المقامات والأحوال
( مقام التوبة )
بقلم الدكتور محمد فاروق النبهان *
تطلق كلمة (المقام) في الفكر الصوفي على مقام العبد بين يدي الله عز وجل ، فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله تعالى(1) ، قال تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (2)
وسئل أبو بكر الواسطي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم :((الأرواح جنود مجندة 00)) قال: 00 مجندة على قدر المقامات ،
والمقامات مثل: التوبة والورع والزهد والرضا والتوكل .
وقال (القشيري) في تعريف المقام : و المقام : ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب مما يتوصل إليه بنوع تصرف ، ويتحقق به بضرب تطلب ومقاساة تكلف ، فمقام كل واحد موضع إقامته عند ذلك ، وما هو منشغل بالرياضة له ، وشرطه ألا يرتقي من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكام ذلك المقام ، فإن من لا قناعة له لا يصح له التوكل ، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم ، وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة ، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد ، والمقام هو: الإقامة ، كالمدخل بمعنى الإدخال والمخرج بمعنى الإخراج ، ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام، ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة»( 3 ) .
أما الأحوال فهي ما يحل بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار ، وقال الجنيد رحمه الله : الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم » وقيل : الحال هو الذكر الخفي(4).
مقام التوبة:
التوبة هي أول مقام من مقامات السالكين المنقطعين إلى الله تعالى . قال الإمام الغزالي : ((فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين ). (5)
وحقيقة التوبة في لفة العرب الرجوع يقال: تاب أي : رجع فالتوبة هي : الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه .(6)
والتوبة كما يقول (الغزالي)(7) معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة : علم وحال وفعل ، فالعلم الأول والحال الثاني والفعل الثالث ، والأول موجب للثاني ، والثاني موجب للثالث ، إيجاباً اقتضاه اطراد سنة الله في الملك ، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وربه ، فإذا عرف العبد ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب ، فإذا كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه ندماً ، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال وهو ترك ذلك الذنب ، وبالمستقبل وهو العزم على ذلك الترك والماضي وهو تلافي ذلك الذنب بالقضاء والجبر .
وعرف (القشيري) الحال(8) بأنه المعنى الذي يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ولا اكتساب والأحوال مواهب، والمقامات مكاسب ، والأحوال تأتي من غير الوجود ، والمقامات تحصل ببذل المجهود ، وصاحب المقام ممكن في مقامه ، وصاحب الحال مترق عن حاله .
وتأتي الأحوال كالبروق فلا تدوم أبداً ، فإذا دامت فهي من أحاديث النفس ، والأحوال تحل بالقلب وتزول في الوقت .
وبالرغم من وضوح الفرق بين المقام والحال فإنه يصعب في بعض المواقف التفريق بين المقام والحال للتشابه بينهما ولتداخلهما ، فقد يصبح الحال مقاماً ، وقد يدوم ويستمر وبخاصة في بعض الأحوال التي تقبل الدوام .
قال الإمام (السهروردي) في كتابه (عوارف المعارف) :
قد كثر الاشتباه بين الحال والمقام ، واختلفت إشارات الشيوخ في ذلك ، ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما وتداخلهما ، فتراءى للبعض الشيء حالاً وتراءى للبعض مقاماً ، وكلا الرؤيتين صحيح لوجود تداخلهما ، ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما ، على أن اللفظ والعبارة عنهما مشعر بالفرق ، فالحال سمي حالاً لتحوله والمقام مقاماً لثبوته واستقراره ، وقد يكون الشيء بعينه حالاً ثم يصير مقاماً(9) .
وبعض الأحوال يصير مقاماً وبعضها لا يصير مقاماً ، والسر في ذلك أن الكسب في المقام ظهر والموهبة بطنت وفي الحال الموهبة غالبة ، والمواهب غير متناهية ، ولا تتوقف عند حد ، ولا يمكن أن يتحقق المقام إلا بعد حال ، ولذلك فإن الأحوال لا ترتبط بالكسب ولا بالطبع والمقامات أثبت) . (10)
ويطلق لفظ (التوبة) على الندم ، لأن العلم يتطلب أمرين : علم يدعو إليه ، وعزم يتبعه ويتلوه ، ولا يتحقق الندم إلا بوجود طرفيه ، وهو العلم السابق والعزم اللاحق ، والندم هو ثمرة العلم .
ولا يتصور ترك الذنب إلا بعد معرفته ، فمن لم يعرف ذنبه لا يتوب عنه ولا يندم عليه ، فالعلم ركن أول للتوبة ، والندم هو الشعور الذاتي الذي يثمره العلم ، والعزم هو الفعل الذي ينتجه الندم ، فالندم حال نفسية تتفاعل وتثمر العمل ، فإذا علم العبد ذنبه ولم يأته حال من الندم فإنه لا يتوب ،
لأن مجرد العلم لا يثمر العمل ، والعمل ليس ثمرة العلم ، وإنما هو ثمرة حال تقود إلى العمل ، ولا بد من العلم في المرحلة الأولى لأن عدم العلم بالأوامر والنواهي لا يؤدي إلى التوبة أبداً لعدم وجود الدافع الذي يؤدي إلى الندم .
والذنوب أمور مطلوبة وتشتهيها النفوس ، لأن الغرائز الفطرية تولد الرغبة في تلبية ما تشتهيه النفوس وهي موطن تلك الغرائز ، والغريزة ليست عاقلة ، ولا تدرك ما هو حسن وما هو سيء ولا تميز بين ما هو نافع وما هو ضار ، ونظراً لهذه الطبيعة فإن النفس أمارة بالسوء ، لما يوجد في الأشياء السيئة من جمال ظاهر تدعو إليه النفس وتميل إليه ، والنفس في لحظة سيطرة الشهوة عليها لا تعقل الأشياء ولا تميز بينها ، وهذا ما يدفعها لتناول ذلك الشيء الممنوع الضار أو العمل به لأن إلحاح الغريزة يجعل النفس في موطن الاستجابة ، ويتوقف عمل العقل وبخاصة إذا كان العقل أسير الغرائز الفطرية مستجيباً لها مستسلماً لأوامرها ، ويحتاج العقل إلى مجاهدة النفس ومقاومتها للتحكم في حركة الغرائز اندفاعاتها.
والتوبة هي شعور بالندم ، وهو إحساس بتوجع القلب وشعوره بالحسرة والألم ، وعلامته أن يعبر عن ذلك التوجع والحسرة بما يظهر على الملامح الخارجية من شعور بذلك الندم ، سواء بالبكاء أو الحزن .
والعاقل يتوب عن ذنبه ، لأن الذنب أمر مذموم ، ولا يمكن أن يرتكب العبد ذنباً إلا في لحظة غفلة وضعف ، فإذا أفاق من غفوته واستعاد قدرته وسيطرته على نفسه فسرعان ما يشعر بالحسرة والحزن ، وهذا هو الندم ، والتوبة دليل قوة ومظهر من مظاهر الوعي والنضج ، لأن الإنسان العاقل بطبيعته ينفر من الصفات المذمومة فإذا ارتكب فعلاً مذموماً فسرعان مايحزن ويندم ويصحح سلوكه فإذا لم يندم على ما ارتكبه من أخطاء فهذا دليل على أن مصدر الإحساس بالألم قد توقف عمله فلا يخاطبه ولا يؤنبه ولا يحذره ،وعندئذ تتوالى أخطاؤه وتتراكم ذنوبه ويصبح ثوبه الأبيض النقي الصافي مليئاً بالنقط السوداء المتراكمة والمتزاحمة إلى أن يصبح الثوب أسود اللون قاتم الملامح يدعو للاشمئزاز والنفور .
واعتبر (الكلاباذي) في كتابه (التعرف )(11) أن علوم الصوفية هي علوم الأحوال ، والأحوال مواريث الأعمال ، ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال ، وأول تصحيح الأعمال معرفة علومها ، وهي علوم الأحكام الشرعية من أصول الفقه وفروعه ، وهذه علوم التعلم والاكتساب ، وأول ما يلزم العبد الاجتهاد في طلب هذا العلم وأحكامه على قدر ما أمكنه ووسعه طبعه وقوي عليه فهمه ، فإذا استقامت النفس على الواجب وصلحت طباعها وتأدبت بآداب الله عز وجل من زم جوارحها وحفظ أطرافها وجمع حواسها سهل عليه إصلاح أخلاقها وتطهير الظاهر منها فعند ذلك يمكن العبد مراقبة الخواطر وتطهير السرائر وهذا هو علم المعرفة .
ثم وراء هذا علوم الخواطر وعلوم المشاهدات والمكاشفات وهي التي تختص بعلم الإشارة ، وهو العلم الذي تفردت به الصوفية ء وإنما قيل : علم الإشارة لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن التعبير عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات والمواجيد ، ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال وحل تلك المقامات .
وشرح (الكلاباذي) المقامات بقوله : (ثم لكل مقام بدء ونهاية وبينهما أحوال متفاوتة ، ولكل مقام علم وإلى كل حال إشارة ومع كل مقام إثبات ونفي وليس كل ما نفي في مقام كان منفياً فيما قبله ولا كل ما أثبت فيه كان مثبتاً فيما دونه)(12)
والتوبة أنواع كثيرة : فهناك المفهوم العام للتوبة ، وهي التوبة عن الذنوب والأفعال المذمومة ، وهذه لا خلاف فيها ، وهناك التوبة بالمفهوم الصوفي وهي التوبة عن الغفلة فمن غفل عن ذكر الله فهو من المذنبين فتوبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة) (13)
_ قال أبو الحسن النوري حين سئل عن التوبة : التوبة أن تتوب عن كل شيء سوى الله تعالى))
_ وقال ذو النون عن التوبة : توبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من الغفلة
_ وقال سهل بن عبد الله : التوبة ألا تنسى ذنبك .
_ وقال الجنيد : التوبة هي أن تنسى ذنبك .
وفسر (الكلاباذي) في كتابه (التعرف) كلام الجنيد بقوله :أن تخرج حلاوة ذلك الفعل من قلبك خروجاً لا يبقى له في سرك أثر حتى تكون بمنزلة من لا يعرف ذلك قط .
وسئل الحسين المقازلي عن التوبة فقال(14) : تسألني عن توبة الإنابة أو توبة الاستجابة؟ ! فقال السائل : ما توبة الإنابة؟ قال : أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك . قال : فما توبة الاستجابة؟ قال : أن تستحيي من الله لقربه منك
وقسم الإمام الغزالي أقسام العباد في دوام التوبة إلى طبقات(15) :
الطبقة الأولى : أن يتوب عن المعاصي إلى آخر عمره فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلى ذنوبه ، وهذا التائب هو السابق بالخيرات ، وهذه هي التوبة النصوح ، وهذه هي النفس الساكنة المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية .
-الطبقة الثانية : أن يتوب عن المعاصي ويترك كبائر الفواحش إلا أنه تعتريه لحظات ضعف ويبتلى في بعض الذنوب من غير عزم ، وسرعان ما يندم ويتوب ويعزم على ألا يقع فيها . . وهذه هي النفس اللوامة ، وهذه هي حال معظم التائبين ، وهذه الطبقة هي التي عناها الله بقوله : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (16)
- الطبقة الثا لثة : أن يتوب عن الذنوب ويستمر على الاستقامة ثم تغلبه الشهوات وينقاد لها ويقدم عليها عن قصد وشهوة لعجزه عن مقاومتها ومع ذلك فإنه يحرص على مواظبته على الصالحات وترك معظم الذنوب وتسول له نفسه أن يترب من جديد ، ويعزم على ذلك ، وسرعان ما تقهره شهواته ، وهذه هي النفس المسوّلة التي عناها الله بقوله :وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (17) وعسى الله أن يتوب عليه وأن يتداركه بفضله .
_ الطبقة الرابعة : أن يتوب ثم يعود مرة ثانية إلى مقارنة الذنوب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ، وينهمك في الشهوات انهماك الغافل ، (18)وهذه هي النفس الأمارة بالسوء . . ويخشى على هذه النفس من سوء الخاتمة .
والصوفية يرون في التوبة معنى العناية فالإنسان لا يتوب لعلمه بخطورة ما يرتكبه من الآثام والذنوب ، ولكن لأن الله تعالى أكرمه بعنايته ، ومنّ عليه بالتوبة ، فمن لم يعد يجد في نفسه حلاوة تلك الذنوب بل أصبح يراها ثقيلة عليه ينفر منها ويضيق عند ذكرها فمن منّ الله تعالى عليه بهذه النعمة فقد قاده إلى طريق التوبة ، ولهذا يصل العباد في بعض الأحيان إلى أنه يستحيي من الله تعالى أن يراه في موطن الآثام ، وهذا الحياء من الله لا يكون إلا في مقام مراقبة الله تعالى .
ولا يمكن للإنسان أن يتوب عن المعاصي إلا بتأييد من الله تعالى وفضل منه ، فالإنسان مهما حاول فإنه لا يستطيع التخلص من سيطرة شهواته عليه ، وعندما يمن الله عليه بنعمة الطمأنينة والاستنارة القلبية فسرعان ما يسجد قلبه لله فيضيق بالمعصية وينفر منها ويتغلب على غرائزه ويمسك بمقود شهواته .
* انظر كتاب الفكر الصوفي
1 انظر : اللمع للطوسي ص 65
2 سورة إبراهيم ، الآية 14
3 انظر : الرسالة القشيرية ، ص 40
4 انظر : اللمع للطوسي ص 66
5 انظر : إحياء علوم الدين : 4/4
6 انظر : الرسالة القشيرية ، ص 58
7 انظر : إحياء علوم الدين : 4/4
8 انظر : الرسالة القشيرية ، ص 40
9 انظر : عوارف المعارف ، ص 300
10 انظر : عوارف المعارف ، ص 302
11 انظر : التعرف لمذهب أهل التصوف ، ص 86-87
12 انظر : التعرف لمذهب أهل التصوف ، ص 88
13 انظر : اللمع ، ص 68
14 انظر : التعرف للكلاباذي ، ص 93
15 انظر : الإحياء 46-45
16 سورة آل عمران الآية : 135
17 سورة التوبة الآية : 102
18 انظر الإحياء : 47/4
( مقام التوبة )
بقلم الدكتور محمد فاروق النبهان *
تطلق كلمة (المقام) في الفكر الصوفي على مقام العبد بين يدي الله عز وجل ، فيما يقام فيه من العبادات والمجاهدات والرياضات والانقطاع إلى الله تعالى(1) ، قال تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (2)
وسئل أبو بكر الواسطي عن قول النبي صلى الله عليه وسلم :((الأرواح جنود مجندة 00)) قال: 00 مجندة على قدر المقامات ،
والمقامات مثل: التوبة والورع والزهد والرضا والتوكل .
وقال (القشيري) في تعريف المقام : و المقام : ما يتحقق به العبد بمنازلته من الآداب مما يتوصل إليه بنوع تصرف ، ويتحقق به بضرب تطلب ومقاساة تكلف ، فمقام كل واحد موضع إقامته عند ذلك ، وما هو منشغل بالرياضة له ، وشرطه ألا يرتقي من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكام ذلك المقام ، فإن من لا قناعة له لا يصح له التوكل ، ومن لا توكل له لا يصح له التسليم ، وكذلك من لا توبة له لا تصح له الإنابة ، ومن لا ورع له لا يصح له الزهد ، والمقام هو: الإقامة ، كالمدخل بمعنى الإدخال والمخرج بمعنى الإخراج ، ولا يصح لأحد منازلة مقام إلا بشهود إقامة الله تعالى إياه بذلك المقام، ليصح بناء أمره على قاعدة صحيحة»( 3 ) .
أما الأحوال فهي ما يحل بالقلوب أو تحل به القلوب من صفاء الأذكار ، وقال الجنيد رحمه الله : الحال نازلة تنزل بالقلوب فلا تدوم » وقيل : الحال هو الذكر الخفي(4).
مقام التوبة:
التوبة هي أول مقام من مقامات السالكين المنقطعين إلى الله تعالى . قال الإمام الغزالي : ((فإن التوبة عن الذنوب بالرجوع إلى ستار العيوب وعلام الغيوب مبدأ طريق السالكين ورأس مال الفائزين وأول أقدام المريدين ومفتاح استقامة المائلين ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين ). (5)
وحقيقة التوبة في لفة العرب الرجوع يقال: تاب أي : رجع فالتوبة هي : الرجوع عما كان مذموماً في الشرع إلى ما هو محمود فيه .(6)
والتوبة كما يقول (الغزالي)(7) معنى ينتظم ويلتئم من ثلاثة أمور مرتبة : علم وحال وفعل ، فالعلم الأول والحال الثاني والفعل الثالث ، والأول موجب للثاني ، والثاني موجب للثالث ، إيجاباً اقتضاه اطراد سنة الله في الملك ، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنوب وكونها حجاباً بين العبد وربه ، فإذا عرف العبد ذلك معرفة محققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب ، فإذا كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت فيسمى تألمه ندماً ، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى وانبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة وقصداً إلى فعل له تعلق بالحال وهو ترك ذلك الذنب ، وبالمستقبل وهو العزم على ذلك الترك والماضي وهو تلافي ذلك الذنب بالقضاء والجبر .
وعرف (القشيري) الحال(8) بأنه المعنى الذي يرد على القلب من غير تعمد ولا اجتلاب ولا اكتساب والأحوال مواهب، والمقامات مكاسب ، والأحوال تأتي من غير الوجود ، والمقامات تحصل ببذل المجهود ، وصاحب المقام ممكن في مقامه ، وصاحب الحال مترق عن حاله .
وتأتي الأحوال كالبروق فلا تدوم أبداً ، فإذا دامت فهي من أحاديث النفس ، والأحوال تحل بالقلب وتزول في الوقت .
وبالرغم من وضوح الفرق بين المقام والحال فإنه يصعب في بعض المواقف التفريق بين المقام والحال للتشابه بينهما ولتداخلهما ، فقد يصبح الحال مقاماً ، وقد يدوم ويستمر وبخاصة في بعض الأحوال التي تقبل الدوام .
قال الإمام (السهروردي) في كتابه (عوارف المعارف) :
قد كثر الاشتباه بين الحال والمقام ، واختلفت إشارات الشيوخ في ذلك ، ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما وتداخلهما ، فتراءى للبعض الشيء حالاً وتراءى للبعض مقاماً ، وكلا الرؤيتين صحيح لوجود تداخلهما ، ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما ، على أن اللفظ والعبارة عنهما مشعر بالفرق ، فالحال سمي حالاً لتحوله والمقام مقاماً لثبوته واستقراره ، وقد يكون الشيء بعينه حالاً ثم يصير مقاماً(9) .
وبعض الأحوال يصير مقاماً وبعضها لا يصير مقاماً ، والسر في ذلك أن الكسب في المقام ظهر والموهبة بطنت وفي الحال الموهبة غالبة ، والمواهب غير متناهية ، ولا تتوقف عند حد ، ولا يمكن أن يتحقق المقام إلا بعد حال ، ولذلك فإن الأحوال لا ترتبط بالكسب ولا بالطبع والمقامات أثبت) . (10)
ويطلق لفظ (التوبة) على الندم ، لأن العلم يتطلب أمرين : علم يدعو إليه ، وعزم يتبعه ويتلوه ، ولا يتحقق الندم إلا بوجود طرفيه ، وهو العلم السابق والعزم اللاحق ، والندم هو ثمرة العلم .
ولا يتصور ترك الذنب إلا بعد معرفته ، فمن لم يعرف ذنبه لا يتوب عنه ولا يندم عليه ، فالعلم ركن أول للتوبة ، والندم هو الشعور الذاتي الذي يثمره العلم ، والعزم هو الفعل الذي ينتجه الندم ، فالندم حال نفسية تتفاعل وتثمر العمل ، فإذا علم العبد ذنبه ولم يأته حال من الندم فإنه لا يتوب ،
لأن مجرد العلم لا يثمر العمل ، والعمل ليس ثمرة العلم ، وإنما هو ثمرة حال تقود إلى العمل ، ولا بد من العلم في المرحلة الأولى لأن عدم العلم بالأوامر والنواهي لا يؤدي إلى التوبة أبداً لعدم وجود الدافع الذي يؤدي إلى الندم .
والذنوب أمور مطلوبة وتشتهيها النفوس ، لأن الغرائز الفطرية تولد الرغبة في تلبية ما تشتهيه النفوس وهي موطن تلك الغرائز ، والغريزة ليست عاقلة ، ولا تدرك ما هو حسن وما هو سيء ولا تميز بين ما هو نافع وما هو ضار ، ونظراً لهذه الطبيعة فإن النفس أمارة بالسوء ، لما يوجد في الأشياء السيئة من جمال ظاهر تدعو إليه النفس وتميل إليه ، والنفس في لحظة سيطرة الشهوة عليها لا تعقل الأشياء ولا تميز بينها ، وهذا ما يدفعها لتناول ذلك الشيء الممنوع الضار أو العمل به لأن إلحاح الغريزة يجعل النفس في موطن الاستجابة ، ويتوقف عمل العقل وبخاصة إذا كان العقل أسير الغرائز الفطرية مستجيباً لها مستسلماً لأوامرها ، ويحتاج العقل إلى مجاهدة النفس ومقاومتها للتحكم في حركة الغرائز اندفاعاتها.
والتوبة هي شعور بالندم ، وهو إحساس بتوجع القلب وشعوره بالحسرة والألم ، وعلامته أن يعبر عن ذلك التوجع والحسرة بما يظهر على الملامح الخارجية من شعور بذلك الندم ، سواء بالبكاء أو الحزن .
والعاقل يتوب عن ذنبه ، لأن الذنب أمر مذموم ، ولا يمكن أن يرتكب العبد ذنباً إلا في لحظة غفلة وضعف ، فإذا أفاق من غفوته واستعاد قدرته وسيطرته على نفسه فسرعان ما يشعر بالحسرة والحزن ، وهذا هو الندم ، والتوبة دليل قوة ومظهر من مظاهر الوعي والنضج ، لأن الإنسان العاقل بطبيعته ينفر من الصفات المذمومة فإذا ارتكب فعلاً مذموماً فسرعان مايحزن ويندم ويصحح سلوكه فإذا لم يندم على ما ارتكبه من أخطاء فهذا دليل على أن مصدر الإحساس بالألم قد توقف عمله فلا يخاطبه ولا يؤنبه ولا يحذره ،وعندئذ تتوالى أخطاؤه وتتراكم ذنوبه ويصبح ثوبه الأبيض النقي الصافي مليئاً بالنقط السوداء المتراكمة والمتزاحمة إلى أن يصبح الثوب أسود اللون قاتم الملامح يدعو للاشمئزاز والنفور .
واعتبر (الكلاباذي) في كتابه (التعرف )(11) أن علوم الصوفية هي علوم الأحوال ، والأحوال مواريث الأعمال ، ولا يرث الأحوال إلا من صحح الأعمال ، وأول تصحيح الأعمال معرفة علومها ، وهي علوم الأحكام الشرعية من أصول الفقه وفروعه ، وهذه علوم التعلم والاكتساب ، وأول ما يلزم العبد الاجتهاد في طلب هذا العلم وأحكامه على قدر ما أمكنه ووسعه طبعه وقوي عليه فهمه ، فإذا استقامت النفس على الواجب وصلحت طباعها وتأدبت بآداب الله عز وجل من زم جوارحها وحفظ أطرافها وجمع حواسها سهل عليه إصلاح أخلاقها وتطهير الظاهر منها فعند ذلك يمكن العبد مراقبة الخواطر وتطهير السرائر وهذا هو علم المعرفة .
ثم وراء هذا علوم الخواطر وعلوم المشاهدات والمكاشفات وهي التي تختص بعلم الإشارة ، وهو العلم الذي تفردت به الصوفية ء وإنما قيل : علم الإشارة لأن مشاهدات القلوب ومكاشفات الأسرار لا يمكن التعبير عنها على التحقيق بل تعلم بالمنازلات والمواجيد ، ولا يعرفها إلا من نازل تلك الأحوال وحل تلك المقامات .
وشرح (الكلاباذي) المقامات بقوله : (ثم لكل مقام بدء ونهاية وبينهما أحوال متفاوتة ، ولكل مقام علم وإلى كل حال إشارة ومع كل مقام إثبات ونفي وليس كل ما نفي في مقام كان منفياً فيما قبله ولا كل ما أثبت فيه كان مثبتاً فيما دونه)(12)
والتوبة أنواع كثيرة : فهناك المفهوم العام للتوبة ، وهي التوبة عن الذنوب والأفعال المذمومة ، وهذه لا خلاف فيها ، وهناك التوبة بالمفهوم الصوفي وهي التوبة عن الغفلة فمن غفل عن ذكر الله فهو من المذنبين فتوبة العوام من الذنوب وتوبة الخواص من الغفلة) (13)
_ قال أبو الحسن النوري حين سئل عن التوبة : التوبة أن تتوب عن كل شيء سوى الله تعالى))
_ وقال ذو النون عن التوبة : توبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من الغفلة
_ وقال سهل بن عبد الله : التوبة ألا تنسى ذنبك .
_ وقال الجنيد : التوبة هي أن تنسى ذنبك .
وفسر (الكلاباذي) في كتابه (التعرف) كلام الجنيد بقوله :أن تخرج حلاوة ذلك الفعل من قلبك خروجاً لا يبقى له في سرك أثر حتى تكون بمنزلة من لا يعرف ذلك قط .
وسئل الحسين المقازلي عن التوبة فقال(14) : تسألني عن توبة الإنابة أو توبة الاستجابة؟ ! فقال السائل : ما توبة الإنابة؟ قال : أن تخاف من الله من أجل قدرته عليك . قال : فما توبة الاستجابة؟ قال : أن تستحيي من الله لقربه منك
وقسم الإمام الغزالي أقسام العباد في دوام التوبة إلى طبقات(15) :
الطبقة الأولى : أن يتوب عن المعاصي إلى آخر عمره فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلى ذنوبه ، وهذا التائب هو السابق بالخيرات ، وهذه هي التوبة النصوح ، وهذه هي النفس الساكنة المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية .
-الطبقة الثانية : أن يتوب عن المعاصي ويترك كبائر الفواحش إلا أنه تعتريه لحظات ضعف ويبتلى في بعض الذنوب من غير عزم ، وسرعان ما يندم ويتوب ويعزم على ألا يقع فيها . . وهذه هي النفس اللوامة ، وهذه هي حال معظم التائبين ، وهذه الطبقة هي التي عناها الله بقوله : وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ (16)
- الطبقة الثا لثة : أن يتوب عن الذنوب ويستمر على الاستقامة ثم تغلبه الشهوات وينقاد لها ويقدم عليها عن قصد وشهوة لعجزه عن مقاومتها ومع ذلك فإنه يحرص على مواظبته على الصالحات وترك معظم الذنوب وتسول له نفسه أن يترب من جديد ، ويعزم على ذلك ، وسرعان ما تقهره شهواته ، وهذه هي النفس المسوّلة التي عناها الله بقوله :وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (17) وعسى الله أن يتوب عليه وأن يتداركه بفضله .
_ الطبقة الرابعة : أن يتوب ثم يعود مرة ثانية إلى مقارنة الذنوب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ، وينهمك في الشهوات انهماك الغافل ، (18)وهذه هي النفس الأمارة بالسوء . . ويخشى على هذه النفس من سوء الخاتمة .
والصوفية يرون في التوبة معنى العناية فالإنسان لا يتوب لعلمه بخطورة ما يرتكبه من الآثام والذنوب ، ولكن لأن الله تعالى أكرمه بعنايته ، ومنّ عليه بالتوبة ، فمن لم يعد يجد في نفسه حلاوة تلك الذنوب بل أصبح يراها ثقيلة عليه ينفر منها ويضيق عند ذكرها فمن منّ الله تعالى عليه بهذه النعمة فقد قاده إلى طريق التوبة ، ولهذا يصل العباد في بعض الأحيان إلى أنه يستحيي من الله تعالى أن يراه في موطن الآثام ، وهذا الحياء من الله لا يكون إلا في مقام مراقبة الله تعالى .
ولا يمكن للإنسان أن يتوب عن المعاصي إلا بتأييد من الله تعالى وفضل منه ، فالإنسان مهما حاول فإنه لا يستطيع التخلص من سيطرة شهواته عليه ، وعندما يمن الله عليه بنعمة الطمأنينة والاستنارة القلبية فسرعان ما يسجد قلبه لله فيضيق بالمعصية وينفر منها ويتغلب على غرائزه ويمسك بمقود شهواته .
* انظر كتاب الفكر الصوفي
1 انظر : اللمع للطوسي ص 65
2 سورة إبراهيم ، الآية 14
3 انظر : الرسالة القشيرية ، ص 40
4 انظر : اللمع للطوسي ص 66
5 انظر : إحياء علوم الدين : 4/4
6 انظر : الرسالة القشيرية ، ص 58
7 انظر : إحياء علوم الدين : 4/4
8 انظر : الرسالة القشيرية ، ص 40
9 انظر : عوارف المعارف ، ص 300
10 انظر : عوارف المعارف ، ص 302
11 انظر : التعرف لمذهب أهل التصوف ، ص 86-87
12 انظر : التعرف لمذهب أهل التصوف ، ص 88
13 انظر : اللمع ، ص 68
14 انظر : التعرف للكلاباذي ، ص 93
15 انظر : الإحياء 46-45
16 سورة آل عمران الآية : 135
17 سورة التوبة الآية : 102
18 انظر الإحياء : 47/4
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin