مولد النبي محمد "صلى الله عليه وسلم"
كاتب المقالة: عزيز العصا
نور سطع.. فشقّ ظلمة المكان والزمان.. وعم العدل محل الظلم
يتميز الإسلام عن غيره من الديانات، بأن الفرد المسلم يدين بالعظمة المطلقة لله وحده، ولا يعبد إلا إياه، مصداقًا لقوله تعالى: "مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" (يوسف: 40). ويتبين من هذه الآية الكريمة أن أي احتفال أو افتعال مناسبة ترقى لدرجة العبادة، هي في حكم "مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ"؛ أي في حكم البدع والضلالات التي تخالف شرع الله وشريعته.
في هذا السياق، يحرم على المسلم، تحريمًا مطلقًا، عبادة الأشخاص (من دون الله) والأماكن والأزمان والظواهر... الخ. وأما الرسل والأنبياء، فهم ناقلوا رسالة وموجهوا دفة الحياة البشرية نحو الخير، مصداقًا لقوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" (البقرة: 213). ويقول في نبي البشرية جمعاء محمد صلى الله عليه وسلم: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ" (آل عمران: 144).
أُريدَ من هذا كله الإشارة إلى أننا في ذكرى المولد النبوي الشريف، لسنا في مقام "عبادة"، وإنما نحن في مقام استذكار واستحضار للظروف التي ولد ونشأ فيها محمد "صلى الله عليه وسلم"، للتداول والتدارس في سيرته ومسيرته صلوات الله عليه وسلامه، للاقتداء به؛ ليكون كل منا "محمدًا" في صدقه، وحسن أمانته، وإخلاصه في العمل، وتحمله لمسؤولياته اتجاه نفسه واتجاه أسرته ووطنه وأمته. وسوف نستعرض في العجالة الآتية تلك اللحظات التي ولد فيه نبي الهدى البشري "محمد صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه البشرية بعدئذ، حتى يومنا هذا.
والظروف المحيطة بلحظة مولد الهدى
ولد محمد "صلى الله عليه وسلم" في العام (570م)، في الوقت الذي كانت تشهد الجزيرة العربية بشكل خاص، والمنطقة بشكل عام، بل والعالم أجمع، حالة من الهيجان وعدم الاستقرار، بل الاضطراب؛ سياسيًا واجتماعيًا وفكريًا وعقائديًا. كما أنها كانت تشهد أزمات "هوياتية"، تتعلق بملكية المكان والزمان، بمعنى: لمن هي الأرض، ولمن هو التاريخ، ومن هم أصحاب الحضارة، بمستواها المتواضع؟ ولأن المجال لا يتسع للدخول في تفاصيل ذلك الواقع المحيط بمولده صلى الله عليه وسلم، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى ما يلي:
أولًا: كان في مكة "كعبة" يحج إليها وثنيوا تلك الحقبة، إذ يقول تعالى: "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" (البقرة: 125). وتشير هذه الآية الكريمة إلى العمق التاريخي للكعبة في ذلك العام (570م)، إلا أن أهل نجران بنوا كعبة لهم مضاهاة لكعبة مكة[1].
ثانيًا: كانت الجزيرة العربية مسكونة من قبل عدد من الجماعات، التي لكل منها قوتها وسطوتها وقدرتها على التأثير، مثل:
1) الوثنيون؛ عبدة الأصنام وجلّهم من العرب الأقوياء بخاصة أهل قريش أهل النبي المولود وذووه المقربون جدًا، بل أسرته المباشرة وعائلته.
2) اليهود؛ أصحاب السطوة الاقتصادية الذين كانوا يقطنون مناطق الواحات التي تمتاز بمياههاالكثيرة وتربتها الخصبة، مما جعل منها محطات مهمة على طرق القوافل التجارية، بالإضافةإلى أن ذلك أتاح لليهود ممارسة مهنة الزراعة، وما يمتلكون من علاقات اقتصادية تربطهم معالتجمعات السكانية الأخرى[2].
3) المسيحية؛ تنتشر في وسط شبه الجزيرة العربية، منذ بضع عقود، في ذلك الحين، علمًا بأن "البحرين" كانت مركزًا مسيحيًا هامًا من القرن الخامس الميلادي، وكان في مكة مقبرة لهم، وكانوا يحجون إلى الكعبة كذلك. وكانت المسيحية، بشكل عام، تشهد انشقاقات وخصومات عقائدية، وكان يُنظر إلى المسيحيين العرب، من قبل المسيحيين الآخرين، على أنهم "هراطقة"[3].
ثالثًا: أما بلاد الشام فكانت تشهد ثلاثة كيانات عربية رئيسة هي: الأنباط في الجنوب، وتدمر في الشمال، والغساسنة بينهما. ولعل هذه الكيانات السياسية كانت تشترك بخصائص عامة، فأصلها يرجع إلى استيطان العرب البدو، وازدهارها يعود إلى تجارة المرور (الترانزيت) ثم كان لها دورها السياسي دولة حاجزة بين الدولتين البيزنطية والفارسية[4].
رابعًا: كانت أحوال العرب مزرية؛ ليس لخلل في شخصية الفرد منهم، أو في خصائصه المتمتعة بالصدق والإخلاص والكرم والرجولة، والنخوة... الخ. فهذه جميعها صفات متأصلة فيهم، إلا أن غياب القيادة القوية، ذات الفكر الراجح القويم القادر على التمرد على عوامل الفساد المتوارثة، وغياب القدرة على التخطيط في مواجهة الأعداء، جعلت منهم شتاتًا متفرقين متصارعين، فيما بينهم. ويجمل د. سرجاني أبرز مساوئ حياة العرب في حينه، بما يأتي[5]:
· الحالة الدينية؛ إذ كانوا عَبَدة أصنام، وكان لكل مدينة صنم، بل كان لكل قبيلة صنم، فمكة -مثلاً- كان أعظم أصنامها (هُبُل)، بينما كان (اللاّت) أعظم أصنام الطائف، وهكذا. وكان لكل بيت صنم، وأصبحت تجارة الأصنام لها تجار وصناع، وقد امتلأت الكعبة بالأصنام حتى بلغ عددها ثلاثمائة وستين صنمًا من مختلف الأنواع والأشكال، ومن أعجبها (إساف) و(نائلة) وهما: رجل وامرأة من اليمن زنيا بالبيت الحرام فمسخهما الله أحجارًا، ومع مرور الزمن عبدهما الناس، ووضعوا أحدهما على الصفا، والآخر على المروة!
· الحالة الأخلاقية؛ حيث تفشى بينهم: دفن بناتهم وهن أحياء، شرب الخمر، الميسر، الربا، وحتى النكاح في الجاهلية كان منه ما هو زنا فاضح، واختلاط أنساب معيب، كالتبعيض؛ كأن يرسل الرجل زوجته لكي يطأها رجل بصفات مرغوبة، لكي تحمل منه ولدًا يحمل تلك الصفات، ونكاح ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها.
· الحالة السياسية؛ وتتمثل في العصبية والحروب المستمرة بين القبائل، لأتفه الأسباب؛ كحرب داحس والغبراء.
ولد الهدى فكوكب الأرض ضياء
هكذا؛ نجد أن اللحظة التي شهدت مولد "محمد" صلى الله عليه وسلم في العام (570م)، هي لحظة "الحضيض" في الانهيار والتشتت والتضارب والتناحر، ليس على مستوى الجزيرة العربية وحسب، وإنما على مستوى العالم أجمع، كالحروب الطاحنة بين الفرس والروم. وليست على مستوى علاقات الأمم والأديان بين بعضها البعض وحسب، وإنما داخل الأمة الواحدة، وداخل نفس الديانة ونفس الجماعة، وما تشهده من انشقاقات واقتتال. كما أنه لا بد من ذكر أنه قد ولد، صلى الله عليه وسلم، في أجواء سيطرة الحبشة على اليمن والحجاز[6].
ومن الإشارات المبكرة على نبوة "محمد" صلى الله عليه وسلم، ما جاء في دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، التي ورد فيها قول الراهب بحيرا في "محمد" وهو ابن عشر سنين: ارجع بابن أخيك إلى بلدك، واحذر عليه اليهود، فو الله إن رأوه، أو عرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتًا؛ فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا، وما ورثنا من آبائنا، وقد أخذ علينا مواثيق[7]، وما يروى عن "ورقة بن نوفل" النصراني الذي كان ينبئ بنبوة "محمد"، إلا أنه توفي قبل أن يشهد الدعوة المحمدية.
بعمر أربعين عامًا؛ أي في حوالى العام (610م)، وفي ذروة ما كن يتمتع به بين قومه، وبين خارج قومه، من علامات النبوة المسندة بما تحلى به من طيب الخلق، وصدق القول، والشجاعة في المواقف واتخاذ القرار، ووضوح القول الذي لا يحابي أحدًا على حساب الحق، أخذ "محمد" صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعوة، وبدئ بنزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، مكملاً لمن سبقه، وبدئ بتنزيل القرآن الكريم، الذي هو دستور البشرية جمعاء.
كما جاءت الرسالة المحمدية، سواء على مستوى التنزيل القرآني، أو ما يقوله و/أو ما يفعله "محمد" (ص)، رسالة الإسلام للبشرية جمعاء؛ باعتبارها مكملة للرسالات السابقة، ومرتبطة بنبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي يقول فيه سبحانه: "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 95).
كما أن إسلام محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، ما هو إلى استكمال لـ "إسلام" إبراهيم عليه السلام الذي ذكر في القرآن أكثر من (70) مرة، الذي يقول فيه سبحانه: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 67)، ويتبع ذلك بقوله تعالى:"إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 68).
محمد ومن بعده الخلفاء يبنون أعظم امبراطورية على وجه الأرض
وفق ما هو موصوف أعلاه جاء جوهر العقيدة، والذي قام "محمد" ومن آمنوا به من المقربين، ببثه في قومهم وفي الأقوام الأخرى المجاورة. فأما المجتمع العربي المحيط فكان، ما عدا اليهود الذين يتحكمون في اقتصاديات المنطقة، ينقسم إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الوثنيون؛ الذين لا يمتلكون شيئًا مما يدافعوم به في مواجهة رسالة الإسلام القائمة على الوحدانية المطلقة والعبودية التامة الخالصة لله وحده لا شريك له، خالق الخلق.
القسم الثاني: النصارى؛ الذين يعانون من انقسامات الكنيسة وتشظّيها، ويعانون الإحباط من أبناء دينهم، الذين ينظرون إلى كنيستهم على أنها "هرطقة".
في تلك الأجواء انتشر الإسلام، كنسمة عليلة باردة اخترقت صدورًا مشتعلة بنار الجهل والإحباط، فأخمدت تلك النيران وأشاعت في نفوس أهلها الحماس الشديد نحو نشر رسالة الإسلام التي جاء بها الصادق الأمين، وصبروا على العذاب بل التعذيب المبرمج، الذي طال كل من وصلت إليه يد الكفر والشرك من سادة المنطقة، الذين رأوا في الإسلام خطرًا يهدد مصالحهم، التي بنوها على حساب الشعوب الفقيرة الجاهلة البائسة.
انتشرت رسالة "محمد" صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة الإسلام، موجهة للأمم والشعوب والجماعات والتجمعات كافة، وذلك لطبيعتها الأممية التي لا تستثني قومًا أو جغرافية أو دينًا. فاندثرت المسيحية تقريبًا كليًا في الجزيرة العربية، وضعفت في بلاد الشام والعراق؛ فأصبح جل سكان تلك المناطق من المسلمين.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما وصلت الفتوحات إلى بيت المقدس، واتسعت لتشمل بلاد فارس، ومناطق واسعة من الإمبراطورية البيزنطية، حتى أصبحت الكتلة العربية الإسلامية الممتدة بين شرقي البحر الأبيض المتوسط وحتى شواطئه الغربية، إلى جانب الكتلتين؛ الغربية والبيزنطية[8]، حتى وصلت في أفصى حدود مساحتها إلى (12) مليون كيلو متر مربع، ليعيش سكان تلك المناطق وقاطنيها في ظلال عدل الإسلام وتشجيعه للعلم وإعمال العقل في شتى أمور الحياة.
كلمة ختام.. في ذكراه يجب أن تتجدد الهمّة
لقد تم استعراض ما ورد من معلومات، وتشخيص للظروف المحيطة بمولد "رسول البشرية جمعاء" صلى الله عليه وسلم، ليس من أجل سرد تاريخي، يمكن للقارئ أن يجده، بسهولة ويسر، بين صفحات الكتب والمراجع المختلفة، وإنما لكي نشير إلى أن الذكريات ليست مجرد أيام، نقضيها في عطلة رسمية نتمتع فيها بما لذ وطاب من متع الحياة، وليس للتوقف عندها بالحسرة والبكاء والعويل، وليس لعبادة تلك الأيام أو لعبادة أصحاب الذكرى، حتى لو كان النبي "محمد صلى الله عليه وسلم.
إنما أريد من ذلك، التوقف الجاد عند تلك اللحظات التاريخية، بالقراءة والتحليل وإعادة القراءة، لكي نجد أن الظروف التي نعيشها هذه الأيام هي ظروف مسبوقة في تاريخنا ببعديه؛ القريب والبعيد. ولكي نذكر أحبتنا القراء بقوله تعالى: "لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ" (الزمر: 53)، وبقوله تعالى: "وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87).
وهذا يعني أن ذكرى المولد النبوي لـ "نور الهدى" صلى الله عليه وسلم، هي محطة لكل منا؛ لكي نستخلص منها العبر الإيمانية التي تبث الأمل في نفوسنا، وتعمق فينا الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم، التي توجه بها لبني البشر قاطبة لإخراجهم من ظلمات الجهل والتخلف والتضارب والتناحر، لأتفه الأسباب، إلى نور الإيمان بالله وحده المستند إلى العلم والمعرفة والتفكر في خلق السماوات والأرض، مصداقًا لقوله تعالى: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ" (البقرة: 257).
كاتب المقالة: عزيز العصا
نور سطع.. فشقّ ظلمة المكان والزمان.. وعم العدل محل الظلم
يتميز الإسلام عن غيره من الديانات، بأن الفرد المسلم يدين بالعظمة المطلقة لله وحده، ولا يعبد إلا إياه، مصداقًا لقوله تعالى: "مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ" (يوسف: 40). ويتبين من هذه الآية الكريمة أن أي احتفال أو افتعال مناسبة ترقى لدرجة العبادة، هي في حكم "مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ"؛ أي في حكم البدع والضلالات التي تخالف شرع الله وشريعته.
في هذا السياق، يحرم على المسلم، تحريمًا مطلقًا، عبادة الأشخاص (من دون الله) والأماكن والأزمان والظواهر... الخ. وأما الرسل والأنبياء، فهم ناقلوا رسالة وموجهوا دفة الحياة البشرية نحو الخير، مصداقًا لقوله تعالى: "كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ" (البقرة: 213). ويقول في نبي البشرية جمعاء محمد صلى الله عليه وسلم: "وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ" (آل عمران: 144).
أُريدَ من هذا كله الإشارة إلى أننا في ذكرى المولد النبوي الشريف، لسنا في مقام "عبادة"، وإنما نحن في مقام استذكار واستحضار للظروف التي ولد ونشأ فيها محمد "صلى الله عليه وسلم"، للتداول والتدارس في سيرته ومسيرته صلوات الله عليه وسلامه، للاقتداء به؛ ليكون كل منا "محمدًا" في صدقه، وحسن أمانته، وإخلاصه في العمل، وتحمله لمسؤولياته اتجاه نفسه واتجاه أسرته ووطنه وأمته. وسوف نستعرض في العجالة الآتية تلك اللحظات التي ولد فيه نبي الهدى البشري "محمد صلى الله عليه وسلم، وما آلت إليه البشرية بعدئذ، حتى يومنا هذا.
والظروف المحيطة بلحظة مولد الهدى
ولد محمد "صلى الله عليه وسلم" في العام (570م)، في الوقت الذي كانت تشهد الجزيرة العربية بشكل خاص، والمنطقة بشكل عام، بل والعالم أجمع، حالة من الهيجان وعدم الاستقرار، بل الاضطراب؛ سياسيًا واجتماعيًا وفكريًا وعقائديًا. كما أنها كانت تشهد أزمات "هوياتية"، تتعلق بملكية المكان والزمان، بمعنى: لمن هي الأرض، ولمن هو التاريخ، ومن هم أصحاب الحضارة، بمستواها المتواضع؟ ولأن المجال لا يتسع للدخول في تفاصيل ذلك الواقع المحيط بمولده صلى الله عليه وسلم، فإننا سنكتفي بالإشارة إلى ما يلي:
أولًا: كان في مكة "كعبة" يحج إليها وثنيوا تلك الحقبة، إذ يقول تعالى: "وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" (البقرة: 125). وتشير هذه الآية الكريمة إلى العمق التاريخي للكعبة في ذلك العام (570م)، إلا أن أهل نجران بنوا كعبة لهم مضاهاة لكعبة مكة[1].
ثانيًا: كانت الجزيرة العربية مسكونة من قبل عدد من الجماعات، التي لكل منها قوتها وسطوتها وقدرتها على التأثير، مثل:
1) الوثنيون؛ عبدة الأصنام وجلّهم من العرب الأقوياء بخاصة أهل قريش أهل النبي المولود وذووه المقربون جدًا، بل أسرته المباشرة وعائلته.
2) اليهود؛ أصحاب السطوة الاقتصادية الذين كانوا يقطنون مناطق الواحات التي تمتاز بمياههاالكثيرة وتربتها الخصبة، مما جعل منها محطات مهمة على طرق القوافل التجارية، بالإضافةإلى أن ذلك أتاح لليهود ممارسة مهنة الزراعة، وما يمتلكون من علاقات اقتصادية تربطهم معالتجمعات السكانية الأخرى[2].
3) المسيحية؛ تنتشر في وسط شبه الجزيرة العربية، منذ بضع عقود، في ذلك الحين، علمًا بأن "البحرين" كانت مركزًا مسيحيًا هامًا من القرن الخامس الميلادي، وكان في مكة مقبرة لهم، وكانوا يحجون إلى الكعبة كذلك. وكانت المسيحية، بشكل عام، تشهد انشقاقات وخصومات عقائدية، وكان يُنظر إلى المسيحيين العرب، من قبل المسيحيين الآخرين، على أنهم "هراطقة"[3].
ثالثًا: أما بلاد الشام فكانت تشهد ثلاثة كيانات عربية رئيسة هي: الأنباط في الجنوب، وتدمر في الشمال، والغساسنة بينهما. ولعل هذه الكيانات السياسية كانت تشترك بخصائص عامة، فأصلها يرجع إلى استيطان العرب البدو، وازدهارها يعود إلى تجارة المرور (الترانزيت) ثم كان لها دورها السياسي دولة حاجزة بين الدولتين البيزنطية والفارسية[4].
رابعًا: كانت أحوال العرب مزرية؛ ليس لخلل في شخصية الفرد منهم، أو في خصائصه المتمتعة بالصدق والإخلاص والكرم والرجولة، والنخوة... الخ. فهذه جميعها صفات متأصلة فيهم، إلا أن غياب القيادة القوية، ذات الفكر الراجح القويم القادر على التمرد على عوامل الفساد المتوارثة، وغياب القدرة على التخطيط في مواجهة الأعداء، جعلت منهم شتاتًا متفرقين متصارعين، فيما بينهم. ويجمل د. سرجاني أبرز مساوئ حياة العرب في حينه، بما يأتي[5]:
· الحالة الدينية؛ إذ كانوا عَبَدة أصنام، وكان لكل مدينة صنم، بل كان لكل قبيلة صنم، فمكة -مثلاً- كان أعظم أصنامها (هُبُل)، بينما كان (اللاّت) أعظم أصنام الطائف، وهكذا. وكان لكل بيت صنم، وأصبحت تجارة الأصنام لها تجار وصناع، وقد امتلأت الكعبة بالأصنام حتى بلغ عددها ثلاثمائة وستين صنمًا من مختلف الأنواع والأشكال، ومن أعجبها (إساف) و(نائلة) وهما: رجل وامرأة من اليمن زنيا بالبيت الحرام فمسخهما الله أحجارًا، ومع مرور الزمن عبدهما الناس، ووضعوا أحدهما على الصفا، والآخر على المروة!
· الحالة الأخلاقية؛ حيث تفشى بينهم: دفن بناتهم وهن أحياء، شرب الخمر، الميسر، الربا، وحتى النكاح في الجاهلية كان منه ما هو زنا فاضح، واختلاط أنساب معيب، كالتبعيض؛ كأن يرسل الرجل زوجته لكي يطأها رجل بصفات مرغوبة، لكي تحمل منه ولدًا يحمل تلك الصفات، ونكاح ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة، فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها.
· الحالة السياسية؛ وتتمثل في العصبية والحروب المستمرة بين القبائل، لأتفه الأسباب؛ كحرب داحس والغبراء.
ولد الهدى فكوكب الأرض ضياء
هكذا؛ نجد أن اللحظة التي شهدت مولد "محمد" صلى الله عليه وسلم في العام (570م)، هي لحظة "الحضيض" في الانهيار والتشتت والتضارب والتناحر، ليس على مستوى الجزيرة العربية وحسب، وإنما على مستوى العالم أجمع، كالحروب الطاحنة بين الفرس والروم. وليست على مستوى علاقات الأمم والأديان بين بعضها البعض وحسب، وإنما داخل الأمة الواحدة، وداخل نفس الديانة ونفس الجماعة، وما تشهده من انشقاقات واقتتال. كما أنه لا بد من ذكر أنه قد ولد، صلى الله عليه وسلم، في أجواء سيطرة الحبشة على اليمن والحجاز[6].
ومن الإشارات المبكرة على نبوة "محمد" صلى الله عليه وسلم، ما جاء في دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني، التي ورد فيها قول الراهب بحيرا في "محمد" وهو ابن عشر سنين: ارجع بابن أخيك إلى بلدك، واحذر عليه اليهود، فو الله إن رأوه، أو عرفوا منه الذي أعرف ليبغنه عنتًا؛ فإنه كائن لابن أخيك شأن عظيم نجده في كتبنا، وما ورثنا من آبائنا، وقد أخذ علينا مواثيق[7]، وما يروى عن "ورقة بن نوفل" النصراني الذي كان ينبئ بنبوة "محمد"، إلا أنه توفي قبل أن يشهد الدعوة المحمدية.
بعمر أربعين عامًا؛ أي في حوالى العام (610م)، وفي ذروة ما كن يتمتع به بين قومه، وبين خارج قومه، من علامات النبوة المسندة بما تحلى به من طيب الخلق، وصدق القول، والشجاعة في المواقف واتخاذ القرار، ووضوح القول الذي لا يحابي أحدًا على حساب الحق، أخذ "محمد" صلى الله عليه وسلم يجهر بالدعوة، وبدئ بنزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم، مكملاً لمن سبقه، وبدئ بتنزيل القرآن الكريم، الذي هو دستور البشرية جمعاء.
كما جاءت الرسالة المحمدية، سواء على مستوى التنزيل القرآني، أو ما يقوله و/أو ما يفعله "محمد" (ص)، رسالة الإسلام للبشرية جمعاء؛ باعتبارها مكملة للرسالات السابقة، ومرتبطة بنبي الله إبراهيم عليه السلام، الذي يقول فيه سبحانه: "قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 95).
كما أن إسلام محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء به، ما هو إلى استكمال لـ "إسلام" إبراهيم عليه السلام الذي ذكر في القرآن أكثر من (70) مرة، الذي يقول فيه سبحانه: "مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ" (آل عمران: 67)، ويتبع ذلك بقوله تعالى:"إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَٰذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ" (آل عمران: 68).
محمد ومن بعده الخلفاء يبنون أعظم امبراطورية على وجه الأرض
وفق ما هو موصوف أعلاه جاء جوهر العقيدة، والذي قام "محمد" ومن آمنوا به من المقربين، ببثه في قومهم وفي الأقوام الأخرى المجاورة. فأما المجتمع العربي المحيط فكان، ما عدا اليهود الذين يتحكمون في اقتصاديات المنطقة، ينقسم إلى قسمين رئيسيين، هما:
القسم الأول: الوثنيون؛ الذين لا يمتلكون شيئًا مما يدافعوم به في مواجهة رسالة الإسلام القائمة على الوحدانية المطلقة والعبودية التامة الخالصة لله وحده لا شريك له، خالق الخلق.
القسم الثاني: النصارى؛ الذين يعانون من انقسامات الكنيسة وتشظّيها، ويعانون الإحباط من أبناء دينهم، الذين ينظرون إلى كنيستهم على أنها "هرطقة".
في تلك الأجواء انتشر الإسلام، كنسمة عليلة باردة اخترقت صدورًا مشتعلة بنار الجهل والإحباط، فأخمدت تلك النيران وأشاعت في نفوس أهلها الحماس الشديد نحو نشر رسالة الإسلام التي جاء بها الصادق الأمين، وصبروا على العذاب بل التعذيب المبرمج، الذي طال كل من وصلت إليه يد الكفر والشرك من سادة المنطقة، الذين رأوا في الإسلام خطرًا يهدد مصالحهم، التي بنوها على حساب الشعوب الفقيرة الجاهلة البائسة.
انتشرت رسالة "محمد" صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة الإسلام، موجهة للأمم والشعوب والجماعات والتجمعات كافة، وذلك لطبيعتها الأممية التي لا تستثني قومًا أو جغرافية أو دينًا. فاندثرت المسيحية تقريبًا كليًا في الجزيرة العربية، وضعفت في بلاد الشام والعراق؛ فأصبح جل سكان تلك المناطق من المسلمين.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، وإنما وصلت الفتوحات إلى بيت المقدس، واتسعت لتشمل بلاد فارس، ومناطق واسعة من الإمبراطورية البيزنطية، حتى أصبحت الكتلة العربية الإسلامية الممتدة بين شرقي البحر الأبيض المتوسط وحتى شواطئه الغربية، إلى جانب الكتلتين؛ الغربية والبيزنطية[8]، حتى وصلت في أفصى حدود مساحتها إلى (12) مليون كيلو متر مربع، ليعيش سكان تلك المناطق وقاطنيها في ظلال عدل الإسلام وتشجيعه للعلم وإعمال العقل في شتى أمور الحياة.
كلمة ختام.. في ذكراه يجب أن تتجدد الهمّة
لقد تم استعراض ما ورد من معلومات، وتشخيص للظروف المحيطة بمولد "رسول البشرية جمعاء" صلى الله عليه وسلم، ليس من أجل سرد تاريخي، يمكن للقارئ أن يجده، بسهولة ويسر، بين صفحات الكتب والمراجع المختلفة، وإنما لكي نشير إلى أن الذكريات ليست مجرد أيام، نقضيها في عطلة رسمية نتمتع فيها بما لذ وطاب من متع الحياة، وليس للتوقف عندها بالحسرة والبكاء والعويل، وليس لعبادة تلك الأيام أو لعبادة أصحاب الذكرى، حتى لو كان النبي "محمد صلى الله عليه وسلم.
إنما أريد من ذلك، التوقف الجاد عند تلك اللحظات التاريخية، بالقراءة والتحليل وإعادة القراءة، لكي نجد أن الظروف التي نعيشها هذه الأيام هي ظروف مسبوقة في تاريخنا ببعديه؛ القريب والبعيد. ولكي نذكر أحبتنا القراء بقوله تعالى: "لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ" (الزمر: 53)، وبقوله تعالى: "وَلَا تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ" (يوسف: 87).
وهذا يعني أن ذكرى المولد النبوي لـ "نور الهدى" صلى الله عليه وسلم، هي محطة لكل منا؛ لكي نستخلص منها العبر الإيمانية التي تبث الأمل في نفوسنا، وتعمق فينا الإيمان برسالته صلى الله عليه وسلم، التي توجه بها لبني البشر قاطبة لإخراجهم من ظلمات الجهل والتخلف والتضارب والتناحر، لأتفه الأسباب، إلى نور الإيمان بالله وحده المستند إلى العلم والمعرفة والتفكر في خلق السماوات والأرض، مصداقًا لقوله تعالى: "اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ" (البقرة: 257).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin