الدرس الثاني والعشرون
الصوفيةُ الحقةُ على عقيدةِ التنزيه
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الصوفيُّ الـمُتكلمُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحمهُ الله تعالى وهوَ في بيانِ الردِّ على مَلاحِدَةِ الـمُتصوّفةِ وعلى الوهّابيةِ.
قالَ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ رب العالمين لهُ النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ وصلواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحيمِ والملائكةِ الـمُقرَّبينَ على أشرفِ المرسلينَ سيدنا محمد وعلى ءالهِ الطيبينَ الطاهرينَ وسلامُه عليهم أمّا بعدُ فإنَّ الشاذليةَ الأصليةَ صحيحةٌ ثمَّ بعدَ مِائَتَيْ سنةٍ منَ الشيخِ أبي الحسنِ الشاذليّ دخلَ فيها تحريفٌ كثيرٌ، كثيرٌ منهُم انحَرفوا ثمَّ بعدَ سِتمائةِ سنةٍ زادَ الانحرافُ. يوجدُ شاذليةٌ دَرْقاوِيَّةٌ وشاذليةٌ يَشْرُطيةٌ، هاتانِ فيهما انحرافٌ، بعضُ مَنْ ينتسبُ إليهما عَمِلُوا كُتبًا فيها خِلافُ التوحيدِ.
التوحيدُ الذي يُعَرِّفُهُ الصوفيةُ وغيرُهم هوَ إفرادُ القديمِ منَ الـمُحْدَثِ. سيدُ الطائفةِ الصوفيةِ أبو القاسمِ الجُنيدُ بنُ محمدٍ البغداديّ رضيَ اللهُ عنهُ الذي تُوفيَ سنةَ مائتَينِ واثنتَينِ وتسعينَ تقريبًا هوَ شيخُ الصوفيةِ سَيّدُ الصوفية. الصوفيةُ الـمُتحققونَ يقتدونَ بهِ في أيامِهِ وبعدَ أنْ تُوفِّيَ إلى أيامنا هذهِ. الصوفيةُ الصحيحةُ، مَنْ كانوا على مَنهَجِهِ هؤلاءِ يُوافقونَ القرءانَ والحديثَ. هوَ قالَ التوحيدُ إفرادُ القديمِ منَ الـمُحدَثِ1 اهـ احفَظوا هذهِ الجملةِ معناهُ تركُ تشبيهِ اللهِ بالعالم، اللهُ قديمٌ لا ابتداءَ لهُ أما العالـمُ فمُحْدَثٌ لـم يكن ثمَّ كانَ، العالـمُ كلُّهُ لـم يكن ثمَّ كانَ، النورُ والظلامُ ما كانا موجودَينِ ثمَّ خلَقَهُما اللهُ وكذلكَ العرشُ والسماواتُ، ما كانَ شىءٌ في الأزلِ إلا اللهُ الذي لا ابتداءَ لوجودِهِ. ويُسمَّى اللهُ القديمَ أيْ لا ابتداءَ لوجودِهِ وما سوى اللهِ يُقالُ لهُ مُحدَثٌ أي وُجِدَ بعدَ أنْ كانَ معدومًا. التوحيدُ هوَ أنْ لا يُشبَّهَ القديمُ أي اللهُ بالـمُحدَثِ وذلكَ أنَّ اللهَ ليسَ جسمًا لطيفًا ولا جسمًا كثيفًا، لا بدَّ للجسمِ من مكانٍ وجهةٍ أما اللهُ تباركَ وتعالى الذي ليسَ جسمًا كثيفًا ولا جسمًا لطيفًا فهوَ موجودٌ بلا مكانٍ، لا يكونُ مُتحيِّزًا في جهةٍ ولا مكانٍ، أما الحجمُ فلا بدَّ أن يكونَ لهُ جهةٌ ومكانٌ.
حتى النورُ لهُ جهةٌ ومكانٌ، والظلامُ كذلكَ. بعضُ النورِ في الجنةِ وبعضُ النورِ في العرشِ وبعضُ النورِ في السماواتِ ونورُ الشمسِ والقمرِ في الأرضِ، كلٌّ لهُ حجمٌ. نورُ الشمسِ أوسعُ حجمًا منْ نورِ القمرِ ثمَّ نورُ القمرِ ثمَّ نورُ الكهرباءِ بعدَ أن أَوجدَ اللهُ الكهرباءَ نورُهُ2 أوسعُ من نورِ الشَمَعَةِ، ثمَّ نورُ الشمعةِ مِساحتهُ قصيرةٌ، كلٌّ لهُ جهةٌ ومكانٌ، أما اللهُ فليسَ حجمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا وليسَ مُتحيِّزًا في مكانٍ وجهةٍ.
الذي يَتصورُ اللهَ حجمًا لا بدَّ أن يكونَ أثبتَ لهُ تحيُّزًا في مكانٍ وجهةٍ أما من أخرجَ مِنْ قَلبِهِ أنَّ اللهَ لهُ حجمٌ لطيفٌ أو كثيفٌ فهذا يسهُلُ عليهِ اعتقادُ أنَّ الله موجودٌ بلا جهةٍ ولا مكانٍ، أما الذي يعتقدُ أنَّ اللهَ حجمٌ فلا يَتمكَّنُ من اعتقادِ أنَّ اللهَ موجودٌ بلا جهةٍ ولا مكانٍ.
فالتوحيدُ كما قالَ الإمامُ الجُنيدُ أنْ يعتقدَ الإنسانُ أنَّ اللهَ ليسَ حجمًا صغيرًا ولا حجمًا كبيرًا وليسَ مُتحَيِّزًا في مكانٍ، هوَ خلافُ العالَـمِ، العالَـمُ لا بدَّ أن يكونَ لهُ حجمٌ وجهةٌ، العرشُ في جهةِ فوق والأرضُ في جهةِ تحت.
هؤلاءِ همُ الصوفيةُ الحقيقيةُ وهؤلاءِ همُ الـمُسلمونَ المؤمنونَ العارفونَ بخالِقِهِم. أما مَن ليسَ كذلكَ فليسَ عارِفًا بخالِقِهِ ولا يصحُّ أنْ يكونَ مُؤمنًا مُسلمًا حتى يُخرِجَ هذا مِنْ قلبِهِ ويعتقدَ أنَّ اللهَ موجودٌ ليسَ حجمًا وليسَ لهُ جهةٌ ومكانٌ، ليسَ شيئًا صغيرَ المِساحةِ ولا كبيرَ المِساحةِ، ليسَ شيئًا يدخلهُ الـمِقدارُ. المخلوقُ يدخلهُ الحدُّ، حتى النورُ يدخلهُ الكميةُ والـمِقدارُ. الإنسانُ طولُهُ أربعةُ أذرعٍ طولاً والعرشُ لهُ كميةٌ اللهُ يَعلَمُها كمْ هيَ والسماواتُ السبعُ لها كميةٌ يعلَمُها اللهُ كم هيَ، وأمّا ابنُ تيميةَ فيقولُ: اللهُ لهُ حدٌّ يعلمُهُ هو لا نعلمه نحن. يُقالُ لأتباعِهِ العرشُ لهُ حجمٌ لهُ حدٌّ اللهُ يعلمُهُ لا نعلَمُهُ نحنُ، أنتُم جعلتُم العرشَ واللهَ متساويينِ، أنتم جعلتُم للهِ مثَلاً، جعلتُم اللهَ كالعرشِ واللهُ يقولُ ﴿ليسَ كمِثْلِهِ شىء﴾، أنتُم خالفتُم القرءانَ.
لا يكونُ المرءُ صُوفيًّا إلا أن يعتقدَ هذهِ العقيدةَ. أما الذينَ يقولونَ اللهُ في كلِّ مكانٍ فهؤلاءِ ما شَـمُّوا رائحةَ التصوُّفِ. كثيرٌ منَ الذينَ يدَّعُونَ الطريقةَ تَجِدُهم يقولونَ اللهُ موجودٌ في كلِّ مكانٍ، هذا كأنَّهُ عندَهُم عِلْمُ التوحيدِ.
أحدُ الذينَ ينتَسِبُونَ إلى النَّقشبَنديةِ وادَّعَى أنهُ قطبٌ وكانَ دخلَ الخلوةَ تحتَ الأرضِ عندَ الشيخِ الذي هوَ ينتسبُ إليهِ، هذا مرةً ذهبَ إلى المدينةِ وكانَ معهُ بعضُ جماعَتنا قالَ لما نظرَ إلى الثُّريّا التي في المسجدِ قالَ هذهِ ليسَت من خلْقِ اللهِ هذهِ من خلقِ الإنسانِ. ماذا نَفَعَهُ التِزامُهُ أورادَ النقشبنديةِ ودُخولُهُ الخَلوةَ تحتَ الأرضِ، كلُّ ذلكَ ماذا نفعَهُ وهوَ لا يعرفُ أصلاً مِن أصولِ العقيدةِ أنَّ اللهَ هوَ خالقُ كلِّ شىءٍ الحجمِ اللطيفِ والحجمِ الكثيفِ وحركاتِ العِبادِ وسكناتِهم ونواياهُم وتقلُّباتِ قلوبِهم واللمحةِ والطَّرْفةِ والحركاتِ والسكناتِ كلُّ ذلكَ اللهُ خالقهُ ليسَ لهُ خالقٌ غيرُهُ، الإنسانُ يفعلُ فقط، يمشي ويتحرَّكُ ويطرُفُ عينَهُ ويُفكِّرُ، كلُّ هذا الإنسانُ لا يخلقُهُ بلِ اللهُ يخلقُهُ فيهِ كما جاءَ في القرءانِ في سورةِ الرعدِ: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شىءٍ﴾ الشىءُ يَشمَلُ الشىءَ الذي لهُ حجمٌ الشجرَ والريحَ والإنسانَ ويشملُ حركاتِ الإنسانِ وتَكَلُّمَهُ وطرفةَ عينِهِ. القرءانُ يقولُ: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شىءٍ﴾ أيْ هوَ خالقُ الأجسامِ اللطيفةِ والكثيفةِ وخالقُ حركاتِ العبادِ وسَيْرِهم. في القرءانِ الكريمِ في سورةِ يونس ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُم في البَرِّ والبحرِ﴾ معناهُ هوَ الذي يُـمَكِّنُكُم منَ الـمَشيِ في البَرِّ والبحرِ. الإنسانُ أولَ ما يُولَدُ لا يستطيعُ أن يمشيَ ولا يكونُ عندَهُ معلوماتٌ ولا يتكلمُ، اللهُ يُمَكِّنُهُ منَ المشيِ بعدَ ذلكَ ويخلقُ فيهِ المعلوماتِ ويُمكّنُهُ منَ الكلامِ. كذلكَ الملائكةُ لا يخلقونَ شيئًا إنما خالقُ الأشياءِ كلِّها هوَ اللهُ. هذا ما نفَعَهُ انتسابُهُ للطريقةِ النقشبنديةِ ودُخولُهُ الخلوةَ. ماذا نفَعَهُ وهوَ جاهلٌ بعقيدةِ التوحيدِ. أكثرُ الـمُنتسبينَ للتصوفِ اليومَ هكذا لا يعرفونَ مذهبَ أهلِ السنةِ، يدخلونَ إلى المشايخِ يأخذونَ منهُم الطريقةَ وهُم جُهَّالٌ قبلَ أنْ يتعلَّمُوا تنزيهَ اللهِ، يدخلونَ فيزدادونَ غُرورًا ويقولونَ نحنُ وصلنا إلى الغايةِ. ما أكثرَ الهالكينَ منَ الـمُنتسبينَ للطرقِ.
أما الوهابيةُ فيقولونَ أنتم تقولونَ اللهُ تعالى ليسَ جسمًا ليسَ قاعِدًا على العرشِ إذًا على قولِكُم اللهُ غيرُ موجودٍ. يقالُ لهم ليسَ من شرطِ الوجودِ أن يكونَ لهُ جهةٌ وكيفيةٌ ومكانٌ وليسَ مِن شرطِ الوجودِ أن يُستطاعَ تَصَوُّرُهُ في النفسِ. بعضُ مخلوقاتِ اللهِ لا يمكنُ تصوُّرُهُ وهوَ موجودٌ هوَ حاصلٌ. بعدَ أن خلقَ اللهُ الماءَ والعرشَ واللوحَ والقلمَ الأعلى اللهُ خلقَ النورَ والظلامَ. الإنسانُ لا يستطيعُ أن يتصورَ وقتًا ليسَ فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ. الإنسانُ يستطيعُ أن يتصورَ وقتًا فيهِ نورٌ وليسَ فيهِ ظلامٌ ويستطيعُ أن يتصورَ وقتًا فيهِ ظلامٌ وليسَ فيهِ نورٌ أما وقتٌ ليسَ فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ فلا يستطيعُ الإنسانُ أن يتصورَ ذلكَ ومعَ هذا يجبُ أنْ نؤمنَ أنهُ كانَ وقتٌ ليسَ فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ. قالَ اللهُ تعالى في سورة الأنعام: ﴿الحمدُ للهِ الذي خلقَ السماواتِ والأرضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنورَ﴾ اللهُ تعالى خلقَ السمواتِ والأرضَ بعدَ أن كانا معدومَينِ وكذلكَ خلقَ اللهُ النورَ والظلامَ بعدَ أنْ كانا معدومَينِ وخلْقُ السمواتِ والأرضِ والنورِ والظلامِ كلُّ ذلكَ كانَ بعدَ خلقِ الماءِ والعرشِ لأجلِ هذا فرضٌ علينا أن نؤمنَ أنهُ كانَ وقتٌ لـم يكن فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ معَ أننا لا نستطيعُ تصوُّرَ ذلكَ.
على زعْمِ الوهابيةِ الشىءُ الذي لا يُتصَوَّرُ ليسَ موجودًا لذلكَ يقولونَ: اللهُ قاعدٌ على العرشِ وهوَ لهُ حجمٌ ومكانٌ وجهةٌ هو في جهةِ فوق مستقرٌّ على العرشِ. على زَعمِهِم قولُهُم اللهُ قاعدٌ على العرشِ تعظيمٌ وهوَ في الحقيقةِ ليسَ تعظيمًا للهِ بل شتْمٌ للهِ لأنهُ تشبيهٌ للهِ بخَلقِهِ. الإنسانُ يقعدُ والملائكةُ يقعُدونَ والجِنُّ يقعُدونَ والكلبُ والفِئرانُ، الجلوسُ صفةُ هؤلاءِ. كيفَ يُوصفُ اللهُ الذي خلقَ المكان وما يَـحُلُّ في المكانِ بصفةِ الجلوس.
مُصيبَتُهُم أنهم فسَّرُوا بعضَ الآياتِ على غَيرِ وجهِها. ﴿الرحمنُ على العرشِ استَوى﴾3 فسَّروا هذهِ الأيةَ بالجلوسِ، قالوا استوى معناهُ جلسَ، وليسَ معنى استوى جلسَ، معنَى استوى قهرَ، اللهُ قهرَ العرشَ. العرشُ وجودهُ باللهِ تعالى، اللهُ أوجدَهُ وهوَ الذي يحفظُهُ في مَركَزِهِ ولولا ذلكَ لهَوَى ما ثبتَ ثانيةً واحدةً، وهذهِ النجومُ كذلكَ والشمسُ والقمرُ والجنةُ لولا أنَّ اللهَ أبقاها في مكانِها من غيرِ مُلامسةٍ لَمَا ثبَتَتْ، وكذلكَ هذهِ الأرضُ التي تحمِلُنا لولا أنَّ اللهَ أبقاها في مكانِها لهَوَتْ بِنا.
اللهُ خلقَ الماءَ ثمَّ خلقَ العرشَ على وجهِ الماءِ. العرشُ للملائكةِ ليسَ إلا مثلَ الكعبةِ للبَشَرِ. اللهُ أمرَنا بأنْ نستقبلَ الكعبةَ في صلاتِنا ونَطوفَ بها في الحجِّ والعُمرةِ كذلكَ أولئكَ الملائكةُ الذينَ حولَ العرشِ ومِنْ كثرَتِهم أحاطُوا بالعرشِ يطوفونَ بهِ كما نحنُ نطوفُ بالكعبةِ ويُصَلُّونَ إليهِ عندَ صلاتِهم.
﴿الرحمنُ على العَرْشِ استَوى﴾ معناهُ قهرَ أما تفسيرُهُ بجلَسَ فهذا شتْمٌ لله.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------
1- رواه الإمام أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
2- أي نورُ الكهرباءِ.
3- سورة طه .
الصوفيةُ الحقةُ على عقيدةِ التنزيه
جامع الخيرات
درسٌ ألقاهُ الصوفيُّ الـمُتكلمُ الشيخُ عبدُ اللهِ بنُ محمدٍ العبدريُّ رحمهُ الله تعالى وهوَ في بيانِ الردِّ على مَلاحِدَةِ الـمُتصوّفةِ وعلى الوهّابيةِ.
قالَ رحمه الله تعالى رحمةً واسعةً:
الحمدُ للهِ رب العالمين لهُ النعمةُ ولهُ الفضلُ ولهُ الثناءُ الحسنُ وصلواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحيمِ والملائكةِ الـمُقرَّبينَ على أشرفِ المرسلينَ سيدنا محمد وعلى ءالهِ الطيبينَ الطاهرينَ وسلامُه عليهم أمّا بعدُ فإنَّ الشاذليةَ الأصليةَ صحيحةٌ ثمَّ بعدَ مِائَتَيْ سنةٍ منَ الشيخِ أبي الحسنِ الشاذليّ دخلَ فيها تحريفٌ كثيرٌ، كثيرٌ منهُم انحَرفوا ثمَّ بعدَ سِتمائةِ سنةٍ زادَ الانحرافُ. يوجدُ شاذليةٌ دَرْقاوِيَّةٌ وشاذليةٌ يَشْرُطيةٌ، هاتانِ فيهما انحرافٌ، بعضُ مَنْ ينتسبُ إليهما عَمِلُوا كُتبًا فيها خِلافُ التوحيدِ.
التوحيدُ الذي يُعَرِّفُهُ الصوفيةُ وغيرُهم هوَ إفرادُ القديمِ منَ الـمُحْدَثِ. سيدُ الطائفةِ الصوفيةِ أبو القاسمِ الجُنيدُ بنُ محمدٍ البغداديّ رضيَ اللهُ عنهُ الذي تُوفيَ سنةَ مائتَينِ واثنتَينِ وتسعينَ تقريبًا هوَ شيخُ الصوفيةِ سَيّدُ الصوفية. الصوفيةُ الـمُتحققونَ يقتدونَ بهِ في أيامِهِ وبعدَ أنْ تُوفِّيَ إلى أيامنا هذهِ. الصوفيةُ الصحيحةُ، مَنْ كانوا على مَنهَجِهِ هؤلاءِ يُوافقونَ القرءانَ والحديثَ. هوَ قالَ التوحيدُ إفرادُ القديمِ منَ الـمُحدَثِ1 اهـ احفَظوا هذهِ الجملةِ معناهُ تركُ تشبيهِ اللهِ بالعالم، اللهُ قديمٌ لا ابتداءَ لهُ أما العالـمُ فمُحْدَثٌ لـم يكن ثمَّ كانَ، العالـمُ كلُّهُ لـم يكن ثمَّ كانَ، النورُ والظلامُ ما كانا موجودَينِ ثمَّ خلَقَهُما اللهُ وكذلكَ العرشُ والسماواتُ، ما كانَ شىءٌ في الأزلِ إلا اللهُ الذي لا ابتداءَ لوجودِهِ. ويُسمَّى اللهُ القديمَ أيْ لا ابتداءَ لوجودِهِ وما سوى اللهِ يُقالُ لهُ مُحدَثٌ أي وُجِدَ بعدَ أنْ كانَ معدومًا. التوحيدُ هوَ أنْ لا يُشبَّهَ القديمُ أي اللهُ بالـمُحدَثِ وذلكَ أنَّ اللهَ ليسَ جسمًا لطيفًا ولا جسمًا كثيفًا، لا بدَّ للجسمِ من مكانٍ وجهةٍ أما اللهُ تباركَ وتعالى الذي ليسَ جسمًا كثيفًا ولا جسمًا لطيفًا فهوَ موجودٌ بلا مكانٍ، لا يكونُ مُتحيِّزًا في جهةٍ ولا مكانٍ، أما الحجمُ فلا بدَّ أن يكونَ لهُ جهةٌ ومكانٌ.
حتى النورُ لهُ جهةٌ ومكانٌ، والظلامُ كذلكَ. بعضُ النورِ في الجنةِ وبعضُ النورِ في العرشِ وبعضُ النورِ في السماواتِ ونورُ الشمسِ والقمرِ في الأرضِ، كلٌّ لهُ حجمٌ. نورُ الشمسِ أوسعُ حجمًا منْ نورِ القمرِ ثمَّ نورُ القمرِ ثمَّ نورُ الكهرباءِ بعدَ أن أَوجدَ اللهُ الكهرباءَ نورُهُ2 أوسعُ من نورِ الشَمَعَةِ، ثمَّ نورُ الشمعةِ مِساحتهُ قصيرةٌ، كلٌّ لهُ جهةٌ ومكانٌ، أما اللهُ فليسَ حجمًا كثيفًا ولا حجمًا لطيفًا وليسَ مُتحيِّزًا في مكانٍ وجهةٍ.
الذي يَتصورُ اللهَ حجمًا لا بدَّ أن يكونَ أثبتَ لهُ تحيُّزًا في مكانٍ وجهةٍ أما من أخرجَ مِنْ قَلبِهِ أنَّ اللهَ لهُ حجمٌ لطيفٌ أو كثيفٌ فهذا يسهُلُ عليهِ اعتقادُ أنَّ الله موجودٌ بلا جهةٍ ولا مكانٍ، أما الذي يعتقدُ أنَّ اللهَ حجمٌ فلا يَتمكَّنُ من اعتقادِ أنَّ اللهَ موجودٌ بلا جهةٍ ولا مكانٍ.
فالتوحيدُ كما قالَ الإمامُ الجُنيدُ أنْ يعتقدَ الإنسانُ أنَّ اللهَ ليسَ حجمًا صغيرًا ولا حجمًا كبيرًا وليسَ مُتحَيِّزًا في مكانٍ، هوَ خلافُ العالَـمِ، العالَـمُ لا بدَّ أن يكونَ لهُ حجمٌ وجهةٌ، العرشُ في جهةِ فوق والأرضُ في جهةِ تحت.
هؤلاءِ همُ الصوفيةُ الحقيقيةُ وهؤلاءِ همُ الـمُسلمونَ المؤمنونَ العارفونَ بخالِقِهِم. أما مَن ليسَ كذلكَ فليسَ عارِفًا بخالِقِهِ ولا يصحُّ أنْ يكونَ مُؤمنًا مُسلمًا حتى يُخرِجَ هذا مِنْ قلبِهِ ويعتقدَ أنَّ اللهَ موجودٌ ليسَ حجمًا وليسَ لهُ جهةٌ ومكانٌ، ليسَ شيئًا صغيرَ المِساحةِ ولا كبيرَ المِساحةِ، ليسَ شيئًا يدخلهُ الـمِقدارُ. المخلوقُ يدخلهُ الحدُّ، حتى النورُ يدخلهُ الكميةُ والـمِقدارُ. الإنسانُ طولُهُ أربعةُ أذرعٍ طولاً والعرشُ لهُ كميةٌ اللهُ يَعلَمُها كمْ هيَ والسماواتُ السبعُ لها كميةٌ يعلَمُها اللهُ كم هيَ، وأمّا ابنُ تيميةَ فيقولُ: اللهُ لهُ حدٌّ يعلمُهُ هو لا نعلمه نحن. يُقالُ لأتباعِهِ العرشُ لهُ حجمٌ لهُ حدٌّ اللهُ يعلمُهُ لا نعلَمُهُ نحنُ، أنتُم جعلتُم العرشَ واللهَ متساويينِ، أنتم جعلتُم للهِ مثَلاً، جعلتُم اللهَ كالعرشِ واللهُ يقولُ ﴿ليسَ كمِثْلِهِ شىء﴾، أنتُم خالفتُم القرءانَ.
لا يكونُ المرءُ صُوفيًّا إلا أن يعتقدَ هذهِ العقيدةَ. أما الذينَ يقولونَ اللهُ في كلِّ مكانٍ فهؤلاءِ ما شَـمُّوا رائحةَ التصوُّفِ. كثيرٌ منَ الذينَ يدَّعُونَ الطريقةَ تَجِدُهم يقولونَ اللهُ موجودٌ في كلِّ مكانٍ، هذا كأنَّهُ عندَهُم عِلْمُ التوحيدِ.
أحدُ الذينَ ينتَسِبُونَ إلى النَّقشبَنديةِ وادَّعَى أنهُ قطبٌ وكانَ دخلَ الخلوةَ تحتَ الأرضِ عندَ الشيخِ الذي هوَ ينتسبُ إليهِ، هذا مرةً ذهبَ إلى المدينةِ وكانَ معهُ بعضُ جماعَتنا قالَ لما نظرَ إلى الثُّريّا التي في المسجدِ قالَ هذهِ ليسَت من خلْقِ اللهِ هذهِ من خلقِ الإنسانِ. ماذا نَفَعَهُ التِزامُهُ أورادَ النقشبنديةِ ودُخولُهُ الخَلوةَ تحتَ الأرضِ، كلُّ ذلكَ ماذا نفعَهُ وهوَ لا يعرفُ أصلاً مِن أصولِ العقيدةِ أنَّ اللهَ هوَ خالقُ كلِّ شىءٍ الحجمِ اللطيفِ والحجمِ الكثيفِ وحركاتِ العِبادِ وسكناتِهم ونواياهُم وتقلُّباتِ قلوبِهم واللمحةِ والطَّرْفةِ والحركاتِ والسكناتِ كلُّ ذلكَ اللهُ خالقهُ ليسَ لهُ خالقٌ غيرُهُ، الإنسانُ يفعلُ فقط، يمشي ويتحرَّكُ ويطرُفُ عينَهُ ويُفكِّرُ، كلُّ هذا الإنسانُ لا يخلقُهُ بلِ اللهُ يخلقُهُ فيهِ كما جاءَ في القرءانِ في سورةِ الرعدِ: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شىءٍ﴾ الشىءُ يَشمَلُ الشىءَ الذي لهُ حجمٌ الشجرَ والريحَ والإنسانَ ويشملُ حركاتِ الإنسانِ وتَكَلُّمَهُ وطرفةَ عينِهِ. القرءانُ يقولُ: ﴿اللهُ خَالِقُ كُلِّ شىءٍ﴾ أيْ هوَ خالقُ الأجسامِ اللطيفةِ والكثيفةِ وخالقُ حركاتِ العبادِ وسَيْرِهم. في القرءانِ الكريمِ في سورةِ يونس ﴿هُوَ الذي يُسَيِّرُكُم في البَرِّ والبحرِ﴾ معناهُ هوَ الذي يُـمَكِّنُكُم منَ الـمَشيِ في البَرِّ والبحرِ. الإنسانُ أولَ ما يُولَدُ لا يستطيعُ أن يمشيَ ولا يكونُ عندَهُ معلوماتٌ ولا يتكلمُ، اللهُ يُمَكِّنُهُ منَ المشيِ بعدَ ذلكَ ويخلقُ فيهِ المعلوماتِ ويُمكّنُهُ منَ الكلامِ. كذلكَ الملائكةُ لا يخلقونَ شيئًا إنما خالقُ الأشياءِ كلِّها هوَ اللهُ. هذا ما نفَعَهُ انتسابُهُ للطريقةِ النقشبنديةِ ودُخولُهُ الخلوةَ. ماذا نفَعَهُ وهوَ جاهلٌ بعقيدةِ التوحيدِ. أكثرُ الـمُنتسبينَ للتصوفِ اليومَ هكذا لا يعرفونَ مذهبَ أهلِ السنةِ، يدخلونَ إلى المشايخِ يأخذونَ منهُم الطريقةَ وهُم جُهَّالٌ قبلَ أنْ يتعلَّمُوا تنزيهَ اللهِ، يدخلونَ فيزدادونَ غُرورًا ويقولونَ نحنُ وصلنا إلى الغايةِ. ما أكثرَ الهالكينَ منَ الـمُنتسبينَ للطرقِ.
أما الوهابيةُ فيقولونَ أنتم تقولونَ اللهُ تعالى ليسَ جسمًا ليسَ قاعِدًا على العرشِ إذًا على قولِكُم اللهُ غيرُ موجودٍ. يقالُ لهم ليسَ من شرطِ الوجودِ أن يكونَ لهُ جهةٌ وكيفيةٌ ومكانٌ وليسَ مِن شرطِ الوجودِ أن يُستطاعَ تَصَوُّرُهُ في النفسِ. بعضُ مخلوقاتِ اللهِ لا يمكنُ تصوُّرُهُ وهوَ موجودٌ هوَ حاصلٌ. بعدَ أن خلقَ اللهُ الماءَ والعرشَ واللوحَ والقلمَ الأعلى اللهُ خلقَ النورَ والظلامَ. الإنسانُ لا يستطيعُ أن يتصورَ وقتًا ليسَ فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ. الإنسانُ يستطيعُ أن يتصورَ وقتًا فيهِ نورٌ وليسَ فيهِ ظلامٌ ويستطيعُ أن يتصورَ وقتًا فيهِ ظلامٌ وليسَ فيهِ نورٌ أما وقتٌ ليسَ فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ فلا يستطيعُ الإنسانُ أن يتصورَ ذلكَ ومعَ هذا يجبُ أنْ نؤمنَ أنهُ كانَ وقتٌ ليسَ فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ. قالَ اللهُ تعالى في سورة الأنعام: ﴿الحمدُ للهِ الذي خلقَ السماواتِ والأرضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنورَ﴾ اللهُ تعالى خلقَ السمواتِ والأرضَ بعدَ أن كانا معدومَينِ وكذلكَ خلقَ اللهُ النورَ والظلامَ بعدَ أنْ كانا معدومَينِ وخلْقُ السمواتِ والأرضِ والنورِ والظلامِ كلُّ ذلكَ كانَ بعدَ خلقِ الماءِ والعرشِ لأجلِ هذا فرضٌ علينا أن نؤمنَ أنهُ كانَ وقتٌ لـم يكن فيهِ نورٌ ولا ظلامٌ معَ أننا لا نستطيعُ تصوُّرَ ذلكَ.
على زعْمِ الوهابيةِ الشىءُ الذي لا يُتصَوَّرُ ليسَ موجودًا لذلكَ يقولونَ: اللهُ قاعدٌ على العرشِ وهوَ لهُ حجمٌ ومكانٌ وجهةٌ هو في جهةِ فوق مستقرٌّ على العرشِ. على زَعمِهِم قولُهُم اللهُ قاعدٌ على العرشِ تعظيمٌ وهوَ في الحقيقةِ ليسَ تعظيمًا للهِ بل شتْمٌ للهِ لأنهُ تشبيهٌ للهِ بخَلقِهِ. الإنسانُ يقعدُ والملائكةُ يقعُدونَ والجِنُّ يقعُدونَ والكلبُ والفِئرانُ، الجلوسُ صفةُ هؤلاءِ. كيفَ يُوصفُ اللهُ الذي خلقَ المكان وما يَـحُلُّ في المكانِ بصفةِ الجلوس.
مُصيبَتُهُم أنهم فسَّرُوا بعضَ الآياتِ على غَيرِ وجهِها. ﴿الرحمنُ على العرشِ استَوى﴾3 فسَّروا هذهِ الأيةَ بالجلوسِ، قالوا استوى معناهُ جلسَ، وليسَ معنى استوى جلسَ، معنَى استوى قهرَ، اللهُ قهرَ العرشَ. العرشُ وجودهُ باللهِ تعالى، اللهُ أوجدَهُ وهوَ الذي يحفظُهُ في مَركَزِهِ ولولا ذلكَ لهَوَى ما ثبتَ ثانيةً واحدةً، وهذهِ النجومُ كذلكَ والشمسُ والقمرُ والجنةُ لولا أنَّ اللهَ أبقاها في مكانِها من غيرِ مُلامسةٍ لَمَا ثبَتَتْ، وكذلكَ هذهِ الأرضُ التي تحمِلُنا لولا أنَّ اللهَ أبقاها في مكانِها لهَوَتْ بِنا.
اللهُ خلقَ الماءَ ثمَّ خلقَ العرشَ على وجهِ الماءِ. العرشُ للملائكةِ ليسَ إلا مثلَ الكعبةِ للبَشَرِ. اللهُ أمرَنا بأنْ نستقبلَ الكعبةَ في صلاتِنا ونَطوفَ بها في الحجِّ والعُمرةِ كذلكَ أولئكَ الملائكةُ الذينَ حولَ العرشِ ومِنْ كثرَتِهم أحاطُوا بالعرشِ يطوفونَ بهِ كما نحنُ نطوفُ بالكعبةِ ويُصَلُّونَ إليهِ عندَ صلاتِهم.
﴿الرحمنُ على العَرْشِ استَوى﴾ معناهُ قهرَ أما تفسيرُهُ بجلَسَ فهذا شتْمٌ لله.
انتهى والله تعالى أعلم.
------------------
1- رواه الإمام أبو بكر الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
2- أي نورُ الكهرباءِ.
3- سورة طه .
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin