(الباب الثلاثون في تفصيل أخلاق الصوفية)
من أحسن أخلاق الصوفية التواضع، ولا يلبس العبد لُبْسة أفضل من التواضع، ومن ظفر بكنز التواضع والحكمة يقيم نفسه عند كل أحد مقدارًا يعلم أنه يقيمه، ويقيم كل أحد على ما عنده من نفسه، ومن رزق هذا فقد استراح وأراح، وما يعقلها إلا العالمون.
(أخبرنا) أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا عثمان بن عبد الله قال: أنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا النضر بن عبد الجبار قال: أنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ تعالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ».
وقال — في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾
[آل عمران: 31]، قال: «على البر والتقوى والرهبة وذلة النفس».
(وكان) من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب دعوة الحر والعبد، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها ويأكلها، ولا يستكبر عن إجابة الأَمَةِ والمسكين.
(وأخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن ابن خلف -إجازة- عن السلمي قال: أنا أحمد بن علي المقري قال: أنا محمد بن المنهال قال: حدثني أبي عن محمد بن جابر اليماني عن سليمان بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت، وترد على من سلم عليك، وأن ترضى بالدون من المجلس وألَّا تحب المدحة والتزكية والبر».
(وورد) -أيضًا- عنه عليه السلام: «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ».
(سُئِل الجُنَيد) عن التواضع. فقال: خفض الجناح ولِينُ الجانب.
(وسُئِل) الفُضَيْل عن التواضع. فقال: تخضع للحق، وتنقاد له، وتقبله ممن قاله، وتسمع منه.
(وقال أيضًا): من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
(وقال) وهب بن مُنَبِّه: مكتوب في كُتِب الله: إني أخرجت الذر من صلب آدم فلم أجد قلبًا أشد تواضعًا إلي من قلب موسى عليه السلام فلذلك اصطفيته وكلمته.
(وقيل من عرف كوامن نفسه لم يطمع في العلو والشرف، ويسلك سبيل التواضع، فلا يخاصم من يذمه، ويشكر الله لمن يحمده.
وقال أبو حفص: من أحب أن يتواضع قلبه فيصحب الصالحين، وليلتزم بحرمتهم، فمن شدة تواضعهم في أنفسهم يقتدي بهم ولا يتكبر.
(وقال لقمان عليه السلام): لكل شيء مطية، ومطية العمل التواضع.
وقال النوري: خمسة أنفس أعز الخلق في الدنيا: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سني.
(وقال الجلاء): لولا شرف التواضع كنا إذا مشينا نخطر.
وقال يوسف بن أسباط وقد سئل: ما غاية التواضع؟ قال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيته خيرًا منك.
ورأيت شيخنا ضياء الدين أبا النجيب وكنت معه في سفرة إلى الشام، وقد بعث بعض أبناء الدين له طعامًا على رءوس الأسارى من الإفرنج، وهم في قيودهم، فلما مدت السفرة والأسارى ينتظرون الأواني حتى تفرغ قال للخادم: أحضر الأسارى حتى يقعدوا على السفرة مع الفقراء، فجاء بهم وأقعدهم على السفرة صفًّا واحدًا، وقام الشيخ من سجادته ومشى إليهم، وقعد بينهم كالواحد منهم فأكل وأكلوا، وظهر لنا على وجهه ما نازل باطنه من التواضع لله والانكسار في نفسه، وانسلاخه من التكبر عليهم بإيمانه وعلمه وعمله.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن أبي بكر بن خلف -إجازة- عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: صَحَّ عند أهل المعرفة أن للدين رأس مال؛ خمسة في الظاهر، وخمسة في الباطن. فأما اللواتي في الظاهر: فصدق في اللسان، وسخاوة في الملك، وتواضع في الأبدان، وكف الأذى واحتماله بلا إباء. وأما اللواتي في الباطن: فحب وجود سيده، وخوف الفراق من سيده، ورجاء الوصول إلى سيده، والندم على فعله، والحياء من ربه.
وقال يحيى بن معاذ: التواضع في الخَلْق حسن، ولكن في الأغنياء أحسن، والتكبر سَمِج في الخلق، ولكن في الفقراء أسمج.
(وقال ذو النون): ثلاثة من علامات التواضع: تصغير النفس معرفةً بالعيب، وتعظيم الناس حرمةً للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل واحد.
(وقيل) لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعًا؟ قال: إذا لم ير لنفسه حقًّا ما، ولا حالًا من علمه بشرها وازدرائها، ولا يرى أن في الخلق شرًّا منه.
(قال) بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل، والبخل أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء. وقيل لبعض الحكماء: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه؟ قال: نعم. أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر. والكشف عن حقيقة التواضع أن التواضع رعاية الاعتدال بين الكبر والضعة. فالكبر رَفْعُ الإنسان نفسه فوق قدره، والضعة وَضْع الإنسان نفسه مكانا يزري به ويفضي إلى تضييع حقه. وقد انفهم من كثير من إشارات المشايخ في شرح التواضع أشياء إلى حد أقاموا التواضع فيه مقام الضعة، ويلوح فيه الهوى من أوج الإفراط إلى حضيض التفريط، ويوهم انحرافًا عن حد الاعتدال، ويكون قصدهم في ذلك المبالغة في قمع نفوس المريدين خوفًا عليهم من العجب والكبر، فَقَلَّ أن ينفكَّ مريد في مبادي ظهور سلطان الحال من العجب، حتى لقد نُقِل عن جمع من الكبار كلمات مؤذية بالإعجاب. وكل ما نقل من ذلك القبيل من المشايخ لبقايا السكر عندهم، وانحصارهم في مضيق سكر الحال، وعدم الخروج إلى فضاء الصحو في ابتداء أمرهم، وذلك إذا حَدَّق صاحب البصيرة نظره يعلم أنه مِنِ استراقِ النفسِ السمعَ عند نزول الوارد على القلب، والنفسُ إذا استرقتِ السمعَ عند ظهور الوارد على القلب ظهرت بصفتها على وجهٍ لا يجفو على الوقت وصلاقة الحال فيكون من ذلك كلمات مؤذنة بالعجب، كقول بعضهم: مَن تحت خضراء السماء مثلي. وقول بعضهم: قدمي على رقبة جميع الأولياء.
وكقول بعضهم: أَسْرَجْتُ وأَلْجَمْتُ وطُفْتُ في أقطار الأرض، وقلتُ: هل مِن مبارزٍ؟ فلم يخرج إليَّ أحد. إشارةً منه في ذلك إلى تفرده في وقته.
ومن أشكل عليه ذلك ولم يعلم أنه من استراقِ النفسِ السمعَ فليزن ذلك بميزان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعهم، واجتنابهم أمثال هذه الكلمات، واستبعادهم أن يجوز للعبد التظاهر بشيء من ذلك، ولكن يجعل لكلام الصادقين وجه في الصحة، ويقال: إن ذلك طفح عليهم في سُكر الحال، وكلام السكارى يحمل. فالمشايخ أرباب التمكين، لمَّا علموا في النفوس هذا الداء الدفين بالغوا في شرح التواضع إلى حد ألحقوه بالضعة تداويًا للمريدين، والاعتدال في التواضع أن يَرْضَى الإنسان بمنزلة دوين ما يستحقه، ولو أمن الشخص جموحَ النفس لأوقفها على حد يستحقه من غير زيادة ولا نقصان، ولكن لما كان الجموح في جِبِلَّة النفس لكونها مخلوقة من صلصال كالفخار فيها نسبة النارية، وطلب الاستعلاء بطبعها إلى مركز النار؛ احتاجت للتداوي بالتواضع وإيقافها دوين ما تستحقه؛ لئلا يتطرق إليها الكبر، فالكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره، والتكبر إظهاره ذلك، وهذه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى، ومن ادعاها من المخلوقين يكون كاذبًا، والكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل الانسلاخ من الإنسانية حقيقة، وقد عَظَّم الله تعالى شأن الكبر بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ [النحل: 23].
وقال تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزُّمر: 60].
وقد ورد بقول الله تعالى: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِد مِنْهُمَا قصمته». وفي رواية: «قذفته في نار جهنم».
وقال عز وجل ردًّا للإنسان في طغيانه إلى حده: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37].
وقال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾
[الطًّارق: 5، 6].
وأبلغ من قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: 17- 19].
وقد قال بعضهم لبعض المتكبرين: أولك نطفة مَذِرَة، وآخرك جيفة قَذِرَة، وأنت فيما بين ذلك حامل العَذِرَة.
وقد نظم الشاعر هذا المعنى:
كيف يزهو من رجيعه
* أبد الدهر ضجيعه
وإذا ارتحل التواضع من القلب، وسكن الكبر انتشر أثره في بعض الجوارح، ويرشح الإناء بما فيه، فتارة يظهر أثره في العنق بالتمايل، وتارة في الخد بالتَّصْعِير. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ [لقمان: 18].
وتارة يظهر في الرأس عند استعصاء النفس. قال الله تعالى: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون: 5].
وكما أن الكِبْر له انقسام على الجوارح والأعضاء، تتشعب منه شعب، فكذلك بعضها أكثف من البعض كالتيه والزهو والعزة وغير ذلك، إلا أن العزة تشتبه بالكِبْر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكِبْر مذموم، والعزة محمودة.
قال الله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].
والعزة غير الكبر، ولا يحل لمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها ألَّا يضعها لأغراض عاجلة دنيوية، كما أن الكِبْر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها.
(قال بعضهم) للحسن: ما أعظمك في نفسك، قال: لست بعظيم ولكني عزيز. ولما كانت العزة غير مذمومة، وفيها مشاكلة بالكبر قال الله تعالى: ﴿تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأحقاف: 20]. فيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، فالوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوفٌ على صراط العزة المنصوب على متن نار الكِبْر، ولا يؤيد في ذلك ولا يثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين والسادة المقربين ورؤساء الأبدال والصديقين.
(قال بعضهم): من تكبر فقد أخبر عن نذالة نفسه، ومن تواضع فقد أظهر كرم طبعه.
(وقال الترمذي): التواضع على ضربين: الأول: أن يتواضع العبد لأمر الله ونهيه؛ فإن النفس لطلب الراحة تتلهى عن أمره، والشهوة التي فيها تهوي في نهيه، فإذا وضع نفسه لأمره ونهيه فهو تواضع.
والثاني: أن يضع نفسه لعظمة الله، فإن اشتهت نفسه شيئًا مما أطلق له من كل نوع من الأنواع منعها ذلك، وجملة ذلك أن يترك مشيئته لمشيئة الله تعالى.
واعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لَمَعَانِ نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتطيع للحق والخلق لمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها، وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا عليه السلام في أوطان القرب، كما روي عن عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الطويل قالت: فقدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، ظنًّا مني أنه عند بعض أزواجه، فطلبته في حُجَرِ نسائه فلم أجده، فوجدته في المسجد ساجدًا كالثوب الخَلِق، وهو يقول في سجوده: «سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، وقَرَّ بِكَ لساني، وها أنا ذا بين يديك، يا عظيم، يا غافر الذنب العظيم». وقوله عليه السلام: «سجد لك سوادي وخيالي». استقصاء في التواضع بمحو آثار الوجود؛ حيث لم تتخلف ذرة منه عن السجود ظاهرًا وباطنًا ومتى لم يكن للصوفي حظ من التواضع الخاص على بساط القرب لا يتوفر حظه من التواضع للخلق، وهذه سعادات إن أقبلت جاءت بكليتها، والتواضع من أشرف أخلاق الصوفية.
(ومن أخلاق الصوفية) المداراة، واحتمال الأذى من الخلق، وبلغ من مداراة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجد قتيلًا من أصحابه بين اليهود فلم يَحِفْ عليهم، ولم يزد على مُرِّ الحق بل وداه بمئة ناقة من قِبَلِه، وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقوون به.
وكان من حسن مداراته ألَّا يَذُمَّ طعامًا ولا ينهر خادمًا.
(أخبرنا) الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفضل الكرخي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أُفٍّ قط، وما قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، وما مسست خزًّا قط ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمداراة مع كل أحد من الأهل والأولاد والجيران والأصحاب والخلق كافة من أخلاق الصوفية، وباحتمال الأذى يظهر جوهر النفس، وقد قيل: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.
(أخبرنا) أبو زرعة طاهر عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا أبو محمد الصرفيني قال: أنا أبو القاسم عبيد الله بن حبابة قال: أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا علي بن الجعد قال: أنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وَثَّاب عن شيخٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -قلت: من هو؟ قال: ابن عمر- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المؤمن الذي يعاشر الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم».
(وفي الخبر): «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟». قيل: ماذا كان يصنع أبو ضمضم؟ قَالَ: «كَانَ إذا أصبح قَالَ: اللهم إني تصدقت اليوم بعِرْضِي على من ظلمني، فمن ضربني لا أضربه، ومن شتمني لا أشتمه، ومن ظلمني لا أظلمه».
(وأخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: حدثنا الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن عروة عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَأَنَا عِنْدَهُ- فَقَالَ: «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» -أَوْ: «أَخُو الْعَشِيرَةِ-». ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ؟ قَالَ «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ يتركه النَّاسُ -أَوْ: يدعه النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ».
(وروى) أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فما من شيء يستدل به على قوة عقل الشخص ووفور علمه وحلمه كحسن المداراة، والنفس لا تزال تشمئز ممن يعكس مرادها، ويستفزها الغيظ والغضب، وبالمداراة قطع حمة النفس، ورد طيشها ونفورها.
وقد ورد: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَي الْحُورِ شَاءَ».
وروى جابر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ على مَنْ تَحْرم النَّار؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ، لَيِّنٍ، سَهْلٍ، قَرِيبٍ».
(وروى) أبو مسعود الأنصاري رضى الله عنه قال: أتي النبي عليه السلام بِرَجُلٍ فكلمه فأرعد، فقال: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ من قريش كانت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ».
(وعن بعضهم) في معنى لين جانب الصوفية:
هينون لينون أيسار بنو يسر
* سواس مكرمة أبناء إيسار
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا
* ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
* مثل النجوم التي يسري بها الساري
(وروى) أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ».
(حدثنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب -إملاء- قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني قال: أنا أبو الحسين عبد الرحمن بن أبي طلحة الداودي قال: أنا أبو محمد عبد الله الحموي السرخسي قال: أنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ: زَحَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ:«بِسْمِ اللهِ، أَوْجَعْتَنِي»، قال: فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِمًا، أَقُولُ: أَوْجَعْتُ رَسُولَ الله،ِ قَالَ: فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قُلْتُ: هَذَا وَاللهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي بِالأَمْسِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ، فَقَالَ لِي: «إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ، فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا».
ومن أخلاق الصوفية الإيثار والمواساة، ويحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة طبعًا، وقوة اليقين شرعًا، يُؤْثِرون بالموجود، ويصبرون على المفقود.
قال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بَلْخ، قدم علينا حاجًّا، فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا. فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت له: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
(وقال ذو النون): من علامة الزهد المشروح صدره ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار بالقوت.
(روى) عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم نقسم لكم شيئًا من الغنيمة». فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها. فأنزل الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
وروى أبو هريرة رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابه جهد، فقال: يا رسول الله إني جائع فأطعمني، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه: «هل عندكن شيء؟» فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندنا ما نطعمك هذه الليلة». ثم قال: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا هذه اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟» فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه، ولا تدخري عنه شيئًا. فقالت: ما عندنا إلا قوت الصِّبْيَة، فقال: فقومي عَلِّليهم عن قُوتِهِم حتى يناموا، ولا يُطْعَمُون شيئًا، ثم اسرجي، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله حتى يشبع ضيف رسول الله، فقامت إلى الصِّبْية فَعَلَّلَتْهُم حتى ناموا عن قُوتِهِم، ولم يُطْعَموا شيئًا، ثم قامت فأثردت وأسرجت، فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته، فجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله، وظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبحوا غَدَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «لقد عَجِبَ اللهُ مِنْ فلان وفلانة هذه اللَّيْلَةَ». وأنزل الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
(وقال) أنس رضى الله عنه: أهدي لبعض أصحابه رأس شاة مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فأنزلت الآية لذلك.
وروي أن أبا الحسن الأنطاكي اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلًا بقرية بقرى الري، وله أرغفة ممدودة لم تشبع خمسة منهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما رفعوا الطعام فإذا هو بحاله لم يأكل أحد مهم إيثارًا منه على نفسه.
وحُكِي عن حذيفة العدوي قال: انطلقتُ يوم اليرموك لطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ نعم، فإذا رجل يقول: آه، فقال ابن عمي: انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع هشام آخر يقول: آه، فقال: انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام، فإذا هو أيضًا قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي، فإذا هو أيضًا قد مات.
(وسُئِلَ) أبو الحسين البوشنجي عن الفُتوة فقال: الفتوة عندي ما وصف الله تعالى به الأنصار في قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾ [الحشر: 9].
قال ابن عطاء: يؤثرون على أنفسهم جودًا وكرمًا، ولو كان بهم خصاصة؛ يعني: جوعًا وفقرًا.
(قال) أبو حفص: الإيثار: هو أن يقدم حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة.
(وقال) بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب وذي معرفة.
(وقال يوسف) ابن الحسين: من رأى لنفسه ملكًا، لا يصح منه الإيثار؛ لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يرى الأشياء كلها للحق، فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه.
وقال بعضهم: حقيقة الإيثار أن تؤثر بحظ آخرتك على إخوانك؛ فإن الدنيا أقل خطرًا من أن يكون لإيثارها محل أو ذكر. ومن هذا المعنى ما نقل أن بعضهم رأى أخًا له، فلم يظهر البشر الكثير في وجهه، فأنكر أخوه ذلك منه فقال: يا أخي سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان ينزل عليهما مئة رحمة؛ تسعون لأكثرهما بشرًا، وعشرة لأقلهما بشرًا». فأردت أن أكون أقل بشرًا منك ليكون لك الأكثر.
(أخبرنا) الشيخ ضياء الدين أبو النجم -إجازة- قال: أنا أبو حفص عمر بن الصفار النيسابوري قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا القاسم الرازي يقول: سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: من صحب الصوفية فليصحبهم بلا نفس ولا قلب ولا ملك، فمن نظر إلى شيء من أسبابه قطعه ذلك عن بلوغ مقصده.
(وقال سهل بن عبد الله): الصوفي من يرى دمه هدرًا وملكه مباحًا. وقال رويم: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.
(قيل): لما سُعِيَ بالصوفية، وتميز الجنيد بالفقه، وقبض على الشجام والرقام والنوري، وبسط النطع لضرب رقابهم، تقدم النوري فقيل له: إلى ماذا تبادر؟ فقال: أوثر إخواني بفضل حياة ساعة. وقيل: دخل الروذباري دار بعض أصحابه فوجده غائبًا وباب بيته مغلق، فقال: صوفي وله باب مغلق؟ اكسروا الباب، فكسروه وأمر بجميع ما وجدوا في البيت أن يباع، فأنفذوه إلى السوق واتخذوا رفقًا من الثمن، وقعدوا في الدار، فدخل صاحب المنزل ولم يقل شيئًا، ودخلت امرأته وعليها كساء فدخلت بيتًا، فرمت بالكساء، وقالت: هذا أيضًا من بقية المتاع فبيعوه. فقال الزوج لها: لم تكلفت هذا باختيارك؟ قالت: اسكت مثل الشيخ يباسطنا ويحكم علينا، ويبقى لنا شيء ندخره عنه؟.
(وقيل): مرض قيس بن سعد فاستبطأ إخوانه في عيادته، فسأل عنهم فقالوا: إنهم يستحيون بما لك عليهم من الدَّين. فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان عن الزيارة، ثم أمر مناديًا ينادي: من كان لقيس عليه مالٍ، فهو منه في حلٍّ، فكُسِرَت عتبة داره بالعشي؛ لكثرة عواده.
(وقيل): أتى رجل صديقًا له، ودق عليه الباب، فلما خرج قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمئة درهم دين عليَّ. فدخل الدار ووزن أربعمئة درهم وأخرجها إليه، ودخل الدار باكيًا، فقالت امرأته: هلَّا تعللت حين شق عليك الإجابة؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج أن يفاتحني به.
(وأخبرنا) الشيخ أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا محمد بن محمد -إمام جامع أصفهان- قال: حدثنا أبو عبد الله الجرجاني قال: أنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمدآباذي قال: حدثنا أبو البحتري قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا بريدة بن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ».
(وحدث) جَابِر عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إذا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ قال: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، إِنَّ مِنْ إِخْوَانِكُمْ قَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ وَلَا عدة، فَلْيَضُمَّ أَحَدُكُمْ إِلَيْهِ الرجل والرَّجُلَيْنِ والثَّلَاثَةَ، فَمَا لأحدكم مِنْ ظَهْرِ جَمَلِهِ إِلَّا عُقْبَةً كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ»، قال: فَضَمَمْتُ إِلَيَّ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَا لِي إِلَّا عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ من جمله.
(وروى) أنس قال: لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي عليه السلام بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له: أقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فأطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها تتزوجها، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك.
فما حمل الصوفي على الإيثار إلا طهارةُ نفسه وشرف غريزته، وما جعله الله تعالى صوفيًّا إلا بعد أن سوى غريزته لذلك، وكل من كانت غريزته السخاء، والسخي يوشك أن يصير صوفيًّا؛ لأن السخاء صفة الغريزة، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16]. حكم بالفلاح لمن يُوَقَّى الشح وحكم بالفلاح لمن أنفق وبذل. فقال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5].
والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين، والنبي عليه السلام نَبَّه بقوله: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات». فجعل إحدى المهلكات شحًّا مطاعًا، ولم يقل مجرد الشح يكون مهلكًا، بل يكون مهلكا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع فإنه لا يُنكَر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس مستمدًّا من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جِبِلِّيّ فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة، وهو لنفوس الصوفية الداعي لهم إلى البذل والإيثار والسخاء أتم وأكمل من الجود، ففي مقابلة الجود البخل، وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء إذا كان من ضرورة الغريزة، وكل سخي جواد، وليس كل جواد سخيًّا، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالسخاء؛ لأن السخاء من نتيجة الغرائز، والله تعالى منزه عن الغريزة، والجود يتطرق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعًا إلى عِوَض من الخلق أو الحق بمقابلٍ ما من الثناء وغيره من الخلق والثواب من الله تعالى، والسخاء لا يتطرق إليه الرياء؛ لأنه يَنْبُع من النفس الزكية المرتفعة عن الأعواض دنيا وآخرة؛ لأن طلب العوض مشعر بالبخل لكونه معلولًا بطلب العوض، فما تمحض سخاءً، فالسخاء لأهل الصفاء والإيثار لأهل الأنوار.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]. أنه نفى في الآية الإطعام لطلب الأعواض، حيث قال: +لَا نُرِيدُ﴾ بعد قوله: ﴿لِوَجْهِ اللهِ﴾، فما كان لله لا يُشْعر بطلب العوض، بل الغريزة لطهارتها تنجذب إلى مراد الحق لا لعوض، وذلك أكمل السخاء من أطهر الغرائز.
روت أسماء بنت أبي بكر قالت: قلت: يا رسول الله، ليس لي من شيء إلا ما أدخل عَلَيَّ الزبير، فأعطي؟ قال: «نعم، لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ».
ومن أخلاق الصوفية: التجاوز والعفو، ومقابلة السيئة بالحسنة.
(قال) سفيان: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك؛ فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة، كنقد السوق خذ شيئًا وهات شيئًا.
وقال الحسن: الإحسان أن تَعم ولا تخص، كالشمس والريح والغيث.
(وروى) أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت قصورًا مشرفة على الجنة، فقلت: يا جبرائيل، لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس».
(روى) أبو هريرة رضى الله عنه أن أبا بكر رضى الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت، والنبي — يتبسم، ثم رد أبو بكر عليه بعض الذي قال: فغضب النبي، وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله، شتمني وأنت تتبسم، ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت. فقال: «إنك حيث كنت ساكنًا كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عليه، فلما تكلمتَ وَقَعَ الشيطان، فلم أكن لأقعد في مقعد فيه الشيطان، يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ ليس عبد يُظلم بِمَظْلَمَةٍ فيعفو عَنْهَا إِلَّا أَعَزَّ اللهُ نَصْرَهُ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ قلة، وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها كثرة».
(أخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا الكروخي قال: أنا الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً؛ تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا».
(وقال) بعض الصحابة: يا رسول الله، الرجل أَمُرُّ به فلا يُقْرِيني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه، قال: «لا، أَقْرِهِ».
وقال الفُضَيْل: الفتوة الصفح عن عَثَرات الإخوان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْوَاصِلُ الْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».
(وروي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك».
ومن أخلاق الصوفية البشر، وطلاقة الوجه الصوفي بكاؤه في خلوته، وبشره وطلاقة وجهه مع الناس، فالبشر على وجهه من آثار أنوار قلبه، وقد تُنَازِل باطن الصوفي منازلات إلهية ومواهب قدسية يرتوي منها القلب، ويمتلئ فرحًا وسرورًا، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58].
والسرور إذا تمكن من القلب فاض على الوجه آثاره. قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس: 38]؛ أي مضيئة مشرقة، مستبشرة؛ أي: فرحة قيل: أشرقت من طول ما اغبرت في سبيل الله، ومثال فيض النور على الوجه من القلب كفيضان نور السراج على الزجاج والمشكاة، فالوجه مشكاة، والقلب زجاج، والروح مصباح، فإذا تنعم القلب بلذيذ المسامرة ظهر البِشْر على الوجه. قال الله تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطَّففين: 24]؛ أي: نضارته وبريقه، يقال: أنضر النبات؛ إذا أزهر ونَوَّر، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]، فلما نظرت نضرت، فأرباب المشاهدة من الصوفية تنورت بصائرهم بنور المشاهدة، وانصقلت مرآة قلوبهم، وانعكس فيها نور الجمال الأزلي، وإذا أشرقت الشمس على المرآة المصقولة استنارت الجدران، قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29]. وإذا تأثر الوجه بسجود الظلال وهي القوالب في قول الله تعالى:﴿وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: 15]. كيف لا يتأثر بشهود الجمال؟.
من أحسن أخلاق الصوفية التواضع، ولا يلبس العبد لُبْسة أفضل من التواضع، ومن ظفر بكنز التواضع والحكمة يقيم نفسه عند كل أحد مقدارًا يعلم أنه يقيمه، ويقيم كل أحد على ما عنده من نفسه، ومن رزق هذا فقد استراح وأراح، وما يعقلها إلا العالمون.
(أخبرنا) أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا عثمان بن عبد الله قال: أنا عبد الرحمن بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الرحمن بن حمدان قال: حدثنا أبو حاتم الرازي قال: حدثنا النضر بن عبد الجبار قال: أنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب عن سنان بن سعد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ تعالى أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا، وَلَا يَبْغِي بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ».
وقال — في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي﴾
[آل عمران: 31]، قال: «على البر والتقوى والرهبة وذلة النفس».
(وكان) من تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيب دعوة الحر والعبد، ويقبل الهدية ولو أنها جرعة لبن أو فخذ أرنب، ويكافئ عليها ويأكلها، ولا يستكبر عن إجابة الأَمَةِ والمسكين.
(وأخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن ابن خلف -إجازة- عن السلمي قال: أنا أحمد بن علي المقري قال: أنا محمد بن المنهال قال: حدثني أبي عن محمد بن جابر اليماني عن سليمان بن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من رأس التواضع أن تبدأ بالسلام على من لقيت، وترد على من سلم عليك، وأن ترضى بالدون من المجلس وألَّا تحب المدحة والتزكية والبر».
(وورد) -أيضًا- عنه عليه السلام: «طُوبَى لِمَنْ تَوَاضَعَ مِنْ غَيْرِ مَنْقَصَةٍ، وَذَلَّ فِي نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مَسْكَنَةٍ».
(سُئِل الجُنَيد) عن التواضع. فقال: خفض الجناح ولِينُ الجانب.
(وسُئِل) الفُضَيْل عن التواضع. فقال: تخضع للحق، وتنقاد له، وتقبله ممن قاله، وتسمع منه.
(وقال أيضًا): من رأى لنفسه قيمة فليس له في التواضع نصيب.
(وقال) وهب بن مُنَبِّه: مكتوب في كُتِب الله: إني أخرجت الذر من صلب آدم فلم أجد قلبًا أشد تواضعًا إلي من قلب موسى عليه السلام فلذلك اصطفيته وكلمته.
(وقيل من عرف كوامن نفسه لم يطمع في العلو والشرف، ويسلك سبيل التواضع، فلا يخاصم من يذمه، ويشكر الله لمن يحمده.
وقال أبو حفص: من أحب أن يتواضع قلبه فيصحب الصالحين، وليلتزم بحرمتهم، فمن شدة تواضعهم في أنفسهم يقتدي بهم ولا يتكبر.
(وقال لقمان عليه السلام): لكل شيء مطية، ومطية العمل التواضع.
وقال النوري: خمسة أنفس أعز الخلق في الدنيا: عالم زاهد، وفقيه صوفي، وغني متواضع، وفقير شاكر، وشريف سني.
(وقال الجلاء): لولا شرف التواضع كنا إذا مشينا نخطر.
وقال يوسف بن أسباط وقد سئل: ما غاية التواضع؟ قال: أن تخرج من بيتك فلا تلقى أحدًا إلا رأيته خيرًا منك.
ورأيت شيخنا ضياء الدين أبا النجيب وكنت معه في سفرة إلى الشام، وقد بعث بعض أبناء الدين له طعامًا على رءوس الأسارى من الإفرنج، وهم في قيودهم، فلما مدت السفرة والأسارى ينتظرون الأواني حتى تفرغ قال للخادم: أحضر الأسارى حتى يقعدوا على السفرة مع الفقراء، فجاء بهم وأقعدهم على السفرة صفًّا واحدًا، وقام الشيخ من سجادته ومشى إليهم، وقعد بينهم كالواحد منهم فأكل وأكلوا، وظهر لنا على وجهه ما نازل باطنه من التواضع لله والانكسار في نفسه، وانسلاخه من التكبر عليهم بإيمانه وعلمه وعمله.
(أخبرنا) أبو زرعة -إجازة- عن أبي بكر بن خلف -إجازة- عن السلمي قال: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: صَحَّ عند أهل المعرفة أن للدين رأس مال؛ خمسة في الظاهر، وخمسة في الباطن. فأما اللواتي في الظاهر: فصدق في اللسان، وسخاوة في الملك، وتواضع في الأبدان، وكف الأذى واحتماله بلا إباء. وأما اللواتي في الباطن: فحب وجود سيده، وخوف الفراق من سيده، ورجاء الوصول إلى سيده، والندم على فعله، والحياء من ربه.
وقال يحيى بن معاذ: التواضع في الخَلْق حسن، ولكن في الأغنياء أحسن، والتكبر سَمِج في الخلق، ولكن في الفقراء أسمج.
(وقال ذو النون): ثلاثة من علامات التواضع: تصغير النفس معرفةً بالعيب، وتعظيم الناس حرمةً للتوحيد، وقبول الحق والنصيحة من كل واحد.
(وقيل) لأبي يزيد: متى يكون الرجل متواضعًا؟ قال: إذا لم ير لنفسه حقًّا ما، ولا حالًا من علمه بشرها وازدرائها، ولا يرى أن في الخلق شرًّا منه.
(قال) بعض الحكماء: وجدنا التواضع مع الجهل، والبخل أحمد من الكبر مع الأدب والسخاء. وقيل لبعض الحكماء: هل تعرف نعمة لا يحسد عليها، وبلاء لا يرحم صاحبه عليه؟ قال: نعم. أما النعمة فالتواضع، وأما البلاء فالكبر. والكشف عن حقيقة التواضع أن التواضع رعاية الاعتدال بين الكبر والضعة. فالكبر رَفْعُ الإنسان نفسه فوق قدره، والضعة وَضْع الإنسان نفسه مكانا يزري به ويفضي إلى تضييع حقه. وقد انفهم من كثير من إشارات المشايخ في شرح التواضع أشياء إلى حد أقاموا التواضع فيه مقام الضعة، ويلوح فيه الهوى من أوج الإفراط إلى حضيض التفريط، ويوهم انحرافًا عن حد الاعتدال، ويكون قصدهم في ذلك المبالغة في قمع نفوس المريدين خوفًا عليهم من العجب والكبر، فَقَلَّ أن ينفكَّ مريد في مبادي ظهور سلطان الحال من العجب، حتى لقد نُقِل عن جمع من الكبار كلمات مؤذية بالإعجاب. وكل ما نقل من ذلك القبيل من المشايخ لبقايا السكر عندهم، وانحصارهم في مضيق سكر الحال، وعدم الخروج إلى فضاء الصحو في ابتداء أمرهم، وذلك إذا حَدَّق صاحب البصيرة نظره يعلم أنه مِنِ استراقِ النفسِ السمعَ عند نزول الوارد على القلب، والنفسُ إذا استرقتِ السمعَ عند ظهور الوارد على القلب ظهرت بصفتها على وجهٍ لا يجفو على الوقت وصلاقة الحال فيكون من ذلك كلمات مؤذنة بالعجب، كقول بعضهم: مَن تحت خضراء السماء مثلي. وقول بعضهم: قدمي على رقبة جميع الأولياء.
وكقول بعضهم: أَسْرَجْتُ وأَلْجَمْتُ وطُفْتُ في أقطار الأرض، وقلتُ: هل مِن مبارزٍ؟ فلم يخرج إليَّ أحد. إشارةً منه في ذلك إلى تفرده في وقته.
ومن أشكل عليه ذلك ولم يعلم أنه من استراقِ النفسِ السمعَ فليزن ذلك بميزان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواضعهم، واجتنابهم أمثال هذه الكلمات، واستبعادهم أن يجوز للعبد التظاهر بشيء من ذلك، ولكن يجعل لكلام الصادقين وجه في الصحة، ويقال: إن ذلك طفح عليهم في سُكر الحال، وكلام السكارى يحمل. فالمشايخ أرباب التمكين، لمَّا علموا في النفوس هذا الداء الدفين بالغوا في شرح التواضع إلى حد ألحقوه بالضعة تداويًا للمريدين، والاعتدال في التواضع أن يَرْضَى الإنسان بمنزلة دوين ما يستحقه، ولو أمن الشخص جموحَ النفس لأوقفها على حد يستحقه من غير زيادة ولا نقصان، ولكن لما كان الجموح في جِبِلَّة النفس لكونها مخلوقة من صلصال كالفخار فيها نسبة النارية، وطلب الاستعلاء بطبعها إلى مركز النار؛ احتاجت للتداوي بالتواضع وإيقافها دوين ما تستحقه؛ لئلا يتطرق إليها الكبر، فالكبر ظن الإنسان أنه أكبر من غيره، والتكبر إظهاره ذلك، وهذه صفة لا يستحقها إلا الله تعالى، ومن ادعاها من المخلوقين يكون كاذبًا، والكبر يتولد من الإعجاب، والإعجاب من الجهل بحقيقة المحاسن، والجهل الانسلاخ من الإنسانية حقيقة، وقد عَظَّم الله تعالى شأن الكبر بقوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ﴾ [النحل: 23].
وقال تعالى: ﴿أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ﴾ [الزُّمر: 60].
وقد ورد بقول الله تعالى: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِد مِنْهُمَا قصمته». وفي رواية: «قذفته في نار جهنم».
وقال عز وجل ردًّا للإنسان في طغيانه إلى حده: ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ [الإسراء: 37].
وقال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ﴾
[الطًّارق: 5، 6].
وأبلغ من قوله تعالى: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: 17- 19].
وقد قال بعضهم لبعض المتكبرين: أولك نطفة مَذِرَة، وآخرك جيفة قَذِرَة، وأنت فيما بين ذلك حامل العَذِرَة.
وقد نظم الشاعر هذا المعنى:
كيف يزهو من رجيعه
* أبد الدهر ضجيعه
وإذا ارتحل التواضع من القلب، وسكن الكبر انتشر أثره في بعض الجوارح، ويرشح الإناء بما فيه، فتارة يظهر أثره في العنق بالتمايل، وتارة في الخد بالتَّصْعِير. قال الله تعالى: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ [لقمان: 18].
وتارة يظهر في الرأس عند استعصاء النفس. قال الله تعالى: ﴿لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ﴾ [المنافقون: 5].
وكما أن الكِبْر له انقسام على الجوارح والأعضاء، تتشعب منه شعب، فكذلك بعضها أكثف من البعض كالتيه والزهو والعزة وغير ذلك، إلا أن العزة تشتبه بالكِبْر من حيث الصورة، وتختلف من حيث الحقيقة، كاشتباه التواضع بالضعة، والتواضع محمود، والضعة مذمومة، والكِبْر مذموم، والعزة محمودة.
قال الله تعالى: ﴿وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8].
والعزة غير الكبر، ولا يحل لمؤمن أن يذل نفسه، فالعزة معرفة الإنسان بحقيقة نفسه وإكرامها ألَّا يضعها لأغراض عاجلة دنيوية، كما أن الكِبْر جهل الإنسان بنفسه وإنزالها فوق منزلتها.
(قال بعضهم) للحسن: ما أعظمك في نفسك، قال: لست بعظيم ولكني عزيز. ولما كانت العزة غير مذمومة، وفيها مشاكلة بالكبر قال الله تعالى: ﴿تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ [الأحقاف: 20]. فيه إشارة خفية لإثبات العزة بالحق، فالوقوف على حد التواضع من غير انحراف إلى الضعة وقوفٌ على صراط العزة المنصوب على متن نار الكِبْر، ولا يؤيد في ذلك ولا يثبت عليه إلا أقدام العلماء الراسخين والسادة المقربين ورؤساء الأبدال والصديقين.
(قال بعضهم): من تكبر فقد أخبر عن نذالة نفسه، ومن تواضع فقد أظهر كرم طبعه.
(وقال الترمذي): التواضع على ضربين: الأول: أن يتواضع العبد لأمر الله ونهيه؛ فإن النفس لطلب الراحة تتلهى عن أمره، والشهوة التي فيها تهوي في نهيه، فإذا وضع نفسه لأمره ونهيه فهو تواضع.
والثاني: أن يضع نفسه لعظمة الله، فإن اشتهت نفسه شيئًا مما أطلق له من كل نوع من الأنواع منعها ذلك، وجملة ذلك أن يترك مشيئته لمشيئة الله تعالى.
واعلم أن العبد لا يبلغ حقيقة التواضع إلا عند لَمَعَانِ نور المشاهدة في قلبه، فعند ذلك تذوب النفس، وفي ذوبانها صفاؤها من غش الكبر والعجب، فتلين وتطيع للحق والخلق لمحو آثارها وسكون وهجها وغبارها، وكان الحظ الأوفر من التواضع لنبينا عليه السلام في أوطان القرب، كما روي عن عائشة -رضي الله عنها- في الحديث الطويل قالت: فقدتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، ظنًّا مني أنه عند بعض أزواجه، فطلبته في حُجَرِ نسائه فلم أجده، فوجدته في المسجد ساجدًا كالثوب الخَلِق، وهو يقول في سجوده: «سجد لك سوادي وخيالي، وآمن بك فؤادي، وقَرَّ بِكَ لساني، وها أنا ذا بين يديك، يا عظيم، يا غافر الذنب العظيم». وقوله عليه السلام: «سجد لك سوادي وخيالي». استقصاء في التواضع بمحو آثار الوجود؛ حيث لم تتخلف ذرة منه عن السجود ظاهرًا وباطنًا ومتى لم يكن للصوفي حظ من التواضع الخاص على بساط القرب لا يتوفر حظه من التواضع للخلق، وهذه سعادات إن أقبلت جاءت بكليتها، والتواضع من أشرف أخلاق الصوفية.
(ومن أخلاق الصوفية) المداراة، واحتمال الأذى من الخلق، وبلغ من مداراة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجد قتيلًا من أصحابه بين اليهود فلم يَحِفْ عليهم، ولم يزد على مُرِّ الحق بل وداه بمئة ناقة من قِبَلِه، وإن بأصحابه لحاجة إلى بعير واحد يتقوون به.
وكان من حسن مداراته ألَّا يَذُمَّ طعامًا ولا ينهر خادمًا.
(أخبرنا) الشيخ العالم ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا أبو الفضل الكرخي قال: أنا أبو نصر الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا أبو العباس المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا جعفر بن سليمان عن ثابت عن أنس قال: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أُفٍّ قط، وما قال لي لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقًا، وما مسست خزًّا قط ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت مسكًا قط ولا عطرًا كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالمداراة مع كل أحد من الأهل والأولاد والجيران والأصحاب والخلق كافة من أخلاق الصوفية، وباحتمال الأذى يظهر جوهر النفس، وقد قيل: لكل شيء جوهر، وجوهر الإنسان العقل، وجوهر العقل الصبر.
(أخبرنا) أبو زرعة طاهر عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا أبو محمد الصرفيني قال: أنا أبو القاسم عبيد الله بن حبابة قال: أنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا علي بن الجعد قال: أنا شعبة عن الأعمش عن يحيى بن وَثَّاب عن شيخٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم -قلت: من هو؟ قال: ابن عمر- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«المؤمن الذي يعاشر الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم».
(وفي الخبر): «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كَأَبِي ضَمْضَمٍ؟». قيل: ماذا كان يصنع أبو ضمضم؟ قَالَ: «كَانَ إذا أصبح قَالَ: اللهم إني تصدقت اليوم بعِرْضِي على من ظلمني، فمن ضربني لا أضربه، ومن شتمني لا أشتمه، ومن ظلمني لا أظلمه».
(وأخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب قال: أنا أبو الفتح الهروي قال: حدثنا الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن عروة عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم -وَأَنَا عِنْدَهُ- فَقَالَ: «بِئْسَ ابْنُ الْعَشِيرَةِ» -أَوْ: «أَخُو الْعَشِيرَةِ-». ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَأَلَانَ لَهُ الْقَوْلَ فَلَمَّا خَرَجَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، قُلْتَ لَهُ مَا قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الْقَوْلَ؟ قَالَ «يَا عَائِشَةُ، إِنَّ مِنْ شَرِّ النَّاسِ مَنْ يتركه النَّاسُ -أَوْ: يدعه النَّاسُ- اتِّقَاءَ فُحْشِهِ».
(وروى) أبو ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فما من شيء يستدل به على قوة عقل الشخص ووفور علمه وحلمه كحسن المداراة، والنفس لا تزال تشمئز ممن يعكس مرادها، ويستفزها الغيظ والغضب، وبالمداراة قطع حمة النفس، ورد طيشها ونفورها.
وقد ورد: «مَنْ كَظَمَ غَيْظًا وَهُوَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنَفِّذَهُ دَعَاهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ فِي أَي الْحُورِ شَاءَ».
وروى جابر رضى الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ على مَنْ تَحْرم النَّار؟ عَلَى كُلِّ هَيِّنٍ، لَيِّنٍ، سَهْلٍ، قَرِيبٍ».
(وروى) أبو مسعود الأنصاري رضى الله عنه قال: أتي النبي عليه السلام بِرَجُلٍ فكلمه فأرعد، فقال: «هَوِّنْ عَلَيْكَ؛ فَإِنِّي لَسْتُ بِمَلِكٍ، إِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ من قريش كانت تَأْكُلُ الْقَدِيدَ».
(وعن بعضهم) في معنى لين جانب الصوفية:
هينون لينون أيسار بنو يسر
* سواس مكرمة أبناء إيسار
لا ينطقون عن الفحشاء إن نطقوا
* ولا يمارون إن ماروا بإكثار
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم
* مثل النجوم التي يسري بها الساري
(وروى) أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ أُعْطِيَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ، وَمَنْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الرِّفْقِ فَقَدْ حُرِمَ حَظَّهُ مِنَ الْخَيْرِ».
(حدثنا) شيخنا ضياء الدين أبو النجيب -إملاء- قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن أبي عبد الله الماليني قال: أنا أبو الحسين عبد الرحمن بن أبي طلحة الداودي قال: أنا أبو محمد عبد الله الحموي السرخسي قال: أنا أبو عمران عيسى بن عمر السمرقندي قال: أنا عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي قال: أنا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَبِي خَلَفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ قال: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْعَرَبِ قَالَ: زَحَمْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ حُنَيْنٍ، وَفِي رِجْلِي نَعْلٌ كَثِيفَةٌ، فَوَطِئْتُ بِهَا عَلَى رِجْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَفَحَنِي نَفْحَةً بِسَوْطٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ:«بِسْمِ اللهِ، أَوْجَعْتَنِي»، قال: فَبِتُّ لِنَفْسِي لَائِمًا، أَقُولُ: أَوْجَعْتُ رَسُولَ الله،ِ قَالَ: فَبِتُّ بِلَيْلَةٍ كَمَا يَعْلَمُ اللهُ، فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إِذَا رَجُلٌ يَقُولُ: أَيْنَ فُلَانٌ؟ قُلْتُ: هَذَا وَاللهِ الَّذِي كَانَ مِنِّي بِالأَمْسِ، قَالَ: فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مُتَخَوِّفٌ، فَقَالَ لِي: «إِنَّكَ وَطِئْتَ بِنَعْلِكَ عَلَى رِجْلِي بِالأَمْسِ فَأَوْجَعْتَنِي، فَنَفَحْتُكَ نَفْحَةً بِالسَّوْطِ، فَهَذِهِ ثَمَانُونَ نَعْجَةً فَخُذْهَا بِهَا».
ومن أخلاق الصوفية الإيثار والمواساة، ويحملهم على ذلك فرط الشفقة والرحمة طبعًا، وقوة اليقين شرعًا، يُؤْثِرون بالموجود، ويصبرون على المفقود.
قال أبو يزيد البسطامي: ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بَلْخ، قدم علينا حاجًّا، فقال لي: يا أبا يزيد، ما حد الزهد عندكم؟ قلت: إذا وجدنا أكلنا، وإذا فقدنا صبرنا. فقال: هكذا عندنا كلاب بلخ. فقلت له: وما حد الزهد عندكم؟ قال: إذا فقدنا شكرنا، وإذا وجدنا آثرنا.
(وقال ذو النون): من علامة الزهد المشروح صدره ثلاث: تفريق المجموع، وترك طلب المفقود، والإيثار بالقوت.
(روى) عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النضير للأنصار: «إن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركونهم في هذه الغنيمة، وإن شئتم كانت لكم دياركم وأموالكم، ولم نقسم لكم شيئًا من الغنيمة». فقالت الأنصار: بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة، ولا نشاركهم فيها. فأنزل الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
وروى أبو هريرة رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أصابه جهد، فقال: يا رسول الله إني جائع فأطعمني، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أزواجه: «هل عندكن شيء؟» فكلهن قلن: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما عندنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما عندنا ما نطعمك هذه الليلة». ثم قال: «مَنْ يُضِيفُ هَذَا هذه اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللهُ؟» فقام رجل من الأنصار، فقال: أنا يا رسول الله، فأتى به منزله، فقال لأهله: هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرميه، ولا تدخري عنه شيئًا. فقالت: ما عندنا إلا قوت الصِّبْيَة، فقال: فقومي عَلِّليهم عن قُوتِهِم حتى يناموا، ولا يُطْعَمُون شيئًا، ثم اسرجي، فإذا أخذ الضيف ليأكل قومي كأنك تصلحين السراج فأطفئيه، وتعالي نمضغ ألسنتنا لضيف رسول الله حتى يشبع ضيف رسول الله، فقامت إلى الصِّبْية فَعَلَّلَتْهُم حتى ناموا عن قُوتِهِم، ولم يُطْعَموا شيئًا، ثم قامت فأثردت وأسرجت، فلما أخذ الضيف ليأكل قامت كأنها تصلح السراج فأطفأته، فجعلا يمضغان ألسنتهما لضيف رسول الله، وظن الضيف أنهما يأكلان معه حتى شبع الضيف، وباتا طاويين، فلما أصبحوا غَدَوْا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما نظر إليهما تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «لقد عَجِبَ اللهُ مِنْ فلان وفلانة هذه اللَّيْلَةَ». وأنزل الله تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
(وقال) أنس رضى الله عنه: أهدي لبعض أصحابه رأس شاة مشوي، وكان مجهودًا، فوجه به إلى جار له، فتداوله سبعة أنفس، ثم عاد إلى الأول، فأنزلت الآية لذلك.
وروي أن أبا الحسن الأنطاكي اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلًا بقرية بقرى الري، وله أرغفة ممدودة لم تشبع خمسة منهم، فكسروا الرغفان وأطفئوا السراج، وجلسوا للطعام، فلما رفعوا الطعام فإذا هو بحاله لم يأكل أحد مهم إيثارًا منه على نفسه.
وحُكِي عن حذيفة العدوي قال: انطلقتُ يوم اليرموك لطلب ابن عم لي، ومعي شيء من ماء، وأنا أقول: إن كان به رمق سقيته ومسحت وجهه، فإذا أنا به، فقلت: أسقيك؟ فأشار إليَّ نعم، فإذا رجل يقول: آه، فقال ابن عمي: انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو هشام بن العاص فقلت: أسقيك؟ فسمع هشام آخر يقول: آه، فقال: انطلق به إليه، فجئت إليه، فإذا هو قد مات، ثم رجعت إلى هشام، فإذا هو أيضًا قد مات، ثم رجعت إلى ابن عمي، فإذا هو أيضًا قد مات.
(وسُئِلَ) أبو الحسين البوشنجي عن الفُتوة فقال: الفتوة عندي ما وصف الله تعالى به الأنصار في قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ﴾ [الحشر: 9].
قال ابن عطاء: يؤثرون على أنفسهم جودًا وكرمًا، ولو كان بهم خصاصة؛ يعني: جوعًا وفقرًا.
(قال) أبو حفص: الإيثار: هو أن يقدم حظوظ الإخوان على حظوظه في أمر الدنيا والآخرة.
(وقال) بعضهم: الإيثار لا يكون عن اختيار، إنما الإيثار أن تقدم حقوق الخلق أجمع على حقك، ولا تميز في ذلك بين أخ وصاحب وذي معرفة.
(وقال يوسف) ابن الحسين: من رأى لنفسه ملكًا، لا يصح منه الإيثار؛ لأنه يرى نفسه أحق بالشيء برؤية ملكه، إنما الإيثار ممن يرى الأشياء كلها للحق، فمن وصل إليه فهو أحق به، فإذا وصل شيء من ذلك إليه يرى نفسه ويده فيه يد أمانة يوصلها إلى صاحبها أو يؤديها إليه.
وقال بعضهم: حقيقة الإيثار أن تؤثر بحظ آخرتك على إخوانك؛ فإن الدنيا أقل خطرًا من أن يكون لإيثارها محل أو ذكر. ومن هذا المعنى ما نقل أن بعضهم رأى أخًا له، فلم يظهر البشر الكثير في وجهه، فأنكر أخوه ذلك منه فقال: يا أخي سمعت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا التقى المسلمان ينزل عليهما مئة رحمة؛ تسعون لأكثرهما بشرًا، وعشرة لأقلهما بشرًا». فأردت أن أكون أقل بشرًا منك ليكون لك الأكثر.
(أخبرنا) الشيخ ضياء الدين أبو النجم -إجازة- قال: أنا أبو حفص عمر بن الصفار النيسابوري قال: أنا أبو بكر أحمد بن خلف الشيرازي قال: أنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا القاسم الرازي يقول: سمعت أبا بكر بن أبي سعدان يقول: من صحب الصوفية فليصحبهم بلا نفس ولا قلب ولا ملك، فمن نظر إلى شيء من أسبابه قطعه ذلك عن بلوغ مقصده.
(وقال سهل بن عبد الله): الصوفي من يرى دمه هدرًا وملكه مباحًا. وقال رويم: التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار.
(قيل): لما سُعِيَ بالصوفية، وتميز الجنيد بالفقه، وقبض على الشجام والرقام والنوري، وبسط النطع لضرب رقابهم، تقدم النوري فقيل له: إلى ماذا تبادر؟ فقال: أوثر إخواني بفضل حياة ساعة. وقيل: دخل الروذباري دار بعض أصحابه فوجده غائبًا وباب بيته مغلق، فقال: صوفي وله باب مغلق؟ اكسروا الباب، فكسروه وأمر بجميع ما وجدوا في البيت أن يباع، فأنفذوه إلى السوق واتخذوا رفقًا من الثمن، وقعدوا في الدار، فدخل صاحب المنزل ولم يقل شيئًا، ودخلت امرأته وعليها كساء فدخلت بيتًا، فرمت بالكساء، وقالت: هذا أيضًا من بقية المتاع فبيعوه. فقال الزوج لها: لم تكلفت هذا باختيارك؟ قالت: اسكت مثل الشيخ يباسطنا ويحكم علينا، ويبقى لنا شيء ندخره عنه؟.
(وقيل): مرض قيس بن سعد فاستبطأ إخوانه في عيادته، فسأل عنهم فقالوا: إنهم يستحيون بما لك عليهم من الدَّين. فقال: أخزى الله مالًا يمنع الإخوان عن الزيارة، ثم أمر مناديًا ينادي: من كان لقيس عليه مالٍ، فهو منه في حلٍّ، فكُسِرَت عتبة داره بالعشي؛ لكثرة عواده.
(وقيل): أتى رجل صديقًا له، ودق عليه الباب، فلما خرج قال: لماذا جئتني؟ قال: لأربعمئة درهم دين عليَّ. فدخل الدار ووزن أربعمئة درهم وأخرجها إليه، ودخل الدار باكيًا، فقالت امرأته: هلَّا تعللت حين شق عليك الإجابة؟ فقال: إنما أبكي لأني لم أتفقد حاله حتى احتاج أن يفاتحني به.
(وأخبرنا) الشيخ أبو زرعة عن أبيه الحافظ المقدسي قال: أنا محمد بن محمد -إمام جامع أصفهان- قال: حدثنا أبو عبد الله الجرجاني قال: أنا أبو طاهر محمد بن الحسن المحمدآباذي قال: حدثنا أبو البحتري قال: حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا بريدة بن أبي بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ وَقَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي، وَأَنَا مِنْهُمْ».
(وحدث) جَابِر عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ إذا أَرَادَ أَنْ يَغْزُوَ قال: «يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ، إِنَّ مِنْ إِخْوَانِكُمْ قَوْمًا لَيْسَ لَهُمْ مَالٌ وَلَا عدة، فَلْيَضُمَّ أَحَدُكُمْ إِلَيْهِ الرجل والرَّجُلَيْنِ والثَّلَاثَةَ، فَمَا لأحدكم مِنْ ظَهْرِ جَمَلِهِ إِلَّا عُقْبَةً كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ»، قال: فَضَمَمْتُ إِلَيَّ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً مَا لِي إِلَّا عُقْبَةٌ كَعُقْبَةِ أَحَدِهِمْ من جمله.
(وروى) أنس قال: لما قدم عبد الرحمن بن عوف المدينة آخى النبي عليه السلام بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له: أقاسمك مالي نصفين، ولي امرأتان فأطلق إحداهما فإذا انقضت عدتها تتزوجها، فقال له عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك.
فما حمل الصوفي على الإيثار إلا طهارةُ نفسه وشرف غريزته، وما جعله الله تعالى صوفيًّا إلا بعد أن سوى غريزته لذلك، وكل من كانت غريزته السخاء، والسخي يوشك أن يصير صوفيًّا؛ لأن السخاء صفة الغريزة، وفي مقابلته الشح، والشح من لوازم صفة النفس، قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [التغابن: 16]. حكم بالفلاح لمن يُوَقَّى الشح وحكم بالفلاح لمن أنفق وبذل. فقال: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: 3]. ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5].
والفلاح أجمع اسم لسعادة الدارين، والنبي عليه السلام نَبَّه بقوله: «ثلاث مهلكات، وثلاث منجيات». فجعل إحدى المهلكات شحًّا مطاعًا، ولم يقل مجرد الشح يكون مهلكًا، بل يكون مهلكا إذا كان مطاعًا، فأما كونه موجودًا في النفس غير مطاع فإنه لا يُنكَر ذلك؛ لأنه من لوازم النفس مستمدًّا من أصل جبلتها الترابي، وفي التراب قبض وإمساك، وليس ذلك بالعجب من الآدمي، وهو جِبِلِّيّ فيه، وإنما العجب وجود السخاء في الغريزة، وهو لنفوس الصوفية الداعي لهم إلى البذل والإيثار والسخاء أتم وأكمل من الجود، ففي مقابلة الجود البخل، وفي مقابلة السخاء الشح، والجود والبخل يتطرق إليهما الاكتساب بطريق العادة، بخلاف الشح والسخاء إذا كان من ضرورة الغريزة، وكل سخي جواد، وليس كل جواد سخيًّا، والحق سبحانه وتعالى لا يوصف بالسخاء؛ لأن السخاء من نتيجة الغرائز، والله تعالى منزه عن الغريزة، والجود يتطرق إليه الرياء، ويأتي به الإنسان متطلعًا إلى عِوَض من الخلق أو الحق بمقابلٍ ما من الثناء وغيره من الخلق والثواب من الله تعالى، والسخاء لا يتطرق إليه الرياء؛ لأنه يَنْبُع من النفس الزكية المرتفعة عن الأعواض دنيا وآخرة؛ لأن طلب العوض مشعر بالبخل لكونه معلولًا بطلب العوض، فما تمحض سخاءً، فالسخاء لأهل الصفاء والإيثار لأهل الأنوار.
ويجوز أن يكون قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان: 9]. أنه نفى في الآية الإطعام لطلب الأعواض، حيث قال: +لَا نُرِيدُ﴾ بعد قوله: ﴿لِوَجْهِ اللهِ﴾، فما كان لله لا يُشْعر بطلب العوض، بل الغريزة لطهارتها تنجذب إلى مراد الحق لا لعوض، وذلك أكمل السخاء من أطهر الغرائز.
روت أسماء بنت أبي بكر قالت: قلت: يا رسول الله، ليس لي من شيء إلا ما أدخل عَلَيَّ الزبير، فأعطي؟ قال: «نعم، لَا تُوكِي فَيُوكَى عَلَيْكِ».
ومن أخلاق الصوفية: التجاوز والعفو، ومقابلة السيئة بالحسنة.
(قال) سفيان: الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك؛ فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة، كنقد السوق خذ شيئًا وهات شيئًا.
وقال الحسن: الإحسان أن تَعم ولا تخص، كالشمس والريح والغيث.
(وروى) أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رأيت قصورًا مشرفة على الجنة، فقلت: يا جبرائيل، لمن هذه؟ قال: للكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس».
(روى) أبو هريرة رضى الله عنه أن أبا بكر رضى الله عنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس، فجاء رجل فوقع في أبي بكر وهو ساكت، والنبي — يتبسم، ثم رد أبو بكر عليه بعض الذي قال: فغضب النبي، وقام فلحقه أبو بكر فقال: يا رسول الله، شتمني وأنت تتبسم، ثم رددت عليه بعض ما قال فغضبت وقمت. فقال: «إنك حيث كنت ساكنًا كَانَ مَعَكَ مَلَكٌ يَرُدُّ عليه، فلما تكلمتَ وَقَعَ الشيطان، فلم أكن لأقعد في مقعد فيه الشيطان، يَا أَبَا بَكْرٍ، ثَلَاثٌ كُلُّهُنَّ حَقٌّ؛ ليس عبد يُظلم بِمَظْلَمَةٍ فيعفو عَنْهَا إِلَّا أَعَزَّ اللهُ نَصْرَهُ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرةً إِلَّا زَادَهُ اللهُ قلة، وليس عبد يفتح باب عطية أو صلة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها كثرة».
(أخبرنا) ضياء الدين عبد الوهاب بن علي قال: أنا الكروخي قال: أنا الترياقي قال: أنا الجراحي قال: أنا المحبوبي قال: أنا أبو عيسى الترمذي قال: حدثنا أبو هشام الرفاعي قال: حدثنا محمد بن فضيل عن الوليد بن عبد الله بن جميع عن أبي الطفيل عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً؛ تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا».
(وقال) بعض الصحابة: يا رسول الله، الرجل أَمُرُّ به فلا يُقْرِيني ولا يضيفني فيمر بي أفأجزيه، قال: «لا، أَقْرِهِ».
وقال الفُضَيْل: الفتوة الصفح عن عَثَرات الإخوان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْوَاصِلُ الْمُكَافِئِ، وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا».
(وروي) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مكارم الأخلاق أن تعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك، وتعطي من حرمك».
ومن أخلاق الصوفية البشر، وطلاقة الوجه الصوفي بكاؤه في خلوته، وبشره وطلاقة وجهه مع الناس، فالبشر على وجهه من آثار أنوار قلبه، وقد تُنَازِل باطن الصوفي منازلات إلهية ومواهب قدسية يرتوي منها القلب، ويمتلئ فرحًا وسرورًا، ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ [يونس: 58].
والسرور إذا تمكن من القلب فاض على الوجه آثاره. قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ﴾ [عبس: 38]؛ أي مضيئة مشرقة، مستبشرة؛ أي: فرحة قيل: أشرقت من طول ما اغبرت في سبيل الله، ومثال فيض النور على الوجه من القلب كفيضان نور السراج على الزجاج والمشكاة، فالوجه مشكاة، والقلب زجاج، والروح مصباح، فإذا تنعم القلب بلذيذ المسامرة ظهر البِشْر على الوجه. قال الله تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ﴾ [المطَّففين: 24]؛ أي: نضارته وبريقه، يقال: أنضر النبات؛ إذا أزهر ونَوَّر، ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23]، فلما نظرت نضرت، فأرباب المشاهدة من الصوفية تنورت بصائرهم بنور المشاهدة، وانصقلت مرآة قلوبهم، وانعكس فيها نور الجمال الأزلي، وإذا أشرقت الشمس على المرآة المصقولة استنارت الجدران، قال الله تعالى: ﴿سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ﴾ [الفتح: 29]. وإذا تأثر الوجه بسجود الظلال وهي القوالب في قول الله تعالى:﴿وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ﴾ [الرعد: 15]. كيف لا يتأثر بشهود الجمال؟.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin