شرح الصلاة العظيمية من كتاب النفخات الاقدسية
أذكار واوراد
شرح الصلاة العظيمية من كتاب النفحات الاقدسية في شرح الصلوات الاحمدية
للعارف بالله تعالى محمد بهاء الدين البيطار الشامى الميدانى
المتوفى 1314 هـ
قال رضي الله عنه (بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إني أسألك بنور وجه الله العظيم الذي ملأ أركان عرش العظيم)
قوله: (اللهم) يعني يا الله، ومراده سؤال الله تعالى من وجه الغيب الذاتي. وقوله: (إني أسألك بنور وجه الله) أي بنور وجه الله من حيث الظاهر، ولفظ الجلالة نائب عن كل اسم إلهي متجلي بوجه من الوجوه. فهذا السؤال سؤال الذات بنور وجه كل اسم إلهي ظهر شهادة بالمجالي الشهادية.
وإنما قلنا ذلك لان الذات لا تتقيّد بالوجه النوري من جهة إطلاقها، إذ النور والظلمة في حقها سواء وإنما لها النور من جهة المجلي، فكل مجلي وجه إلهي، ونور ذلك المجلى وجود الله المتجلي به، فبنور وجود الله ظهر وانكشف كل مجلي.
فأراد رضي الله عنه بوجه الله: جميع الأوجه التي قال الله في حقها - فَأَيْنَمَا تُوَلوا فَثَم وَجْهُ الله.- البَقَرَة أية 115 -
وفي حقيقة الامر هذه الوجوه ما هي وجوه الله من حيث الله بل من حيث الاسماء الخاصة، التي قام بها الاسم الجامع مقام كل واحد منها، وليس وجه الله من حيث الاسم إلا الانسان الكامل المطلق، وهو المظهر المحمدي الكمالي، وأكمل المظاهر المحمدية من تشرف برؤية الصحابة الكرام، فله الاصالة بإطلاق الاسم الجامع، فإن جعلنا الاضافة في قوله: بنور وجه الله، للاستغراق، أردنا كل وجه إلهي كما قال تعالى- فَأَيْنَمَا تُوَلوا فَثَم وَجْهُ اللهِ -البَقَرَة الاية115 - أي فثم اسم من أسماء هذا الجامع كالغني والرزاق والصبور والشكور، فقام الله مقامها لإندراجها به، وان جعلنا الاضافة تخصيصية أردنا بوجه الله نور وجه الانسان الكامل الذي هو الصورة المحمدية في كل زمان حسب استعداد ذلك الزمان، فليس الكامل الفرد في كل زمان إلامحمد صلى الله عليه وسلم، والكُمل في الحقيقة من قال عنهم الصديق رضي الله عنه:» ارقبوا محمداً في عترته. « قال سيدي علي وفا رضي الله عنه: أي اشهدوه بهم، فإن وجدتم منهم ما يشق عليكم، فسلموا وارضوا، كما لو جاءكم في ذلك منه مواجهة، تجدوا في أنفسكم حرجاً مما قضوا، وسلموا تسليماً، وان وجدتم منهم ما يعجبكم، فاشهدوه منه فيهم، كي لاتحجبوا عنه بهم وتحبونهم، دونه وتنسونه بذكرهم، فما هم في الحقيقة منه إلا كالبشر السوي من الروح المتمثل به، وهل الفرع في الحقيقة غير أصله فهم ثمراته فافهم. انتهى كلامه رضي الله عنه.
والمراد بفرعه صلى الله عليه وسلم كل كامل يشاهد: سلمان منا أهل البيت. فاسم محمد صلى الله عليه وسلم يطلق عند العارفين على كل أستاذ كامل متحقق بالروح المحمدية كمال التحقيق، كما سيأتي قول سيدي أحمد بن إدريس رضي الله عنه: (واجعله يا رب روحاً لذاتي من جميع الوجوه في الدنيا قبل الاخرة يا عظيم).
واذا كان روح ذاته من جميع الوجوه فهو عينه، ومن هذا المعنى قال سيدي علي وفا رضي الله عنه: إنما كان أستاذك أعلم بك منك لانه هو حقيقتك وأنت ظلمة. فافهم.
أقول ليس هذا الكل أستاذ بل الاستاذ الكامل الذي حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم في الاتحاد كما قيل:» أنا من أهوى ومن أهوى أنا. « قال الشبلي لتلميذه: أتشهد أني محمد رسول الله، قال: نعم. والذي يقتضيه المشرب الاحمدي، أن المراد بوجه الله العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه وجه الله العظيم، الذي هو عين العيون الالهية، وسر قدس الذات الغيبية، لانه قرآن الاحدية الجامع، وشمس نور وجهه في كل سماء صورة طالع، فذلك النور هو الرافع للظلمات الكونية بجريان شمس حقيقية في قلب الافلاك الانسانية، إذ وجه الله العظيم صادق على المظاهر النورانية كما أنه صادق على المظاهر الظلمانية، فإن الله تعالى قال:- فَأَيْنَمَا تُوَلو فَثَم وَجْهُ اللهِ - البَقَرَة الاية 115.
والمسؤول به إنما هو نور الوجه العظيم لا حقيقة الوجه، لانه إذ تجلى نور الوجه الاحدي جاء الحق وزهق الباطل، فعظمته بسطوة وجودها تنسف جبال أوهام خيالات الصور العدمية الظلمانية، فتشرق أرض الاشباح بنور حقيقة الربوبية، فتكون كذاتها الوهمية قاع أحدية باستواء ضعف المراتب الاسمائية، فلا ترى من تجلي حقيقة الذات باستقامة الاحدية عوج الوهم، ولا أمت الكثرة المعقولة الحكم، فعلى هذا الوجه العظيم: هو المعنى المحمدي المتنزل من غيب الذات لشهادة صور الاسماء والصفات، ونوره: هو الوجود المتعين بصورة الشاهد والمشهود، فعظمته استغراقه سائر الاعيان، ونوره الحق يمحق من نظر العارف شهود الحدثان.
وأما قوله في حق (وجه الله العظيم الذي ملأ أركان عرش الله العظيم): فالذي وقع لي الالهام به أن المراد بعرش الله العظيم صورة الانسان الكامل الظاهرة، فإنها عرش ذات الله، فهي مستوى الذات ومنظر وجه محاسن الاسماء والصفات، وأركان هذا العرش الجوارح الانسانية وقواها الباطنة الروحانية، فإذا امتلأت أركان عرش الله العظيم بنور وجه الله العظيم، ظهر خليفة الله بسر مبايعة - يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - الفَتْح الاية10. وتنزل روح القدس في هيكل مجلاه بسر اندراج صورة شهادته بغيب معناه، وقد أزال تعالى الريب والاشتباه لقوله لذوي الانتباه - إن الذِينَ يُبَايِعُونَكَ ِإنمَا يُبَايِعُونَ اللهَ - الفَتْح الاية 10. فالمسؤول غيب الذات والمسؤول به نور وجه الله العظيم الذي له المبايعة بسبب تنزل الغيب من نقطة الذات لدائرة شهادته المحيطة بسائر الاسماء والصفات. فكأنه قال: اللهم إني أسألك بنور وجه محمد أن تصلي على مولانا محمد، ولو لم يكن المراد هكذا لقال: اللهم إني أسألك بنور وجهك العظيم، لان اللهم معناها يا الله، فلا يناسب أن يقال: يا الله أسألك بنور وجه الله، لان ذلك يوهم أن الاسم الا واقع على مسميين والمسؤول غير المسؤول به مع أن اسم الله هو لمعنى واحد - قُلْ هُوَ اللهُ أَحدٌ - الاخلاص الاية 1.
فحق الصفة أن تكون: اللهم إني أسألك بنور وجهك العظيم، لئلا يتعدد الله وهو لا يقبل العدد.
قد شافهني بعضهم بهذا الاشكال، فأجبته بما يناسب حاله من أن ذلك من قبيل الالتفات، كما تقول للسلطان وأنت تخاطبه: أمر مولانا السلطان مطاع، ولا تقول له أمرك مطاع، أدباً وتعظيماً إشارة إلى أنه لا كقوله حتى يخاطبه.
ومن تحقق ما شرحناه، رأى ما أبرزه سيدي أحمد رضي الله عنه في غاية وصف الحسن والجمال ونهاية الاستقامة والتحقيق والكمال، وقد وصف الوجه بالعظمة كما وصف العرش بالعظمة، إذ لا يناسب العظيم، إلا العظيم فعظيم المعنى لعظيم الصورة، فعظمة العرش بقدر عظمة المستوى عليه كان ما كان.
وخلاصة الامر أن لكل اسم وجهاً، وذلك الوجه هو وجه الله من حيث ذلك الاسم الخاص، وأما محمد صلى الله عليه وسلم بصورته ومعناه هو وجه الله من حيث اسم الله الجامع لجميع الاسماء والوجوه، فعظمة وجهه تندرج بها سائر العظمات، إذ لكل شيء في نفسه عظمة كما قال الله تعالى:- قَدْ جَعَلَ الله لكُل شَيْءٍ قَدْرًا -الطّلاَق الاية3 - والاسم العظيم يجوز أن يكون صفة لوجه الله أو للنور، والنور من أسمائه صلى الله عليه وسلم حتى صورته البشرية هي صورة فيما يبدو وفي حقيقة الامر هي نور محض، فما كان يظهر للناس منه إلا ما يشاكلهم، فهو مرآة لم يرد بها إلا أنفسهم، فالنور ملأ أركان ذاته التي هي عرش الله، لانها مجموع حقائق العالم، فهي عوالم الله جمعاً واجمالاً، وعوالم الله كلها تفصيل إجمالها وفرقان قرآنها، فالانسان الكامل هو العالم إجمالاً، والعالم هو تفصيلاً، فهو الواحد الجامع كثرة العدد، فباندراج الكثرة يسمى الواحد الاحد.
فلذلك قال رضي الله عنه: (وقامت به عوالم الله العظيم)
فالضمير من قوله به يجوز أن يكون عائداً لنور وجه الله، ويجوز أن يكون عائداً لعرش الله العظيم الذي هو صورة الانسان الكامل، لان الصورة تجمع العوالم كلها، فإنها نسخة الحق، إذ هي كالثمرة من الشجرة، وكما أن النواة أصل الشجرة كلها من فروع وأوراق وثمر ونوى، فهي جامعة الجميع، فكذلك الثمرة التي هي الفرع من النواة وضمنها ذلك الوصل الجامع الذي هو النواة، فالفرع جامع الجامع وزاد بظهور الصورة الثمرية الشهادية التي كانت منطوية في النواة مندرجة بها بطوناً، والمقصود من النواة والشجرة إنما هي الثمرة، فحيث اندرجت النواة في الثمرة التي هي الانسان الكامل فقامت به عوالم الله العظيم كما قيل:» وفيك يطوى ما انتشر من الاواني. «وكذا قولهم:» وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر. «
فالنور المحمدي واحد، يتعدد بالمظاهر، فيكون اثنين وثلاثة وأربعة بحسب التنزلات وكمال الدائرة الوجودية، وكما أن الواحد افتتاح الاعداد، فهو أيضاً اختتامها، فيكون منتهى التنزلات وختام العوالم صورة آدم الذي هو الخليفة، وبانتهاء الدائرة وكمالها أولاً وآخراً وظهوراً وبطوناً كملت حقيقة الجميع لسائر الحقائق، أو كان الواحد بكونه دليلاً على نفسه أحداً مفرداً جامعاً للكل والكل منه واليه، فالاحد هو الواحد بدون ملاحظة المظاهر بل بملاحظة نور الاحد الظاهر، فهو الذي قامت به عوالم الله العظيم مع أن عظمته لا تترك معاها سواها - أَغيْرَ اللهِ تَدْعُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - الانعَام: الاية 40.
فالصادق لا يدعو إلا الله وان دعى كل شيء، وأما غير الصادق فقد ألهاه التكاثر عن التوحيد فهو المشرك الذي أخبر عنه الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله:» تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار «وعبد الدرهم والدينار من يكنزه حباً به ويشح به عن الانفاق في سبيل الله فهو مؤمن بالباطل وكافر بالله، قال تعالى- الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - فصلت الاية 7.
الحاصل أن المراد بنور وجه الله العظيم، الذي ملا أركان عرش الله العظيم، وقامت به عوالم الله العظيم، النسخة الجامعة للاسماء القديمة القدسية، والصور المحدثة الكيانية، الرابطة لحقيقة الحادث والقديم ببرزخيتها، والمخلوق هو في أحسن تقويم من جهة كمال نشأة تلك النسخة الجامعة، فحقيقتها عين نور وجه الله العظيم، فانطبقت عليها الاسماء الالهية.
وصورتها مجموع صور الاكوان العلوية والسفلية، فهي عرش ذلك النور ومجلاه، وأركانها مملوءة بسناه، فقامت هذه النسخة الجامعة بالله الحي القيوم، فحياؤها وقيوميتها ذاتية، وقامت بها عوالم الله العظيم من حيث إنها حضرة الجمعية، ومن أراد تفصيل معاني الانسان الكامل، فعليه بالكتب المطولة في الحقائق وشرح ذلك يطول. ثم قال رضي الله عنه: (أن تصلي على مولانا محمد ذي القدر العظيم) سأل الله تعالى من حيث الكنه، باعتبار التجريد بنور وجهه الظاهر بأحدية التوحيد، أن يصلي على ذلك النور المسمى من حيث الشهادة بمحمد، فصلاته على محمد وصلة تمحو الصورة المحمدية بأنوار الذات الغيبية، فيظهر الحق بذاته لذاته ويكون اسم محمد واقعاً على حضرة الاطلاق، وهذا المعنى مرجع قوله تعالى- لَيْسَ لَكَ مِنَ الاَمْرِ شَيءٌ - آل عِمرَان الاية 128 - ومن هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم للاشعريين:» ما حملتكم ولكن الله حملكم. وقد كان صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يحملهم ثم حملهم فقالوا له: ألست قد آليت أن لا تحملنا فأجابهم بقوله:» ما حملتكم ولكن الله حملكم , فنفى عنه الحمل وأسنده إلى الله تعالى. وما روي من أنه كفر عن يمينه فهو تشريع للامة والا فصدقه صلى الله عليه وسلم في قوله:» ما حملتكم «يقتضي أن لا كفارة لان الحامل لهم هو الله وهو لا يسئل عما يفعل فإن تصرفه في ذلك المشهد تصرف الله تعالى بذاته لذاته في المظهر المسمى بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس له من أمر نفسه شيء، لان الله سمعه وبصره بل وهويته كما ورد في حديث:» فإذا أحببته كنت سمعه وبصره «إلى آخر الحديث. وحيث الامر كذلك فنفسه صلى الله عليه وسلم مضافة إلى الله تعالى بخلاف من اشترى منهم فأولئك مالكون، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو العبد المحض الذاتي، فهو منسوب لذات الله، وهذا المقام هو كنه الصلاة عليه، لان الصلاة وصلة خاصة تليق به صلى الله عليه وسلم، فيكون محمد صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك التجلي قائماً بالحضرة الذاتية لا الحضرة الصورية وبذلك تنكشف عظمة قدره، فلذا وصفه سيدنا الاستاذ بقوله: ذي القدر العظيم، إذ قدره في هذا المقام قَدْر الله بعينه وقد قال تعالى- وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقلا قَدْرِهِ - الانعَام الاية91، فلم يعلم قدره من حيث تلك الحضرة الابدية كما قال صلى الله عليه وسلم:» لا يعرف حقيقتي غير ربي «فلا يسعه في هذا المقام إلا ربه لانه هو الظاهر المتجلي به حساً ومعنى، فافهم. ثم قال رضي الله عنه:
(وعلى آل نبي الله العظيم) اعلم، أعلمك الله من لدنه علماً وآتاك من فيض نوره إدراكاً وفهماً، أن الال معناه في لغة العرب السراب، ومعناه أيضاً الخاصة، والال هنا يقبل كلاً من المؤمنين، فإن آل نبي الله العظيم لما تجلت لهم عظمة نور نبي الله العظيم، فكشف لهم أن ذلك النور هو نور وجه الله العظيم المطلق، المتنزل من غيب اللاهوت في صور ناسوتهم المقيدة بأعيانهم، فهم هو، كانوا سراباً في عين وجودهم الذي منه كل شيء حي، فعظمة ذلك النور اضمحل بها وجود ما سواه، فكان الآل وهم الخاصة سراب العدم للمع بقيعة مرآة الوجود المطلق، فينكشف بتلك المرآة، فيحسبه ظمآن تجلي الحقيقة الوجودية ماء العين، حتى إذا جاءه ليأخذ منه شراب معرفة ذاته ونجى بمعاني أسمائه وصفاته لم يجده شيئاً لفناء سراب حكمه العدمي بشراب النور المطلق المحمدي، ووجد الله عنده ففنيَ السرابُ وبقي الشراب.
فآل محمد صلى الله عليه وسلم من هلك سراب حكم ناسوتهم في شراب لاهوته النوري فكان هو بهم لا هم فتجردوا عن نفوسهم وأدوا الامانة لاهلها فحققوا شهوداً وعياناً. قوله تعالى:
- النبِي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ - الاحزَاب: الاية 6, إذ لم يكن الظاهر بهم سواه، كما أنه باطنهم فهو غيبهم وهم شهادته، فإذا رُؤوا رؤي صلى الله عليه وسلم لانهم سراب لا شيء حيث المطلق، الذي هو نور وجه الله العظيم، وحيث الامر كذلك إذ جاءهم ظمآن الحقيقة ومريد الطريقة، لم يجدهم شيئاً، ووجد الانسان الكامل صلى الله عليه وسلم ظاهراً بنور جماله وصفات جلاله وكماله، مشهوداً بأعيان حقائقهم البينة وصورهم الحكيمة، فكان هو الشيء ولا شيء منهم معه، فأخذ الشراب منه لا منهم، إذ هم سراب في عين وجوده، وهو الشراب بهم، لانه عين حياتهم وروح ذاتهم من جميع الوجوه، فأشباحهم به أرواح، وسرابهم شراب بعين حياته وصورهم أقداح، فهو كوثر وجودهم ونور هياكلهم المتجلي في مرائها بالظهور، ففي فيضان أسرارهم تشعشع أنوارهم هو المعطي الوهاب وساقي القوم بهم منهم رحيق الشراب، فآل محمد صلى الله عليه وسلم من هو صلى الله عليه وسلم موجوداً عندهم كما قال الصديق رضي الله عنه:» ارقبوا محمداً في عترته «فهم مجالي فنون كماله، وصور جماله وجلاله، ومظاهر علومه وأعماله، وملابس صفاته وأحواله، وكنوز أخلاقه ورموز إطلاقه.
وانما قال: (وعلى آل نبي الله) مع أن المقام تلذذ بتكرر ذكر الله من باب كَررْ ورَددْ ذكرَهُم في مسمعي، إذ المحب كما يلتذ بمشاهدة جمال المحبوب، كذلك يلتذ بتكرار اسمه المرغوب، ليلذ سمعه ما لذ لبصره، فأهل الله تعالى هم عن سماع ذكر ما سواه بكم عن النطق بدون أسمائه، عميٌ إلا عن مشاهدة محياه، فهم لا يرجعون من فناهم إلا لبقاء أموات به غير أحياء بهم وما يشعرون أيان يبعثون، لان الباعث لم يزل عين وجودهم، فدنياهم عين آخرتهم، فحياتهم موت وموتهم حياة، فهم الاحياء الاموات، والاموات الاحياء، الحاضرون في الغيبة والغائبون في الحضور، غرباء وان كانوا في الاوطان، فهم الخاصة جلساء الرحمن، قال تعالى- وَعِبَادُ الرحْمَنِ الذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرْضِ هَوْناً وَاذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمً - وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا - الفُرقان الاية 63،64 - وعلامتهم أن القرآن خلفهم يرضون لرضاه ويغضبون لغضبه، فمن كان كذلك فهو من آل نبي الله العظيم يندرج معه في كل صلاة وتسليم.
ثم قال رضي الله عنه:
(بقدر عظمة ذات الله العظيم) اعلم، نور الله فؤادك ويسر بما يرضيه مرادك، أن كل صورة في الموجود إن اعتبرتها من جهة شكلها فهي حكم معقول، واذا اعتبرتها من حيث الحقيقة فهي ذات، وذات الله تعالى هي ذات الذوات، فإن ذات كل شيء ما به الشيء هو هو، كالانسان مثلاً ذاته الحي الناطق لانه لم يكن هو هو إلا بالحي الناطق. وأما ذات الذوات فالذات الجامعة لكل ذات، فكل ذات ما كانت ذاتاً إلا بذات الذوات، فهي الموصوفة بالعظمة، وحيث إن وصفها بالعظمة وصف لما اندرج بها فكل شيء من جهة ذاته عظيم، قال تعالى - فِطْرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا - الروم الاية30، ففطرته عظيمة، فالمفطور على فطرته عظيم ولذلك وصف الاشياء بالعظمة حتى المذمومة، قال تعالى - قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ-الاعراف الاية 116 وقال- إن كَيْدَكُن عَظِيمٌ - يُوسُف: الاية 28،وقال- سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ- النور الاية 16.
ومن هذا المعنى استعظم إبليس اللعنة التي هي مقامه.
قال الغوث الجيلي رضي الله عنه في كتابه الانسان الكامل: «قيل إن إبليس لما لعن هاج وهام لشدة الفرح حتى ملا العالم بنفسه فقيل له: أتصنع هكذا وقد طردت من الحضرة، فقال: هي خلعة أفردني الحبيب بها لا يلبسها ملك مقرب ولا نبي مرسل. انتهى كلامه.
وانما قال خلعة لان لعنته تعالى عليه أثر اسم من أسمائه، فقد صار إبليس مظهر ذلك الاسم، ومنه استمد حتى أجاب الله سؤاله لما قال- قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ-الاعراف الايات 14 ـ15 - فلما علم اللعين أن إبعاده عين القرب ومنعه عين الاعطاء، أخذته العزة بالاثم لما شاهده منه، وعلم أن مجلاه في العزّة كما قال- يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ - فاطر الاية 15، فلذا أقسم وقال- فَبِعِزلاتِكَ لاُغْوِيَنهُمْ -ص الاية82 - والحقائق تقتضي أن أسماء الله تعالى كلها على التساوي في الحضرة الذاتية، فلم يفرق إبليس في تلك الحضرة ما بين القرب والبعد، لان القرب والبعد بحسب الاسماء، ونظره لعنه الله للكمال الذاتي لا الكمال الاسمائي، ولذلك لم يتأثر من اللعنة بل هو فرح بها، وذلك سر قوله تعالى-كُل حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ -المؤمنون: الاية53، فصح أن كل شيء وان كان هيناً فعند الله عظيم، قال تعالى- قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا - الطلاق الاية3 - وقدر كل شيء كونه مظهر الاسم الالهي في أي حال كان عليه ذلك الشيء، وهذا هو القدر المجعول لان الجاعل له هو الاسماء الظاهرة بأحكام معانيها في الاعيان القابلة لظهورها بها، وقدر المظهر من قدر الظاهر، فكانت فطرة الناس على فطرة الله، ولذلك كل مولود يولد على الفطرة.
واعلم أن القدر المجعول عرضي لان القابل يقبله كما يقبل غيره، فهو قدر اسمي لا ذاتي، وتجلي الاسماء يختلف كما قال تعالى- كُل يَوْم هُوَ فِي شَأْنٍ -الرحمن الاية 29 - فكذلك عظمة عرض بعرض يزول، وسبب ذلك اختلاف الاسماء المتجلية على القابل، فالعظمة الاسمائية تقبل الزوال كاسم السلطان واسم الوالي واسم الحاكم وأمثال ذلك، فقد يأتي الخادم ويقتل السيد فيزيل سلطنته وولايته أو حكمه. وأما قدر العظمة الذاتية فهو عبارة عن انفراد الحق تعالى بوجوده المطلق، ومعاني أسمائه الظاهرة في الوجود بلا مشاركة في شيء منها البتة، فهذه العظمة لا تزول لانها الحقيقة القيومية التي قامت بها جميع المعاني والصور فهي الدهر الوجودي ذو القوة المتين التي لا ضعف له ولا زوال ولا انقطاع، فله - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ - الروم الاية 4 - و- هُوَ الاَولُ وَالاخِرُ وَالظاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ- الحَديد: الاية 3 -
فلذا عدل سيدنا الاستاذ قدس الله سرّه إلى قوله: (بقدر عظمة ذات الله العظيم) فعظمة الذات ذاتيتها بلا زيادة إذ ليس معها من يعظمها، فعظمتها وجودها بذاتها لذاتها، وهذه العظمة لا تتغير ولا تختلف لانها ليست تحت حكم الاحكام، فليس معها حاكم ولا محكوم ولا حكم، بل الامر هويته المطلقة بلا تعين باسم هويته، قال الله تعالى: سُبْحَانَ رَبكَ رَب الْعِزةِ عَما يَصِفُونَ - الصافات الاية180 - فالذات المنزّهة سبحان من وراء اسم العزة فلا توصف، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله، فالكلام في الذات حرام قطعاً والمتكلم في الذات جاهل عاصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل- لاَ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ- الانعَام الاية 103، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» نورٌ أنّى أراه «فمن هذا الوجه صح كلام المعتزلة في أن الله لا يُرى، لانه كما هو الظاهر بنا هو الباطن بنا، والعبد لا يحيط علماً بباطنه، إذ كل ما تجلى له من باطنه وانتقل من اسم الغيب إلى الشهادة، فقد انتقل اسمه إلى الظاهر، فلا بد أن يكون لهذا الظاهر باطن، لان اسم الباطن لا يزول فنرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر والشمس بالظهيرة ليس دونها سحاب، مع أننا ما رأيناه لاننا ما نرى منه إلا صور باطننا ولا نحيط بباطننا، فلا يزال العارف متعطشاً للغيب لا يرتوي مع أنه عالم بأنه ما ابتلي بسوى ذاته، ولا يُجزى إلا بوصفه، فكل ما يشاهده من الاسماء والصفات فلا يشهده إلا منه، ولا يزال العارف غيباً على نفسه مهما رأى نفسه، قال تعالى لموسى عليه السلام- لَنْ تَرَانِي - الاعرَاف الاية143. قال سيدي علي وفا: أي لن تراني مع أنك تراني، أي لن تراني من حيث الاسماء. ولذا قال سيدنا الشيخ الاكبر قدس الله سرّه: وليس تُنال الذات في غير مظهر ولو هلك الانسان من شدة الحرص.
واعلم رحمك الله أن من تحقق بالتجلي الذاتي في نفسه، انكشف له منه عظمة ذات الله العظيم، وكان ياقوتاً أحمر لا يفرح بما هو آت ولا يحزن على ما فات، فلا تؤثر فيه العوارض. قال أبو يزيد قدس سرّه: ضحكت زماناً وبكيت زماناً، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي، لانه متحقق بذاته لا من حيث اسم خاص يدخل تحت حكمه، بل صاحب هذا المشهد هو الحاكم بالاسماء والمحكوم عليه بها، فلا يرى الامر إلا منه واليه صلى الله عليه وسلم فلما لم يكن سواه قال- كَانَ عَلَى رَبكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا - مريَم الاية71.
فقضى على نفسه لاحدية نفسه. ولا تؤثر العوارض بذاته بل العوارض من اختلاف الصور، ألا ترى أن الطعام لما اختلفت عليه الصورة بالخروج اختلف عليه الحكم، وزالت عظمته التي كنت تحترمه بها، فإنه لما كان خبزاً كنت تقبله تعظيماً وتحترمه، فلما دخل المعدة وخرج صرت تستقذره ذاتاً لا حكماً وصورة، وكلا الصورتين شأن للذات التي قامت بها صورة الخبز، ثم استحالت تلك الصورة إلى صورة تستقذرها، فالذي استحال منياً، فإذا حل القرار المكين استحال دماً، ثم علقة، ثم مضغة، ثم كون إنساناً، والصورة الانسانية أكمل الصور، ثم يستحيل الانسان تراباً، فقد كان الانسان يسمى طعاماً، ثم سمي منياً، ثم دماً، ثم علقة، وهكذا، ففي كل صورة يحدث به اسم خاص بتلك الصورة، فاختلفت عليه الاسماء والصور والحقيقة واحدة، فمن حقق أنه تلك الكثرة فتسمى بالاسماء المختلفة وهو واحد في ذاته، فاستوى في الكمال الذاتي أسعد خلق الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأشقى خلق الله وهو إبليس لعنه الله إذ العين واحدة، فإن الله تعالى خلق النفس المحمدية من ذاته وذاته جامعة للضدين، فعالم النور والهدى وهم الملائكة العالون من نفس محمد صلى الله عليه وسلم ولكن من حيث صفات الجمال، وابليس وأتباعه من النفس المحمدية، ولكن من حيث صفات الجلال المقتضية للضلال، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الاسم الهادي صورة واللعين هو الاسم المضل صورة، وكلا الاسمين الهادي والمضل لذات واحدة. قال تعالى- وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ - القمر الاية50 - فمن شاهد عظمة ذات الله العظيم فقد صلى على نبي الله العظيم ذي القدر العظيم، الظاهر من حيث النفس المحمدية بصورة كل شيء، هو من حيث تلك النفس المحمدية أعظم، وتلك النفس المحمدية عظمتها بسبب صلاة الوصلة الذاتية من الله
العظيم، فليس في الوجود إلا العظيم، فدامت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم بدوام الله العظيم، فافهم ذلك.
- ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- الجُمُعَة الاية4 -
ثم قال سيدنا الاستاذ قدس سرّه:
(في كل لمحة ونفس عدد ما في علم الله العظيم)
المراد باللمح لمح البصر الحق، وبالنفَس النفَس الرحماني. وقوله: (عدد ما في علم الله العظيم) تنزل من الاطلاق الغيبي الذاتي لعالم الكثرة الذي هو المعلومات الصورية والمعاني الحكمية. أراد رضي الله عنه أن تكون الصلاة على نبي الله العظيم وعلى آل نبي الله العظيم بقدر عظمة ذات الله العظيم، من حيث الاجمال والتفصيل في كل لمحة ربانية ونفس من الانفاس الرحمانية، المندرج جميع ذلك في حضرة علم الله، وعظمة العلم عدم التناهي فيه.
ثم أكد ذلك بقوله: (صلاة دائمة بدوام الله العظيم)
يعني حتى ينطبق دوام الله العظيم على ذات محمد صلى الله عليه وسلم إذ بسبب صلاة الله عليه انجلت أحدية العين، فانمحت نقطة الغين عن البين.
ثم قال الله عنه: (تعظيماً لحقك) يعني أطلب من الله الصلاة عليك تعظيماً لحقك، أي لما يجب لك علي من الحق،
فيكون ذلك من قبيل الشكر له صلى الله عليه وسلم لما أسدى إلينا من النصيحة والهداية والارشاد. والمراد بحقه ما هو أهل له من الاستحقاق الذاتي للكمالات الذاتية كما قال تعالى -وَان لَكَ لاَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ- القَلَم: الاية 3.
أي لم يرد على شهادتك الصورية أجراً إلا من حقيقتك الغيبية، ومن شهد تلك الحقيقة في نفسه فأجره غير ممنون. قال تعالى:
-إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ- الانشقاق: الاية 25. ثم إن الاستاذ قدس الله نفسه وجه وجهه للحضرة المحمدية فقال:
(يا مولانا يا محمد يا ذا الخلق العظيم).
اعلم أن المولى يطلق على السيد وعلى الخادم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:» خادم القوم سيدهم «وانما كان سيدهم لقيامه بمصالحهم وقضاء حوائجهم وليس السيد إلا من خدم لوجه الله، والا كان أسيراً لا سيداً. وقوله: (يا محمد) أي يا من تؤول المحامد إليه، وهذا اسمه الكريم الذي سمته به والدته السيدة آمنة قدس الله سرها وله صلى الله عليه وسلم أسماء لا تحصى، فإن الله تعالى سماه الرؤوف الرحيم، وسماه طه، وسماه يس. وقيل: من أسمائه الحروف المفتتح بها سور القرآن مثل (الم) و (حم) و (ق) و صلى الله عليه وسلم و (نون) وعند أهل الحقائق هو حقيقة العالم، فأسماء العالم بأسره أسمائه، وأوصاف العالم أوصافه، ومن كان هذا المشهد مشهده يرى العالم كله جميلاً لسريان النور المحمدي فيه كما قيل: هذا الوجود جميعه إشراقكم.
وقوله: (يا ذا الخلق العظيم) هو النداء الثالث، فقد ناداه ثلاثاً، النداء الاول: يا مولانا أي يا سيدنا وناصرنا وحبيبنا، والنداء الثاني: يا محمد أي يا من بيده لواء الحمد، فالمحامد منه وترجع إليه. والنداء الثالث: يا ذا الخلق العظيم وخلقه هو القرآن من القرء وهو الجمع، فأحاط بكل شيء وأحصى كل شيء عدداً، وأكمل النداء بالثلاث، وقد ورد أن من قال: يا أرحم الراحمين ثلاثاً قال له أرحم الراحمين: لبيك، وقضى حاجته حسبما يختاره له. واعلم رحمك الله أن الله استعظم خُلُقَ محمد صلى الله عليه وسلم لان أخلاق الله ظاهرة فيه بأعلى طبقات الكمال، فهو مجلى اسم الله الكامل في كل شيء، فلا أكمل من الله ولكن من حيث ظهوره بهذا المجلى الكامل، فالله تعالى ما تسمى بأرحم الراحمين وخير الغافرين والاجود والاكرم والاعلى إلامن حيث المجلى المحمدي، فهو حبيب الله الذي ظهر به جمال الله، فكان زينة الله التي أخرج لعباده من كنز ذاته المخفي، فأحب أن يعرف به، فلذا أقسم بحياته لا بذاته، لان الله تعالى لا ينهى عن الشرك ويفعله، فلو لم تكن حياته عين الحياة الالهية ما صح قوله تعالى- وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ِإلا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ- الانبيَاء: الاية107 - فبه كان تعالى رحماناً رحيماً، إذ المعاني كلها كالرحمة والحنان والعطف وأمثالها لا يظهر لها وجود إلا من قيامها بالصور، فقامت هذه الاسماء بالصورة المحمدية في أعلى طبقات الكمال، فلذلك كانت العظمة الالهية الدال عليها اسم الا العظيم صفة خُلُقِه صلى الله عليه وسلم، فمن أحب الكمال فليتخلق بالخُلُق المحمدي، لانهم قالوا: من زاد عليك بالخلق زاد عليك بالتصوف، ومن لم يتحل بالاخلاق المحمدية فليس له نصيب في الزينة الالهية التي دل عليها الاسم الله، فهذا الاسم هو زينة السيد الكامل، فالاضافة للبيان في قوله: زينة الله، أي زينته هي الله فافهم.
ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل مجالي أخلاق الله كان خاتم المبعوث لتتميم مكارم الاخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:» بعثت لاتمم مكارم الاخلاق «ومكارم الاخلاق على نوعين، منها ما هو جبلي في الذات، ومنها ما هو مكتسب بالاعمال الصالحة والذكر ومعاشرة السادات الصوفية، فالجبلي لا يختص بأهل الايمان بل قد يكون بعض مكارم الاخلاق في جميع الملل، وأما المكتسب فهو ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم من التخلق بأخلاق الله وأكملها الخلق العظيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم ما يروى أن جبريل عليه السلام أتى إليه صلى الله عليه وسلم فقال:» يا محمد أتيتك بمكارم الاخلاق كلها في الدنيا والاخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: وما هي، فقال-خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلينَ - الاعرَاف: الاية 199وهو يا محمد عفوك عمن ظلمك، لاواعطاء من حرمك، وصلة من قطعك، لاواحسانك إلى من أساء إليك، واستغفارك لمن اغتابك، ونصحك لمن غشك، وحلمك عمن أغضبك. فهذه الخصال قد تضمنت مكارم الاخلاق في الدنيا والاخرة.
ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يفاجىء أحداً بما يكره، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله لمَ لمْ تفعله.
واعلم رحمك الله أن الفرق ما بين العُباد والصوفية مكارم الاخلاق، قال بعض العباد لابي يزيد البسطامي قدس الله سرّه: إني أصوم كما تصوم وأقوم كما تقوم ولا أعلم ما تنطق به من هذه العلوم، فقال له أبو يزيد: إني أدبت نفسي وأنت ما أدبت نفسك، فنفسك هي التي حجبتك لانها تتشبه بالموالي تكبراً ورئاسة، فقال: ليس عندي كبر، قال أبو يزيد: عندنا لك المحك نحكك به، قال: هات، قال: قم فاحلق رأسك ولحيتك وضع في عنقك مخلاة واملاها جوزاً واجمع الصبيان عليك، وكل من صفعك منهم صفعة على عنقك فأعطه جوزة، وليكن ذلك بحضور من يعظمك ويعتبرك، فإن كانت نفسك تقبل ذلك فلا حجاب لك عن مثل علومي، فقال له: إن نفسي لا تطيق ذلك، قال أبو يزيد: أما قلت لك نفسك هي التي حجبتك. أقول: لا يجوز بسالك الطريق أن يفعل مثل ذلك إلا بأمر خاص من الاستاذ الكامل الذي هو مثل أبي يزيد رضي الله عنه، ولو فعله الانسان من نفسه بلا أمر من الاستاذ فهو كمن اتخذ إلهه هواه، ولقد شاهدت من يعصي الله تعالى ويزعم أنه يسقط بذلك منزلته عند الناس، وهذا من أعظم الجهل المركب، فإنه جاهل ولا يدري أنه جاهل، ومن يأمره بذلك فهو أجهل منه. نعم إن للانسان أن يسقط منزلته بفعل سنّة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُرِكَت كصبغ لحيته بالحناء، وأما قول الفقهاء في مثل ذلك بترك السنة إذا صارت شعار أهل البدعة فهو غلط عظيم، وحينئذ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: من أحيا سنتي فقد أحياني. ومن السنن المحمدية، خصف النعل، ورقع الثوب، ومشي الحفا، ولعق الاناء، واعانة الاهل في الطحن وغيره، ونفوسنا الجبارة يثقل عليها جميع ذلك فينبغي أن تعالج لئلا تنفر من سنّة فعلها السيد الاعظم صلى الله عليه وسلم - وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ - الاحزاب: الاية 4
ثم قال سيدنا قدس الله سرّه: (وسلم عليه وعلى آله مثل ذلك)
يعني سلم عليه وعلى آله بقدر عظمة ذات الله العظيم في كل لمحة ونفس عدد ما في علم الله العظيم، سلاماً دائماً بدوام الله العظيم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: اللهم أنت السلام ومنك السلام واليك يرجع السلام. فأفادت هذه النجوى المحمدية أن الامر منه واليه لان وجود الله سالم مما سواه ولا يعرف ذلك إلا أرباب الجمع الذاتي. ولذا قال سيدنا رضوان الله عليه:
(واجمع بيني وبينه كما جمعت بين الروح والنفس ظاهراً وباطناً يقظة ومناماً) أراد رضي الله عنه مشهد الاتحاد فيرى المعنى المحمدي ظاهراً في ذاته وأعماله وأحواله وأقواله، وباطناً من جهة التحقق السري والوجدان القلبي يقظة في الحضرة الحسية ومناماً في الحضرة البرزخية، وفي هذا المعنى قال الحلاج رضي الله عنه: مازجت روحك روحي في دنوي وبعادي، فأنا أنت كما أنك روحي وفؤادي. سر القدس في معنى الروح والنفس، قال صلى الله عليه وسلم: من عرف نفسه عرف ربه.
اعلم أن الروح والنفس اسمان لحقيقة واحدة، اختلف الاسم عليها بالحكم والاعتبار، وتلك الحقيقة الواحدة هي اللطيفة الغيبية الالهية المستوية على عرش المملكة الانسانية، فهي خليفة الله في الارض البدنية، غاية الامر أن تلك اللطيفة إن تعلقت بأمر كوني سواء كان محموداً أو مذموماً سميت عند الصوفية نفساً باعتبار المتعلق، فالتعلق بالامر الكوني عندهم منها ِلنَفْس، سواء تعلق الشخص بالدنيا أو بالاخرة ولذلك قالوا: إن أردت السلامة فسلم على الدنيا، وان أردت الكرامة فكبر على الاخرة، وان تعلقت تلك اللطيفة بوجه ربها الاعلى باعتبار الحظوظ المحمودة أو المذمومة سميت روحاً، قال تعالى- وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروحِ قُلِ الروحُ مِنْ أَمْرِ رَبي - الاسرَاء الاية85. والاضافة بيانية، يعني مِنْ أمرٍ هُوَ ربي لان أمر الرب عينه، فلا يشرك في حكمه أحداً، ثم إنهم قالوا: للانسان ثلاثة نفوس: نفس نباتية يشترك بها مع الجمادات، ونفس حيوانية يشترك بها مع البهائم، ونفس ناطقة يتميز بها في الملكوت الاعلى مع الملائكة. فإن كانت النفس الناطقة وجهتها لمشاهدة الملا الاعلى ونتائج الاعمال الصالحة فهي النفس المطمئنة، فيقال لها- ارْجِعِي ِإلَى رَبكِ- الفَجر الاية28. وان كان وجهتها إلى الرب ورجعت إليه بالتحقق والمشاهدة العينية، فهي الروح التي هي سر الربوبية وهو الخليفة المجعول في الارض البدنية، فمن عرف نفسه عرف ربه، أي وجه ربه الظاهر في حقيقة نفسه فافهم. واعلم رحمك الا أنه لما كان العالم أعلاه وأسفله محصياً في المملكة الانسانية كما قال تعالى- اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ - يس: الاية 21. وقال- مَا فَرطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ - الانعَام: الاية 38.جعل الخليفة الذي هو الروح في تلك المملكة العظيمة التي هي الارض البدنية مدينة صورية قامت من أربعة أعمدة هي العناصر الاربعة التي هي مظاهر الاربعة، الحياة والعلم والارادة والقدرة، لتسكنها رعيته وأرباب دولته، ثم عيّن للخليفة من هذه المدينة موضعاً خاصاً سماه القلب، فكان عرشاً لاستواء هذا الروح الاعظم، وان كان نوره عاماً في سائر المملكة إلا أن القمر الروحي قدرت منازله في هذا العرش القلبي، فإن غيب الخليفة الذي هو الرب المطلق بقوله: ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي. ثم إن هذا المكان لهو السر الذي هو الخليفة المتوجه عليه خطاب مستخلفه بالامر والنهي إذا صلح صلحت الرعية، واذا فسد فسدت الرعية، لانه مظهر الروح الظاهر، فينسب الصلاح والفساد إليه، وفي حقيقة الامر كما تكونوا يولى عليكم، إذ لون الماء لون إنائه.
والحاصل: أن الصلاح والفساد لا يكون من الروح فقط ولا من الجسد فقط، ولكن ما بدا الامر إلا من معنى وصورة وسلطان ورعية، فكما أنه بصلاح المَلك تصلح الرعية كذلك بصلاح الرعية، يصلح الملك، ويرجع الامر للشأن الذاتي والاستعداد الثبوتي الغير المجهول، فلا يظهر في الوجود إلا ما كان في الثبوت، قال تعالى- وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ- الانعَام الاية 117.أي ثبوتاً قبل الوجود، ثم لما كان الانسان مندرجاً في سائر طبقات العالم قبل ظهوره، ثم بعد ظهوره اندرجت سائر طبقات العالم فيه، وطابقت نسخة الصغرى جميع العالم الكبرى، وزاد على ذلك بالصورة الالهية التي هي مفطور عليها القائم بظهورها، المنوع بحسب اختلاف الاسماء والصفات، القائم بمنشورها الخليفة، وما تقتضيه من أوامر ونواهي ووعد ووعيد في حق من أطاع ومن عصى، فأنجز الامر في هذه المملكة الانسانية لوزير وقاضي وكاتب وعمّال وقابض خراج وجبايات.
ولما كانت الاسماء الالهية الظاهرة في المملكة الانسانية مختلفة المعاني، اختلفت الاثار في تلك المملكة، فحصل التقابل والنزاع في ظهور الاثار الراجع ذلك لتقابل الاسماء، إذ المعطي ضد المانع والضار ضد النافع، فحصلت في تلك المملكة الاعداء، إذ أصلها من نطفة أمشاج أي مختلطة لالوان الطباع والعناصر، فحكمت تلك الحقائق على الخليفة بأن يمدها على اختلافها وتباين أغراضها، فبقي اسم الروح على مقتضيات الحقائق القدسية، واللطائف النورانية، وكان العقل هو الوزير لهذا المعنى، وسمى وجه الروح المساعد للمقتضيات الطبيعية والشهوات الجسمانية بالنفس، وكان الوزير لهذا المعنى هو الهوى، فإن هذا المعنى النفسي للمعنى الروحي بمنزلة حواء من آدم على صورته، ثم إن الروح الذي هو الخليفة دعا هذا النفس إلى طاعة مستخلفه، وهو الا الملك الحق المبين، وعرض عليها منثور أوامره ونواهيه لتقدس لها وتعود لموطنها الاول، إذ حب الوطن من الايمان، وقد قال تعالى - وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا -الشّمس الايات 10،7. فأرسل لها الخليفة وزيره وهو العقل، وقال: ادع النفس إلى الطاعة وأخبرها بالجزاء والمثوبة، وحذرها من المعصية واخبرها بالعقوبة، فلما دعاها العقل لطاعة الروح، تصدى له الهوى وزيّن لها الشهوة، وأمدها بها وثبطها عن إجابة العقل لطاعة الروح، فلما رأى الروح أن الهوى تغلب على ملكه حتى تخلفت النفس عن إجابة الطاعة ومالت إلى الشهوة التي زينها لها الهوى، أمر وزيره الذي هو العقل بقتال هذا المنازع الذي هو الهوى ثم ناداها الخليفة لطاعة العقل، فلم تجب فقال العقل أيها السلطان إن هذا الهوى قام في مقابلتك وعمل الحيلة في الاجتماع بهذه النفس، وما زال يستعطفها ويهاديها المشهيات حتى عشقته، ورسل الاماني وسفر الغرور لم تزل بالتأليف بينهما، فاستحكم الداء بها حتى صار عضالاً، ولا سيما وقد وضع عليها سبعة أقفال من الكبر والحرص والحسد والشهوة والغضب والبخل والحقد، وأسكنها دار الامل، وزخرف تلك الدار بزهرة حياة الدنيا، وجعل صاحب الباب إبليس يدخل عليها بزخارف الغرور والتلبيس، فما أدري ما الحيلة في استخلاصها من هذا الخارج عليك المتغلب على ملكك، فقال الروح للعقل: إمضِ إليه بجنود الالهامات النورانية الرحمانية، وليكن الشرع قائد تلك العساكر، فلما مضى العقل لقتال الهوى برز إليه الهوى بقائد الطبع، وجنود الالهامات الظلمانية الشهوانية، والملهم في كلا الامرين واحد، فلما التحم الحرب ما بين العقل والهوى، وحصل القتال، اضطر الروح إلى الله في الحال، وشكى إليه عجزه وذله وافتقاره، وطلب منه النصر على الهوى المنازع له والمتغلب على النفس التي هي ملكه حتى صارت أمارة بعد ما كانت مقدسة، فأرسل الحق لتلك النفس هواتف اللوم والعتاب تدعوها للمتاب، فحصل لها الندم والانتباه، وصارت تلوم نفسها قائلة- يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ- الزمر الاية 56، فلما ألهمها الحق تعالى تقواها وأبصرت أن الهوى هو الذي دساها، أقبلت على مولاها وقالت: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها إنك أنت وليها ومولاها. ثم التفتت إليها وعلمت أن سقط في يديها وقالت: ما كان الجاني عليّ سواي، فأنا عين هواي، فلا بد أن أجاهد نفسي بنفسي، لينجلي لي نوري القدسي، وروحي الانسي، فمن لم يجاهد لم يشاهد.
ومَنْ لمْ يجُد في حبلا نُعمى بنفسِه وانْ جادَ بالدنيا إليه انتَهى البُخل أما سمعت يا نفس قول الحق لابي يزيد: خل نفسك وتعال. فحين ما جازت العقبة وفكت الرقبة واذا بالنداء من حضرة الله العلية - يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً - الفجر: الايات 28،27، فبان لك أن الروح هو السالك تلك المذاهب حتى اختلفت عليه الاسماء والمراتب من نفس أمارة ولوامة وملهمة ومدساة ومزكاة ومطمئنة وراضية ومرضية. فما ثم إلا نقطة نورية تعينت في الحقيقة الانسانية اختلفت عليها الاسماء مع أحدية المسمى والحاصل: أن النفس عين الروح بالحقيقة وغيرها بالحكم، فما دام نظر اللطيفة الالهية المودعة في الانسان إلى الحضرات القدسية تسمى روحاً، وان توجهت للمقتضيات الشهوانية الكونية تسمى نفساً، فالفرق بين النفس والروح كالفرق بين العين والغين وبين الرحيم والرجيم، إنما هو النقطة، نقطة الكون على أنها بعينها نقطة الذات، فمن اقتحم العقبة وفك الرقبة وخلص من الورطة بمحو تلك النقطة فهو حقيقة العين المسمى بنقطة الغين، فلا فصل ولا بين، وذلك قول سيدي أحمد رضي الله عنه، واجمع بيني وبينه كما جمعت بين الروح والنفس ظاهراً وباطناً، يقظة ومناماً.
أذكار واوراد
شرح الصلاة العظيمية من كتاب النفحات الاقدسية في شرح الصلوات الاحمدية
للعارف بالله تعالى محمد بهاء الدين البيطار الشامى الميدانى
المتوفى 1314 هـ
قال رضي الله عنه (بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إني أسألك بنور وجه الله العظيم الذي ملأ أركان عرش العظيم)
قوله: (اللهم) يعني يا الله، ومراده سؤال الله تعالى من وجه الغيب الذاتي. وقوله: (إني أسألك بنور وجه الله) أي بنور وجه الله من حيث الظاهر، ولفظ الجلالة نائب عن كل اسم إلهي متجلي بوجه من الوجوه. فهذا السؤال سؤال الذات بنور وجه كل اسم إلهي ظهر شهادة بالمجالي الشهادية.
وإنما قلنا ذلك لان الذات لا تتقيّد بالوجه النوري من جهة إطلاقها، إذ النور والظلمة في حقها سواء وإنما لها النور من جهة المجلي، فكل مجلي وجه إلهي، ونور ذلك المجلى وجود الله المتجلي به، فبنور وجود الله ظهر وانكشف كل مجلي.
فأراد رضي الله عنه بوجه الله: جميع الأوجه التي قال الله في حقها - فَأَيْنَمَا تُوَلوا فَثَم وَجْهُ الله.- البَقَرَة أية 115 -
وفي حقيقة الامر هذه الوجوه ما هي وجوه الله من حيث الله بل من حيث الاسماء الخاصة، التي قام بها الاسم الجامع مقام كل واحد منها، وليس وجه الله من حيث الاسم إلا الانسان الكامل المطلق، وهو المظهر المحمدي الكمالي، وأكمل المظاهر المحمدية من تشرف برؤية الصحابة الكرام، فله الاصالة بإطلاق الاسم الجامع، فإن جعلنا الاضافة في قوله: بنور وجه الله، للاستغراق، أردنا كل وجه إلهي كما قال تعالى- فَأَيْنَمَا تُوَلوا فَثَم وَجْهُ اللهِ -البَقَرَة الاية115 - أي فثم اسم من أسماء هذا الجامع كالغني والرزاق والصبور والشكور، فقام الله مقامها لإندراجها به، وان جعلنا الاضافة تخصيصية أردنا بوجه الله نور وجه الانسان الكامل الذي هو الصورة المحمدية في كل زمان حسب استعداد ذلك الزمان، فليس الكامل الفرد في كل زمان إلامحمد صلى الله عليه وسلم، والكُمل في الحقيقة من قال عنهم الصديق رضي الله عنه:» ارقبوا محمداً في عترته. « قال سيدي علي وفا رضي الله عنه: أي اشهدوه بهم، فإن وجدتم منهم ما يشق عليكم، فسلموا وارضوا، كما لو جاءكم في ذلك منه مواجهة، تجدوا في أنفسكم حرجاً مما قضوا، وسلموا تسليماً، وان وجدتم منهم ما يعجبكم، فاشهدوه منه فيهم، كي لاتحجبوا عنه بهم وتحبونهم، دونه وتنسونه بذكرهم، فما هم في الحقيقة منه إلا كالبشر السوي من الروح المتمثل به، وهل الفرع في الحقيقة غير أصله فهم ثمراته فافهم. انتهى كلامه رضي الله عنه.
والمراد بفرعه صلى الله عليه وسلم كل كامل يشاهد: سلمان منا أهل البيت. فاسم محمد صلى الله عليه وسلم يطلق عند العارفين على كل أستاذ كامل متحقق بالروح المحمدية كمال التحقيق، كما سيأتي قول سيدي أحمد بن إدريس رضي الله عنه: (واجعله يا رب روحاً لذاتي من جميع الوجوه في الدنيا قبل الاخرة يا عظيم).
واذا كان روح ذاته من جميع الوجوه فهو عينه، ومن هذا المعنى قال سيدي علي وفا رضي الله عنه: إنما كان أستاذك أعلم بك منك لانه هو حقيقتك وأنت ظلمة. فافهم.
أقول ليس هذا الكل أستاذ بل الاستاذ الكامل الذي حاله مع النبي صلى الله عليه وسلم في الاتحاد كما قيل:» أنا من أهوى ومن أهوى أنا. « قال الشبلي لتلميذه: أتشهد أني محمد رسول الله، قال: نعم. والذي يقتضيه المشرب الاحمدي، أن المراد بوجه الله العظيم محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه وجه الله العظيم، الذي هو عين العيون الالهية، وسر قدس الذات الغيبية، لانه قرآن الاحدية الجامع، وشمس نور وجهه في كل سماء صورة طالع، فذلك النور هو الرافع للظلمات الكونية بجريان شمس حقيقية في قلب الافلاك الانسانية، إذ وجه الله العظيم صادق على المظاهر النورانية كما أنه صادق على المظاهر الظلمانية، فإن الله تعالى قال:- فَأَيْنَمَا تُوَلو فَثَم وَجْهُ اللهِ - البَقَرَة الاية 115.
والمسؤول به إنما هو نور الوجه العظيم لا حقيقة الوجه، لانه إذ تجلى نور الوجه الاحدي جاء الحق وزهق الباطل، فعظمته بسطوة وجودها تنسف جبال أوهام خيالات الصور العدمية الظلمانية، فتشرق أرض الاشباح بنور حقيقة الربوبية، فتكون كذاتها الوهمية قاع أحدية باستواء ضعف المراتب الاسمائية، فلا ترى من تجلي حقيقة الذات باستقامة الاحدية عوج الوهم، ولا أمت الكثرة المعقولة الحكم، فعلى هذا الوجه العظيم: هو المعنى المحمدي المتنزل من غيب الذات لشهادة صور الاسماء والصفات، ونوره: هو الوجود المتعين بصورة الشاهد والمشهود، فعظمته استغراقه سائر الاعيان، ونوره الحق يمحق من نظر العارف شهود الحدثان.
وأما قوله في حق (وجه الله العظيم الذي ملأ أركان عرش الله العظيم): فالذي وقع لي الالهام به أن المراد بعرش الله العظيم صورة الانسان الكامل الظاهرة، فإنها عرش ذات الله، فهي مستوى الذات ومنظر وجه محاسن الاسماء والصفات، وأركان هذا العرش الجوارح الانسانية وقواها الباطنة الروحانية، فإذا امتلأت أركان عرش الله العظيم بنور وجه الله العظيم، ظهر خليفة الله بسر مبايعة - يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - الفَتْح الاية10. وتنزل روح القدس في هيكل مجلاه بسر اندراج صورة شهادته بغيب معناه، وقد أزال تعالى الريب والاشتباه لقوله لذوي الانتباه - إن الذِينَ يُبَايِعُونَكَ ِإنمَا يُبَايِعُونَ اللهَ - الفَتْح الاية 10. فالمسؤول غيب الذات والمسؤول به نور وجه الله العظيم الذي له المبايعة بسبب تنزل الغيب من نقطة الذات لدائرة شهادته المحيطة بسائر الاسماء والصفات. فكأنه قال: اللهم إني أسألك بنور وجه محمد أن تصلي على مولانا محمد، ولو لم يكن المراد هكذا لقال: اللهم إني أسألك بنور وجهك العظيم، لان اللهم معناها يا الله، فلا يناسب أن يقال: يا الله أسألك بنور وجه الله، لان ذلك يوهم أن الاسم الا واقع على مسميين والمسؤول غير المسؤول به مع أن اسم الله هو لمعنى واحد - قُلْ هُوَ اللهُ أَحدٌ - الاخلاص الاية 1.
فحق الصفة أن تكون: اللهم إني أسألك بنور وجهك العظيم، لئلا يتعدد الله وهو لا يقبل العدد.
قد شافهني بعضهم بهذا الاشكال، فأجبته بما يناسب حاله من أن ذلك من قبيل الالتفات، كما تقول للسلطان وأنت تخاطبه: أمر مولانا السلطان مطاع، ولا تقول له أمرك مطاع، أدباً وتعظيماً إشارة إلى أنه لا كقوله حتى يخاطبه.
ومن تحقق ما شرحناه، رأى ما أبرزه سيدي أحمد رضي الله عنه في غاية وصف الحسن والجمال ونهاية الاستقامة والتحقيق والكمال، وقد وصف الوجه بالعظمة كما وصف العرش بالعظمة، إذ لا يناسب العظيم، إلا العظيم فعظيم المعنى لعظيم الصورة، فعظمة العرش بقدر عظمة المستوى عليه كان ما كان.
وخلاصة الامر أن لكل اسم وجهاً، وذلك الوجه هو وجه الله من حيث ذلك الاسم الخاص، وأما محمد صلى الله عليه وسلم بصورته ومعناه هو وجه الله من حيث اسم الله الجامع لجميع الاسماء والوجوه، فعظمة وجهه تندرج بها سائر العظمات، إذ لكل شيء في نفسه عظمة كما قال الله تعالى:- قَدْ جَعَلَ الله لكُل شَيْءٍ قَدْرًا -الطّلاَق الاية3 - والاسم العظيم يجوز أن يكون صفة لوجه الله أو للنور، والنور من أسمائه صلى الله عليه وسلم حتى صورته البشرية هي صورة فيما يبدو وفي حقيقة الامر هي نور محض، فما كان يظهر للناس منه إلا ما يشاكلهم، فهو مرآة لم يرد بها إلا أنفسهم، فالنور ملأ أركان ذاته التي هي عرش الله، لانها مجموع حقائق العالم، فهي عوالم الله جمعاً واجمالاً، وعوالم الله كلها تفصيل إجمالها وفرقان قرآنها، فالانسان الكامل هو العالم إجمالاً، والعالم هو تفصيلاً، فهو الواحد الجامع كثرة العدد، فباندراج الكثرة يسمى الواحد الاحد.
فلذلك قال رضي الله عنه: (وقامت به عوالم الله العظيم)
فالضمير من قوله به يجوز أن يكون عائداً لنور وجه الله، ويجوز أن يكون عائداً لعرش الله العظيم الذي هو صورة الانسان الكامل، لان الصورة تجمع العوالم كلها، فإنها نسخة الحق، إذ هي كالثمرة من الشجرة، وكما أن النواة أصل الشجرة كلها من فروع وأوراق وثمر ونوى، فهي جامعة الجميع، فكذلك الثمرة التي هي الفرع من النواة وضمنها ذلك الوصل الجامع الذي هو النواة، فالفرع جامع الجامع وزاد بظهور الصورة الثمرية الشهادية التي كانت منطوية في النواة مندرجة بها بطوناً، والمقصود من النواة والشجرة إنما هي الثمرة، فحيث اندرجت النواة في الثمرة التي هي الانسان الكامل فقامت به عوالم الله العظيم كما قيل:» وفيك يطوى ما انتشر من الاواني. «وكذا قولهم:» وتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الاكبر. «
فالنور المحمدي واحد، يتعدد بالمظاهر، فيكون اثنين وثلاثة وأربعة بحسب التنزلات وكمال الدائرة الوجودية، وكما أن الواحد افتتاح الاعداد، فهو أيضاً اختتامها، فيكون منتهى التنزلات وختام العوالم صورة آدم الذي هو الخليفة، وبانتهاء الدائرة وكمالها أولاً وآخراً وظهوراً وبطوناً كملت حقيقة الجميع لسائر الحقائق، أو كان الواحد بكونه دليلاً على نفسه أحداً مفرداً جامعاً للكل والكل منه واليه، فالاحد هو الواحد بدون ملاحظة المظاهر بل بملاحظة نور الاحد الظاهر، فهو الذي قامت به عوالم الله العظيم مع أن عظمته لا تترك معاها سواها - أَغيْرَ اللهِ تَدْعُ إنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - الانعَام: الاية 40.
فالصادق لا يدعو إلا الله وان دعى كل شيء، وأما غير الصادق فقد ألهاه التكاثر عن التوحيد فهو المشرك الذي أخبر عنه الصادق صلى الله عليه وسلم بقوله:» تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار «وعبد الدرهم والدينار من يكنزه حباً به ويشح به عن الانفاق في سبيل الله فهو مؤمن بالباطل وكافر بالله، قال تعالى- الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ - فصلت الاية 7.
الحاصل أن المراد بنور وجه الله العظيم، الذي ملا أركان عرش الله العظيم، وقامت به عوالم الله العظيم، النسخة الجامعة للاسماء القديمة القدسية، والصور المحدثة الكيانية، الرابطة لحقيقة الحادث والقديم ببرزخيتها، والمخلوق هو في أحسن تقويم من جهة كمال نشأة تلك النسخة الجامعة، فحقيقتها عين نور وجه الله العظيم، فانطبقت عليها الاسماء الالهية.
وصورتها مجموع صور الاكوان العلوية والسفلية، فهي عرش ذلك النور ومجلاه، وأركانها مملوءة بسناه، فقامت هذه النسخة الجامعة بالله الحي القيوم، فحياؤها وقيوميتها ذاتية، وقامت بها عوالم الله العظيم من حيث إنها حضرة الجمعية، ومن أراد تفصيل معاني الانسان الكامل، فعليه بالكتب المطولة في الحقائق وشرح ذلك يطول. ثم قال رضي الله عنه: (أن تصلي على مولانا محمد ذي القدر العظيم) سأل الله تعالى من حيث الكنه، باعتبار التجريد بنور وجهه الظاهر بأحدية التوحيد، أن يصلي على ذلك النور المسمى من حيث الشهادة بمحمد، فصلاته على محمد وصلة تمحو الصورة المحمدية بأنوار الذات الغيبية، فيظهر الحق بذاته لذاته ويكون اسم محمد واقعاً على حضرة الاطلاق، وهذا المعنى مرجع قوله تعالى- لَيْسَ لَكَ مِنَ الاَمْرِ شَيءٌ - آل عِمرَان الاية 128 - ومن هذا المقام قوله صلى الله عليه وسلم للاشعريين:» ما حملتكم ولكن الله حملكم. وقد كان صلى الله عليه وسلم أقسم أن لا يحملهم ثم حملهم فقالوا له: ألست قد آليت أن لا تحملنا فأجابهم بقوله:» ما حملتكم ولكن الله حملكم , فنفى عنه الحمل وأسنده إلى الله تعالى. وما روي من أنه كفر عن يمينه فهو تشريع للامة والا فصدقه صلى الله عليه وسلم في قوله:» ما حملتكم «يقتضي أن لا كفارة لان الحامل لهم هو الله وهو لا يسئل عما يفعل فإن تصرفه في ذلك المشهد تصرف الله تعالى بذاته لذاته في المظهر المسمى بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس له من أمر نفسه شيء، لان الله سمعه وبصره بل وهويته كما ورد في حديث:» فإذا أحببته كنت سمعه وبصره «إلى آخر الحديث. وحيث الامر كذلك فنفسه صلى الله عليه وسلم مضافة إلى الله تعالى بخلاف من اشترى منهم فأولئك مالكون، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو العبد المحض الذاتي، فهو منسوب لذات الله، وهذا المقام هو كنه الصلاة عليه، لان الصلاة وصلة خاصة تليق به صلى الله عليه وسلم، فيكون محمد صلى الله عليه وسلم بسبب ذلك التجلي قائماً بالحضرة الذاتية لا الحضرة الصورية وبذلك تنكشف عظمة قدره، فلذا وصفه سيدنا الاستاذ بقوله: ذي القدر العظيم، إذ قدره في هذا المقام قَدْر الله بعينه وقد قال تعالى- وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقلا قَدْرِهِ - الانعَام الاية91، فلم يعلم قدره من حيث تلك الحضرة الابدية كما قال صلى الله عليه وسلم:» لا يعرف حقيقتي غير ربي «فلا يسعه في هذا المقام إلا ربه لانه هو الظاهر المتجلي به حساً ومعنى، فافهم. ثم قال رضي الله عنه:
(وعلى آل نبي الله العظيم) اعلم، أعلمك الله من لدنه علماً وآتاك من فيض نوره إدراكاً وفهماً، أن الال معناه في لغة العرب السراب، ومعناه أيضاً الخاصة، والال هنا يقبل كلاً من المؤمنين، فإن آل نبي الله العظيم لما تجلت لهم عظمة نور نبي الله العظيم، فكشف لهم أن ذلك النور هو نور وجه الله العظيم المطلق، المتنزل من غيب اللاهوت في صور ناسوتهم المقيدة بأعيانهم، فهم هو، كانوا سراباً في عين وجودهم الذي منه كل شيء حي، فعظمة ذلك النور اضمحل بها وجود ما سواه، فكان الآل وهم الخاصة سراب العدم للمع بقيعة مرآة الوجود المطلق، فينكشف بتلك المرآة، فيحسبه ظمآن تجلي الحقيقة الوجودية ماء العين، حتى إذا جاءه ليأخذ منه شراب معرفة ذاته ونجى بمعاني أسمائه وصفاته لم يجده شيئاً لفناء سراب حكمه العدمي بشراب النور المطلق المحمدي، ووجد الله عنده ففنيَ السرابُ وبقي الشراب.
فآل محمد صلى الله عليه وسلم من هلك سراب حكم ناسوتهم في شراب لاهوته النوري فكان هو بهم لا هم فتجردوا عن نفوسهم وأدوا الامانة لاهلها فحققوا شهوداً وعياناً. قوله تعالى:
- النبِي أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ - الاحزَاب: الاية 6, إذ لم يكن الظاهر بهم سواه، كما أنه باطنهم فهو غيبهم وهم شهادته، فإذا رُؤوا رؤي صلى الله عليه وسلم لانهم سراب لا شيء حيث المطلق، الذي هو نور وجه الله العظيم، وحيث الامر كذلك إذ جاءهم ظمآن الحقيقة ومريد الطريقة، لم يجدهم شيئاً، ووجد الانسان الكامل صلى الله عليه وسلم ظاهراً بنور جماله وصفات جلاله وكماله، مشهوداً بأعيان حقائقهم البينة وصورهم الحكيمة، فكان هو الشيء ولا شيء منهم معه، فأخذ الشراب منه لا منهم، إذ هم سراب في عين وجوده، وهو الشراب بهم، لانه عين حياتهم وروح ذاتهم من جميع الوجوه، فأشباحهم به أرواح، وسرابهم شراب بعين حياته وصورهم أقداح، فهو كوثر وجودهم ونور هياكلهم المتجلي في مرائها بالظهور، ففي فيضان أسرارهم تشعشع أنوارهم هو المعطي الوهاب وساقي القوم بهم منهم رحيق الشراب، فآل محمد صلى الله عليه وسلم من هو صلى الله عليه وسلم موجوداً عندهم كما قال الصديق رضي الله عنه:» ارقبوا محمداً في عترته «فهم مجالي فنون كماله، وصور جماله وجلاله، ومظاهر علومه وأعماله، وملابس صفاته وأحواله، وكنوز أخلاقه ورموز إطلاقه.
وانما قال: (وعلى آل نبي الله) مع أن المقام تلذذ بتكرر ذكر الله من باب كَررْ ورَددْ ذكرَهُم في مسمعي، إذ المحب كما يلتذ بمشاهدة جمال المحبوب، كذلك يلتذ بتكرار اسمه المرغوب، ليلذ سمعه ما لذ لبصره، فأهل الله تعالى هم عن سماع ذكر ما سواه بكم عن النطق بدون أسمائه، عميٌ إلا عن مشاهدة محياه، فهم لا يرجعون من فناهم إلا لبقاء أموات به غير أحياء بهم وما يشعرون أيان يبعثون، لان الباعث لم يزل عين وجودهم، فدنياهم عين آخرتهم، فحياتهم موت وموتهم حياة، فهم الاحياء الاموات، والاموات الاحياء، الحاضرون في الغيبة والغائبون في الحضور، غرباء وان كانوا في الاوطان، فهم الخاصة جلساء الرحمن، قال تعالى- وَعِبَادُ الرحْمَنِ الذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَرْضِ هَوْناً وَاذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمً - وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا - الفُرقان الاية 63،64 - وعلامتهم أن القرآن خلفهم يرضون لرضاه ويغضبون لغضبه، فمن كان كذلك فهو من آل نبي الله العظيم يندرج معه في كل صلاة وتسليم.
ثم قال رضي الله عنه:
(بقدر عظمة ذات الله العظيم) اعلم، نور الله فؤادك ويسر بما يرضيه مرادك، أن كل صورة في الموجود إن اعتبرتها من جهة شكلها فهي حكم معقول، واذا اعتبرتها من حيث الحقيقة فهي ذات، وذات الله تعالى هي ذات الذوات، فإن ذات كل شيء ما به الشيء هو هو، كالانسان مثلاً ذاته الحي الناطق لانه لم يكن هو هو إلا بالحي الناطق. وأما ذات الذوات فالذات الجامعة لكل ذات، فكل ذات ما كانت ذاتاً إلا بذات الذوات، فهي الموصوفة بالعظمة، وحيث إن وصفها بالعظمة وصف لما اندرج بها فكل شيء من جهة ذاته عظيم، قال تعالى - فِطْرَةَ اللهِ التِي فَطَرَ الناسَ عَلَيْهَا - الروم الاية30، ففطرته عظيمة، فالمفطور على فطرته عظيم ولذلك وصف الاشياء بالعظمة حتى المذمومة، قال تعالى - قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ-الاعراف الاية 116 وقال- إن كَيْدَكُن عَظِيمٌ - يُوسُف: الاية 28،وقال- سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ- النور الاية 16.
ومن هذا المعنى استعظم إبليس اللعنة التي هي مقامه.
قال الغوث الجيلي رضي الله عنه في كتابه الانسان الكامل: «قيل إن إبليس لما لعن هاج وهام لشدة الفرح حتى ملا العالم بنفسه فقيل له: أتصنع هكذا وقد طردت من الحضرة، فقال: هي خلعة أفردني الحبيب بها لا يلبسها ملك مقرب ولا نبي مرسل. انتهى كلامه.
وانما قال خلعة لان لعنته تعالى عليه أثر اسم من أسمائه، فقد صار إبليس مظهر ذلك الاسم، ومنه استمد حتى أجاب الله سؤاله لما قال- قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ-الاعراف الايات 14 ـ15 - فلما علم اللعين أن إبعاده عين القرب ومنعه عين الاعطاء، أخذته العزة بالاثم لما شاهده منه، وعلم أن مجلاه في العزّة كما قال- يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ - فاطر الاية 15، فلذا أقسم وقال- فَبِعِزلاتِكَ لاُغْوِيَنهُمْ -ص الاية82 - والحقائق تقتضي أن أسماء الله تعالى كلها على التساوي في الحضرة الذاتية، فلم يفرق إبليس في تلك الحضرة ما بين القرب والبعد، لان القرب والبعد بحسب الاسماء، ونظره لعنه الله للكمال الذاتي لا الكمال الاسمائي، ولذلك لم يتأثر من اللعنة بل هو فرح بها، وذلك سر قوله تعالى-كُل حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ -المؤمنون: الاية53، فصح أن كل شيء وان كان هيناً فعند الله عظيم، قال تعالى- قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا - الطلاق الاية3 - وقدر كل شيء كونه مظهر الاسم الالهي في أي حال كان عليه ذلك الشيء، وهذا هو القدر المجعول لان الجاعل له هو الاسماء الظاهرة بأحكام معانيها في الاعيان القابلة لظهورها بها، وقدر المظهر من قدر الظاهر، فكانت فطرة الناس على فطرة الله، ولذلك كل مولود يولد على الفطرة.
واعلم أن القدر المجعول عرضي لان القابل يقبله كما يقبل غيره، فهو قدر اسمي لا ذاتي، وتجلي الاسماء يختلف كما قال تعالى- كُل يَوْم هُوَ فِي شَأْنٍ -الرحمن الاية 29 - فكذلك عظمة عرض بعرض يزول، وسبب ذلك اختلاف الاسماء المتجلية على القابل، فالعظمة الاسمائية تقبل الزوال كاسم السلطان واسم الوالي واسم الحاكم وأمثال ذلك، فقد يأتي الخادم ويقتل السيد فيزيل سلطنته وولايته أو حكمه. وأما قدر العظمة الذاتية فهو عبارة عن انفراد الحق تعالى بوجوده المطلق، ومعاني أسمائه الظاهرة في الوجود بلا مشاركة في شيء منها البتة، فهذه العظمة لا تزول لانها الحقيقة القيومية التي قامت بها جميع المعاني والصور فهي الدهر الوجودي ذو القوة المتين التي لا ضعف له ولا زوال ولا انقطاع، فله - فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ - الروم الاية 4 - و- هُوَ الاَولُ وَالاخِرُ وَالظاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُل شَيْءٍ عَليمٌ- الحَديد: الاية 3 -
فلذا عدل سيدنا الاستاذ قدس الله سرّه إلى قوله: (بقدر عظمة ذات الله العظيم) فعظمة الذات ذاتيتها بلا زيادة إذ ليس معها من يعظمها، فعظمتها وجودها بذاتها لذاتها، وهذه العظمة لا تتغير ولا تختلف لانها ليست تحت حكم الاحكام، فليس معها حاكم ولا محكوم ولا حكم، بل الامر هويته المطلقة بلا تعين باسم هويته، قال الله تعالى: سُبْحَانَ رَبكَ رَب الْعِزةِ عَما يَصِفُونَ - الصافات الاية180 - فالذات المنزّهة سبحان من وراء اسم العزة فلا توصف، وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن التفكر في ذات الله، فالكلام في الذات حرام قطعاً والمتكلم في الذات جاهل عاصي لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الله عز وجل- لاَ تُدْرِكُهُ الاَبْصَارُ- الانعَام الاية 103، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» نورٌ أنّى أراه «فمن هذا الوجه صح كلام المعتزلة في أن الله لا يُرى، لانه كما هو الظاهر بنا هو الباطن بنا، والعبد لا يحيط علماً بباطنه، إذ كل ما تجلى له من باطنه وانتقل من اسم الغيب إلى الشهادة، فقد انتقل اسمه إلى الظاهر، فلا بد أن يكون لهذا الظاهر باطن، لان اسم الباطن لا يزول فنرى ربنا كما نرى القمر ليلة البدر والشمس بالظهيرة ليس دونها سحاب، مع أننا ما رأيناه لاننا ما نرى منه إلا صور باطننا ولا نحيط بباطننا، فلا يزال العارف متعطشاً للغيب لا يرتوي مع أنه عالم بأنه ما ابتلي بسوى ذاته، ولا يُجزى إلا بوصفه، فكل ما يشاهده من الاسماء والصفات فلا يشهده إلا منه، ولا يزال العارف غيباً على نفسه مهما رأى نفسه، قال تعالى لموسى عليه السلام- لَنْ تَرَانِي - الاعرَاف الاية143. قال سيدي علي وفا: أي لن تراني مع أنك تراني، أي لن تراني من حيث الاسماء. ولذا قال سيدنا الشيخ الاكبر قدس الله سرّه: وليس تُنال الذات في غير مظهر ولو هلك الانسان من شدة الحرص.
واعلم رحمك الله أن من تحقق بالتجلي الذاتي في نفسه، انكشف له منه عظمة ذات الله العظيم، وكان ياقوتاً أحمر لا يفرح بما هو آت ولا يحزن على ما فات، فلا تؤثر فيه العوارض. قال أبو يزيد قدس سرّه: ضحكت زماناً وبكيت زماناً، وأنا اليوم لا أضحك ولا أبكي، لانه متحقق بذاته لا من حيث اسم خاص يدخل تحت حكمه، بل صاحب هذا المشهد هو الحاكم بالاسماء والمحكوم عليه بها، فلا يرى الامر إلا منه واليه صلى الله عليه وسلم فلما لم يكن سواه قال- كَانَ عَلَى رَبكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا - مريَم الاية71.
فقضى على نفسه لاحدية نفسه. ولا تؤثر العوارض بذاته بل العوارض من اختلاف الصور، ألا ترى أن الطعام لما اختلفت عليه الصورة بالخروج اختلف عليه الحكم، وزالت عظمته التي كنت تحترمه بها، فإنه لما كان خبزاً كنت تقبله تعظيماً وتحترمه، فلما دخل المعدة وخرج صرت تستقذره ذاتاً لا حكماً وصورة، وكلا الصورتين شأن للذات التي قامت بها صورة الخبز، ثم استحالت تلك الصورة إلى صورة تستقذرها، فالذي استحال منياً، فإذا حل القرار المكين استحال دماً، ثم علقة، ثم مضغة، ثم كون إنساناً، والصورة الانسانية أكمل الصور، ثم يستحيل الانسان تراباً، فقد كان الانسان يسمى طعاماً، ثم سمي منياً، ثم دماً، ثم علقة، وهكذا، ففي كل صورة يحدث به اسم خاص بتلك الصورة، فاختلفت عليه الاسماء والصور والحقيقة واحدة، فمن حقق أنه تلك الكثرة فتسمى بالاسماء المختلفة وهو واحد في ذاته، فاستوى في الكمال الذاتي أسعد خلق الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم وأشقى خلق الله وهو إبليس لعنه الله إذ العين واحدة، فإن الله تعالى خلق النفس المحمدية من ذاته وذاته جامعة للضدين، فعالم النور والهدى وهم الملائكة العالون من نفس محمد صلى الله عليه وسلم ولكن من حيث صفات الجمال، وابليس وأتباعه من النفس المحمدية، ولكن من حيث صفات الجلال المقتضية للضلال، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو الاسم الهادي صورة واللعين هو الاسم المضل صورة، وكلا الاسمين الهادي والمضل لذات واحدة. قال تعالى- وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ - القمر الاية50 - فمن شاهد عظمة ذات الله العظيم فقد صلى على نبي الله العظيم ذي القدر العظيم، الظاهر من حيث النفس المحمدية بصورة كل شيء، هو من حيث تلك النفس المحمدية أعظم، وتلك النفس المحمدية عظمتها بسبب صلاة الوصلة الذاتية من الله
العظيم، فليس في الوجود إلا العظيم، فدامت الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم بدوام الله العظيم، فافهم ذلك.
- ذَلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ- الجُمُعَة الاية4 -
ثم قال سيدنا الاستاذ قدس سرّه:
(في كل لمحة ونفس عدد ما في علم الله العظيم)
المراد باللمح لمح البصر الحق، وبالنفَس النفَس الرحماني. وقوله: (عدد ما في علم الله العظيم) تنزل من الاطلاق الغيبي الذاتي لعالم الكثرة الذي هو المعلومات الصورية والمعاني الحكمية. أراد رضي الله عنه أن تكون الصلاة على نبي الله العظيم وعلى آل نبي الله العظيم بقدر عظمة ذات الله العظيم، من حيث الاجمال والتفصيل في كل لمحة ربانية ونفس من الانفاس الرحمانية، المندرج جميع ذلك في حضرة علم الله، وعظمة العلم عدم التناهي فيه.
ثم أكد ذلك بقوله: (صلاة دائمة بدوام الله العظيم)
يعني حتى ينطبق دوام الله العظيم على ذات محمد صلى الله عليه وسلم إذ بسبب صلاة الله عليه انجلت أحدية العين، فانمحت نقطة الغين عن البين.
ثم قال الله عنه: (تعظيماً لحقك) يعني أطلب من الله الصلاة عليك تعظيماً لحقك، أي لما يجب لك علي من الحق،
فيكون ذلك من قبيل الشكر له صلى الله عليه وسلم لما أسدى إلينا من النصيحة والهداية والارشاد. والمراد بحقه ما هو أهل له من الاستحقاق الذاتي للكمالات الذاتية كما قال تعالى -وَان لَكَ لاَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ- القَلَم: الاية 3.
أي لم يرد على شهادتك الصورية أجراً إلا من حقيقتك الغيبية، ومن شهد تلك الحقيقة في نفسه فأجره غير ممنون. قال تعالى:
-إلا الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ- الانشقاق: الاية 25. ثم إن الاستاذ قدس الله نفسه وجه وجهه للحضرة المحمدية فقال:
(يا مولانا يا محمد يا ذا الخلق العظيم).
اعلم أن المولى يطلق على السيد وعلى الخادم، وقد قال صلى الله عليه وسلم:» خادم القوم سيدهم «وانما كان سيدهم لقيامه بمصالحهم وقضاء حوائجهم وليس السيد إلا من خدم لوجه الله، والا كان أسيراً لا سيداً. وقوله: (يا محمد) أي يا من تؤول المحامد إليه، وهذا اسمه الكريم الذي سمته به والدته السيدة آمنة قدس الله سرها وله صلى الله عليه وسلم أسماء لا تحصى، فإن الله تعالى سماه الرؤوف الرحيم، وسماه طه، وسماه يس. وقيل: من أسمائه الحروف المفتتح بها سور القرآن مثل (الم) و (حم) و (ق) و صلى الله عليه وسلم و (نون) وعند أهل الحقائق هو حقيقة العالم، فأسماء العالم بأسره أسمائه، وأوصاف العالم أوصافه، ومن كان هذا المشهد مشهده يرى العالم كله جميلاً لسريان النور المحمدي فيه كما قيل: هذا الوجود جميعه إشراقكم.
وقوله: (يا ذا الخلق العظيم) هو النداء الثالث، فقد ناداه ثلاثاً، النداء الاول: يا مولانا أي يا سيدنا وناصرنا وحبيبنا، والنداء الثاني: يا محمد أي يا من بيده لواء الحمد، فالمحامد منه وترجع إليه. والنداء الثالث: يا ذا الخلق العظيم وخلقه هو القرآن من القرء وهو الجمع، فأحاط بكل شيء وأحصى كل شيء عدداً، وأكمل النداء بالثلاث، وقد ورد أن من قال: يا أرحم الراحمين ثلاثاً قال له أرحم الراحمين: لبيك، وقضى حاجته حسبما يختاره له. واعلم رحمك الله أن الله استعظم خُلُقَ محمد صلى الله عليه وسلم لان أخلاق الله ظاهرة فيه بأعلى طبقات الكمال، فهو مجلى اسم الله الكامل في كل شيء، فلا أكمل من الله ولكن من حيث ظهوره بهذا المجلى الكامل، فالله تعالى ما تسمى بأرحم الراحمين وخير الغافرين والاجود والاكرم والاعلى إلامن حيث المجلى المحمدي، فهو حبيب الله الذي ظهر به جمال الله، فكان زينة الله التي أخرج لعباده من كنز ذاته المخفي، فأحب أن يعرف به، فلذا أقسم بحياته لا بذاته، لان الله تعالى لا ينهى عن الشرك ويفعله، فلو لم تكن حياته عين الحياة الالهية ما صح قوله تعالى- وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ِإلا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ- الانبيَاء: الاية107 - فبه كان تعالى رحماناً رحيماً، إذ المعاني كلها كالرحمة والحنان والعطف وأمثالها لا يظهر لها وجود إلا من قيامها بالصور، فقامت هذه الاسماء بالصورة المحمدية في أعلى طبقات الكمال، فلذلك كانت العظمة الالهية الدال عليها اسم الا العظيم صفة خُلُقِه صلى الله عليه وسلم، فمن أحب الكمال فليتخلق بالخُلُق المحمدي، لانهم قالوا: من زاد عليك بالخلق زاد عليك بالتصوف، ومن لم يتحل بالاخلاق المحمدية فليس له نصيب في الزينة الالهية التي دل عليها الاسم الله، فهذا الاسم هو زينة السيد الكامل، فالاضافة للبيان في قوله: زينة الله، أي زينته هي الله فافهم.
ولما كان صلى الله عليه وسلم أكمل مجالي أخلاق الله كان خاتم المبعوث لتتميم مكارم الاخلاق، قال صلى الله عليه وسلم:» بعثت لاتمم مكارم الاخلاق «ومكارم الاخلاق على نوعين، منها ما هو جبلي في الذات، ومنها ما هو مكتسب بالاعمال الصالحة والذكر ومعاشرة السادات الصوفية، فالجبلي لا يختص بأهل الايمان بل قد يكون بعض مكارم الاخلاق في جميع الملل، وأما المكتسب فهو ما أمرنا به صلى الله عليه وسلم من التخلق بأخلاق الله وأكملها الخلق العظيم الذي كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم ما يروى أن جبريل عليه السلام أتى إليه صلى الله عليه وسلم فقال:» يا محمد أتيتك بمكارم الاخلاق كلها في الدنيا والاخرة، فقال صلى الله عليه وسلم: وما هي، فقال-خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلينَ - الاعرَاف: الاية 199وهو يا محمد عفوك عمن ظلمك، لاواعطاء من حرمك، وصلة من قطعك، لاواحسانك إلى من أساء إليك، واستغفارك لمن اغتابك، ونصحك لمن غشك، وحلمك عمن أغضبك. فهذه الخصال قد تضمنت مكارم الاخلاق في الدنيا والاخرة.
ومن مكارم أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يفاجىء أحداً بما يكره، قال أنس بن مالك رضي الله عنه: خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله لمَ لمْ تفعله.
واعلم رحمك الله أن الفرق ما بين العُباد والصوفية مكارم الاخلاق، قال بعض العباد لابي يزيد البسطامي قدس الله سرّه: إني أصوم كما تصوم وأقوم كما تقوم ولا أعلم ما تنطق به من هذه العلوم، فقال له أبو يزيد: إني أدبت نفسي وأنت ما أدبت نفسك، فنفسك هي التي حجبتك لانها تتشبه بالموالي تكبراً ورئاسة، فقال: ليس عندي كبر، قال أبو يزيد: عندنا لك المحك نحكك به، قال: هات، قال: قم فاحلق رأسك ولحيتك وضع في عنقك مخلاة واملاها جوزاً واجمع الصبيان عليك، وكل من صفعك منهم صفعة على عنقك فأعطه جوزة، وليكن ذلك بحضور من يعظمك ويعتبرك، فإن كانت نفسك تقبل ذلك فلا حجاب لك عن مثل علومي، فقال له: إن نفسي لا تطيق ذلك، قال أبو يزيد: أما قلت لك نفسك هي التي حجبتك. أقول: لا يجوز بسالك الطريق أن يفعل مثل ذلك إلا بأمر خاص من الاستاذ الكامل الذي هو مثل أبي يزيد رضي الله عنه، ولو فعله الانسان من نفسه بلا أمر من الاستاذ فهو كمن اتخذ إلهه هواه، ولقد شاهدت من يعصي الله تعالى ويزعم أنه يسقط بذلك منزلته عند الناس، وهذا من أعظم الجهل المركب، فإنه جاهل ولا يدري أنه جاهل، ومن يأمره بذلك فهو أجهل منه. نعم إن للانسان أن يسقط منزلته بفعل سنّة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُرِكَت كصبغ لحيته بالحناء، وأما قول الفقهاء في مثل ذلك بترك السنة إذا صارت شعار أهل البدعة فهو غلط عظيم، وحينئذ ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: من أحيا سنتي فقد أحياني. ومن السنن المحمدية، خصف النعل، ورقع الثوب، ومشي الحفا، ولعق الاناء، واعانة الاهل في الطحن وغيره، ونفوسنا الجبارة يثقل عليها جميع ذلك فينبغي أن تعالج لئلا تنفر من سنّة فعلها السيد الاعظم صلى الله عليه وسلم - وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ - الاحزاب: الاية 4
ثم قال سيدنا قدس الله سرّه: (وسلم عليه وعلى آله مثل ذلك)
يعني سلم عليه وعلى آله بقدر عظمة ذات الله العظيم في كل لمحة ونفس عدد ما في علم الله العظيم، سلاماً دائماً بدوام الله العظيم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: اللهم أنت السلام ومنك السلام واليك يرجع السلام. فأفادت هذه النجوى المحمدية أن الامر منه واليه لان وجود الله سالم مما سواه ولا يعرف ذلك إلا أرباب الجمع الذاتي. ولذا قال سيدنا رضوان الله عليه:
(واجمع بيني وبينه كما جمعت بين الروح والنفس ظاهراً وباطناً يقظة ومناماً) أراد رضي الله عنه مشهد الاتحاد فيرى المعنى المحمدي ظاهراً في ذاته وأعماله وأحواله وأقواله، وباطناً من جهة التحقق السري والوجدان القلبي يقظة في الحضرة الحسية ومناماً في الحضرة البرزخية، وفي هذا المعنى قال الحلاج رضي الله عنه: مازجت روحك روحي في دنوي وبعادي، فأنا أنت كما أنك روحي وفؤادي. سر القدس في معنى الروح والنفس، قال صلى الله عليه وسلم: من عرف نفسه عرف ربه.
اعلم أن الروح والنفس اسمان لحقيقة واحدة، اختلف الاسم عليها بالحكم والاعتبار، وتلك الحقيقة الواحدة هي اللطيفة الغيبية الالهية المستوية على عرش المملكة الانسانية، فهي خليفة الله في الارض البدنية، غاية الامر أن تلك اللطيفة إن تعلقت بأمر كوني سواء كان محموداً أو مذموماً سميت عند الصوفية نفساً باعتبار المتعلق، فالتعلق بالامر الكوني عندهم منها ِلنَفْس، سواء تعلق الشخص بالدنيا أو بالاخرة ولذلك قالوا: إن أردت السلامة فسلم على الدنيا، وان أردت الكرامة فكبر على الاخرة، وان تعلقت تلك اللطيفة بوجه ربها الاعلى باعتبار الحظوظ المحمودة أو المذمومة سميت روحاً، قال تعالى- وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروحِ قُلِ الروحُ مِنْ أَمْرِ رَبي - الاسرَاء الاية85. والاضافة بيانية، يعني مِنْ أمرٍ هُوَ ربي لان أمر الرب عينه، فلا يشرك في حكمه أحداً، ثم إنهم قالوا: للانسان ثلاثة نفوس: نفس نباتية يشترك بها مع الجمادات، ونفس حيوانية يشترك بها مع البهائم، ونفس ناطقة يتميز بها في الملكوت الاعلى مع الملائكة. فإن كانت النفس الناطقة وجهتها لمشاهدة الملا الاعلى ونتائج الاعمال الصالحة فهي النفس المطمئنة، فيقال لها- ارْجِعِي ِإلَى رَبكِ- الفَجر الاية28. وان كان وجهتها إلى الرب ورجعت إليه بالتحقق والمشاهدة العينية، فهي الروح التي هي سر الربوبية وهو الخليفة المجعول في الارض البدنية، فمن عرف نفسه عرف ربه، أي وجه ربه الظاهر في حقيقة نفسه فافهم. واعلم رحمك الا أنه لما كان العالم أعلاه وأسفله محصياً في المملكة الانسانية كما قال تعالى- اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ - يس: الاية 21. وقال- مَا فَرطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ - الانعَام: الاية 38.جعل الخليفة الذي هو الروح في تلك المملكة العظيمة التي هي الارض البدنية مدينة صورية قامت من أربعة أعمدة هي العناصر الاربعة التي هي مظاهر الاربعة، الحياة والعلم والارادة والقدرة، لتسكنها رعيته وأرباب دولته، ثم عيّن للخليفة من هذه المدينة موضعاً خاصاً سماه القلب، فكان عرشاً لاستواء هذا الروح الاعظم، وان كان نوره عاماً في سائر المملكة إلا أن القمر الروحي قدرت منازله في هذا العرش القلبي، فإن غيب الخليفة الذي هو الرب المطلق بقوله: ما وسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي. ثم إن هذا المكان لهو السر الذي هو الخليفة المتوجه عليه خطاب مستخلفه بالامر والنهي إذا صلح صلحت الرعية، واذا فسد فسدت الرعية، لانه مظهر الروح الظاهر، فينسب الصلاح والفساد إليه، وفي حقيقة الامر كما تكونوا يولى عليكم، إذ لون الماء لون إنائه.
والحاصل: أن الصلاح والفساد لا يكون من الروح فقط ولا من الجسد فقط، ولكن ما بدا الامر إلا من معنى وصورة وسلطان ورعية، فكما أنه بصلاح المَلك تصلح الرعية كذلك بصلاح الرعية، يصلح الملك، ويرجع الامر للشأن الذاتي والاستعداد الثبوتي الغير المجهول، فلا يظهر في الوجود إلا ما كان في الثبوت، قال تعالى- وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ- الانعَام الاية 117.أي ثبوتاً قبل الوجود، ثم لما كان الانسان مندرجاً في سائر طبقات العالم قبل ظهوره، ثم بعد ظهوره اندرجت سائر طبقات العالم فيه، وطابقت نسخة الصغرى جميع العالم الكبرى، وزاد على ذلك بالصورة الالهية التي هي مفطور عليها القائم بظهورها، المنوع بحسب اختلاف الاسماء والصفات، القائم بمنشورها الخليفة، وما تقتضيه من أوامر ونواهي ووعد ووعيد في حق من أطاع ومن عصى، فأنجز الامر في هذه المملكة الانسانية لوزير وقاضي وكاتب وعمّال وقابض خراج وجبايات.
ولما كانت الاسماء الالهية الظاهرة في المملكة الانسانية مختلفة المعاني، اختلفت الاثار في تلك المملكة، فحصل التقابل والنزاع في ظهور الاثار الراجع ذلك لتقابل الاسماء، إذ المعطي ضد المانع والضار ضد النافع، فحصلت في تلك المملكة الاعداء، إذ أصلها من نطفة أمشاج أي مختلطة لالوان الطباع والعناصر، فحكمت تلك الحقائق على الخليفة بأن يمدها على اختلافها وتباين أغراضها، فبقي اسم الروح على مقتضيات الحقائق القدسية، واللطائف النورانية، وكان العقل هو الوزير لهذا المعنى، وسمى وجه الروح المساعد للمقتضيات الطبيعية والشهوات الجسمانية بالنفس، وكان الوزير لهذا المعنى هو الهوى، فإن هذا المعنى النفسي للمعنى الروحي بمنزلة حواء من آدم على صورته، ثم إن الروح الذي هو الخليفة دعا هذا النفس إلى طاعة مستخلفه، وهو الا الملك الحق المبين، وعرض عليها منثور أوامره ونواهيه لتقدس لها وتعود لموطنها الاول، إذ حب الوطن من الايمان، وقد قال تعالى - وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا -الشّمس الايات 10،7. فأرسل لها الخليفة وزيره وهو العقل، وقال: ادع النفس إلى الطاعة وأخبرها بالجزاء والمثوبة، وحذرها من المعصية واخبرها بالعقوبة، فلما دعاها العقل لطاعة الروح، تصدى له الهوى وزيّن لها الشهوة، وأمدها بها وثبطها عن إجابة العقل لطاعة الروح، فلما رأى الروح أن الهوى تغلب على ملكه حتى تخلفت النفس عن إجابة الطاعة ومالت إلى الشهوة التي زينها لها الهوى، أمر وزيره الذي هو العقل بقتال هذا المنازع الذي هو الهوى ثم ناداها الخليفة لطاعة العقل، فلم تجب فقال العقل أيها السلطان إن هذا الهوى قام في مقابلتك وعمل الحيلة في الاجتماع بهذه النفس، وما زال يستعطفها ويهاديها المشهيات حتى عشقته، ورسل الاماني وسفر الغرور لم تزل بالتأليف بينهما، فاستحكم الداء بها حتى صار عضالاً، ولا سيما وقد وضع عليها سبعة أقفال من الكبر والحرص والحسد والشهوة والغضب والبخل والحقد، وأسكنها دار الامل، وزخرف تلك الدار بزهرة حياة الدنيا، وجعل صاحب الباب إبليس يدخل عليها بزخارف الغرور والتلبيس، فما أدري ما الحيلة في استخلاصها من هذا الخارج عليك المتغلب على ملكك، فقال الروح للعقل: إمضِ إليه بجنود الالهامات النورانية الرحمانية، وليكن الشرع قائد تلك العساكر، فلما مضى العقل لقتال الهوى برز إليه الهوى بقائد الطبع، وجنود الالهامات الظلمانية الشهوانية، والملهم في كلا الامرين واحد، فلما التحم الحرب ما بين العقل والهوى، وحصل القتال، اضطر الروح إلى الله في الحال، وشكى إليه عجزه وذله وافتقاره، وطلب منه النصر على الهوى المنازع له والمتغلب على النفس التي هي ملكه حتى صارت أمارة بعد ما كانت مقدسة، فأرسل الحق لتلك النفس هواتف اللوم والعتاب تدعوها للمتاب، فحصل لها الندم والانتباه، وصارت تلوم نفسها قائلة- يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ- الزمر الاية 56، فلما ألهمها الحق تعالى تقواها وأبصرت أن الهوى هو الذي دساها، أقبلت على مولاها وقالت: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها إنك أنت وليها ومولاها. ثم التفتت إليها وعلمت أن سقط في يديها وقالت: ما كان الجاني عليّ سواي، فأنا عين هواي، فلا بد أن أجاهد نفسي بنفسي، لينجلي لي نوري القدسي، وروحي الانسي، فمن لم يجاهد لم يشاهد.
ومَنْ لمْ يجُد في حبلا نُعمى بنفسِه وانْ جادَ بالدنيا إليه انتَهى البُخل أما سمعت يا نفس قول الحق لابي يزيد: خل نفسك وتعال. فحين ما جازت العقبة وفكت الرقبة واذا بالنداء من حضرة الله العلية - يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً - الفجر: الايات 28،27، فبان لك أن الروح هو السالك تلك المذاهب حتى اختلفت عليه الاسماء والمراتب من نفس أمارة ولوامة وملهمة ومدساة ومزكاة ومطمئنة وراضية ومرضية. فما ثم إلا نقطة نورية تعينت في الحقيقة الانسانية اختلفت عليها الاسماء مع أحدية المسمى والحاصل: أن النفس عين الروح بالحقيقة وغيرها بالحكم، فما دام نظر اللطيفة الالهية المودعة في الانسان إلى الحضرات القدسية تسمى روحاً، وان توجهت للمقتضيات الشهوانية الكونية تسمى نفساً، فالفرق بين النفس والروح كالفرق بين العين والغين وبين الرحيم والرجيم، إنما هو النقطة، نقطة الكون على أنها بعينها نقطة الذات، فمن اقتحم العقبة وفك الرقبة وخلص من الورطة بمحو تلك النقطة فهو حقيقة العين المسمى بنقطة الغين، فلا فصل ولا بين، وذلك قول سيدي أحمد رضي الله عنه، واجمع بيني وبينه كما جمعت بين الروح والنفس ظاهراً وباطناً، يقظة ومناماً.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin