب من الخشوع والتعظيم لله خالية، يقرؤونه كما أنزل من فاتحته إلى خاتمته ولا يدرون ما معناه ولا يعلمون لأي شيء أنزل ولو علموا لعملوا فإن العلم ما نفع، ومن علم ولم يعمل فليس بينه وبين الجاهل فرق إلا من حيث إن حجة الله عليه آكد فعلى هذا يكون الجاهل أحسن حالاً منه ولذلك قيل علم لا يعود عليك نفعه فالجهل أعود إليك، وليكن لك أيها المريد حظاً من التهجد فإن الليل وقت خلوة العبد بمولاه فأكثر فيه من التضرع والاستغفار وناجي ربك بلسان الذل والاضطرار من قلب متحقق نهاية العجز وغاية الانكسار واحذر أن تدع قيام الليل ولا يأتي عليك وقت السحر إلا وأنت مستيقظ ذاكراً لله سبحانه وتعالى.
الفصل الثامن:
وكن أيها المريد في غاية الاعتناء بإقامة الصلوات الخمس بإتمام قيامهن وقراءتهن وخشوعهم وركوعهن وسجودهن وسائر أركانهن وسننهن. وأشعر قلبك قبل الدخول في الصلاة عظيمة من تريد الوقوف بين يديه جلَّ وعلا، واحذر أن تناجي ملك الملوك وجبار الجبابرة بقلب لاه مسترسل في أودية الغفلة والوساوس جائل في ميادين الخواطر والأفكار الدنيوية فتستوجب المقت من الله والطرد من باب الله قد قال صلى الله عليه وسلم " إذا قام العبد إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فإذا التفت إلى ورائه يقول الله يا ابن آدم التفت إلى من هو خير لك مني فإن التفت الثانية قال له مثل ذلك فان التفت الثالثة يعرض الله عنه"، فكيف يكون حال من يلتفت قلبه من الصلاة إلى حظوظ الدنيا وزخارفها والله تعالى ينظر إلى الأجسام والظواهر وإنما ينظر إلى القلوب والسرائر واعلم أن روح جميع العبادات ومعانيها إنما هو الحضور مع الله فيها، فمن خلت عبادته من الحضور فعبادته هباءاً منثوراً ومثل الذي لا يحضر مع الله في عبادته كمثل الذي يهدي إلى ملك عظيم ويضفيه ميتة أو صندوقاً فارغاً فما أجدره بالعقوبة وحرمان المثوبة.
الفصل التاسع:
واحذر أيها المريد كل الحذر من ترك الجماعات والجمعات فان ذلك من عادات أهل الباطلات وسمة أرباب الجهالات، وحافظ على الرواتب المشروعات قبل الصلوات وبعدها وواظب على صلاة الوتر والضحى وأحي ما بين العشاءين وكن شديداً على ذلك وبالله التوفيق.
ولكن أوصيكم في آخر الكتاب يا أهل حقيقة الله أن تتفكروا في ذنوبكم الليل والنهار فإذا رأيتم في النهار خيراً فاحمدوا الله على ما عملتم وأن رأيتم أنكم عملتم شراً فاندموا وتوبوا عنه واحذروا العودة إليه وانتهوا في أنفسكم واجتهدوا في تفتيشها ولا تجتهدوا في تفتيش غيركم.
ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
من تاليف العارف بالله تعالي سيدي الشيخ ابراهيم الكباشي الحسيني
مقدمه الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله واهب المنن لمنِ يشاء بغير حساب، المنعم على أوليائه بكمال الشهود بلا حجاب، والصلاة على ذي الجاه الأعم الواسطة في كل النعم وعلى آله وسلم بعد.
يعتبر عند أهل التصوف أن تزكية النفس وتهذيبها هو أول ما يؤهلها لأداء حق ربها حتى تصفو بذلك وتصلح لحضرة القرب ومن تلك البداية إلى هذه النهاية يسمى ذلك بالطريق وهو أحد محاور هذا الكتاب وتحديث الكتاب عن أول بدايته وتسلسل درجاته والمحور الثاني هو المريد لله تعالى وتحدث عنه فيما ينبغي عليه من الواجبات والآداب وأما ثالث المحاور فهي الصفة التي يتقمصها المريد لله تعالى وهي الإرادة.
وتحدث الكتاب عن وظائفها وأساسها ونحن إذ نورد إليك هذا الكتاب، أخي المسلم نرجو الله أن ينفع به المسلمين أجمعين، وأن يكون منارة يهتدي بها السالكون للطريق المستقيم وهو من مؤلفات العارف بالله سيدي الشيخ إبراهيم الشيخ الكباشي وقد سقناه إليك كما وجدناه مخطوطاً من النسخة الأصلية بلا زيادة أو نقصان.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.
نبذة عن المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
هو إبراهيم بن الأمين بن الفقيه على الملقب ب (الكباشي) فهو ينتمي إلى قبيلة العركيين ويلحق نسبة بالأمام الحسين بن على بن أبي طالب كرم الله وجهه. قرأ القران وحفظه على الفقيه ود الفادني (القاطن بقرية ود الفادني التي تقع جنوب شرق مدينة الحصاحيصا) ثم جَّود القرآن على الفقيه (كلي) بقرية العركيين (طيبة) ودرس الفقه والتوحيد وغيرهما من علوم الشريعة الإسلامية بمسيد ود عيسى المشهور.
ثم بعد أن حفظ القرآن وبرع في التوحيد والفقه سلك طريق الزهد والتصوف والسير إلى الله تعالى فاخذ الطريق القادرى (المنسوب للشيخ عبد القادر الجيلانى) من الشيخ طه الأبيض (البطحانى) .
وإنشاء المساجد والخلاوى وكان الناس يتوافدون على خلاويه من مناطق السودان المختلفة لدراسة القران وحفظه ولمعرفة التوحيد والفقه ولم يقف عند إنشاء الخلاوى وتدريس القران بل كان داعية من دعاة الاسلام فقد تتلمذ على يديه كثير من المشايخ واخذوا عليه الطريق وصار كل منهم علما فى مكانه وانشئوا المساجد والخلاوى وساروا على نهجه فى تعليم الناس ونشر الدعوة الاسلامية.
للشيخ إبراهيم الكباشى كثير من المؤلفات فى شتى العلوم الاسلامية والتصوف
وهى الآن محفوظة نذكر منها.
1- العدلة.
2-الذوق.
3-السير إلى الله.
4-التعبير في ذكر البصير.
5-المهدي المنتظر.
6-مقعد الصديقين.
7-بيان المشهد الألهى.
8-انشقاق القمر.
9-إرشاد المريد.
كما أنه ألف مجموعة من الأحزاب والصلوات منها:
1/ جزب الجلال. 2/ حزب الحمد.
3/ حزب الأنوار. 4/ حزب الدائرة.
5/ صلاة فتح الفتوح. 6/ صلاة سر الأسرار.
7 / صلاة الإرشاد.
ولقد أدي الشيخ الكباشي عليه رحمه الله فريضة الحج عام 1283 هـ قبل وفاته بثلاث سنوات حيث كانت وفاته عام 1286 هـ الموافق 1869م بعد أن بلغ من العمر خمس وثمانين سنة.
الفصل الاول:
الحمد لله الذي يقذف في قلوب المريدين لوعة الإرادة فيزعجهم بها إلى سلوك سبيل السعادة التي هي الإيمان والعبادة ومحو كل رسم وعادة وصلي الله علي سيدنا محمد سيد أهل السعادة وعلى آله وصحبه السادة والقادة.
أما بعد فقد قال الله تعالى وهو أصدق القائلين {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} (19) سورة الإسراء (الاسراء: 18-19) فالعاجلة هي الدنيا فإذا كان المريد لها فضلاً عن الساعي في طلبها مصيره إلى النار مع اللوم والصغار فما أجدر العاقل للأعراض عنها والاحتراز منها والآخر هي الجنة ولا يكفي في حصول الفوز بها الإرادة فقط بل هي مع الإيمان والعمل الصالح المشار اليه بقوله تعالى: (وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا) والسعي المشكور هو العمل المقبول المستوجب صاحبه المدح والثناء والثواب العظيم الذي لا ينقضي ولا يفني بفضل الله ورحمته والخاسر من كل وجه للمريد للدنيا الذي يتحقق فيه الوعيد المذكور في الآية المذكورة هو مريد الدنيا إرادة ينسي في جنبها الآخرة فلا يؤمن أو يؤمن ولا يعمل لها فالأول كافر خالد في النار والثاني فاسق مرسوم الخسارة. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمريءٍ ما نوي فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه"
أخبر صلى الله عليه وسلم إنه لا عمل إلا عن نية والإنسان على ما ينوي بحيث يثاب ويجازي إن كان خيراً فخيراً وإن شراً فشراً فمن حسنت نيته حسن عمله وإن خبثت نيته خبث عمله لا محالة وإن كان في الصورة ولم يعمل الصالحات تصنعاً للمخلوقين وأخبر عليه الصلاة والسلام أن من عمل لله بالأقوال والأفعال المتابعة لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثوابه على الله وكان منقلبه إلى الله وجنته في جوار الله وخيرته وان من قصد غير الله وعمل لغير الله كان ثوابه على من تصنع له وراء اه فمن لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً ولا موتاً ولا حياة لا نشوراً فكيف ينتفع به غيره وخص الهجرة عليه الصلاة والسلام من بين سائر الأعمال تنبيها على الكل بالبعض لانه من العلوم عند أولي الأفهام أن الأخبار ليس خاص بالهجرة بل عام في جميع شرائع الإسلام. ثم أقول اعلم أيها المريد الطالب المتوجه الراغب انك حيث سألتني أن أبعث إليك شيئاً من الكلام المنسوب إلىّ لم يحضرني منه ما أراه مناسباً لما أنت سائله وقد رأيت أن أقيد فصولاً وجيزة تشتمل على شيء من آداب العبادات بعبارة سلسة والله أسأل أن ينفعني وإياك ولله أبر الإخوان بما يعدونه علي من ذلك ويوصلونه إلى ما هنالك فهو حسبي ونعم الوكيل.
الفصل الثاني:
اعلم أن أول الطريق باعث قوي يقذف في القلب يزعجه ويقلقه ويحثه على الإقبال على الله تعالى والدار الآخرة وعلى الإعراض عن الدنيا وعن ما الخلق مشغولين به من عماراتها وجمعها والتمتع بشهواتها>والاغترار بزخرفها وهذا الباعث من جنود الله الباطنية وهو من نفحات الهداية وأعلام البداية وكثيراً ما يفتح به على العبد عند التخويف والترغيب والتسويف وعند النظر إلى أهل الله تعالى والنظر منهم وقد يقع بدون سبب والتعرض للنفحات مأمور به ومرغب فيه والانتظار والارتقاب بدون التعرض ولزوم الباب حمق وغباوة كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن لربكم في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها" ومن أكرمه الله بهذا الباعث الشريف فليعرف قدره وليعلم أنه من أعظم نعم الله عليه التي لا يقدر قدرها ولا يبلغ شكرها فليبالغ في شكر الله تعالى ما منحه وأولاه وخصه من بين أشكاله وأقرانه، فكم من مسلم بلغ عمره ثمانين سنة أو أكثر لم يجد هذا الباعث ولم يطرقه يوما من الدهر وعلى المريد أن يجتهد في تقويته وحفظه بالبعد عن مجالس المحجوبين والإعراض عن وسوسة الشياطين، وإجابته أن يبادر بالإنابة إلى الله تعالى ويصدق في الإقبال على الله تعالى ولا يتواني ولا يسوف ولا يتباطأ ولا يؤخره ولو أمكنه الفرصة فلينتهزها وفتح له الباب فليدخل ودعاه الداعي فليسرع وليحذر من غدٍ وبعد غدٍ فإن ذلك من عمل الشيطان وليصل ولا يتثبط ولا يتعلل بعدم الفراغ وعدم الصلاحية قال أبو الربيع رحمه الله تعالى "سيروا إلى الله عرجا ومكاسير ولا تنتظروا الصحة فإن انتظار الصحة بطالة"، وقال ابن عطاء الله في الحكم " إحالتك الأعمال إلى وجود الفراغ من رعونات النفوس".
الفصل الثالث:
أول شيء يبدأ به المريد طريق الله تعالى تصحيح التوبة إلى الله تعالى من جميع الذنوب وإن كان عليه شيء من المظالم لأحد من الخلق فليبادر بأدائها لأربابها إن أمكن وإلا فليطلب الإحلال منهم فإن الذي تكون ذمته مرتهنة بحقوق الخلق لا يمكنه السير إلى الحق وشرط صحة التوبة صدق الندم على ترك العودة إليها مد العمر ومن تا عن شيء من الذنوب وهو مصر عليه وعازم على العودة إليه فلا توبة له وليكن المريد على الدوام في غاية الاعتراف بالتقصير عن القيام بما يجب عليه من حق ربه، ومتى حزن على تقصيره وانكسر قلبه من أجله فليعلم أن الله عنده إذ يقول " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي" وعلى المريد أن يحترز من أصغر الذنوب فضلاً من أكبرها أشد من احترازه من تناول السم الناقع ويكون خوفه لو ارتكب شيئاً منها أعظم من خوفه لو أكل السم وذلك بأن المعاصي تعمل في القلوب عمل السم في الأجسام وقلب المريد أعز عليه من جسمه بل رأس مال المريد حفظ قلبه وعمارته والجسم عرضة للآفات وعما قريب يتلف بالموت وليس في ذهابه إلا مفارقة الدنيا النكدة النقصة وأما القلب إذا تلف فقد تلفت الآخرة، فأنه لا ينجو من سخط الله وعذابه ولا يفوز برضوانه وثوابه إلا من أتي الله بقلب سليم.
الفصل الرابع:
وعلى المريد أن يجتهد في حفظ قلبه من الوسواس والأماني والخواطر الرديئة وليقم على باب قلبه حجابا من المراقبة يمنعها من الدخول إليه فإنها إذا دخلته أفسدته ويعسر بعد ذلك أخراجها منه وليبالغ في تقنية قلبه الذي هو موضع نظر ربه من الميل إلى شهوات الدنيا ومن الحقد والغل والغش لأحد من المسلمين ومن الظن السوء بأحد من المسلمين، وليكن ناصحاً لهم، رحيما بهم، مشفقاً عليهم، معتقداً للخير فيهم يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، ولتعلم أيها المريد أن للقلب معاصي هي أفحش وأقبح من معاصي الجوارح ولا يصلح القلب لنزول معرفة الله تعالى وصحبته إلا بعد التخلي عنها والتخلص منها فمن أفحشها الكبر والرياء والحسد، فالكبر يدل على صاحبه غاية الحماقة ونهاية الجهالة والغباوة وكيف يليق التكبر ممن يعلم انه مخلوق من نطفة مزرة وفي القبر يصير جيفة قذرة وإن كان عنده شيء من الفضائل والمحاسن فذلك من فضل الله وصنعة ليس له فيه فضل ولا قدرة ولا يحصله بحول ولا قوة ونخشى إذا تكبر على عباد الله بما آتاه الله أن يسلبه ما أعطاه لسوء أدبه ومنازعته لربه في وصفه لأن الكبر من صفات الجبار المتكبر وأما الرياء فيدل على خلو قلب المرء من عظمة الله وإجلاله لأنه يتصنع ويتزين للمخلوقين ولا يقنع بعلم الله رب العالمين ومن عمل بالصالحات وأحب أن يعرفه الناس ليعظموه ويصطنعون إليه المعروف فهو مراءٍ جاهلٍ راغبٍ في الدنيا، لأن الزاهد من لو أقبل الناس عليه بالتعظيم وبذل الأموال لكان يعرض عن ذلك ويكرهه، وهذا يطلب الدنيا بعمل الآخرة فمن أجهل منه؟ وإذا لم يقدر على الزهد في الدنيا فينبغي له أن يطلب الدنيا من المالك لها وهو الله تعالى فان قلوب الخلائق بيده يقبل بهما على من أقبل عليه ويسخرها له فيما يشاء وأما الحسد فهو معاداة لله ظاهرة ومنازعة له في ملكه بينة، لأنه سبحانه إذا أنعم على بعض عباده بنعمة فلا شك أنه مريد لذلك ومختار إذا لا
مكروه له تعالى فإذا أراد العبد خلاف ما أراده مولاه فقد أساء الأدب واستوجب العطب ثم إن الحسد قد يكون على أمور الدنيا كالجاه والمال وهي أصغر من أن يحسد عليها بل ينبغي أن تترحم على من أبتلي بها وتحمد الله الذي عافاك منها، وقد يكون على أمور الآخرة كالعلم والصلاح، وقبيح بالمريد أن يحسد من وافقه على طريقة وعاونه على أمره بل ينبغي له أن يفرح لأنه صار عونا له وحبيبا يتقوى به والمؤمن كثير بأخيه بل والذي ينبغي للمريد أن يحب ببطانه ويجتهد بظاهره في جمع الناس على طريق الله والاشتغال بطاعته ولا يبالي فضلوه أو فضلوه فأن ذلك أرزاق من الله يختص برحمته من يشاء، وفي القلب أخلاق كثيرة مذمومة لم نذكرها حرصاً على الإيجاز وقد نبهنا على أمهاتها. وأمهات الجميع وأصلها ومغرسها حب الدنيا فحبها رأس كل خطيئة كما ورد، واذا سلم القلب منه فقد صحا وصفا وتنور وطاب وتأهل لو ارادات الأنوار وصلح للمكاشفة بالاسرار.
الفصل الخامس:
وعلى المريد إن يجتهد في كبح جوارحه عن المعاصي والآثام ولا يحرك شيئاً منها إلا في طاعة الله ولا يعمل بها إلا شيئاً يعود عليه نفعه في الآخرة وليبالغ في حفظ اللسان فإن جرمه صغير وجُرمُه كبير فليكفه عن الكذب والغيبة وسائر الكلام المحظور وليحترز من الكلام الفاحش ومن الخوض فيما لا يعنيه وإن لم يكن محرماً فأنه يقسى القلب ويكون فيه ضياع الوقت بل ينبغي للمريد ألا يحرك لسانه ألا بتلاوة أو ذكر أو نصح لمسلم أو نهي عن منكر أو شيء من حاجات دنياه التي يستعين بها على آخرته وقد قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل كلام أبن آدم عليه لا له إلا ذكر الله أو أمر بمعروف أو نهي عن منكر" وأعلم أن السمع والبصر بابان مفتوحاً إلى القلب يسير إليه كل ما يدخل منهما وكم من شيء يسمعه إنسان أو يراه مما لا ينبغي يصل منه أثر إلى القلب يعسر محوه عنه، فليكن المريد حريصاً على حفظ سمعه وبصره وأن يجتهد في كف جميع جوارحه من الآثام وليحذر من النظر بعين الاستحسان إلى زهرة الدنيا وزينتها فان ظاهرها فتنة وبطانها عبرة والعين تنظر إلى ظاهر فتنتها والقلب ينظر إلى باطن عبرتها كم من مريد ينظر إلى شيء من زخارف الدنيا فمال بقلبه إلى محبتها والسير في جمعها وعمارتها وينبغي لك أيها المريد أن تغض بصرك عن جميع الكائنات ولا تنظر إلى شيء منها إلا على قصد الاعتبار ومعناه تذكر عند النظر إليها أنها تفني وتذهب وأنها كانت قبل معدومة وانه كم نظر اليها أحد من الآدميين قد ذهب وبقيت هي، وكم توارثوها خلف عن سلف، وإذا نظرت إلى الموجودات فأنظر اليها نظر المستدل بها على كمال قدرة مُوجدها وبارئها سبحانه، فإن جميع الموجودات تنادي بلسان حالها نداء يسمعه أهل القلوب المنورة الناظرون بنور الله لا إله إلا الله العزيز الحكيم.
الفصل السادس:
وينبغي للمريد ألا يزال على الطهارة وكلما أحدث توضأ وصلى ركعتين وإذا كان متأهلاً وأتي أهله فليبادر للاغتسال من الجنابة في الوقت ولا يلبث جنباً يستعين على دوام الطهارة بقلة الأكل فان الذي يكثر الأكل يقع له كثيراً فيشق عليه المداومة على الطهارة، وفي قلة الأكل معونة على السهر، ومن أكد وظائف الإرادة أنه ينبغي للمريد ألا يأكل إلا عن فاقة ولا ينام إلا عن غلبة ولا يتكلم إلا في حاجة ولا يخالط أحداً من الخلق إلا كانت له في مخالطته فائدة، ومن أكثر الأكل قسي قلبه وثقلت جوارحه عن العبادة وكثرة الأكل تدعو إلى النوم والكلام والمريد إن كثر نومه وكلامه صارت إرادته صورة لا حقيقة لها، في الحديث " ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه، حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه".
الفصل السابع:
وينبغي للمريد أن يكون أبعد الناس عن المعاصي والمحظورات وأحفظهم للفرائض والمأمورات، وأحرصهم على القربات، وأسرعهم إلى الخيرات، فإن المريد لم يتميز عن غيره من الناس إلا بالإقبال على الله وعلى طاعته والتفرغ عن كل ما يشغله عن عبادته وليكن شحيحاً بأنفاسه بخيلاً بأوقاته لا يعرف منها قليلاً ولا كثيراً إلا مما يقربه من ربه أو يعود عليه بالنفع في معاده وينبغي له أن يكون له ورد من كل نوع من العبادات يواظب عليها ولا يسمح بترك شيء منها في عسر ولا يسر وليكثر من تلاوة القرآن العظيم مع التدبر بعناية والترتيل بالألفاظ وليكن ممتلئ بعظمة المتكلم عند تلاوة كلامه، ولا يقرأ كما يقرأ الغافلون الذين يقرؤون القرآن بالسنة فصيحة وأصوات عالية وقلوب من الخشوع والتعظيم لله خالية، يقرؤونه كما أنزل من فاتحته إلى خاتمته ولا يدرون ما معناه ولا يعلمون لأي شيء أنزل ولو علموا لعملوا فإن العلم ما نفع، ومن علم ولم يعمل فليس بينه وبين الجاهل فرق إلا من حيث إن حجة الله عليه آكد فعلى هذا يكون الجاهل أحسن حالاً منه ولذلك قيل علم لا يعود عليك نفعه فالجهل أعود إليك، وليكن لك أيها المريد حظاً من التهجد فإن الليل وقت خلوة العبد بمولاه فأكثر فيه من التضرع والاستغفار وناجي ربك بلسان الذل والاضطرار من قلب متحقق نهاية العجز وغاية الانكسار واحذر أن تدع قيام الليل ولا يأتي عليك وقت السحر إلا وأنت مستيقظ ذاكراً لله سبحانه وتعالى.
الفصل الثامن:
وكن أيها المريد في غاية الاعتناء بإقامة الصلوات الخمس بإتمام قيامهن وقراءتهن وخشوعهم وركوعهن وسجودهن وسائر أركانهن وسننهن. وأشعر قلبك قبل الدخول في الصلاة عظيمة من تريد الوقوف بين يديه جلَّ وعلا، واحذر أن تناجي ملك الملوك وجبار الجبابرة بقلب لاه مسترسل في أودية الغفلة والوساوس جائل في ميادين الخواطر والأفكار الدنيوية فتستوجب المقت من الله والطرد من باب الله قد قال صلى الله عليه وسلم " إذا قام العبد إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فإذا التفت إلى ورائه يقول الله يا ابن آدم التفت إلى من هو خير لك مني فإن التفت الثانية قال له مثل ذلك فان التفت الثالثة يعرض الله عنه"، فكيف يكون حال من يلتفت قلبه من الصلاة إلى حظوظ الدنيا وزخارفها والله تعالى ينظر إلى الأجسام والظواهر وإنما ينظر إلى القلوب والسرائر واعلم أن روح جميع العبادات ومعانيها إنما هو الحضور مع الله فيها، فمن خلت عبادته من الحضور فعبادته هباءاً منثوراً ومثل الذي لا يحضر مع الله في عبادته كمثل الذي يهدي إلى ملك عظيم ويضفيه ميتة أو صندوقاً فارغاً فما أجدره بالعقوبة وحرمان المثوبة.
الفصل التاسع:
واحذر أيها المريد كل الحذر من ترك الجماعات والجمعات فان ذلك من عادات أهل الباطلات وسمة أرباب الجهالات، وحافظ على الرواتب المشروعات قبل الصلوات وبعدها وواظب على صلاة الوتر والضحى وأحي ما بين العشاءين وكن شديداً على ذلك وبالله التوفيق.
ولكن أوصيكم في آخر الكتاب يا أهل حقيقة الله أن تتفكروا في ذنوبكم الليل والنهار فإذا رأيتم في النهار خيراً فاحمدوا الله على ما عملتم وأن رأيتم أنكم عملتم شراً فاندموا وتوبوا عنه واحذروا العودة إليه وانتهوا في أنفسكم واجتهدوا في تفتيشها ولا تجتهدوا في تفتيش غيركم.
ولا حولا ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin