هذا كتاب صغير الجرم، عظيم الفائدة للختم الأكبر الشيخ أبي الفيض محمد بن عبد الكبير الكتاني قدس سره، بعنوان "الرقائق الغزْلية في شرح الصلاة الأنموذجية"، يعني صلاته التي نصها:
"اللهم صل على سيدنا ومولانا أحمد الذي جعلت اسمه متحدا باسمك ونعتك، وصورة هيكله الجسماني على صورة أنموذُج حقيقة خلَق الله سيدنا آدم على صورته، وفجرْت عنصر موضوع مادة محموله من أنِيَة أنا الله، بل حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده وآله وصحبه وسلم"..
بسم اللـه الرحمن الرحيم وصلى اللـه على قطب المنازل وآلـه وصحبه وسلم
كتاب الرقائق الغزلية في شرح الصلاة الأنموذجية
الحمد لمن أفاض مناهل أشعة الأنس وناموس همس التلقيات على أرجاء رياض الـهياكل. وأرسل عساكر جند نواسيت التعددات في لوح تقادير المنازل. فجعلـها موشحة بتضاد القبضتين. ومؤتزرة بمقتضيات الإسمين. سيدنا ومولانا محمد يعسوب التكثرات الحرفية. وأس الانتشارات الظلمانية والنورانية، الشمسية والقمرية، السعدية والنحسية. فالكل جزء من كليات كلياته، ونعت من نعوت شمول إطلاقاته، ونجوم سماء ذاته الروحية والعنصرية، وخُلافه الناهجين نهج ما لـه من الكمالات الإطلاقية.
أما بعد.
فهذه بحول اللـه تعالى وقوته توشيحات فيضية، وطلاسم أحمدية، ورقائق غزلية، أبداها عبيد ربه وأسير ذنبه محمد بن عبد الكبير الأحمدي الإبراهيمي الصديقي الأويسي الكتاني غفر اللـه ذنبه وستر عيبه في فتك أزرار رموز هذه الصلاة الأنموذجية. ولنقدم من فيض اللـه تعالى مقدمة: اعلم أولا أن الحق تعالى ما أبرز هذه الأثرات الكيانية من حيث هي، أعني بحسب التبع، إلا لمعرفة مزاياه صلى اللـه عليه وسلم ومفاخره وخصيصاته، ويرشدك لـهذا حديث سيدنا سلمان رضي اللـه عنه عند ابن عساكر: جاء سيدنا جبريل إلى النبي صلى اللـه عليه وسلم فقال إن اللـه يقول لك إن كنت اتخذت ابراهيم خليلا فقد اتخذتك حبيبا وما خلقت خلقا أكرم علي منك ولقد خلقت الدنيا وأهلـها لاعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي. وإذا كان كذلك: فتصرف الأعمار والقوى في التهتك في ما لـه صلى اللـه عليه وسلم وذكر شئونه ونعوته وكمالاته، أعني بحسب الإجمال، وإلا فتفصيلُ ما لـه صلى اللـه عليه وسلم من المقتضيات على سبيل الكنه لا سبيل لإدراك ما ذكر، وهذا أمر عندنا عام في عالم الشهادة وعالم الغيب وعالم البرزخ وعالم القرار، لأن وصف العارف من وصف معروفه فقد تخلق صلى اللـه عليه وسلم بالأسماء الإلـهية الذاتية ومن جملة الأسماء اسم الـهوية فتخلق به صلى اللـه عليه وسلم ومن يوم انبسطت عليه أشعة مقتضى هذا الاسم وهو صلى اللـه عليه وسلم مجهول عند جميع العوالم فلم يدرك لـه قرار ولا حد و لا مطلع. فكما أن الجناب الأقدس جل جلالـه مجهول لا يعرف {وما قدروا اللـه حق قدره} كذلك مظهره صلى اللـه عليه وسلم الذي هو العالم الكبير هيولى سائر المواد الكلية والجزئية البسيطة والمركبة، فكل العالمين من العرش إلى الفرش كلـه عالم صغير بالنسبة لـه فما العوالم كلـها إلا قائمة من قوائم عرشه المحيط صلى اللـه عليه وسلم، وما ذلك إلا لأنه سُقِي من جميع الأسماء الذاتية، ولما سقي منها صار ذاتيا وغيره من ساداتنا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام صفاتيون بالنسبة إليه ومن هذا المعنى انتفت عنه البقية رأسا فلم تؤثر فيه مقتضيات العناصر التي ركب منها الـهيكل الإنساني، لأجل هذا كان لا يُرى لـه صلى اللـه عليه وسلم ظل إذا مشى فكأن روحا ساذجا تمثل بصورة البشرية كما هو مشاهد لدى المحقق. وهذا عندي معنى قولـه كما رويناه في البخاري: إني لست كهيئتكم، ومعنى قولـه أيضا: إني لأراكم من خلفي كما أراكم من أمامي، فليست لـه أعين وراءه كما يقول ساداتنا أهل الحديث بل المراد أنه لما انتفت عنه بقايا مقتضيات الطبائع والأخلاط والعناصر صار روحا صرفا تشكل بشكل الـهيكل ومن ها هنا كان يرى من الجهات لأن الروح لا يحجبها شيء. هذا مراده صلى اللـه عليه وسلم على سبيل الخوض في باطنه لا على سبيل الفكر والتخمين والظن {وكل حزب بما لديهم فرحون}، ومن هاهنا أيضا صحت لـه الرؤية الساذجة الصرفة: أعني أحدية الكل الجمعي بدون حجاب التعينات وبما تقدم تعلم أن قول المديح :
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
في عهدته لأنا إن قلنا مفهوم الدنيا الآخرة أفاد أن في الآخرة تدرك وهذا عندنا لا يمكن إذ لو بدت ذرة من جوهرة حقيقة أحمدية كنهه في الآخرة لتلاشت لـها الجنة ولم يبق لـها رسم ولا طلل لأنه صلى اللـه عليه وسلم النسخة الذاتية، فلون الماء لون إنائه، وإن قلنا لا مفهوم للدنيا يعني وكذلك الآخرة عكر عليه قولـه: قوم نيام، لأن الناس إذا ماتوا انتبهوا كما ورد وهذا وإن لم ينبه عليه أحد فدونك هذا التحقيق، وكم ترك الأول للآخر، فكان عليه أن يقول وكيف يدرك في الأخرى حقيقته والناس نيام بحسب هذا الإدراك، ولما كان صلى اللـه عليه وسلم بهذه المثابة أطلقنا الألسن بالثناء عليه كل على قدر القابلية المبسوط عليه شعاعها من أم الكتاب وسرادق الوحدات فمن ذلك قولنا هذه الصلاة الأنموذجية الكتانية الأحمدية التي الواحدة منها بثمانمائة من دلائل الخيرات والواحدة منها بتسعمائة ألف من صلاة الفاتح المنسوبة للبكريين وهي عندهم بستمائة الف صلاة من غيرها وعليه فمن قرأ الأنموذجية كان عند اللـه ولا عبرة بالمنتقد كمن قرأ صلاة الفاتح أربعا وخمسين مائة الف مليون مضعفة أربع مرات والمنة للبرزخيات الثلاث وقد كان القطب الأشهر سيدي إبراهيم الدسوقي رضي اللـه عنه رءاها في لوح التعينات فأراد أن يخرجها لأصحابه فقيل لـه إنها ليست لك إنها لمحمد بن عبد الكبير الكتاني الأحمدي الإبراهيمي الصديقي الأويسي يظهر في القرن الرابع عشر وأولـها {اللـهم صل على سيدنا ومولانا أحمد} واسم هذا الشرح الرقائق الغزلية في شرح الصلاة الأنموذجية. واعلم أن سر إيثار التعبير بأحمد دون محمد مع أن المتداول عند الناس هو محمد وهو أن الحق تعالى أول شيء أبرزه من جوهرية العما هو جوهرية روحانيته صلى اللـه عليه وسلم المعبر عنها بالحقيقة الأحمدية المعبر عنها بالقبضة ثم بعد ذلك أبرز الحق هيكلـه الجسماني في زوايا البطون كما ورد ذلك في الحديث روى ابن الجوزي في الوفا عن كعب الأحبار أنه تعالى لما أراد أن يخلق سيدنا محمدا صلى اللـه عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة البيضاء فهبط في ملائكة الفردوس وقبض قبضة من موضع قبره بيضاء نيرة فعجنت بماء التسنيم في معين الجنة حتى صارت كالدرة البيضاء لـها شعاع عظيم ثم طافت بها الملائكة حول العرش والكرسي والسماوات والأرض حتى عرفته الملائكة قبل أن تعرف آدم عليه السلام لكن لم يكن في ذلك العالم للجسم حكم، فكان الحكم للجوهر الروحاني عكس عالم الشهادة لكن من حين برزت روحانيته أمرها الحق تعالى بالاصطحاب العيني مع الـهيكل فاصطحبا فكان شيئا واحدا.
ولو أن روحي مازجت ثَم روحه لقلت ادن مني أيها المتباعد
ويرشدك لـهذا أيها الطالب للدليل قولـه في الحديث: قبض قبضة من نوره فقال لـها كوني محمدا. لاشك أن القبضة عبارة عن حقيقة أحمديته صلى اللـه عليه وسلم، وهذه القبضة توجه عليها الحق بالتوجه الإرادي فتدفقت من نفس ماهية الإطلاق ولا اتصال ولا انفصال بشاهد قولـه في الحديث: أنا من اللـه والمومنون مني، وهذا عندنا حديث صحيح، وهذه القبضة أمرها في الحديث بأن تتحد مع جسمانيته صلى اللـه عليه وسلم وقد فعلت فقال لـها أي للقبضة كوني محمدا أي اتحدي بالمحمدية، ومن يوم اتحدا وليس الحكم إلا للأحمدية لأن العالم عالمها وهو عالم الأمر {قُل الروح من أمر ربي}. واعلم أن مشهدنا معاشر المحققين في عالم الشهادة هو شهود برزخية روحانية أحمديته صلى اللـه عليه وسلم أول تعين تدفق من حضرة العلم أولية حقيقية لا إضافية، وأما محمديته فنراها منطوية في هيولى أحمديته. لأن المحقق إذا تمكن في بساط الرياضة التحق بعالم المجردات فتجوهرت جسمانيته وصار الحكم للروحانية وإذا صارت روحانية صارت لا تشهد إلا مقتضى عالم المجردات وهي جوهرية روحانيته صلى اللـه عليه وسلم، وهذا محمل قولنا في الصلاة أحمد بدل محمد وهذا عندنا هو السر في إيثار تعبير سيدنا عيسى عليه السلام في قولـه: {ومبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه أحمد}. لاشك أن البشارة منوطة بأمور ثلاثة: التبشير بالرسول والإتيان من بعده لا مقارن لـه في الزمان واسمه أحمد. ولاشك أنه صلى اللـه عليه وسلم لما برز لم يشتهر في الأرض إلا بمحمد، وعليه فسر إيثاره التعبير بأحمد دون محمد، مع كون محمد هو الذي سمي به لما ظهر، هو أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يعلم أنه صلى اللـه عليه وسلم ركب من جوهرين لطيف وكثيف لكن الجوهر الكثيف لا يؤثر فيه صلى اللـه عليه وسلم لغلبة الروحانية وإذا كان كذلك فكأنه ما برز إلا الجوهر الروحاني والجوهر الروحاني من عالم الأمر، ولاشك أن عالم الأمر ليس مستودعا فيه الا الحقيقة الأحمدية، وإذا كان كذلك فما برز الا الجوهر اللطيف. فإن قلتَ: يشم من هذا أن البشرية منتفية فيه صلى اللـه عليه وسلم أصلا قلتُ: هذا لا يتوهمه عاقل فأحرى فاضل للأنه مكابرة، والقرءان والسنة تثبتها. والمراد أن حكمها منتف لا يثبت وعينها قائمة فانفكت الجهات وبها تنفصم عرى إشكالات {لمن كان لـه قلب أو القى السمع وهو شهيد} فطوبى لمن قيل لـه {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} ولم يكن أسير تقليد. فهذا هو السر في إيثارنا التعبير بأحمد دون محمد تدبر إن فهمت وإلا فسلم تسلم وان سئلت فقل لا أعلم. فإن قلتَ: ما السر في الإتيان بحروف احمد كلـها نورانية ما عدا الدال فإنه حرف ظلماني؟ قلتُ: لاشك أن جوهره اللطيف لم يظهر لبسيطة كرة العالم من حيث هي، وما ذلك إلا لتستره تحت مباني الـهيكل الجسماني المركب مما يقتضي الكثافة ظاهرا فهذا هو السر في ختم المادة بحرف ظلماني، كذلك الروحانية الكلية تسترت تحت أصداف عالم الإمكان لأجل ذلك لم تظهر وهو سر يرقص لـه العقل السليم.
ثم قلنا في الصلاة: الذي جعلت اسمه متحدا باسمك ونعتك. لاشك أن الاتحاد يطلق ويراد به المقارنة وهذا أمر ناطقة به الأحاديث المتكاثرة غير أنه معنى ظاهري يليق بالقاصرين مثلي وإلا فمن علت همته ارتقى لأعلى عالم العناصر وصار يأخذ الأشياء من محلـها. ومحمل هذا أن المراد بالاتحاد المقارنة مع اسمه تعالى في الكتابة على ساق العرش، وعندنا بحسب مكنون باطن الأمر لا فرق بين اسمه صلى اللـه عليه وسلم محمدا وأحمد وإن كانت الصيغ تعطى الفرق فدونك الشرح الكبير المسمى بالبحر المسجور ففيه العجب العجاب.
ثم قلنا: وصورة هيكلـه الجسماني على صورة أنموذج حقيقة خلق اللـه آدم على صورته. المراد بالأنموذج بحسب اللغة هو صورة الشيء التي تنطبع فيه الأشياء وكذلك سيدنا محمد صلى اللـه عليه وسلم كل ما في الوجودات من أشتات الكمالات المتفرقة فقد انطبعت فيه صلى اللـه عليه وسلم ولا تكمل لـه أفضليته على جميع الجواهر الإنسانية إلا بعد أن ينطبع فيه جميع ما فيهم أعني كالأنبياء والرسل والملائكة و زاد عليهم بما هو مذكور في باطن القرءان المجيد بما يصرح به ومالا. والمراد أن صورته صلى اللـه عليه وسلم على صورة أنموذج جميع الكمالات الإلـهية التي هي مقتضيات الأسماء والصفات. فسيدنا آدم الجسماني هب أنه علم الأسماء كلـها لكن مجموعه صلى اللـه عليه وسلم علم مسميات الأسماء فبهذا كان أفضل وأرفع وأشرف سائر العوالم من حيث سقي من جميع مسميات الأسماء وصار بسبب ذلك كالـهيولى ينطبع فيه كل شيء، ولما انطبع فيه كل شيء فضل كل شيء وارتقى عن كل شيء حتى عن تعظيمنا وتنويهنا معاشر المحققين. فإن قلتَ: هل لـهذا من شاهد؟ قلتُ: نعم، قولـه صلى اللـه عليه وسلم: خلق اللـه آدم على صورته. اعلم أولا أن عند الأصوليين قاعدة وهي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وذلك أن هذا الحديث ورد على سبب وهو أن المؤدب الأكبر رأى رجلا يضرب عبده عل وجهه فقال لـه لا تفعل إن اللـه خلق آدم على صورته هذا السبب لكن العبرة عندنا بمراده صلى اللـه عليه وسلم حالة النطق بهذا الكلام وهذا أمر نطلع عليه والمنة للبرزخيات الثلاث. واعلم أن عندنا آدمين: آدم أنور وهو الجسماني، وآدم أكبر وهو العقل الأول، فهو أب للأرواح كما أنه آدم الأجسام والأكبر هو الحقيقة الأحمدية، وهو المراد في الحديث، أعني باعتبار باطنه، وإلا فقد سمعت ظاهره والمعنى: خلق اللـه آدم الأكبر التعين الأول النفس الكلية على صورته، المراد بالصورة هنا الصفة: أي أوجد اللـه هذه الجوهرية الجامعة لرقائق الكنز المصون وحقائق الغيوبات على صفة الحق. فكما أن الحق متصف بجميع الكمالات الاستبدادية كذلك النسخة الذاتية حاوية وجامعة للكمالات الإلاهية الاستمدادية ويرشدك لـهذا القرءان {وإنك لعلى خلق عظيم} على قراءة الإضافة بدون تنوين أي وإنك أيها الـهيكل الجامع لعلى خلقِ عظيم وهو الحق إذ لا أعظم منه. ولاشك أن أخلاقه لا تحصى. وهاهنا اثبت لـه الحق أنه اكتنف الأخلاق الإلـهية و لم يحصرها في جنس معين فأبقينا هذا اللفظ على ما تعطيه صراحته. والمراد أنه حائز لجميع الكمالات الإلـهية بدليل الآية، وكذلك قولـه تعالى {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللـه} وهذه الآية دالة على ما أبديناه من التحقيق بل أنزلـه منزلة نفسه. وقد تكلمت على هذه الآية في شرح البخاري فلتنظر. فإن قلت: يلزم على هذا مسايرته صلى اللـه عليه وسلم للحق في كمالاته قلتُ: لا يلزم، وذلك لأن الجناب الأقدس متصف بذلك على سبيل الاستبداد الاستبدادي، وأما سيدنا صلى اللـه عليه به فهو ملتحف بذلك على سبيل الاستمداد من الحق فليس مستبدا بذلك حتى يلزم المحظور تفهم إن كنت ممن. وقد تكلمت على هذا الحديث أعني قولـه: خلق اللـه آدم على صورته في كتابنا المسمى بالطلاسم وفي كتابنا المسمى برياض الأزهار وفي كتابنا المسمى بالديوانة فلينظر الكل.
ثم قلنا: وفجرت عنصر موضوع مادة محمولـه من أنية أنا اللـه. اعلم أن العنصر كناية عن أول ما انبجس من جوهرية العما أولية حقيقية لا إضافية، وليس إلا الحقيقة الأحمدية، فكان الحق أولا متفردا في غياهب الكنزية وليس إلا البطون الذاتي فلما أراد التعرف انفعلت الأسماء وظهرت مقتضياتها، فمن الأسماء الرب وهو يقتضي ظهور مقتضاه أعني المربوب، ومنها الإلـه وهو يقتضي المألوه والخالق ويقتضي ظهور المخلوق والرازق ويقتضي ظهور المرزوق. فاقتضت أن تظهر انفعالاتها وشؤونها فنظرت فوجدت أن لا حكم في تلك المهامه إلا لحضرة الأحدية وهذه الرتبة لا تقتضي شيئا زائدا عليها إذ هي المدلول عليها بالألف صدر الحروف. وإذا كان كذلك فالشكلة والنقطة التي تزاد عليه لا يقبلـها من حيث مدلولـه عندي في الواقع فلا يزاد عليه بل ما دل عليه متخلق بالتجريد الذاتي المقتضي للسحق والمحق. فهناك تجلت أمواج ريح الإرادة وأبرزت جوهرا مسمى بالفلك المحيط، فأفاضت عليه الكمالات والشؤون والنعوت وجعلته مظهرا أكمل دالا عليها بوسعية إحاطته، وهو آدم الأكبر. فهناك تدفقت جوهرية أحمديته من نفس التجلي الإرادي، فبرز هنالك ووقع لـه صلى اللـه عليه وسلم التعرف، فعرف الحق بحسب ما سقي من الأسماء. ولا زال سره راكضا في أمواج كل اسم آلافا من السنين. هنالك كافحه بقولـه {طه} فالتحف بأجنحتي الشوق والاشتياق وصار طائرا في نعوت برقيات هوية الإطلاق العجمي إلى أن تحقق بأنه النقطة المرقومة تحت باء البسملة. وهذا هو عالم ذره هو، الأول لـه. ثم لازال يطير بأجنحتي الإطلاق إلى أن وصل لمنهل الاسم الواحد، ولا شك أنه يقتضي التكثر والانتشار. هاهنا قال في الحديث: فخلقت الخلق لأعرف فبي عرفوني. لاشك أن العالم إنما سمي عالما لأن فيه علامة على وجود المخترع، وهي الحدوثية. ولاشك أنها تدل على موجد، وهذا الموجد دلت الأدلة على أن ليس كمثلـه شيء، فهو قديم. لكن كون العالم إنما سمي عالما لكونه كذا، هذا يشم منه رائحة: وهي أن الجناب الحقي غير غني لما يدل عليه، مع كونه من الغنى كما قال {واللـه غني عن العالمين} وعليه: فالعالم إنما سمي عالما لكونه علامة على جوهرية الحدوثية، وأنها من جنس الممكنات، هكذا يظهر. فهو تعالى غني حتى عن دلالتنا عليه تعالى ولعل هذا يؤخذ بطريق الفص المحرف الكشفي من قولـه غني عن العالمين أي غني عن كون العالم علامة أن لـه ربا أوجده من لا شيء تدبر.
وهاهنا نكتة عجيبة وهي أن قولـه في الحديث المتقدم فبي عرفوني لاشك أنه تقرر في علم الحساب أن الفاء بثمانين والياء بعشرة والباء بإثنين ومجموع هذا العدد هو عدد حروف محمد مع عدم اعتبار التضعيف فصار المراد: فخلقت الخلق لأعرف فبمحمد عرفوني. إذ ليس لنا إلا رتبتين: رتبة الوجوب، ورتبة الإمكان. ولاشك أن الممكنات فيما بينها يعسر عليها معرفة بعضها، إذ الناس معادن، فكيف يعرف من ليس بيننا وبينه مجانسة. وإذا خلي هذا وسبيلـه ما عرفنا الحق. وإذا لم يُعرف تعطلت مقتضيات الأسماء والصفات. وقد سبق في ديوانة الأزل أن لابد من التعريف والمعرِّف والمعرَّف فجاءنا هيولى الإجمال والتفصيل صلى اللـه عليه وسلم فتعرف إلينا إلى أن عرفنا الحق ببعض ما لـه من الكمالات. ولعلك أيها المنصف ما طرقت سمعك ولا رأيتَها في ديوان أعني باعتبار صدر النكتة. فإن قلتَ: أليس قد قال بعض الأكابر من المحققين رضي اللـه عنه أن حضرة الـهباء برزت قبل ظهور روحه صلى اللـه عليه وسلم ثم تدفق نوره منها؟ قلتُ: هذا لا نعرفه ولا وجه لـه ولعلـه رضي اللـه عنه نظر للنور فرأى أن جوهريته عرَضٌ. والعرَض عندهم لا يقوم بنفسه، فأبرز الحق جسما لطيفا مسمى بالـهباء كان هو الظرف لذلك التعين، لعل هذا ملحظه. ونحن نقول هذا من التحكمات العقلية، وإلا فالكشف أعطانا أن جوهرية نوره صلى اللـه عليه وسلم هب أنها برزت من صحاري الأزل لكن النسبة المعبر عنها ب{وهو معكم} الكائنة بين الرب والمربوب لا زالت. ولاشك أن عالم الإطلاق مجهول لا يدرك، فكذلك هي، لأن وصف العارف من وصف معروفه فهي مجهولة. وأيضا قول أهل التوحيد العام والحكماء والمناطقة: أن العرَض لا يقوم بنفسه، هذا ما أعطتهم قواهم المدركة. وأما نحن فالكشف أعطانا أن العرض قد يقوم بنفسه كهذه الجوهرة النورانية الأحمدية فلم يكن لـها ظرف وإنما كانت بنعت اللونية. فإن قلت: وما سبب بدء العالم؟ قلت: انفعالات الأسماء وتأثيرها، إذ الحكم أولا لم يكن إلا لما دل عليه الألف لا غير ثم وقع الانفعال. وغاية ما للعلماء باللـه هاهنا أن سبب بدء العالم هو تعلق العالم القديم أزلا به تفهم. فإذا تمهد هذا التحقيق لديك علمت أن قولـه صلى اللـه عليه وسلم فيما رويناه في البخاري: نحن الآخرون الأولون، أي أولية حقيقية لا إضافية. فإن قلتَ: أين تجد في كتاب اللـه أنه صلى اللـه عليه وسلم أول التعينات؟ قلتُ: صدر ديباجة القرءان بطريق الفص المحرف الكشفي، أعني قولـه: بسم اللـه. فلا شك أن ما قبل الباء هو الخلاء الموهوم المعبر عنه بمعقول القبلية للجناب الحقي والباء هي أول مراتب الأعداد فتدل على الإثنينية. ولاشك أن التعددات أولـها هو النفس الكلية، العقل الأول، المعنون عنه بالأول الثاني. فيوخذ من ديباجة القرءان العزيز أنه هو الأول في التعينات، وهي نكتة عجيبة ما طرقت سمعك. ولك أن تأخذ هذا من النقطة وذلك بان تجعل الباء إشارة للوجود الحقي المطلق. فإن قلتَ: كيف يصح هذا والباء أول الأعداد كما في علم الحساب فتدل على الكثرة والتعدد؟ قلتُ: أطلقت عليها ما ذكر بلسان الواحدية لا الأحدية وتقدم الفرق بينهما. والنقطة إشارة لحقيقة الحقائق فهي أول مصدر من حضرة التعين العلمي. ثم انه صلى اللـه عليه وسلم من يوم برز أفاض الحق عليه مقتضيات الأسماء والصفات ما صار به نبيئا في تلك الزوايا. إذ النبوءة عبارة عن إفاضة الحق على سطح عوالم هيكل من أراده للتربية: الكمالات والمقتضيات، أعني مسميات جميع الأسماء ما صار به هيولى تنطبع فيه سائر الأشكال والصور. أخرج الإمام أحمد واللفظ لـه والبخاري في التاريخ وأبو نعيم في الحلية والبغوي وابن السكن وصححه الحاكم عن ميسرة الفجر قال قلت: يارسول اللـه متى كنت نبيئا؟ قال وآدم بين الروح والجسد. فإن قلت: حقيقة آدم هذا الـهيكل المخلوق من طين المنفوخ فيه الروح فمجموعها هو آدم فما معنى البينية في الحديث؟ قلتُ: لا غرو أنه صلى اللـه عليه وسلم كما سبق بروحانيته كذلك سبق بجسمانيته وتقدم الحديث الشاهد لذلك.
ويوخذ أيضا من قولـه: نحن الآخرون الأولون، ولاشك أن ساعة إخباره صلى اللـه عليه وسلم بهذه الخصيصة كان مجموع الجوهرين الروحي والجسدي أي نحن الأولون والمتكلم هما معا، وإن كان المدبر للجسم هو الروح. ولعل هذا من واد ما اشتهر عند الحكماء والأصوليين من أن المشار إليه بأنا هل هو الـهيكل المخصوص المشتمل على النفس والروح أو النفس وحدها لأنها المدبرة. ونحن من هذا القبيل. والحديث إنما عبر عن حالتيه الأولوية والآخرية على سبيل إظهار عظمة المسدي فليس المراد غيره. هكذا يوخذ بطريق الخوض في باطنه صلى اللـه عليه وسلم. ولا شك أن جواهر العوالم كلـها منبجسة من نفس معناه وحسه. وعليه فالمراد كنت نبيئا حقيقة وآدم الذي هو عنصر الـهياكل بين روحي الكلية وجسدي الذي هو أصل المواد. فالمراد روحه صلى اللـه عليه وسلم وجسده هو، لا روح سيدنا آدم وجسده صلى اللـه عليه وسلم. وليس في الحديث ما يرجح هذا الطرف على هذا والمراد أنه أفيضت عليه مقتضيات النبوءة وسيدنا آدم لازال منطويا في جوهريه صلى اللـه عليه وسلم تفهم. فإذا أحطت خبرا بما تلي عليك علمت أن : كنت نبيئا لا إشكال فيه حتى يقال أن النبوءة وصف ولابد أن يكون الموصوف به موجودا وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة والمنة للبرزخيات الثلاث.
وان كنتَ مزكوماً فليس بلائق مقالك هذا المسك ليس بفائح
ثم إن المراد بالموضوع والمادة والمحمول شيء واحد عندنا: وهو الأول الثاني، نفسه الكلية. واصطلاح المناطقة والحكماء شيء آخر وكل حزب بما لديهم فرحون. والمراد بالأنية هي قول اللـه {إنني أنا اللـه} فليس المراد بالأنية إلا ادعاء الأنانية أي قول القائل أنا وليس إلا الجناب الحقاني. أي وفجرت عنصر مادة العوالم كلـها من التوجه الإرادي الذي هو عين الذات. إذ الإرادة وصف وهو لا يفارق الموصوف وهو صلى اللـه عليه وسلم نتيجة التوجه الإرادي للحق. أي وفجرت أصلـه صلى اللـه عليه وسلم من قول الحق {أنا اللـه}. أي فجر نوره وانفتق من بساط الرتق حيث لم يكن إلا الحق متفردا في غياهب البطون يثني على نفسه بنفسه ويقول: أنا اللـه وحدي لاشيء معي حتى يسبحني. بل الأسماء والصفات بحكم البطون فليس هناك مسبح أصلا، أعني بحسب التفصيل، أي وفجرت روحه التي هي أول موجود من قول الحق أنا اللـه ليس ثم غيري، فهو الأول الثاني صلى اللـه عليه وسلم. وهذا بساط تكلمت عليه في تفاسير البسملة فلينظر. وهاهنا قال صلى اللـه عليه وسلم: أنا من اللـه والمومنون مني تفهم.
ثم قلنا: بل حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد اللـه عنده وآلـه وصحبه وسلم. اعلم أن هذا العالم كلـه ظلمة أي أصلـه العدم ويؤول للعدم ويتوسطه العدم. لكن إنما اكتسب الوجود من حيث إفاضة الحق عليه جلابيب الوجود المطلق، فلولا إرسال منح الجود الإلاهي على جزئيات العالم ما وقع عليها أبصار لأنها معدومة. وإذا كان كذلك فلا وجود إلا للحق، لأن وجوده ذاتي بسبب كونه وجوبا، ووجود غيره ممكن. لأجل ذلك لم يكن لـه وجود لا يثبت إلا بوجود الحق. والمراد من الجمل: بل حتى إذا جاءه صلى اللـه عليه وسلم الجائي بعقلـه وروحه وقواه لم يجده شيئا، أي موجودا، وذلك لأن الشيء عندهم من خواص الموجود. وعليه فلم يجده موجودا لولا وجود الحق المفيض عليه أمطار التوجهات الإرادية، فبها قام الوجود وهي عين الذات، ووجد اللـه عنده هو الموجد للوجود. أي حتى إذا جاءه صلى اللـه عليه وسلم الذي هو كل الوجود وإنسان الوجود لم يجده موجودا إلا بالوجود الحقي. ووجد اللـه هو الذي لـه الوجود الحقيقي عنده وآلـه وصحبه وسلم تسليما هذا ما يسع الكلام عليها بحسب الاختصار، مع مقاساة الأهوال والأحزان. ومن أراد الكلام عليه بحسب التحقيق، فليراجع التفسير الكبير المسمى بالبحر المسجور. وقد ألف هذا الشرح ونحن في نزهة في أقل من لحيظات والمنة للبرزخيات الثلاث.
وصلٌ: اعلم أن الحق تعالى خص طريقتنا هذه الأحمدية الإبراهيمية الصديقية الأويسية الكتانية بخصيصات منها: أن المصطفى صلى اللـه عليه وسلم يحضر على رأس المائة الثانية من ياأحد بجسمه الشريف، ثم انه يحضر عند ذكر الصلاة الأنموذجية بجسمه الكريم، وزيادة المحبة الخاصة به صلى اللـه عليه وسلم في مقام القرب المعنوي، فيحضر مع زيادة حلل في التجلي الذاتي تخصيصا لطريقتنا هذه، وهذا مشهود لدى أرباب البصائر، {ومن عميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون} والحمد للـه رب العالمين. وبهذه الصيغة التي نقرأها عليها في الزاوية الكتانية بها سمعت الملائكة تقرأها بها {وترى الذين كذبوا على اللـه وجوههم مسودة} فلا تبغي بها بدلا. فإن قلتَ: لاشك أن هذا كان يعلمه صلى اللـه عليه وسلم وإذا علمه فيلزم عليه أنه صلى اللـه عليه وسلم أطلع على عمل تنطوي لنا فيه الأعوام والشهور وهو في لحيظة ومع ذلك لم يخبرنا به. قلتُ: اعلم أن المصطفى صلى اللـه عليه وسلم أطلع على هذا لكن كان عند الصحابة ما يغنيهم عن هذا لأن اللحظة الواحدة منهم بمثابة آلاف من السنين منا لأن عبادتهم مع الكشف وتحقيق العيان سيما مع النظر فيه صلى اللـه عليه وسلم. فأغناهم هذا عن ما ذكر. وأيضا ادخر صلى اللـه عليه وسلم ذلك لـهذه الطائفة الأحمدية الكتانية تشريفا لـها واختصاصا لـها من بين سائر الطرق. وأيضا قد قال صلى الـه عليه وسلم: كل يوم ترذلون، ولاشك أن أصحاب الـهمم إذا علموا ذلك تفتكت أزرار هياكلـهم، فجبر الحق كسرهم وأبرز هذه الصلاة الأنموذجية لتقوم لـهم مقام عبادة آلاف من السنين مع شدة اسوداد ظلمة الوقت وغلبة سلطنة أرباب الدنيا واستواء شوكتهم على القاصي والداني، فالصحابة كان عندهم ما يكفيهم فحازوا مالم يشم لـه أكابر المحققين منا رائحة. لكن قال صلى اللـه عليه وسلم: مثل أمتي كالمطر لا يدرى أولـه خير أم آخره. فأقيمت قلوبنا على ساق، والعلم للكبير الخلاق. وأيضا فقد أخبرنا به صلى اللـه عليه وسلم فلا نقول أنه لم يخبر وهذا الفضل بالنسبة لكل أحد في كل مرة والحمد للـه رب العالمين.
وصلٌ: اعلم أنا حققنا أن روحانيته صلى اللـه عليه وسلم اصطحبت مع جسمانيته من يوم برزت جسمانيته لكرة العالم. ولنا تأليف في هذه المسألة مستقل يسمى بالديوانة. فكانت العوالم عنده متحدة: مهما كان عالم اللطافة هنالك عالم الكثافة، ومهما كان عالم علوي ثم العالم السفلي من شدة اتحاد جوهري الحس والمعنى. نكتة فإن قلتَ: لم كانت الأشياء القائمة على الأنهار يرى أعلاها أسفلـها وأسفلـها أعلاها وترى الشمس تحتها مع أنها فوق؟ الجواب أن الشعاع الخارج من العين إذا اتصل بجسم صقيل وهو الماء أو غيره لم يثبت عليه لصقالته وزلق عنه إلى الجهة المقابلة للرائي إن لم يكن الصقيل أمامه بحيث تكون زاوية الالتقاء على الصقيل مثل زاوية الانعكاس في المساحة من غير زيادة ولا نقصان مثالـه هكذا :
"اللهم صل على سيدنا ومولانا أحمد الذي جعلت اسمه متحدا باسمك ونعتك، وصورة هيكله الجسماني على صورة أنموذُج حقيقة خلَق الله سيدنا آدم على صورته، وفجرْت عنصر موضوع مادة محموله من أنِيَة أنا الله، بل حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده وآله وصحبه وسلم"..
بسم اللـه الرحمن الرحيم وصلى اللـه على قطب المنازل وآلـه وصحبه وسلم
كتاب الرقائق الغزلية في شرح الصلاة الأنموذجية
الحمد لمن أفاض مناهل أشعة الأنس وناموس همس التلقيات على أرجاء رياض الـهياكل. وأرسل عساكر جند نواسيت التعددات في لوح تقادير المنازل. فجعلـها موشحة بتضاد القبضتين. ومؤتزرة بمقتضيات الإسمين. سيدنا ومولانا محمد يعسوب التكثرات الحرفية. وأس الانتشارات الظلمانية والنورانية، الشمسية والقمرية، السعدية والنحسية. فالكل جزء من كليات كلياته، ونعت من نعوت شمول إطلاقاته، ونجوم سماء ذاته الروحية والعنصرية، وخُلافه الناهجين نهج ما لـه من الكمالات الإطلاقية.
أما بعد.
فهذه بحول اللـه تعالى وقوته توشيحات فيضية، وطلاسم أحمدية، ورقائق غزلية، أبداها عبيد ربه وأسير ذنبه محمد بن عبد الكبير الأحمدي الإبراهيمي الصديقي الأويسي الكتاني غفر اللـه ذنبه وستر عيبه في فتك أزرار رموز هذه الصلاة الأنموذجية. ولنقدم من فيض اللـه تعالى مقدمة: اعلم أولا أن الحق تعالى ما أبرز هذه الأثرات الكيانية من حيث هي، أعني بحسب التبع، إلا لمعرفة مزاياه صلى اللـه عليه وسلم ومفاخره وخصيصاته، ويرشدك لـهذا حديث سيدنا سلمان رضي اللـه عنه عند ابن عساكر: جاء سيدنا جبريل إلى النبي صلى اللـه عليه وسلم فقال إن اللـه يقول لك إن كنت اتخذت ابراهيم خليلا فقد اتخذتك حبيبا وما خلقت خلقا أكرم علي منك ولقد خلقت الدنيا وأهلـها لاعرفهم كرامتك ومنزلتك عندي. وإذا كان كذلك: فتصرف الأعمار والقوى في التهتك في ما لـه صلى اللـه عليه وسلم وذكر شئونه ونعوته وكمالاته، أعني بحسب الإجمال، وإلا فتفصيلُ ما لـه صلى اللـه عليه وسلم من المقتضيات على سبيل الكنه لا سبيل لإدراك ما ذكر، وهذا أمر عندنا عام في عالم الشهادة وعالم الغيب وعالم البرزخ وعالم القرار، لأن وصف العارف من وصف معروفه فقد تخلق صلى اللـه عليه وسلم بالأسماء الإلـهية الذاتية ومن جملة الأسماء اسم الـهوية فتخلق به صلى اللـه عليه وسلم ومن يوم انبسطت عليه أشعة مقتضى هذا الاسم وهو صلى اللـه عليه وسلم مجهول عند جميع العوالم فلم يدرك لـه قرار ولا حد و لا مطلع. فكما أن الجناب الأقدس جل جلالـه مجهول لا يعرف {وما قدروا اللـه حق قدره} كذلك مظهره صلى اللـه عليه وسلم الذي هو العالم الكبير هيولى سائر المواد الكلية والجزئية البسيطة والمركبة، فكل العالمين من العرش إلى الفرش كلـه عالم صغير بالنسبة لـه فما العوالم كلـها إلا قائمة من قوائم عرشه المحيط صلى اللـه عليه وسلم، وما ذلك إلا لأنه سُقِي من جميع الأسماء الذاتية، ولما سقي منها صار ذاتيا وغيره من ساداتنا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام صفاتيون بالنسبة إليه ومن هذا المعنى انتفت عنه البقية رأسا فلم تؤثر فيه مقتضيات العناصر التي ركب منها الـهيكل الإنساني، لأجل هذا كان لا يُرى لـه صلى اللـه عليه وسلم ظل إذا مشى فكأن روحا ساذجا تمثل بصورة البشرية كما هو مشاهد لدى المحقق. وهذا عندي معنى قولـه كما رويناه في البخاري: إني لست كهيئتكم، ومعنى قولـه أيضا: إني لأراكم من خلفي كما أراكم من أمامي، فليست لـه أعين وراءه كما يقول ساداتنا أهل الحديث بل المراد أنه لما انتفت عنه بقايا مقتضيات الطبائع والأخلاط والعناصر صار روحا صرفا تشكل بشكل الـهيكل ومن ها هنا كان يرى من الجهات لأن الروح لا يحجبها شيء. هذا مراده صلى اللـه عليه وسلم على سبيل الخوض في باطنه لا على سبيل الفكر والتخمين والظن {وكل حزب بما لديهم فرحون}، ومن هاهنا أيضا صحت لـه الرؤية الساذجة الصرفة: أعني أحدية الكل الجمعي بدون حجاب التعينات وبما تقدم تعلم أن قول المديح :
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم
في عهدته لأنا إن قلنا مفهوم الدنيا الآخرة أفاد أن في الآخرة تدرك وهذا عندنا لا يمكن إذ لو بدت ذرة من جوهرة حقيقة أحمدية كنهه في الآخرة لتلاشت لـها الجنة ولم يبق لـها رسم ولا طلل لأنه صلى اللـه عليه وسلم النسخة الذاتية، فلون الماء لون إنائه، وإن قلنا لا مفهوم للدنيا يعني وكذلك الآخرة عكر عليه قولـه: قوم نيام، لأن الناس إذا ماتوا انتبهوا كما ورد وهذا وإن لم ينبه عليه أحد فدونك هذا التحقيق، وكم ترك الأول للآخر، فكان عليه أن يقول وكيف يدرك في الأخرى حقيقته والناس نيام بحسب هذا الإدراك، ولما كان صلى اللـه عليه وسلم بهذه المثابة أطلقنا الألسن بالثناء عليه كل على قدر القابلية المبسوط عليه شعاعها من أم الكتاب وسرادق الوحدات فمن ذلك قولنا هذه الصلاة الأنموذجية الكتانية الأحمدية التي الواحدة منها بثمانمائة من دلائل الخيرات والواحدة منها بتسعمائة ألف من صلاة الفاتح المنسوبة للبكريين وهي عندهم بستمائة الف صلاة من غيرها وعليه فمن قرأ الأنموذجية كان عند اللـه ولا عبرة بالمنتقد كمن قرأ صلاة الفاتح أربعا وخمسين مائة الف مليون مضعفة أربع مرات والمنة للبرزخيات الثلاث وقد كان القطب الأشهر سيدي إبراهيم الدسوقي رضي اللـه عنه رءاها في لوح التعينات فأراد أن يخرجها لأصحابه فقيل لـه إنها ليست لك إنها لمحمد بن عبد الكبير الكتاني الأحمدي الإبراهيمي الصديقي الأويسي يظهر في القرن الرابع عشر وأولـها {اللـهم صل على سيدنا ومولانا أحمد} واسم هذا الشرح الرقائق الغزلية في شرح الصلاة الأنموذجية. واعلم أن سر إيثار التعبير بأحمد دون محمد مع أن المتداول عند الناس هو محمد وهو أن الحق تعالى أول شيء أبرزه من جوهرية العما هو جوهرية روحانيته صلى اللـه عليه وسلم المعبر عنها بالحقيقة الأحمدية المعبر عنها بالقبضة ثم بعد ذلك أبرز الحق هيكلـه الجسماني في زوايا البطون كما ورد ذلك في الحديث روى ابن الجوزي في الوفا عن كعب الأحبار أنه تعالى لما أراد أن يخلق سيدنا محمدا صلى اللـه عليه وسلم أمر جبريل أن يأتيه بالطينة البيضاء فهبط في ملائكة الفردوس وقبض قبضة من موضع قبره بيضاء نيرة فعجنت بماء التسنيم في معين الجنة حتى صارت كالدرة البيضاء لـها شعاع عظيم ثم طافت بها الملائكة حول العرش والكرسي والسماوات والأرض حتى عرفته الملائكة قبل أن تعرف آدم عليه السلام لكن لم يكن في ذلك العالم للجسم حكم، فكان الحكم للجوهر الروحاني عكس عالم الشهادة لكن من حين برزت روحانيته أمرها الحق تعالى بالاصطحاب العيني مع الـهيكل فاصطحبا فكان شيئا واحدا.
ولو أن روحي مازجت ثَم روحه لقلت ادن مني أيها المتباعد
ويرشدك لـهذا أيها الطالب للدليل قولـه في الحديث: قبض قبضة من نوره فقال لـها كوني محمدا. لاشك أن القبضة عبارة عن حقيقة أحمديته صلى اللـه عليه وسلم، وهذه القبضة توجه عليها الحق بالتوجه الإرادي فتدفقت من نفس ماهية الإطلاق ولا اتصال ولا انفصال بشاهد قولـه في الحديث: أنا من اللـه والمومنون مني، وهذا عندنا حديث صحيح، وهذه القبضة أمرها في الحديث بأن تتحد مع جسمانيته صلى اللـه عليه وسلم وقد فعلت فقال لـها أي للقبضة كوني محمدا أي اتحدي بالمحمدية، ومن يوم اتحدا وليس الحكم إلا للأحمدية لأن العالم عالمها وهو عالم الأمر {قُل الروح من أمر ربي}. واعلم أن مشهدنا معاشر المحققين في عالم الشهادة هو شهود برزخية روحانية أحمديته صلى اللـه عليه وسلم أول تعين تدفق من حضرة العلم أولية حقيقية لا إضافية، وأما محمديته فنراها منطوية في هيولى أحمديته. لأن المحقق إذا تمكن في بساط الرياضة التحق بعالم المجردات فتجوهرت جسمانيته وصار الحكم للروحانية وإذا صارت روحانية صارت لا تشهد إلا مقتضى عالم المجردات وهي جوهرية روحانيته صلى اللـه عليه وسلم، وهذا محمل قولنا في الصلاة أحمد بدل محمد وهذا عندنا هو السر في إيثار تعبير سيدنا عيسى عليه السلام في قولـه: {ومبشرا برسول ياتي من بعدي اسمه أحمد}. لاشك أن البشارة منوطة بأمور ثلاثة: التبشير بالرسول والإتيان من بعده لا مقارن لـه في الزمان واسمه أحمد. ولاشك أنه صلى اللـه عليه وسلم لما برز لم يشتهر في الأرض إلا بمحمد، وعليه فسر إيثاره التعبير بأحمد دون محمد، مع كون محمد هو الذي سمي به لما ظهر، هو أن سيدنا عيسى عليه السلام كان يعلم أنه صلى اللـه عليه وسلم ركب من جوهرين لطيف وكثيف لكن الجوهر الكثيف لا يؤثر فيه صلى اللـه عليه وسلم لغلبة الروحانية وإذا كان كذلك فكأنه ما برز إلا الجوهر الروحاني والجوهر الروحاني من عالم الأمر، ولاشك أن عالم الأمر ليس مستودعا فيه الا الحقيقة الأحمدية، وإذا كان كذلك فما برز الا الجوهر اللطيف. فإن قلتَ: يشم من هذا أن البشرية منتفية فيه صلى اللـه عليه وسلم أصلا قلتُ: هذا لا يتوهمه عاقل فأحرى فاضل للأنه مكابرة، والقرءان والسنة تثبتها. والمراد أن حكمها منتف لا يثبت وعينها قائمة فانفكت الجهات وبها تنفصم عرى إشكالات {لمن كان لـه قلب أو القى السمع وهو شهيد} فطوبى لمن قيل لـه {فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} ولم يكن أسير تقليد. فهذا هو السر في إيثارنا التعبير بأحمد دون محمد تدبر إن فهمت وإلا فسلم تسلم وان سئلت فقل لا أعلم. فإن قلتَ: ما السر في الإتيان بحروف احمد كلـها نورانية ما عدا الدال فإنه حرف ظلماني؟ قلتُ: لاشك أن جوهره اللطيف لم يظهر لبسيطة كرة العالم من حيث هي، وما ذلك إلا لتستره تحت مباني الـهيكل الجسماني المركب مما يقتضي الكثافة ظاهرا فهذا هو السر في ختم المادة بحرف ظلماني، كذلك الروحانية الكلية تسترت تحت أصداف عالم الإمكان لأجل ذلك لم تظهر وهو سر يرقص لـه العقل السليم.
ثم قلنا في الصلاة: الذي جعلت اسمه متحدا باسمك ونعتك. لاشك أن الاتحاد يطلق ويراد به المقارنة وهذا أمر ناطقة به الأحاديث المتكاثرة غير أنه معنى ظاهري يليق بالقاصرين مثلي وإلا فمن علت همته ارتقى لأعلى عالم العناصر وصار يأخذ الأشياء من محلـها. ومحمل هذا أن المراد بالاتحاد المقارنة مع اسمه تعالى في الكتابة على ساق العرش، وعندنا بحسب مكنون باطن الأمر لا فرق بين اسمه صلى اللـه عليه وسلم محمدا وأحمد وإن كانت الصيغ تعطى الفرق فدونك الشرح الكبير المسمى بالبحر المسجور ففيه العجب العجاب.
ثم قلنا: وصورة هيكلـه الجسماني على صورة أنموذج حقيقة خلق اللـه آدم على صورته. المراد بالأنموذج بحسب اللغة هو صورة الشيء التي تنطبع فيه الأشياء وكذلك سيدنا محمد صلى اللـه عليه وسلم كل ما في الوجودات من أشتات الكمالات المتفرقة فقد انطبعت فيه صلى اللـه عليه وسلم ولا تكمل لـه أفضليته على جميع الجواهر الإنسانية إلا بعد أن ينطبع فيه جميع ما فيهم أعني كالأنبياء والرسل والملائكة و زاد عليهم بما هو مذكور في باطن القرءان المجيد بما يصرح به ومالا. والمراد أن صورته صلى اللـه عليه وسلم على صورة أنموذج جميع الكمالات الإلـهية التي هي مقتضيات الأسماء والصفات. فسيدنا آدم الجسماني هب أنه علم الأسماء كلـها لكن مجموعه صلى اللـه عليه وسلم علم مسميات الأسماء فبهذا كان أفضل وأرفع وأشرف سائر العوالم من حيث سقي من جميع مسميات الأسماء وصار بسبب ذلك كالـهيولى ينطبع فيه كل شيء، ولما انطبع فيه كل شيء فضل كل شيء وارتقى عن كل شيء حتى عن تعظيمنا وتنويهنا معاشر المحققين. فإن قلتَ: هل لـهذا من شاهد؟ قلتُ: نعم، قولـه صلى اللـه عليه وسلم: خلق اللـه آدم على صورته. اعلم أولا أن عند الأصوليين قاعدة وهي أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وذلك أن هذا الحديث ورد على سبب وهو أن المؤدب الأكبر رأى رجلا يضرب عبده عل وجهه فقال لـه لا تفعل إن اللـه خلق آدم على صورته هذا السبب لكن العبرة عندنا بمراده صلى اللـه عليه وسلم حالة النطق بهذا الكلام وهذا أمر نطلع عليه والمنة للبرزخيات الثلاث. واعلم أن عندنا آدمين: آدم أنور وهو الجسماني، وآدم أكبر وهو العقل الأول، فهو أب للأرواح كما أنه آدم الأجسام والأكبر هو الحقيقة الأحمدية، وهو المراد في الحديث، أعني باعتبار باطنه، وإلا فقد سمعت ظاهره والمعنى: خلق اللـه آدم الأكبر التعين الأول النفس الكلية على صورته، المراد بالصورة هنا الصفة: أي أوجد اللـه هذه الجوهرية الجامعة لرقائق الكنز المصون وحقائق الغيوبات على صفة الحق. فكما أن الحق متصف بجميع الكمالات الاستبدادية كذلك النسخة الذاتية حاوية وجامعة للكمالات الإلاهية الاستمدادية ويرشدك لـهذا القرءان {وإنك لعلى خلق عظيم} على قراءة الإضافة بدون تنوين أي وإنك أيها الـهيكل الجامع لعلى خلقِ عظيم وهو الحق إذ لا أعظم منه. ولاشك أن أخلاقه لا تحصى. وهاهنا اثبت لـه الحق أنه اكتنف الأخلاق الإلـهية و لم يحصرها في جنس معين فأبقينا هذا اللفظ على ما تعطيه صراحته. والمراد أنه حائز لجميع الكمالات الإلـهية بدليل الآية، وكذلك قولـه تعالى {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون اللـه} وهذه الآية دالة على ما أبديناه من التحقيق بل أنزلـه منزلة نفسه. وقد تكلمت على هذه الآية في شرح البخاري فلتنظر. فإن قلت: يلزم على هذا مسايرته صلى اللـه عليه وسلم للحق في كمالاته قلتُ: لا يلزم، وذلك لأن الجناب الأقدس متصف بذلك على سبيل الاستبداد الاستبدادي، وأما سيدنا صلى اللـه عليه به فهو ملتحف بذلك على سبيل الاستمداد من الحق فليس مستبدا بذلك حتى يلزم المحظور تفهم إن كنت ممن. وقد تكلمت على هذا الحديث أعني قولـه: خلق اللـه آدم على صورته في كتابنا المسمى بالطلاسم وفي كتابنا المسمى برياض الأزهار وفي كتابنا المسمى بالديوانة فلينظر الكل.
ثم قلنا: وفجرت عنصر موضوع مادة محمولـه من أنية أنا اللـه. اعلم أن العنصر كناية عن أول ما انبجس من جوهرية العما أولية حقيقية لا إضافية، وليس إلا الحقيقة الأحمدية، فكان الحق أولا متفردا في غياهب الكنزية وليس إلا البطون الذاتي فلما أراد التعرف انفعلت الأسماء وظهرت مقتضياتها، فمن الأسماء الرب وهو يقتضي ظهور مقتضاه أعني المربوب، ومنها الإلـه وهو يقتضي المألوه والخالق ويقتضي ظهور المخلوق والرازق ويقتضي ظهور المرزوق. فاقتضت أن تظهر انفعالاتها وشؤونها فنظرت فوجدت أن لا حكم في تلك المهامه إلا لحضرة الأحدية وهذه الرتبة لا تقتضي شيئا زائدا عليها إذ هي المدلول عليها بالألف صدر الحروف. وإذا كان كذلك فالشكلة والنقطة التي تزاد عليه لا يقبلـها من حيث مدلولـه عندي في الواقع فلا يزاد عليه بل ما دل عليه متخلق بالتجريد الذاتي المقتضي للسحق والمحق. فهناك تجلت أمواج ريح الإرادة وأبرزت جوهرا مسمى بالفلك المحيط، فأفاضت عليه الكمالات والشؤون والنعوت وجعلته مظهرا أكمل دالا عليها بوسعية إحاطته، وهو آدم الأكبر. فهناك تدفقت جوهرية أحمديته من نفس التجلي الإرادي، فبرز هنالك ووقع لـه صلى اللـه عليه وسلم التعرف، فعرف الحق بحسب ما سقي من الأسماء. ولا زال سره راكضا في أمواج كل اسم آلافا من السنين. هنالك كافحه بقولـه {طه} فالتحف بأجنحتي الشوق والاشتياق وصار طائرا في نعوت برقيات هوية الإطلاق العجمي إلى أن تحقق بأنه النقطة المرقومة تحت باء البسملة. وهذا هو عالم ذره هو، الأول لـه. ثم لازال يطير بأجنحتي الإطلاق إلى أن وصل لمنهل الاسم الواحد، ولا شك أنه يقتضي التكثر والانتشار. هاهنا قال في الحديث: فخلقت الخلق لأعرف فبي عرفوني. لاشك أن العالم إنما سمي عالما لأن فيه علامة على وجود المخترع، وهي الحدوثية. ولاشك أنها تدل على موجد، وهذا الموجد دلت الأدلة على أن ليس كمثلـه شيء، فهو قديم. لكن كون العالم إنما سمي عالما لكونه كذا، هذا يشم منه رائحة: وهي أن الجناب الحقي غير غني لما يدل عليه، مع كونه من الغنى كما قال {واللـه غني عن العالمين} وعليه: فالعالم إنما سمي عالما لكونه علامة على جوهرية الحدوثية، وأنها من جنس الممكنات، هكذا يظهر. فهو تعالى غني حتى عن دلالتنا عليه تعالى ولعل هذا يؤخذ بطريق الفص المحرف الكشفي من قولـه غني عن العالمين أي غني عن كون العالم علامة أن لـه ربا أوجده من لا شيء تدبر.
وهاهنا نكتة عجيبة وهي أن قولـه في الحديث المتقدم فبي عرفوني لاشك أنه تقرر في علم الحساب أن الفاء بثمانين والياء بعشرة والباء بإثنين ومجموع هذا العدد هو عدد حروف محمد مع عدم اعتبار التضعيف فصار المراد: فخلقت الخلق لأعرف فبمحمد عرفوني. إذ ليس لنا إلا رتبتين: رتبة الوجوب، ورتبة الإمكان. ولاشك أن الممكنات فيما بينها يعسر عليها معرفة بعضها، إذ الناس معادن، فكيف يعرف من ليس بيننا وبينه مجانسة. وإذا خلي هذا وسبيلـه ما عرفنا الحق. وإذا لم يُعرف تعطلت مقتضيات الأسماء والصفات. وقد سبق في ديوانة الأزل أن لابد من التعريف والمعرِّف والمعرَّف فجاءنا هيولى الإجمال والتفصيل صلى اللـه عليه وسلم فتعرف إلينا إلى أن عرفنا الحق ببعض ما لـه من الكمالات. ولعلك أيها المنصف ما طرقت سمعك ولا رأيتَها في ديوان أعني باعتبار صدر النكتة. فإن قلتَ: أليس قد قال بعض الأكابر من المحققين رضي اللـه عنه أن حضرة الـهباء برزت قبل ظهور روحه صلى اللـه عليه وسلم ثم تدفق نوره منها؟ قلتُ: هذا لا نعرفه ولا وجه لـه ولعلـه رضي اللـه عنه نظر للنور فرأى أن جوهريته عرَضٌ. والعرَض عندهم لا يقوم بنفسه، فأبرز الحق جسما لطيفا مسمى بالـهباء كان هو الظرف لذلك التعين، لعل هذا ملحظه. ونحن نقول هذا من التحكمات العقلية، وإلا فالكشف أعطانا أن جوهرية نوره صلى اللـه عليه وسلم هب أنها برزت من صحاري الأزل لكن النسبة المعبر عنها ب{وهو معكم} الكائنة بين الرب والمربوب لا زالت. ولاشك أن عالم الإطلاق مجهول لا يدرك، فكذلك هي، لأن وصف العارف من وصف معروفه فهي مجهولة. وأيضا قول أهل التوحيد العام والحكماء والمناطقة: أن العرَض لا يقوم بنفسه، هذا ما أعطتهم قواهم المدركة. وأما نحن فالكشف أعطانا أن العرض قد يقوم بنفسه كهذه الجوهرة النورانية الأحمدية فلم يكن لـها ظرف وإنما كانت بنعت اللونية. فإن قلت: وما سبب بدء العالم؟ قلت: انفعالات الأسماء وتأثيرها، إذ الحكم أولا لم يكن إلا لما دل عليه الألف لا غير ثم وقع الانفعال. وغاية ما للعلماء باللـه هاهنا أن سبب بدء العالم هو تعلق العالم القديم أزلا به تفهم. فإذا تمهد هذا التحقيق لديك علمت أن قولـه صلى اللـه عليه وسلم فيما رويناه في البخاري: نحن الآخرون الأولون، أي أولية حقيقية لا إضافية. فإن قلتَ: أين تجد في كتاب اللـه أنه صلى اللـه عليه وسلم أول التعينات؟ قلتُ: صدر ديباجة القرءان بطريق الفص المحرف الكشفي، أعني قولـه: بسم اللـه. فلا شك أن ما قبل الباء هو الخلاء الموهوم المعبر عنه بمعقول القبلية للجناب الحقي والباء هي أول مراتب الأعداد فتدل على الإثنينية. ولاشك أن التعددات أولـها هو النفس الكلية، العقل الأول، المعنون عنه بالأول الثاني. فيوخذ من ديباجة القرءان العزيز أنه هو الأول في التعينات، وهي نكتة عجيبة ما طرقت سمعك. ولك أن تأخذ هذا من النقطة وذلك بان تجعل الباء إشارة للوجود الحقي المطلق. فإن قلتَ: كيف يصح هذا والباء أول الأعداد كما في علم الحساب فتدل على الكثرة والتعدد؟ قلتُ: أطلقت عليها ما ذكر بلسان الواحدية لا الأحدية وتقدم الفرق بينهما. والنقطة إشارة لحقيقة الحقائق فهي أول مصدر من حضرة التعين العلمي. ثم انه صلى اللـه عليه وسلم من يوم برز أفاض الحق عليه مقتضيات الأسماء والصفات ما صار به نبيئا في تلك الزوايا. إذ النبوءة عبارة عن إفاضة الحق على سطح عوالم هيكل من أراده للتربية: الكمالات والمقتضيات، أعني مسميات جميع الأسماء ما صار به هيولى تنطبع فيه سائر الأشكال والصور. أخرج الإمام أحمد واللفظ لـه والبخاري في التاريخ وأبو نعيم في الحلية والبغوي وابن السكن وصححه الحاكم عن ميسرة الفجر قال قلت: يارسول اللـه متى كنت نبيئا؟ قال وآدم بين الروح والجسد. فإن قلت: حقيقة آدم هذا الـهيكل المخلوق من طين المنفوخ فيه الروح فمجموعها هو آدم فما معنى البينية في الحديث؟ قلتُ: لا غرو أنه صلى اللـه عليه وسلم كما سبق بروحانيته كذلك سبق بجسمانيته وتقدم الحديث الشاهد لذلك.
ويوخذ أيضا من قولـه: نحن الآخرون الأولون، ولاشك أن ساعة إخباره صلى اللـه عليه وسلم بهذه الخصيصة كان مجموع الجوهرين الروحي والجسدي أي نحن الأولون والمتكلم هما معا، وإن كان المدبر للجسم هو الروح. ولعل هذا من واد ما اشتهر عند الحكماء والأصوليين من أن المشار إليه بأنا هل هو الـهيكل المخصوص المشتمل على النفس والروح أو النفس وحدها لأنها المدبرة. ونحن من هذا القبيل. والحديث إنما عبر عن حالتيه الأولوية والآخرية على سبيل إظهار عظمة المسدي فليس المراد غيره. هكذا يوخذ بطريق الخوض في باطنه صلى اللـه عليه وسلم. ولا شك أن جواهر العوالم كلـها منبجسة من نفس معناه وحسه. وعليه فالمراد كنت نبيئا حقيقة وآدم الذي هو عنصر الـهياكل بين روحي الكلية وجسدي الذي هو أصل المواد. فالمراد روحه صلى اللـه عليه وسلم وجسده هو، لا روح سيدنا آدم وجسده صلى اللـه عليه وسلم. وليس في الحديث ما يرجح هذا الطرف على هذا والمراد أنه أفيضت عليه مقتضيات النبوءة وسيدنا آدم لازال منطويا في جوهريه صلى اللـه عليه وسلم تفهم. فإذا أحطت خبرا بما تلي عليك علمت أن : كنت نبيئا لا إشكال فيه حتى يقال أن النبوءة وصف ولابد أن يكون الموصوف به موجودا وإنما يكون بعد بلوغ أربعين سنة والمنة للبرزخيات الثلاث.
وان كنتَ مزكوماً فليس بلائق مقالك هذا المسك ليس بفائح
ثم إن المراد بالموضوع والمادة والمحمول شيء واحد عندنا: وهو الأول الثاني، نفسه الكلية. واصطلاح المناطقة والحكماء شيء آخر وكل حزب بما لديهم فرحون. والمراد بالأنية هي قول اللـه {إنني أنا اللـه} فليس المراد بالأنية إلا ادعاء الأنانية أي قول القائل أنا وليس إلا الجناب الحقاني. أي وفجرت عنصر مادة العوالم كلـها من التوجه الإرادي الذي هو عين الذات. إذ الإرادة وصف وهو لا يفارق الموصوف وهو صلى اللـه عليه وسلم نتيجة التوجه الإرادي للحق. أي وفجرت أصلـه صلى اللـه عليه وسلم من قول الحق {أنا اللـه}. أي فجر نوره وانفتق من بساط الرتق حيث لم يكن إلا الحق متفردا في غياهب البطون يثني على نفسه بنفسه ويقول: أنا اللـه وحدي لاشيء معي حتى يسبحني. بل الأسماء والصفات بحكم البطون فليس هناك مسبح أصلا، أعني بحسب التفصيل، أي وفجرت روحه التي هي أول موجود من قول الحق أنا اللـه ليس ثم غيري، فهو الأول الثاني صلى اللـه عليه وسلم. وهذا بساط تكلمت عليه في تفاسير البسملة فلينظر. وهاهنا قال صلى اللـه عليه وسلم: أنا من اللـه والمومنون مني تفهم.
ثم قلنا: بل حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد اللـه عنده وآلـه وصحبه وسلم. اعلم أن هذا العالم كلـه ظلمة أي أصلـه العدم ويؤول للعدم ويتوسطه العدم. لكن إنما اكتسب الوجود من حيث إفاضة الحق عليه جلابيب الوجود المطلق، فلولا إرسال منح الجود الإلاهي على جزئيات العالم ما وقع عليها أبصار لأنها معدومة. وإذا كان كذلك فلا وجود إلا للحق، لأن وجوده ذاتي بسبب كونه وجوبا، ووجود غيره ممكن. لأجل ذلك لم يكن لـه وجود لا يثبت إلا بوجود الحق. والمراد من الجمل: بل حتى إذا جاءه صلى اللـه عليه وسلم الجائي بعقلـه وروحه وقواه لم يجده شيئا، أي موجودا، وذلك لأن الشيء عندهم من خواص الموجود. وعليه فلم يجده موجودا لولا وجود الحق المفيض عليه أمطار التوجهات الإرادية، فبها قام الوجود وهي عين الذات، ووجد اللـه عنده هو الموجد للوجود. أي حتى إذا جاءه صلى اللـه عليه وسلم الذي هو كل الوجود وإنسان الوجود لم يجده موجودا إلا بالوجود الحقي. ووجد اللـه هو الذي لـه الوجود الحقيقي عنده وآلـه وصحبه وسلم تسليما هذا ما يسع الكلام عليها بحسب الاختصار، مع مقاساة الأهوال والأحزان. ومن أراد الكلام عليه بحسب التحقيق، فليراجع التفسير الكبير المسمى بالبحر المسجور. وقد ألف هذا الشرح ونحن في نزهة في أقل من لحيظات والمنة للبرزخيات الثلاث.
وصلٌ: اعلم أن الحق تعالى خص طريقتنا هذه الأحمدية الإبراهيمية الصديقية الأويسية الكتانية بخصيصات منها: أن المصطفى صلى اللـه عليه وسلم يحضر على رأس المائة الثانية من ياأحد بجسمه الشريف، ثم انه يحضر عند ذكر الصلاة الأنموذجية بجسمه الكريم، وزيادة المحبة الخاصة به صلى اللـه عليه وسلم في مقام القرب المعنوي، فيحضر مع زيادة حلل في التجلي الذاتي تخصيصا لطريقتنا هذه، وهذا مشهود لدى أرباب البصائر، {ومن عميت عليهم الأنباء يومئذ فهم لا يتساءلون} والحمد للـه رب العالمين. وبهذه الصيغة التي نقرأها عليها في الزاوية الكتانية بها سمعت الملائكة تقرأها بها {وترى الذين كذبوا على اللـه وجوههم مسودة} فلا تبغي بها بدلا. فإن قلتَ: لاشك أن هذا كان يعلمه صلى اللـه عليه وسلم وإذا علمه فيلزم عليه أنه صلى اللـه عليه وسلم أطلع على عمل تنطوي لنا فيه الأعوام والشهور وهو في لحيظة ومع ذلك لم يخبرنا به. قلتُ: اعلم أن المصطفى صلى اللـه عليه وسلم أطلع على هذا لكن كان عند الصحابة ما يغنيهم عن هذا لأن اللحظة الواحدة منهم بمثابة آلاف من السنين منا لأن عبادتهم مع الكشف وتحقيق العيان سيما مع النظر فيه صلى اللـه عليه وسلم. فأغناهم هذا عن ما ذكر. وأيضا ادخر صلى اللـه عليه وسلم ذلك لـهذه الطائفة الأحمدية الكتانية تشريفا لـها واختصاصا لـها من بين سائر الطرق. وأيضا قد قال صلى الـه عليه وسلم: كل يوم ترذلون، ولاشك أن أصحاب الـهمم إذا علموا ذلك تفتكت أزرار هياكلـهم، فجبر الحق كسرهم وأبرز هذه الصلاة الأنموذجية لتقوم لـهم مقام عبادة آلاف من السنين مع شدة اسوداد ظلمة الوقت وغلبة سلطنة أرباب الدنيا واستواء شوكتهم على القاصي والداني، فالصحابة كان عندهم ما يكفيهم فحازوا مالم يشم لـه أكابر المحققين منا رائحة. لكن قال صلى اللـه عليه وسلم: مثل أمتي كالمطر لا يدرى أولـه خير أم آخره. فأقيمت قلوبنا على ساق، والعلم للكبير الخلاق. وأيضا فقد أخبرنا به صلى اللـه عليه وسلم فلا نقول أنه لم يخبر وهذا الفضل بالنسبة لكل أحد في كل مرة والحمد للـه رب العالمين.
وصلٌ: اعلم أنا حققنا أن روحانيته صلى اللـه عليه وسلم اصطحبت مع جسمانيته من يوم برزت جسمانيته لكرة العالم. ولنا تأليف في هذه المسألة مستقل يسمى بالديوانة. فكانت العوالم عنده متحدة: مهما كان عالم اللطافة هنالك عالم الكثافة، ومهما كان عالم علوي ثم العالم السفلي من شدة اتحاد جوهري الحس والمعنى. نكتة فإن قلتَ: لم كانت الأشياء القائمة على الأنهار يرى أعلاها أسفلـها وأسفلـها أعلاها وترى الشمس تحتها مع أنها فوق؟ الجواب أن الشعاع الخارج من العين إذا اتصل بجسم صقيل وهو الماء أو غيره لم يثبت عليه لصقالته وزلق عنه إلى الجهة المقابلة للرائي إن لم يكن الصقيل أمامه بحيث تكون زاوية الالتقاء على الصقيل مثل زاوية الانعكاس في المساحة من غير زيادة ولا نقصان مثالـه هكذا :
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin