الدرس التاسع
حسنُ الخلقِ وتقسيمُ البدعةِ
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى في التاسعِ مِنْ جُمادى الأولى سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائة وألف وهو في بيانِ فضلِ الخُلُقِ والصبرِ على أذى الناسِ معَ الكلامِ عنِ البدعةِ وتقسيمِها إلى حسنةٍ ومذمومةٍ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ رب العالمينَ وصلى الله على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الأكرَمِين.
أما بعدُ، فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أنزلَ في كتابهِ الـمُبينِ قولَهُ تباركَ وتعالى في سورة الأعرافِ ﴿خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلينَ﴾. قال تعالى: ﴿وأُمُرْ بالعُرفِ﴾ والعُرفُ هوَ المعروفُ وهوَ كلُّ ما فرضَ اللهُ تعالى فِعْلَهُ أيْ كلُّ الواجباتِ الدينيَّةِ. ﴿وأعْرِضْ عنِ الجاهِلينَ﴾ أمرَ تباركَ وتعالى بالإعراضِ عنِ الجاهِلينَ أيْ بالإعراضِ عن لَغْوِهِمْ. وهكذا كانَ خُلُقُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
روى البخاريُّ من حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت في وصفِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "كانَ خُلُقُهُ القرءانُ1" اهـ يعني أنَّ مَنْ أرادَ أنْ يعرفَ خُلُقَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلْيَقْرإِ القُرءانَ وليَفْهَمْهُ، ومِنَ الأخلاقِ التي جاءَ بها القرءانُ الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عنِ الـمُنكرِ والصبرُ على الأذى أيْ تـحمُّلُ أذى الغيرِ وكفُّ الأذى عنِ الغَيرِ. أخرجَ أبو بكرٍ الخَلاّلُ في كتابِهِ مكارِمِ الأخلاقِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كنتُ بينَ شَرِّ جارَينِ عُقبَةَ بنِ أبي مُعَيطٍ وأبي لهبٍ كانا يرمِيانِ بـما يـخرُجُ منَ الناسِ على بابـِي" اهـ. أيْ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يتحمَّلُ أذاهما معَ أنهُ كانَ أشجعَ خَلْقِ اللهِ على الإطلاقِ وكانَ أوتِيَ منَ القوةِ البدنيّةِ قوةَ أربعينَ رجلاً ومعَ كلِّ ذلكَ كانَ خُلُقُهُ العفوَ والصفحَ. وأمَّا ما يَرويهِ بعضُ الناسِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ اليهودُ يرمونَ الزُّبالةَ على بابِهِ ثم ذاتَ يومٍ لـم يرَ ذلكَ فتَفَقَّدَههُم فهو كذبٌ وافتِراءٌ ليسَ لهُ أصلٌ في كُتبِ السُّنّةِ الـمُطَهَّرةِ.
ثمَّ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما كانَ العفوُ والصفحُ خُلُقَهُ والصبرُ شيمَتَهُ وتحمّلُ الأذى مِنَ الغيرِ دأبَهُ وحالَهُ كانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كثيرًا ما حضَّ أمَّتَهُ على العفوِ والصفحِ وتحمُّلِ الأذى.
قالَ صلى الله عليه وسلم: "ما شىءٌ أثقلَ في الميزان - أيْ في ميزانِ الآخرةِ الذي يُوزَنُ بهِ أعمالُ العِبادِ - مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ" اهـ وحسنُ الخلقِ عبارةٌ عنْ تحمُّلِ أذى الغَيرِ وكفِّ الأذى عنِ الـمُسلمينَ وبَذلِ المعروفِ أيْ أنْ يُحسِنَ المؤمنُ إلى الذي يُحسِنُ إليهِ والذي لا يُحسِنُ إليهِ.
رُوِّينا في صحيحِ ابنِ حبانَ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" ليسَ الشديدُ مَنْ غلبَ الناسَ ولكنَّ الشديدَ مَنْ غلبَ نفسَهُ 2" اهـ. ولا أدبَ أحسنُ مِنْ أدَبِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جزاهُ اللهُ أحسنَ الجزاءِ عَن أمتِهِ فإنَّ تعويدَ النفسِ على تـحمُّلِ أذى الغيرِ يكونُ وسيلةً إلى الدرجاتِ العُلَى وهوَ عظيمُ النفعِ في معاملةِ الناسِ بعضِهِم بعضًا فإنَّ مَنْ كفَّ نفسَهُ عندَ الغضبِ أنقذَ نفسَهُ مِن مهالِكَ كثيرةٍ.
رَوَينا في جامعِ الترمذيّ بإسنادٍ صحيحٍ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كظَمَ غيظًا وهوَ قادرٌ أنْ يُنْفِذَهُ خَيَّرَهُ اللهُ تعالى مِنَ الحورِ العينِ ما شاءَ3" اهـ فكَمْ مِنْ أناسٍ ليسَ لهم كثيرُ صلاةٍ منَ النفلِ ولا كثيرُ صيامٍ منَ النفلِ تُعادِلُ درجَتُهُم يومَ القيامةِ درجاتِ الصّوّامينَ القَوَّامينَ الذينَ لا يتحَلَّوْنَ بحُسنِ الخُلقِ فمَنْ تـمَكَّنَ في أداءِ الواجِباتِ واجتِنابِ الـمُحرَّماتِ كانَ مِنْ خيارِ عبادِ اللهِ ولوْ كانَ قليلَ الاجتِهادِ في النوافلِ فالقليلُ منَ العملِ الموافقِ لسنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ منَ العملِ الكثيرِ الـمُخالفِ لِما جاءَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. رُوّينا4 من حديثِ الحسنِ البِصريّ مُرسَلاً: "قليلٌ مِنَ العملِ في سُنَّةٍ خَيرٌ مِنْ كثيرٍ في بِدعةٍ5اهـ يعني أنَّ الإنسانَ إذا عَمِلَ قليلاً منَ العملِ الصالحِ على وِفاقِ ما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فذلكَ خيرٌ منَ الذي يَجتهدُ في كثيرِ الأعمالِ مِنْ غيرِ مُراعاةِ مُوافقةِ ما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
والـمُرادُ بالبدعةِ في هذا الـموضعِ ونحوِهِ هيَ البدعةُ الُمخالفةُ للكتابِ والسنةِ والإجماعِ وأثرِ الصحابةِ. ومَنِ الذي يُـمَيِّزُ بينَ بدعةِ الضلالةِ وبينَ ما ليسَ بدعةَ الضلالةِ، هُم علماءُ أهلِ السنةِ الـمتمكّنونَ في العلمِ فَهُمْ بما ءاتاهُم اللهُ تعالى منَ المعرفةِ بدينِهِ ومِنَ الفهمِ بكتابهِ وسنةِ نبيّهِ على ما فَهِمَهُ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والتابعونَ لهم بإحسانٍ يميّزونَ بينَ بدعةِ الضلالةِ وبينَ البدعةِ الـمُستحبةِ، أمَّا مَنْ قَصُرَ عَنْ ذلكَ فحَظُّهُ أن يتبعَ أئمةَ الهُدى فما اسْتَحسنوهُ ورأَوهُ مُوافقًا لشرعِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخذَ بهِ وما لـم يسْتَحْسِنُوهُ نَبَذَهُ.
قال الإمامُ الـمُطَلبيُّ القُرشيُّ مُـحمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ: "البدعةُ على ضَربَينِ: بدعةُ ضلالةٍ وبدعةُ هُدى، وبدعةُ الضلالةِ: ما كانَ على خلافِ الكتابِ والسنةِ والإجماعِ والأثرِ وأمّا ما لـم يُـخالفْ ذلكَ فليسَ بدعةَ ضلالةٍ6" اهـ.
هوَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شرعَ لأهلِ العلمِ مِنْ أمتِهِ أن يَسُنُّوا ما رأوهُ مُوافقًا لكتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً كانَ لهُ أجرُها وأجرُ مَنْ عَمِلَ بها لا ينقُصُ مِنْ أجورِهِم شىءٌ ومَنْ سنَّ في الإسلامِ سنةً سيِّئةً كانَ عليهِ وِزرُها ووِزرُ مَنْ عَمِلَ بـها لا ينقُصُ مِنْ أوزارِهِم شىء" اهـ. رواهُ مسلمٌ وغيرُهُ7. فكلُّ شىءٍ رأى العلماءُ مِن أهلِ الحقِّ، مِنْ أهلِ السنةِ والجماعةِ العارفينَ بالخاصّ والعامّ والـمُطلقِ والمقيّدِ والناسخِ والمنسوخِ ما رءاهُ أولئكَ موافقًا لشرعِ اللهِ فهوَ داخلٌ تحتَ قولهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً فلهُ أجرُها" اهـ الحديثَ، وأمَّا مَنْ كانَ قصيرَ الباعِ في علمِ الدينِ لا يَعرِفُ العامَّ مِنَ الخاصِّ فإنهُ إذا أطلقَ لسانَهُ في التصرُّفِ فإنهُ يكونُ خاطرَ بنفسهِ. فمنَ البدعةِ الحسنةِ زيادةُ أذانِ صلاةِ الجمعةِ زادَ ذلكَ عثمانُ بنُ عفان8 ولـم يكُن ذلكَ في عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ إنَّما كانَ أذانٌ واحدٌ فرأى عثمانُ في عهدِهِ زيادةَ أذانٍ فاسْتَحسَنَهُ الصحابةُ ولـم يستَنكرْ ذلكَ أحدٌ منهم ثمَّ استمرَّ ذلكَ مقبولاً بينَ الأمةِ إلى عصرنا هذا.
انتهى وسبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ رب العالمين.
------------------
1- في الأدب المفرد ورواه أحمد في مسنده باب حديث السيدة عائشة رضي الله عنه. – رواه أبو داود في سننه باب في حسن الخلق.
2- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر الإخبار بأن الشديد الذي غلب نفسه عند الشهوات والوساوس لا من غلب الناس بلسانه.
3- رواه الترمذي في سننه باب في كظم الغيظ.
4- أي جعلونا نَروي. [ن.ف]
5- رواه البيهقي في شعب الإيمان فصل مجانبة الفسقة والمبتدعة ومن لا يعينك على طاعة الله عز وجل.
6- رواه البيهقي في كتاب مناقب الشافعي.
7- رواه مسلم في صحيحه باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة ورواه ابن حبان في صحيحه وغيرهما.
8- رواه البخاري في صحيحه باب الأذان يوم الجمع
حسنُ الخلقِ وتقسيمُ البدعةِ
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ المحدثُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحِمَهُ اللهُ تعالى في التاسعِ مِنْ جُمادى الأولى سنةَ ثمانٍ وتسعينَ وثلاثمائة وألف وهو في بيانِ فضلِ الخُلُقِ والصبرِ على أذى الناسِ معَ الكلامِ عنِ البدعةِ وتقسيمِها إلى حسنةٍ ومذمومةٍ.
قال رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ رب العالمينَ وصلى الله على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِهِ وصحبِهِ الأكرَمِين.
أما بعدُ، فإنَّ اللهَ تباركَ وتعالى أنزلَ في كتابهِ الـمُبينِ قولَهُ تباركَ وتعالى في سورة الأعرافِ ﴿خُذِ العَفْوَ وأمُرْ بالعُرفِ وأَعْرِضْ عَنِ الجاهِلينَ﴾. قال تعالى: ﴿وأُمُرْ بالعُرفِ﴾ والعُرفُ هوَ المعروفُ وهوَ كلُّ ما فرضَ اللهُ تعالى فِعْلَهُ أيْ كلُّ الواجباتِ الدينيَّةِ. ﴿وأعْرِضْ عنِ الجاهِلينَ﴾ أمرَ تباركَ وتعالى بالإعراضِ عنِ الجاهِلينَ أيْ بالإعراضِ عن لَغْوِهِمْ. وهكذا كانَ خُلُقُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم.
روى البخاريُّ من حديثِ عائشةَ رضيَ اللهُ عنها قالت في وصفِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم: "كانَ خُلُقُهُ القرءانُ1" اهـ يعني أنَّ مَنْ أرادَ أنْ يعرفَ خُلُقَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلْيَقْرإِ القُرءانَ وليَفْهَمْهُ، ومِنَ الأخلاقِ التي جاءَ بها القرءانُ الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عنِ الـمُنكرِ والصبرُ على الأذى أيْ تـحمُّلُ أذى الغيرِ وكفُّ الأذى عنِ الغَيرِ. أخرجَ أبو بكرٍ الخَلاّلُ في كتابِهِ مكارِمِ الأخلاقِ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قالَ: "كنتُ بينَ شَرِّ جارَينِ عُقبَةَ بنِ أبي مُعَيطٍ وأبي لهبٍ كانا يرمِيانِ بـما يـخرُجُ منَ الناسِ على بابـِي" اهـ. أيْ أنهُ صلى الله عليه وسلم كانَ يتحمَّلُ أذاهما معَ أنهُ كانَ أشجعَ خَلْقِ اللهِ على الإطلاقِ وكانَ أوتِيَ منَ القوةِ البدنيّةِ قوةَ أربعينَ رجلاً ومعَ كلِّ ذلكَ كانَ خُلُقُهُ العفوَ والصفحَ. وأمَّا ما يَرويهِ بعضُ الناسِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كانَ اليهودُ يرمونَ الزُّبالةَ على بابِهِ ثم ذاتَ يومٍ لـم يرَ ذلكَ فتَفَقَّدَههُم فهو كذبٌ وافتِراءٌ ليسَ لهُ أصلٌ في كُتبِ السُّنّةِ الـمُطَهَّرةِ.
ثمَّ إنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كما كانَ العفوُ والصفحُ خُلُقَهُ والصبرُ شيمَتَهُ وتحمّلُ الأذى مِنَ الغيرِ دأبَهُ وحالَهُ كانَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ كثيرًا ما حضَّ أمَّتَهُ على العفوِ والصفحِ وتحمُّلِ الأذى.
قالَ صلى الله عليه وسلم: "ما شىءٌ أثقلَ في الميزان - أيْ في ميزانِ الآخرةِ الذي يُوزَنُ بهِ أعمالُ العِبادِ - مِنْ حُسْنِ الخُلُقِ" اهـ وحسنُ الخلقِ عبارةٌ عنْ تحمُّلِ أذى الغَيرِ وكفِّ الأذى عنِ الـمُسلمينَ وبَذلِ المعروفِ أيْ أنْ يُحسِنَ المؤمنُ إلى الذي يُحسِنُ إليهِ والذي لا يُحسِنُ إليهِ.
رُوِّينا في صحيحِ ابنِ حبانَ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أنهُ قالَ:" ليسَ الشديدُ مَنْ غلبَ الناسَ ولكنَّ الشديدَ مَنْ غلبَ نفسَهُ 2" اهـ. ولا أدبَ أحسنُ مِنْ أدَبِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم جزاهُ اللهُ أحسنَ الجزاءِ عَن أمتِهِ فإنَّ تعويدَ النفسِ على تـحمُّلِ أذى الغيرِ يكونُ وسيلةً إلى الدرجاتِ العُلَى وهوَ عظيمُ النفعِ في معاملةِ الناسِ بعضِهِم بعضًا فإنَّ مَنْ كفَّ نفسَهُ عندَ الغضبِ أنقذَ نفسَهُ مِن مهالِكَ كثيرةٍ.
رَوَينا في جامعِ الترمذيّ بإسنادٍ صحيحٍ عنِ النبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كظَمَ غيظًا وهوَ قادرٌ أنْ يُنْفِذَهُ خَيَّرَهُ اللهُ تعالى مِنَ الحورِ العينِ ما شاءَ3" اهـ فكَمْ مِنْ أناسٍ ليسَ لهم كثيرُ صلاةٍ منَ النفلِ ولا كثيرُ صيامٍ منَ النفلِ تُعادِلُ درجَتُهُم يومَ القيامةِ درجاتِ الصّوّامينَ القَوَّامينَ الذينَ لا يتحَلَّوْنَ بحُسنِ الخُلقِ فمَنْ تـمَكَّنَ في أداءِ الواجِباتِ واجتِنابِ الـمُحرَّماتِ كانَ مِنْ خيارِ عبادِ اللهِ ولوْ كانَ قليلَ الاجتِهادِ في النوافلِ فالقليلُ منَ العملِ الموافقِ لسنةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم خيرٌ منَ العملِ الكثيرِ الـمُخالفِ لِما جاءَ بهِ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم. رُوّينا4 من حديثِ الحسنِ البِصريّ مُرسَلاً: "قليلٌ مِنَ العملِ في سُنَّةٍ خَيرٌ مِنْ كثيرٍ في بِدعةٍ5اهـ يعني أنَّ الإنسانَ إذا عَمِلَ قليلاً منَ العملِ الصالحِ على وِفاقِ ما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فذلكَ خيرٌ منَ الذي يَجتهدُ في كثيرِ الأعمالِ مِنْ غيرِ مُراعاةِ مُوافقةِ ما جاءَ عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
والـمُرادُ بالبدعةِ في هذا الـموضعِ ونحوِهِ هيَ البدعةُ الُمخالفةُ للكتابِ والسنةِ والإجماعِ وأثرِ الصحابةِ. ومَنِ الذي يُـمَيِّزُ بينَ بدعةِ الضلالةِ وبينَ ما ليسَ بدعةَ الضلالةِ، هُم علماءُ أهلِ السنةِ الـمتمكّنونَ في العلمِ فَهُمْ بما ءاتاهُم اللهُ تعالى منَ المعرفةِ بدينِهِ ومِنَ الفهمِ بكتابهِ وسنةِ نبيّهِ على ما فَهِمَهُ أصحابُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم والتابعونَ لهم بإحسانٍ يميّزونَ بينَ بدعةِ الضلالةِ وبينَ البدعةِ الـمُستحبةِ، أمَّا مَنْ قَصُرَ عَنْ ذلكَ فحَظُّهُ أن يتبعَ أئمةَ الهُدى فما اسْتَحسنوهُ ورأَوهُ مُوافقًا لشرعِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أخذَ بهِ وما لـم يسْتَحْسِنُوهُ نَبَذَهُ.
قال الإمامُ الـمُطَلبيُّ القُرشيُّ مُـحمدُ بنُ إدريسَ الشافعيُّ رضيَ اللهُ عنهُ: "البدعةُ على ضَربَينِ: بدعةُ ضلالةٍ وبدعةُ هُدى، وبدعةُ الضلالةِ: ما كانَ على خلافِ الكتابِ والسنةِ والإجماعِ والأثرِ وأمّا ما لـم يُـخالفْ ذلكَ فليسَ بدعةَ ضلالةٍ6" اهـ.
هوَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم شرعَ لأهلِ العلمِ مِنْ أمتِهِ أن يَسُنُّوا ما رأوهُ مُوافقًا لكتابِ اللهِ وسُنَّةِ نبيِّهِ صلى الله عليه وسلم، قالَ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً كانَ لهُ أجرُها وأجرُ مَنْ عَمِلَ بها لا ينقُصُ مِنْ أجورِهِم شىءٌ ومَنْ سنَّ في الإسلامِ سنةً سيِّئةً كانَ عليهِ وِزرُها ووِزرُ مَنْ عَمِلَ بـها لا ينقُصُ مِنْ أوزارِهِم شىء" اهـ. رواهُ مسلمٌ وغيرُهُ7. فكلُّ شىءٍ رأى العلماءُ مِن أهلِ الحقِّ، مِنْ أهلِ السنةِ والجماعةِ العارفينَ بالخاصّ والعامّ والـمُطلقِ والمقيّدِ والناسخِ والمنسوخِ ما رءاهُ أولئكَ موافقًا لشرعِ اللهِ فهوَ داخلٌ تحتَ قولهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ سنَّ في الإسلامِ سُنَّةً حسنةً فلهُ أجرُها" اهـ الحديثَ، وأمَّا مَنْ كانَ قصيرَ الباعِ في علمِ الدينِ لا يَعرِفُ العامَّ مِنَ الخاصِّ فإنهُ إذا أطلقَ لسانَهُ في التصرُّفِ فإنهُ يكونُ خاطرَ بنفسهِ. فمنَ البدعةِ الحسنةِ زيادةُ أذانِ صلاةِ الجمعةِ زادَ ذلكَ عثمانُ بنُ عفان8 ولـم يكُن ذلكَ في عهدِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكرٍ وعمرَ إنَّما كانَ أذانٌ واحدٌ فرأى عثمانُ في عهدِهِ زيادةَ أذانٍ فاسْتَحسَنَهُ الصحابةُ ولـم يستَنكرْ ذلكَ أحدٌ منهم ثمَّ استمرَّ ذلكَ مقبولاً بينَ الأمةِ إلى عصرنا هذا.
انتهى وسبحانَ اللهِ والحمدُ للهِ رب العالمين.
------------------
1- في الأدب المفرد ورواه أحمد في مسنده باب حديث السيدة عائشة رضي الله عنه. – رواه أبو داود في سننه باب في حسن الخلق.
2- رواه ابن حبان في صحيحه باب ذكر الإخبار بأن الشديد الذي غلب نفسه عند الشهوات والوساوس لا من غلب الناس بلسانه.
3- رواه الترمذي في سننه باب في كظم الغيظ.
4- أي جعلونا نَروي. [ن.ف]
5- رواه البيهقي في شعب الإيمان فصل مجانبة الفسقة والمبتدعة ومن لا يعينك على طاعة الله عز وجل.
6- رواه البيهقي في كتاب مناقب الشافعي.
7- رواه مسلم في صحيحه باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة ورواه ابن حبان في صحيحه وغيرهما.
8- رواه البخاري في صحيحه باب الأذان يوم الجمع
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin